دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

السابع

لا يخفى أنّ تبادر المعنى من اللفظ ، وانسباقه إلى الذهن من نفسه ـ وبلا قرينة ـ علامة كونه حقيقة فيه ، بداهة أنّه لو لا وضعه له ، لما تبادر [١].

ولا يقال : كيف يكون علامة؟ مع توقفه على العلم بأنّه موضوع له ، كما هو واضح ، فلو كان العلم به موقوفا عليه لدار.

فإنّه يقال : الموقوف عليه غير الموقوف عليه ، فإنّ العلم التفصيلي ـ بكونه موضوعا له ـ موقوف على التبادر ، وهو موقوف على العلم الإجمالي الارتكازي به ، لا التفصيلي ، فلا دور.

هذا إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم ، وأمّا إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة ، فالتغاير أوضح من أن يخفى.

______________________________________________________

مركب يكون الانتقال إجماليا ، كما ينتقل إلى ما يراد من لفظ الدار من المعنى إجمالا بسماع لفظ الدار ، وينتقل إليه تفصيلا فيما إذا ذكر العرصة التي عليها الجدران وفيها البيوت وسائر المرافق ومدخلها من الباب.

علائم الحقيقة والمجاز

التبادر :

[١] بعد ما ثبت بطلان الدلالة الذاتية ، بحيث يكون اللفظ دالّا على معنى بلا جعل قرار ، فإنّه لو كان اللفظ بنفسه مقتضيا للانتقال إلى معناه لما كان أحد جاهلا باللغات ، يكون التبادر والانسباق معلولا للعلم بالوضع ، ولا يكفي فيه ثبوت الوضع واقعا ، فإنّه من الواضح أنّه لو لم يكن علم بالوضع لم يكن انسباق وتبادر ، فالانسباق معلول للعلم بالوضع ، ولو كان العلم بالوضع أيضا حاصلا من الانسباق ، كما

٨١

ثم إنّ هذا فيما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ ، وأمّا فيما احتمل استناده إلى قرينة ، فلا يجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد إليه ، لا إليها ـ كما قيل ـ لعدم الدليل على اعتبارها إلّا في إحراز المراد ، لا الاستناد.

ثمّ إنّ عدم صحة سلب اللفظ ـ بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن اجمالا كذلك ـ عن معنى تكون علامة كونه حقيقة فيه ، كما أن صحة سلبه عنه علامة كونه مجازا في الجملة.

______________________________________________________

هو مقتضى جعل التبادر علامة للوضع ، لتوقّف إحراز الوضع على إحرازه ، وهو الدور.

وأجابوا عن ذلك كما في المتن بأنّ العلم الحاصل من التبادر غير العلم بالوضع الذي يتوقّف عليه التبادر ، فإنّ الأوّل علم تفصيلي ، والثاني ـ يعني ما يتوقّف عليه التبادر ـ علم إجمالي ارتكازي ، والمراد بالعلم الإجمالي الارتكازي عدم الالتفات فعلا إلى المعنى وخصوصياته من سعته وضيقه ، لا الجهل به رأسا ، وأهل أيّ لغة واصطلاح يعلمون معاني لغتهم بالارتكاز ويلتفتون إليها عند سماع ألفاظها.

أقول : ما يترتّب على التبادر كما ذكر لا أهمية له ، فإنّ تشخيص المراد الاستعمالي للمتكلم موقوف على العلم الإجمالي الارتكازي بأوضاع الألفاظ هيئة ومادة ، لا على العلم التفصيلي ، والمفروض أنّ العلم الإجمالي لا يحصل بالتبادر ، بل التبادر يحصل به.

ثمّ إنّ هذا فيما إذا أريد كون التبادر عند المستعلم (بالكسر) أمارة عنده على وضع اللفظ ، وأمّا إذا أريد كون التبادر عند أهل المحاورة أمارة للمستعلم الجاهل بوضعه ، فلا مجال لتوهّم الدور ، فإنّ علم المستعلم موقوف على التبادر ، والتبادر عند أهل المحاورة موقوف على علمهم ، وفي هذا الفرض يستكشف المستعلم من التبادر عندهم وضع اللفظ ولكن في خصوص ما أحرز أنّ التبادر عندهم غير مستند

٨٢

والتفصيل : إنّ عدم صحة السلب عنه ، وصحة الحمل عليه بالحمل الأولي الذاتي ، الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوما ، علامة كونه نفس المعنى [١] ، وبالحمل الشائع الصناعي ، الذي ملاكه الاتحاد وجودا ، بنحو من أنحاء الاتحاد ، علامة كونه من مصاديقه وأفراده الحقيقيّة.

______________________________________________________

إلى قرينة خاصّة أو عامّة.

ولا يفيد مع احتمال الاستناد إلى القرينة أصالة عدم القرينة ؛ لأنّ أصالة عدم القرينة أو الحقيقة أو غيرهما من الأصول اللفظيّة إنّما تعتبر فيما شكّ في مراد المتكلّم ، لا فيما أحرز مراده وشكّ في أنّه بالقرينة أم بالوضع.

مثلا إذا أحرز ظهور كلام الشارع أو غيره فعلا ، ولكن شكّ في أنّ الكلام زمان صدوره أيضا كان ظاهرا في هذا المعنى أو كان ظاهرا في غيره لاحتمال النقل أو كان زمان صدوره مجملا لاشتراك اللفظ في ذلك الزمان ، ثمّ هجرت سائر معانيه بعد ذلك ، ففي مثل ذلك بما أنّ الشكّ في مراد المتكلّم زمان صدور كلامه ، تجري أصالة عدم النقل أو عدم الاشتراك أو أصالة عدم القرينة إلى غير ذلك.

صحة الحمل وعدمه وصحة السلب وعدمه :

[١] حاصل ما ذكر قدس‌سره في عدم صحة السلب المعبّر عنه بصحّة الحمل وفي صحّة السلب المعبّر عنه بعدم صحّة الحمل هو أنّه لو لم يصحّ سلب معنى لفظ (والمراد المعنى المرتكز منه إجمالا في الأذهان على قرار ما تقدم في التبادر) عن معنى وصحّ حمله عليه بالحمل الأوّلي ، كان ذلك علامة كون المعنى عين معنى اللفظ المرتكز في الأذهان ، كما أنّ عدم صحّة سلب ذلك المعنى المرتكز عن شيء ، وصحة حمله عليه بالحمل الشائع علامة لكون الشيء المزبور من مصاديق ذلك المعنى المرتكز.

٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

كما أنّ صحّة السلب بالسلب الأوّلي علامة لعدم كون المعنى المفروض هو المعنى المرتكز من ذلك اللفظ ، كما أنّ صحة السلب الشائع علامة عدم كون الشيء المفروض من مصاديق ذلك المعنى المرتكز من ذلك اللفظ.

وإن قلنا بأنّ إطلاق اللفظ المزبور وحمل معناه المرتكز على ذلك الشيء لا يكون من باب المجاز في الكلمة ، بل اللفظ يستعمل في معناه المرتكز ويطبق عليه بالادعاء والعناية ، فيكون المجاز في الأمر العقلي ؛ لأنّ انطباق المعنى على مصاديقه خارج عن استعمال اللفظ في معناه ، بل هو أمر يدركه العقل ؛ فلذا يقال : إنّ المجاز في هذه الموارد في أمر عقلي كما صار إليه السكاكي.

ومما ذكر في التبادر ، يظهر أنّ كون صحة الحمل علامة للحقيقة أو لكون المصداق حقيقيا وكون صحة السلب علامة للمجاز أو لعدم كون الشيء مصداقا حقيقة لا يستلزم الدور للتغاير بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتفصيل ، أو أنّ أحدهما علم المستعلم ، والآخر علم أهل المحاورة.

أقول : صحة الحمل الأوّلي وإن كان يكشف عن اتّحاد المحمول مع الموضوع مفهوما ، لكنّه لا يكشف عن اتّحادهما من جميع الجهات ، بل قد يكون بينهما تغاير بالإجمال والتفصيل (كما في قولنا : الحيوان الناطق إنسان) أو باعتبار آخر (كما في قولنا : الإنسان بشر) ، وعليه فلا يكون صحة الحمل الأوّلي كاشفا عن كون المعنى المحمول عليه هو بعينه المعنى المرتكز للفظ ، بل غاية ما يثبت ذلك صحة الاستعمال ، وهو أعمّ من الحقيقة.

وتظهر ثمرة ذلك فيما إذا كان أحد العنوانين موضوعا لحكم خاصّ في خطاب الشارع دون الآخر ، فإنّه وإن صحّ حمل الموضوع على العنوان الآخر بالحمل الأوّلي

٨٤

كما أنّ صحة سلبه كذلك علامة أنّه ليس منها ، وإن لم نقل بأن إطلاقه عليه من باب المجاز في الكلمة ، بل من باب الحقيقة ، وإن التّصرف فيه في أمر عقلي ، كما صار إليه السكّاكي ، واستعلام حال اللفظ ، وأنّه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى بهما ، ليس على وجه دائر ، لما عرفت في التّبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه ، بالإجمال والتّفصيل أو الإضافة إلى المستعلم والعالم ، فتأمّل جيّدا.

______________________________________________________

إلّا أنّ الحكم لا يترتب إلّا على العنوان الأول ، مثلا : إذا حكم الشارع بطهارة الدم المتخلّف في الحيوان المذبوح ، وذبح حيوان وشكّ في دم في جوفه أنّه من الدم المتخلّف أو أنّه رجع إلى جوفه لعارض كعلوّ رأس الحيوان أو جرّ نفسه الدم من الخارج ، فإنّه باستصحاب عدم خروج الدم المزبور إلى الخارج لا يثبت عنوان الدم المتخلّف ، مع أنّه يحمل بالحمل الأوّلي على عنوان (دم لم يخرج من جوفه عند ذبحه) إلّا أنّ حكمه لم يثبت عليه ، فتدبّر.

نعم صحة السلب ـ يعني سلب المعنى المرتكز من اللفظ ـ عن شيء شكّ بدوا في كونه مصداقا له علامة عدم كون المسلوب عنه مصداقا وفردا لذلك المعنى ، فإنّ الطبيعي لا يسلب عن فرده ومصداقه في حال ، بل يحمل عليه في جميع الأحوال ، ولو صحّ حمل عنوان على شيء في حال خاصّ لثبت أنّه فرده في ذلك الحال فقط ، فتدبّر جيّدا وممّا ذكرنا يظهر أن تبادر المعنى من حاق اللفظ التي هي علامة للحقيقة وكشف الدلالة الوضعية لا يغني عن صحة السلب وعدم صحته فإن بصحة السلب وعدم صحته يعلم سعة المعنى الموضوع له وضيقة بعد العلم الإجمالي الارتكازي بأصل المعنى كما لا يخفى فإنّ من أوضح الألفاظ من حيث المعنى لفظ الماء وربّما يشك في دخول ماء فيه وعدمه كالماء المصنوع وبعض ما السيل.

٨٥

ثم إنّه قد ذكر الاطراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضا ، ولعلّه بملاحظة نوع العلائق [١] المذكورة في المجازات ، حيث لا يطرد صحة استعمال اللفظ

______________________________________________________

الاطّراد :

[١] وحاصله أنّ القائل بكون الاطّراد في استعمال اللفظ في معنى علامة الحقيقة ، وعدم اطراده علامة المجاز لاحظ نوع العلائق التي ذكروها للاستعمالات المجازية ، ورأى أنّ اللفظ لا يستعمل في كلّ معنى يكون بينه وبين معناه الموضوع له إحدى هذه العلاقات. ولاحظ أيضا اللفظ الموضوع لمعنى ورأى أنّه يستعمل فيه دائما ، فذكر أنّ استعمال اللفظ في معنى مطّردا علامة كونه حقيقة فيه وعدمه كما ذكر علامة كونه مجازا ، وإلّا فلو لاحظ هذا القائل خصوص علاقة يصحّ بها استعمال اللفظ في معنى بتلك العلاقة لرأى أنّه يصحّ استعماله في ذلك المعنى مكرّرا ، فمثلا استعمال لفظ الأسد في الحيوان المفترس مطّرد ، وكذلك استعماله في الرجل الشجاع ، وعلى ذلك فلا يعلم من مجرّد اطّراد الاستعمال في لفظ بالإضافة إلى معنى من المعاني أنّه على نحو الحقيقة أو المجاز.

وذكر صاحب الفصول قدس‌سره أنّ الاطّراد بلا تأويل علامة الحقيقة (١).

وفيه أنّ زيادة قيد (بلا تأويل) أو (على وجه الحقيقة) وإن كان موجبا لاختصاصه بالحقيقة فإنّه لا بدّ في الاستعمال المجازي من التأويل وإعمال العناية ، إلّا أنّ الاطّراد على ذلك لا يكون علامة الحقيقة إلّا بوجه دائر ؛ لتوقّف إحراز كون الاطّراد بلا تأويل على العلم بالوضع ، فلو توقّف العلم بالوضع عليه لدار.

لا يقال : الموقوف على الاطّراد العلم التفصيلى ، والاطّراد موقوف على العلم

__________________

(١) الفصول : ص ٣١ س ٨ ، الطبعة الحجرية.

٨٦

معها ، وإلّا فبملاحظة خصوص ما يصحّ معه الاستعمال ، فالمجاز مطرد كالحقيقة ، وزيادة قيد (من غير تأويل) أو (على وجه الحقيقة) ، وإن كان موجبا لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة ، إلّا أنّه ـ حينئذ ـ لا يكون علامة لها إلّا على وجه دائر ،

______________________________________________________

الإجمالى بالوضع ، كما تقدم في الجواب عن الدور في التبادر وعدم صحة السلب.

فإنّه يقال : الجواب المتقدّم غير جار في المقام ، فإنّ انسباق المعنى من اللفظ إلى ذهن السامع لا يتوقّف على علمه التفصيلي بوضع ذلك اللفظ لذلك المعنى ، فالعلم التفصيلي يحصل للسامع بالتبادر ، بخلاف المقام ، فإنّ الاطّراد هو شيوع استعمال اللفظ في معنى بلا تأويل وعناية ، وإحراز هذا الاطّراد يتوقّف على حصول العلم التفصيلي بالوضع قبل إحراز الاطّراد وذلك لأنّ العلم التفصيلي يحصل بملاحظة استعمال واحد وإحراز الاطّراد يتوقّف على ملاحظة أكثر من استعمال واحد. فيكون جعل الاطّراد علامة لغوا لحصول العلم التفصيلي بالوضع قبله باستعمال واحد. وكذلك الأمر ، بناء على أنّ التبادر عند العالم علامة للمستعلم ، حيث إنّه يمكن للمستعلم إحراز المعنى المتبادر من اللفظ عند أهل المحاورة قبل علمه بالوضع ، بل يحصل هذا العلم له نتيجة علمه بالتبادر عندهم.

وهذا بخلاف الاطّراد فإنّ إحراز الشخص أنّ هذا اللفظ يستعمل عند أهل المحاورة بنحو الشيوع والتكرار بلا عناية في معنى خاصّ فرع علمه بالوضع عندهم لذلك المعنى ، وإلّا فكيف يحرز أنّ هذه الاستعمالات كلّها بلا لحاظ علاقة وعلى وجه الحقيقة؟

أقول : لعلّ مراد القائل بكون الاطّراد علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز هو أنّه لو أراد المستعلم أن يعلم كون استعمال لفظ في معنى خاصّ عند أهل المحاورة بنحو الحقيقة ومن قبيل استعمال اللفظ فيما وضع له أو أنه يستعمل فيه بنحو

٨٧

ولا يتأتّى التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا ، ضرورة أنّه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة ، لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد ، أو بغيره.

______________________________________________________

المجاز ، فعليه أن يلاحظ استعمالاتهم فإذا رأى صحّة التعبير عندهم عن ذلك المعنى بذلك اللفظ حتّى في استعمالاته التي لا تناسب رعاية العلاقة المحتمل رعايتها في بعض تلك الاستعمالات ، علم بوضع اللفظ لذلك المعنى.

وإذا رأى عدم صحّة استعمال اللفظ المزبور في ذلك المعنى في جميع التراكيب المتعارفة ، فيعلم بأنّ استعماله إنّما هو بلحاظ تلك العلاقة التي كان يحتمل وقوعه بلحاظها ، كما في المرق الرقيق ، فإنّه قد يطلق عليه الماء في موارد الطعن على صاحبه مثلا ، أو آكليه ، وقد لا يطلق عليه الماء في جميع الموارد كما إذا لم يكن عند المكلّف ماء للوضوء والغسل وكان عنده المرق ، فإنّه لا يقول عندي ماء ، وهذا بخلاف ماء الكوز ونحوه فإنّه يطلق عليه الماء في جميع الموارد ، ووصفه في بعضها بأنّه قليل لا يقدح فيما هو المهمّ فيه.

فيكون الاطّراد علامة لاستناد فهم المعنى في الثاني إلى حاق اللفظ بخلاف الاستعمال في الأول فإنه يكون بلحاظ العناية وملاحظة المناسبة.

٨٨

الثامن

أنّه للّفظ أحوال خمسة ، وهي : التجوّز ، والاشتراك ، والتخصيص [١] ، والنقل ، والإضمار ، لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الأمر بينه وبين المعنى الحقيقي ، إلّا بقرينة صارفة عنه إليه.

وأمّا إذا دار الأمر بينها ، فالأصوليون ، وإن ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها ، إلّا أنّها استحسانية ، لا اعتبار بها ، إلّا إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى ، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

أحوال اللفظ :

[١] فإنّه إن استعمل اللفظ في غير ما وضع له بلحاظ العلاقة يكون مجازا ، وإن استعمل في معنى آخر باعتبار أنّه الموضوع له أيضا بلا هجر معناه الأول يكون مشتركا ، ومع هجره ورعاية المناسبة يكون منقولا ، وباعتبار عدم إرادة بعض مدلوله جدّا يكون تخصيصا ، وباعتبار تقدير الدالّ على المراد يكون إضمارا.

وإفراد التخصيص عن المجاز مبنيّ على ما هو الصحيح من أنّه كالتقييد لا يكون موجبا للمجاز في استعمال العامّ ، وأمّا عدم ذكره قدس‌سره التقييد ، فلعلّ مراده بالتخصيص ما يعمّه ، كما أنّ عدم تعرّضه للمجاز والعناية في الإسناد لدخوله في التجوّز كما هو الحال في الاستخدام.

ثمّ إذا أحرز ظهور اللفظ في معنى ، واحتمل أن يكون مراد المتكلّم غير ذلك الظاهر بأن احتمل استعماله في غيره مجازا ، أو أنه موضوع للمعنى الآخر عنده بلا هجر معناه الأوّل ، أو مع هجره أو أنه أراد غير ذلك الظاهر بنحو الاضمار ، أو كون مراده الجدي غيره بنحو التخصيص أو التقييد ، تكون أصالة الظهور متّبعة كما هو

٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

المقرر في مبحث حجية الظهور.

وأمّا إذا أحرز أنّ مراده غير معناه الظاهر وتردّد مراده بين الأنحاء المذكورة أو بين بعضها ، فلا اعتبار بشيء ممّا قيل في ترجيح بعضها على بعض ما لم يكن في البين ظهور لكلامه في تعيين أحدها.

٩٠

التاسع

إنّه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه على أقوال ، وقبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقال ، وهو : أنّ الوضع التعييني ، كما يحصل بالتصريح بإنشائه [١] ، كذلك يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له ، كما إذا وضع له ، بأن

______________________________________________________

الحقيقة الشرعية :

[١] ذكر قدس‌سره أن الوضع التعيينى كما يكون بإنشاء الوضع وتعيين اللفظ بإزاء المعنى بالقول كذلك يكون الوضع والتعيين بنفس استعمال لفظ في معنى غير موضوع له ، على نحو استعمال اللفظ فيما وضع له بأن يقصد الحكاية والدلالة على ذلك المعنى بنفس اللفظ لا الحكاية عنه باللفظ مع القرينة ، نعم لا بدّ في البين من قرينة دالّة على أنّ استعمال اللفظ فيه والحكاية عنه بنفس اللفظ لغاية تحقّق وضعه له ـ وهذه غير قرينة المجاز ، حيث إنّ القرينة فيه تكون على حكاية اللفظ معها عن المعنى ـ وعدم كون استعمال اللفظ في غير ما وضع في مقام وضعه له ، من الاستعمال الحقيقي (حيث إنّ المفروض حصول الوضع بعد تحقّق ذلك الاستعمال) ولا من المجاز (حيث إنّ المعتبر في الاستعمال المجازي لحاظ العلاقة بين المعنى المستعمل فيه ومعناه الموضوع له) غير ضائر ، بعد كون هذا النحو من الاستعمال مما يقبله الطبع ولا يستهجنه ، وقد تقدّم أنّ في الاستعمالات الشائعة ما لا يكون حقيقة ولا مجازا ، ولكن ممّا يقبله الطبع ، كاستعمال اللفظ في اللفظ.

وأورد المحقّق النائيني قدس‌سره على ما ذكر من حصول الوضع بالاستعمال ، بأنّ الاستعمال يقتضي لحاظ اللفظ فانيا في المعنى بحيث يكون الملحوظ استقلالا هو المعنى ويكون اللفظ مغفولا عنه ، بخلاف الوضع فإنّه يقتضي لحاظ اللفظ استقلالا ، فلو حصل الوضع بالاستعمال لزم كون اللفظ في ذلك الاستعمال ملحوظا آليا

٩١

يقصد الحكاية عنه ، والدلالة عليه بنفسه لا بالقرينة ، وإن كان لا بد ـ حينئذ ـ من نصب قرينة ، إلّا أنّه للدلالة على ذلك ، لا على إرادة المعنى ، كما في المجاز ، فافهم.

______________________________________________________

واستقلاليّا.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّه ـ كما سيأتي في بحث استعمال اللفظ في أكثر من معنى ـ أنّ مجرد استعمال اللفظ في معنى لا يقتضي كون اللفظ ملحوظا استقلالا ، لا أنّه يقتضي عدم لحاظه استقلالا ، فلو كان في الاستعمال غرض يقتضي لحاظ اللفظ استقلالا فلا ينافيه الاستعمال ، كما إذا كان غير العربي يتكلّم باللغة العربية ويعبّر عن مراداته بتلك اللغة في مقام إظهار معرفته بها ، فيكون كمال التفاته إلى الألفاظ ويستعملها لتفهيم مراداته.

ولو أغمض عن ذلك وقلنا بأنّ الاستعمال يقتضي فناء اللفظ في المعنى وكونه مغفولا عنه ، فإنّ مقتضى ذلك أن لا يكون اللفظ بنفسه ملحوظا استقلالا عند إنشاء المعنى المراد من اللفظ أو الحكاية عنه ، وهذا لا ينافي كون النفس ملتفتة إلى الاستعمال المذكور فتعتبره وضعا لذلك اللفظ بإزاء ذلك المعنى المنشأ والمحكي عنه.

وأورد أيضا على ما ذكره الماتن قدس‌سره من أنّ المقصود في مورد الوضع بالاستعمال الحكاية والدلالة على المعنى بنفس اللفظ لا بالقرينة ، كما في المجاز ، بأنّ دلالة اللفظ على المعنى المزبور لا تكون بلا قرينة ؛ وذلك لعدم إمكان انتقال المعنى إلى ذهن السامع من اللفظ بدون الوضع وبدون القرينة لبطلان الدلالة الذاتية في الألفاظ ، وإذا لم يكن في الفرض وضع قبل حصول الاستعمال كما هو المفروض ، فكيف يكون الانتقال من اللفظ إلى ذلك المعنى بلا قرينة؟ غاية الأمر القرينة الدالّة على كونه في مقام الوضع تكون مغنية عن قرينة مستقلّة للدلالة عليه ، ولو فرض في مورد عدم كفايتها ، لزم نصب قرينة أخرى أيضا للدلالة.

٩٢

وكون استعمال اللفظ فيه كذلك في غير ما وضع له ، بلا مراعاة ما اعتبر في المجاز ، فلا يكون بحقيقة ولا مجاز [١] ، غير ضائر بعد ما كان مما يقبله الطبع ولا يستنكره ، وقد عرفت سابقا ، أنّه في الاستعمالات الشائعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز.

______________________________________________________

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ دلالة اللفظ على المعنى وإن لم تكن ذاتية ولكنها لا تتوقّف على الوضع الحاصل من قبل أو القرينة على الدلالة ، بل الموجب للدلالة هو العلم بالوضع ، ولو بالوضع الحاصل بالاستعمال ، فالقرينة على الوضع بالاستعمال ، في الحقيقة قرينة على جعل نفس اللفظ دالّا على المعنى المفروض ، فيكون ذلك اللفظ بنفسه دالّا ، ولذا ذكر أنّها تغني عن القرينة الأخرى.

[١] لعلّ نظره قدس‌سره في عدم كون الاستعمال المزبور حقيقة إلى عدم تحقّق الوضع عند الاستعمال وكون الاستعمال إنشاء للوضع مقتضاه أن لا يتّصف المعنى في الاستعمال المزبور بكونه موضوعا له ، وأمّا عدم كونه استعمالا مجازيا فلأنّ المفروض عدم كون الاستعمال بلحاظ العلاقة وإعمال العناية.

أقول : ما ذكره من عدم كون الاستعمال حقيقة فيما إذا أريد تحقّق الوضع لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ حصول الوضع بالاستعمال لكون الابراز مقوما في الإنشائيات ومنها الوضع في الألفاظ ، وعلى ذلك فلا يكون المعنى قبل الاستعمال متّصفا بكونه موضوعا له ، وكذا في مرتبة الاستعمال ، ولكن زمان حصول الاستعمال متّحد مع زمان الوضع الذي يكون اعتباره بالنفس وإبرازه بالاستعمال ، ولا حاجة في كون الاستعمال حقيقة إلى أزيد من ذلك ، إذ معه لا يحتاج المتكلّم إلى لحاظ العلاقة وإعمال العناية. وقد تقدّم أنّ ما أشار إليه المصنّف من أنّ في الاستعمالات المتعارفة ما لا يكون بحقيقة ولا مجاز غير صحيح ، وأنّ استعمال اللفظ في اللفظ أمر

٩٣

إذا عرفت هذا ، فدعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدّا ، ومدعي القطع به غير مجازف قطعا ، ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها [١] في محاوراته ، ويؤيد ذلك أنّه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية ، فأيّ علاقة بين الصلاة شرعا والصلاة بمعنى

______________________________________________________

لا أساس له.

[١] قد يقال : تبادر المعاني الشرعية من ألفاظ العبادات الواردة في محاورات الشارع أوّل الكلام ، وعلى تقديره فلا يكون مثبتا للوضع بالاستعمال ، ولكنّ الظاهر عدم ورود الإشكال ، فإنّه لا يحتمل أن يكون مثل قوله سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) الآية (١) ، عند نزولها من المجملات ، ولم تكن ظاهرة في الصدر الأوّل في المعاني الشرعية ، أو كانت ظاهرة في معانيها اللغوية.

نعم ، يبقى في البين احتمال كون تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني قبل الشريعة الإسلامية أيضا ، كما استشهد الماتن لذلك بغير واحد من الآيات ، مثل قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ،) وقوله سبحانه : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ)(٢) ، وقوله سبحانه : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا)(٣) ، فتكون ألفاظها حقيقة لغوية لا شرعية ، واختلاف الشرائع في تلك الحقائق جزءا أو شرطا لا يوجب تعدّد المعنى ، فإنّ الاختلاف يمكن أن يكون في المصاديق والمحقّقات كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا.

ثمّ إنّه قدس‌سره أيّد ثبوت الحقيقة الشرعية في تلك الألفاظ ، بعدم ثبوت علاقة

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٨٣.

(٢) سورة الحج : الآية ٢٧.

(٣) سورة مريم : الآية ٣١.

٩٤

الدعاء ، ومجرد اشتمال الصلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكل بينهما ، كما لا يخفى. هذا كله بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا.

______________________________________________________

معتبرة بين المعاني الشرعية وبين معانيها اللغوية ، وقد مثّل بلفظ الصلاة حيث لا علاقة بين معناها الشرعي وبين معناها اللغوي ، ومجرد اشتمال معناها الشرعي على الدعاء لا يوجب ثبوت العلاقة المعتبرة في استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، حيث إنّه لا تركيب حقيقة ، وليس الجزء من الأجزاء الرئيسية.

فعدم ثبوت العلاقة المعتبرة يكشف عن عدم كون استعمال لفظ الصلاة في معناها الشرعي في محاورات الشارع من قبيل الاستعمال المجازي ، والوجه في جعل ذلك مؤيّدا لا دليلا يمكن أن يكون أحد أمرين :

الأوّل : إنّ عدم العلاقة على تقديره لا يكشف عن وضع الشارع ، لإمكان كون تلك الألفاظ موضوعة للمعاني الشرعية قبل الإسلام ، كما استشهد لذلك بالآيات.

والثاني : إمكان صحّة استعمال اللفظ في المعنى ، ولو مع عدم العلاقة المعتبرة وبلا وضع ، كما تقدّم من وقوعه في بعض الاستعمالات المتعارفة لحسنها بالطبع.

وأورد المحقّق النائيني قدس‌سره على ما ذكره ـ من أنّ ثبوت المعاني الشرعية في الشرائع السابقة يوجب كون تلك الألفاظ حقائق لغوية ـ بأنّ ثبوت بعض المعاني الشرعية أو كلّها في الشرائع السابقة لا يوجب انتفاء الحقيقة الشرعية ؛ لأنّ ثبوتها فيها لا يكشف عن كون أساميها المتداولة عندنا كانت موضوعة لها قبل الإسلام في لسان العرب السابق ، حيث لم تكن لغة جميع الأنبياء السابقين (على نبينا وآله وعليهم‌السلام) عربية ، فيحتمل أنّ العرب في ذلك الزمان كانوا يعبّرون عنها بغير الألفاظ المتداولة عندنا ، بل كانوا يعبّرون بغير اللغة العربية كما نراهم فعلا يعبّرون عن بعض الأشياء

٩٥

وأما بناء على كونها ثابتة في الشرائع السابقة ، كما هو قضية غير واحد من الآيات ، مثل قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(١) وقوله تعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ)(٢) وقوله تعالى (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا)(٣) إلى غير ذلك ، فألفاظها حقائق لغوية ، لا شرعية ، واختلاف

______________________________________________________

المخترعة بلغات سائر الأمم ، ووجود لفظ الصلاة في الإنجيل المترجم بلغة العرب لا يدلّ على سبق استعمال لفظ الصلاة أو غيره في تلك المعاني قبل الإسلام ؛ لاحتمال حدوث الاستعمال عند ترجمة الإنجيل بلغة العرب بعد الإسلام.

وبالجملة ، ثبوت الحقيقة الشرعية لا يتوقّف على عدم وجود المعاني الشرعية قبل الإسلام ، بل موقوف على عدم كون الألفاظ المتداولة عندنا موضوعة لتلك المعاني الشرعية قبل الاسلام ، سواء كان ذلك لعدم المعنى الشرعي سابقا أو لعدم وضع اللفظ له قبل الإسلام (٤).

أقول : المدّعى أنّ الناس قد فهموا من قوله سبحانه (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)(٥) عند قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لها ولغيرها من الآيات ، المعاني الشرعية ولا يكون ذلك عادة إلّا إذا كان تعبيرهم عن تلك المعاني الشرعية السابقة على الإسلام بهذه الألفاظ المتداولة.

لا يقال : كيف يمكن دعوى الجزم بأنّ المعاني الشرعية كانت هي المتبادرة في

__________________

(١) البقرة / ١٨٣.

(٢) الحج / ٢٧.

(٣) مريم / ٣١.

(٤) أجود التقريرات : ١ / ٣٤.

(٥) سورة البقرة : الآية ١٨٣.

٩٦

الشرائع فيها جزءا وشرطا ، لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية ، إذ لعلّه كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات ، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا ، كما لا يخفى.

ثم لا يذهب عليك أنه مع هذا الاحتمال ، لا مجال لدعوى الوثوق ـ فضلا عن القطع ـ بكونها حقائق شرعية ، ولا لتوهم دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها ، لو سلم دلالتها على الثبوت لولاه ، ومنه قد انقدح حال دعوى الوضع التعيّني معه ،

______________________________________________________

محاورات الشارع وعند نزول الآيات المشار إليها ، مع أنّ ما ورد في الروايات المعتبرة في قضية تيمّم عمّار شاهد لكون المتفاهم عندهم كانت هي المعاني اللغوية؟

فإنّه يقال : المدّعى أنّ جلّ تلك الألفاظ كانت حقيقة في تلك المعاني لا كلّها ، بحيث لا يشذّ منه لفظ أو لفظان ، ولفظ التيمّم ـ على ما يظهر من الروايات ـ لم يكن له معنى خاصّ في الشرائع السابقة ، كما يشير إليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (١).

ودعوى أنّ لفظ الصلاة أيضا كان ظاهرا في معناه اللغوى وإنّما كان يستعمل في معناه الشرعي في محاورات الشارع مجازا أو بلحاظ العلاقة ، حيث إنّ الصلاة في اللغة بمعنى الميل والعطف ، والعطف من الله سبحانه الرحمة والمغفرة ، ومن العباد طلبها ، فيكون من باب استعمال اللفظ الموضوع للكلي وإرادة فرده الخاصّ ، لا يمكن المساعدة عليها ، فإنّه لا يحتمل أن يكون قوله سبحانه (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)(٢) مرادفا عندهم لقوله (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) ولا مناسبا له ، كما لا يخفى.

__________________

(١) الوسائل : ج ٢ ، باب ٧ من أبواب التيمّم ، الحديث : ٢ و ٣ و ٤.

(٢) سورة البقرة : الآية ٤٣.

٩٧

ومع الغض عنه ، فالإنصاف أنّ منع حصوله في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة [١] ، نعم حصوله في خصوص لسانه ممنوع ، فتأمل.

وأمّا الثمرة بين القولين [٢] ، فتظهر في لزوم حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت ، وعلى معانيها الشرعية على الثبوت ، فيما إذا علم تأخر الاستعمال ، وفيما إذا جهل التاريخ ، ففيه إشكال ،

______________________________________________________

[١] يعني لو فرض الإغماض عمّا تقدّم والتسليم بأنّ الاستعمالات في تلك الألفاظ كانت بنحو المجاز والعناية ، فلا ينبغي المناقشة في أنّها صارت حقائق في المعاني الشرعية باستعمالات الشارع واستعمالات تابعيه ، يعني المسلمين ، وإنكار ذلك مكابرة ، ويكفي في الجزم بذلك تداول بعض تلك الألفاظ في محاورات الشارع والمسلمين في كلّ يوم مرّة أو مرّات ، نعم يمكن منع حصول الوضع بكثرة الاستعمال في خصوص كلام الشارع واستعمالاته.

أقول : هذا مبنيّ على حصول الوضع بكثرة الاستعمال وصيرورة اللفظ ظاهرا في معناه الجديد بكثرة الاستعمال ، بحيث لا يحتاج في استعماله فيه إلى تعيين ، ولكن ذكرنا أنّ التعيين يحصل لا محالة ولو بنحو إنشائه بالاستعمال.

[٢] تظهر الثمرة بين القولين فيما إذا ورد من تلك الألفاظ في كلام الشارع بلا قرينة ، فعلى القول بإنكار الحقيقة الشرعية يحمل على معناه اللغوي ، وبناء على ثبوت الحقيقة الشرعية بنحو الوضع التعييني يحمل على المعنى الشرعي ، وكذا إذا قيل بالحقيقة الشرعية بنحو الوضع التعييني فيما إذا كان صدور الكلام بعد حصوله بخلاف ما إذا كان صدوره قبل حصوله ، ويكون الكلام مجملا فيما إذا دار أمر صدوره بين التقدّم والتأخّر.

وعن المحقّق النائيني قدس‌سره أنّه لم يوجد في كلام الشارع من تلك الألفاظ ما دار

٩٨

وأصالة تأخّر الاستعمال [١] مع معارضتها بأصالة تأخّر الوضع ، لا دليل على اعتبارها تعبدا ، إلّا على القول بالأصل المثبت ، ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك ، وأصالة عدم النقل إنما كانت معتبرة فيما إذا شك في أصل النقل ، لا في تأخره ، فتأمل.

______________________________________________________

أمره بين حمله على المعنى اللغوي أو الشرعي بأن يجهل مراد الشارع ، وعليه فيصبح البحث في الحقيقة الشرعية بحثا علميّا محضا (١).

أقول : يمكن المناقشة فيه بأنّ المراد من الصلاة في قوله سبحانه : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)(٢) مردّد بين الدعاء ومعناه الشرعي ، وكذا في قوله سبحانه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(٣) فإنّه يدور أمره بين الدعاء ولو بقول القائل : (اللهم ارفع درجات النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وبين كونها الصلاة المتعارفة عند المتشرّعة ، وكذا ما وصل إلينا من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من غير طرق أئمّتنا عليهم‌السلام فإنّه وإن وصل غالب كلامه إلينا بواسطتهم عليهم‌السلام وكان عليهم نقله بحيث يفهم مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله لوقوع النقل فهم في مقام بيان الأحكام الشرعية إلّا أنّ قليلا منه قد وصل بغير واسطتهم فاستظهار المراد من كلامه يبتنى على البحث في الحقيقة الشرعية.

[١] قد يقال : إنّه إذا دار أمر الاستعمال بين وقوعه قبل الوصول إلى مرتبة الوضع التعيني أو بعد وصوله ، فيحمل على المعنى الشرعي لأصالة تأخّر الاستعمال.

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ٣٣.

(٢) سورة الأعلى : الآية ١٤.

(٣) سورة الأحزاب : الآية ٥٦.

٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فنقول : إن كان المراد بأصالة التأخّر استصحاب عدم صدور الاستعمال المزبور إلى زمان حصول الوضع ويثبت به ظهوره في المعنى الشرعي وهو موضوع الحجّة ، فهذا مع الغضّ عن كونه مثبتا حيث إنّ ظهوره في المعنى الشرعي أثر عقليّ لتأخّر الاستعمال ، معارض بأصالة تأخّر الوضع ، يعني استصحاب عدم حصول الوضع إلى زمان ذلك الاستعمال.

وإن أريد بأصالة تأخّر الاستعمال عدم حصول النقل في اللفظ المزبور زمان استعماله وإنّ هذا أصل عقلائي يعبّر عنه بأصالة عدم النقل.

ففيه : أنّ أصالة عدم النقل إنّما تعتبر عند العقلاء فيما إذا شك في مراد المتكلم من ذلك اللفظ ولم يعلم حصول النقل فيه أصلا ، وأمّا إذا علم النقل وشك في تقدّمه وتأخّره فلا تعتبر ولا يمكن إحراز مراد المتكلّم بها.

١٠٠