(حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) يستأذنوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فيأذن لهم ، فإنّ ذلك كالمصداق لصحّة كمال الإيمان ، والمميّز للمخلص فيه عن المنافق ، فإنّ عادتهم التسلّل والفرار.
وفيه تعظيم الجرم في الذهاب عن مجلس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بغير إذنه. ولذلك جعل ترك ذهابهم حتّى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله ، وجعلهما كالتشبيب (١) له والبساط لذكره ، مع تصدير الجملة بـ «إنّما» ، وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول أحاطت صلته بذكر المؤمنين.
ثمّ عقّبه بما يزيده توكيدا وتشديدا ، حيث أعاده على أسلوب آخر أبلغ من الأوّل بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) فإنّه يفيد أنّ المستأذن مؤمن لا محالة ، وأنّ الذاهب بغير إذن ليس كذلك.
(فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) لما يعرض لهم من المهامّ (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) وفيه أيضا مبالغة وتضييق للأمر ، حيث فوّض الأمر إلى رسوله ، ولم يأمره بالإذن.
(وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) بعد الإذن ، فإنّ الاستئذان ولو لعذر قصور ، لأنّه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لفرطات العباد (رَحِيمٌ) بالتيسير عليهم.
واعلم أنّ الأمر الجامع لمّا كان خطبا جليلا ، لا بدّ للرسول فيه من ذوي رأي وقوّة ، يظاهرونه عليه ويعاونونه ، ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفايته. فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال ممّا يشقّ على قلبه ، ويشتّت عليه رأيه. فمن ثمّ غلّظ عليهم ، وضيّق عليهم الأمر في الاستئذان ، مع العذر المبسوط ، ومساس الحاجة إليه ، وأكّد زيادة تأكيد في النهي عن الذهاب ، حيث جعل عدم الذهاب ثالث الإيمانين كما ذكر. ثمّ لم يأمره بالإذن ، بل جعله مخيّرا بين المعذورين. ثمّ أمر رسوله بالاستغفار ، وذكر المغفرة للمعذورين الذاهبين ، الدالّ على أنّهم مع الاستئذان بالذهاب كأنّهم مذنبون. وهذا الحكم
__________________
(١) أي : الابتداء به. من : شبّ الكتاب : ابتدأ به.