دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

المأمور به الواقعي الأولي ، كما في الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية ، بناء على أن يكون الحجية على نحو السببية ، فقضية الأصل فيها ـ كما أشرنا إليه ـ عدم وجوب الإعادة ، للإتيان بما اشتغلت به الذمة يقينا ، وأصالة عدم فعلية التكليف الواقعي

______________________________________________________

أقول : يرد على الماتن قدس‌سره :

أوّلا : أنّه إذا لم يحرز تعلّق التكليف بالظاهري حقيقة ـ كما هو مقتضى تردّد اعتبار الأمارة القائمة بالشرط بين السببية والطريقية ـ يكون مقتضى الإطلاق في خطاب التكليف الواقعي وجوب الإتيان بمتعلّقه وعدم الإجتزاء بغيره ، كما ذكرنا ذلك في الاضطراري أيضا ، وقلنا : إذا لم يتمّ دليل على تشريع الاضطراري عند الاضطرار في بعض الوقت ، يكون مقتضى الإطلاق (أي عدم ذكر العدل للاختياري في خطابه) تعيّن الإتيان به ولو في آخر الوقت ، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي بمجرّد تردّد أمر اعتبار الأمارة ثبوتا بين كونه على نحو الطريقية أو السببية ، بل مقتضى إطلاق الأمر الواقعي نفي اعتبارها على نحو السببية ؛ لأنّ مثبتات الأصول اللفظية حجّة.

وثانيا : قد ذكرنا سابقا أنّ الوجوب التخييري بين الإتيان بفعلين وبين إتيان واحد معيّن منهما ثبوتا غير معقول ، وما ذكره قدس‌سره من الرجوع إلى البراءة في فرض إحراز تعلّق الأمر حقيقة بالمأتي به وفي غيره إلى الاشتغال أو استصحاب التكليف مبنيّ على إمكان فرض الوجوب التخييري المزبور ، والّا فإن كان المأتي به مأمورا به واقعا ، فالأمر والتكليف يتعلّق بالجامع ، وعلى فرض عدمه يتعلّق بخصوص الاختياري أو الواقعي ، فاستصحاب عدم تعلّق التكليف ثبوتا بالجامع معارض باستصحاب عدم تعلّقه بخصوص الاختياري أو الواقعي ، وبعد تساقطهما يكون المقام من موارد دوران أمر الواجب بين التعيين والتخيير ، أو بين المطلق والمقيد ، وتقدّم أنّ أصالة البراءة تجري في ناحية تعلّقه بمحتمل التعيين أو المقيّد ، لكون رفع

٤٢١

بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف.

وأمّا القضاء فلا يجب بناء على أنّه فرض جديد [١] ، وكان الفوت المعلّق

______________________________________________________

التكليف عنهما موافقا للامتنان ، بخلاف رفعه عن الجامع أو المطلق ، فإنّ تعلّق التكليف بهما ثبوتا وإن كان غير معلوم إلّا أنّ رفعه عنهما خلاف الامتنان ، فلا يعمّ خطاب «رفع ما لا يعلمون» ذلك التكليف المحتمل.

[١] يعنى مع دوران الأمر بين السببية والطريقية ، وانكشاف الخلاف في الأمارة بعد الوقت ، فلا يجب تدارك الواقع بالقضاء ولا يفيد في وجوبه استصحاب بقاء التكليف في الوقت وعدم الإتيان بمتعلّقه ؛ لأنّ مجرّد إحراز عدم الإتيان بمتعلّق التكليف في الوقت بالأصل لا يكون إحرازا لفوته ، فإنّه من الأصل المثبت ، فيجري الاستصحاب في ناحية عدم فوته ، ولا أقلّ من أصالة البراءة عن وجوب القضاء.

نعم لو قيل بأنّ وجوب القضاء مستفاد من الأمر بالأداء ، بأن يكون الإتيان بذات الفعل مطلوبا ، والإتيان به في الوقت مطلوبا آخر ، وأنّه بانقضاء الوقت يسقط الطلب الثاني ويبقى الأوّل ، لكان (عند دوران اعتبار الأمارة بين السببية والطريقية) استصحاب طلب الطبيعي بعد خروج الوقت مقتضيا للقضاء ، وكذا لو كان وجوب القضاء بأمر جديد ، ولكن كان موضوعه عدم الإتيان بالواجب الواقعي في الوقت ، لا فوته ، فإنّ عدم الإتيان به في الوقت بعد انكشاف الخلاف في الأمارة محرز.

أقول : هذا إذا كان الموضوع لوجوب القضاء عدم الإتيان بالفريضة الأوّلية في وقتها ، وإلّا فلو كان موضوعه عدم الإتيان بفريضة الوقت ، سواء كانت أولية أو ثانوية لكانت الشبهة مصداقيّة ، وقد ذكرنا عدم جريان الاستصحاب في الشبهات المفهومية ، وعليه كان المرجع أصالة البراءة عن وجوب القضاء ، كما لا يخفى.

٤٢٢

عليه وجوبه لا يثبت بأصالة عدم الإتيان ، إلا على القول بالأصل المثبت ، وإلّا فهو واجب ، كما لا يخفى على المتأمل ، فتأمل جيّدا.

______________________________________________________

تبدّل فتوى المجتهد :

ثمّ إنّه لا فرق في عدم الإجزاء ـ بناء على الطريقية في موارد الأصول والأمارات ـ بين انكشاف الخلاف بالوجدان أو انكشافه بحجّة معتبرة ، كما في موارد تبدّل رأي المجتهد أو عدول العامي بعد موت مقلّده إلى الأعلم من الأحياء ، أو عدوله إلى من صار أعلم ممّن كان يقلّده ، وذلك لأنّ الأمارة السابقة أو الأصل السابق لا يزيد في الاعتبار على اليقين والاعتقاد الجزمي الذي لم يكن معتبرا بعد زواله حتّى بالإضافة إلى الأعمال السابقة.

فإنّ غاية دليل اعتبار الأمارة أنّها علم بالواقع ، وغاية مفاد خطاب الأصل المحرز أنّ المكلّف عالم بالواقع ، وخطاب الأصل غير المحرز أنّه تنجيز أو تعذير عن الواقع ، على ما تقرّر من أنّه المجعول في مورد الأمارة أو الأصل ، ولو قلنا بأنّه الحكم المماثل أو المؤدّى لا يخرج من الطريقية إلى النفسية أيضا.

لا يقال : تبدّل الرأي والاجتهاد لا يوجب إلّا زوال الاعتبار عن الاجتهاد السابق والفتوى السابقة ، من حين زواله لا من الأوّل. وبتعبير آخر : التبدّل في الفتوى أو التردّد فيها ، نظير الفسخ ، لا يوجب إلغاء المعاملة إلّا من حينه ، فيكون التبدّل أو التردّد موجبا لإلغاء الرأي السابق من حين حصولهما لا من الأصل.

فإنّه يقال : قياس تبدّل الفتوى أو التردّد بفسخ المعاملة مع الفارق ؛ إذ في مورد الفسخ يتغيّر الواقع من حين الفسخ ، فالملكية الحاصلة بالبيع تنتفي من حين فسخه ، ومع انتفائها من حينه لا يمكن ترتيب آثار عدم الملكية من الأوّل ، بخلاف موارد

٤٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

تبدّل الفتوى أو التردّد ، فإنّ الزائل من حين حصولهما هو الاعتبار لا الواقع ، وإذا أحرز الواقع بالفتوى الثانية ، المفروض عدم اختصاص اعتبارها بالأعمال اللاحقة والموجود بعد التغيّر والتبدّل فقط ، فاللازم تداركه مع فوته أو إحراز الإتيان به ، ودعوى أنّه لا اعتبار للفتوى اللاحقة بالإضافة إلى الأعمال السابقة ، يدفعها مقتضى إطلاق دليل اعتبارها بعد سقوط الأولى عن الاعتبار ، حتّى بالإضافة إلى تلك الأعمال ؛ ولذا لو فات الواقع بترك العمل بها في السابق يجب تداركه على طبق الحجّة الفعلية.

وينبغي قياس المقام بحصول التردّد وصيرورة المكلف شاكّا بزوال يقينه ، فإنّ زوال الاعتقاد وإن لم يوجب إلّا زوال المنجزيّة والمعذريّة من حين زواله ، إلّا أنّه بعده لا اعتبار له حتّى بالإضافة إلى الأعمال السابقة.

وتوضيح ذلك : إنّ تبدّل الفتوى يكون بالظفر بأصل حاكم على الأصل الذي كان يعتمد عليه ، أو بالظفر بالأمارة أو المخصّص أو المقيّد أو القرينة على خلاف ما كان يعتمد عليه ، وإذا ظفر بذلك فهو يكشف بحسب المدلول عن ثبوت مقتضاها من الأوّل ، وهذا الكشف قد اعتبر علما على ما هو مفاد دليل اعتبار الأمارة ، ولا ينتفي بعد ذلك موضوع الحجّة والأصل الذي كان يعتمد عليه ، حتّى بالإضافة إلى الأعمال الماضية ، وليس المراد أنّ قيامها يكشف عن عدم الأصل من الأوّل ، بل المراد ارتفاع موضوع الأصل والحجّة بالظفر على الأصل الحاكم أو الأمارة أو المخصّص والمقيّد ونحوهما من القرائن ، ونظير ذلك ما إذا استظهر من رواية حكما ثمّ تردّد في الاستظهار ، فإنّه لم يثبت عنده ظهور فعلا ليبقى معتبرا بالإضافة إلى الأعمال السابقة.

٤٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

والحاصل أنّ الإجزاء في موارد الأصول العملية أو الأمارة بعد انكشاف الواقع على خلافها ولو بكاشف تعبّدي يحتاج إلى دليل خاصّ أو عامّ ، كالذي ذكرناه وجها للإجزاء في العبادات والمعاملات ، بمعنى العقود والإيقاعات في موارد تغيّر الفتوى أو عدول العامي ، أو مثل حديث «لا تعاد» في موارد الإخلال بما يعتبر في الصلاة ممّا لا يدخل في المستثنى الوارد فيه ، ويطلب تفصيل المقام ممّا ذكرناه في بحث الاجتهاد والتقليد في وجه الإجزاء.

الإجزاء عند تبدّل الفتوى أو العدول :

ومجمل ما ذكرنا في ذلك البحث أنّه يحكم على العمل الواقع سابقا على طبق اجتهاد صحيح ، أو على طبق فتوى معتبرة في ذلك الزمان ، بالإجزاء في العبادات والمعاملات ، بمعنى العقود والإيقاعات السابقة ؛ لما علم من مذاق الشارع بجعل هذه الشريعة سهلة سمحة ، وأنّه لم يعهد في الشريعة أن يأمر الائمّة عليهم‌السلام من كان يعمل على طبق أخبارهم المعتبرة أن يتدارك عمله السابق بمجرّد ظهور خبر أو وروده عنهم عليهم‌السلام فيما بعد ، بحيث يقدّم بعد وروده على ما كان يعمل عليه ، بل ورد عنهم ما يشير إلى إجزاء ذلك العمل ، ففي موثّقة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يتّهمون بالكذب ، فيجيء منكم خلافه؟ قال : إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن» (١) ، فإنّ التعبير عن الحديث الآتي من قبلهم بالناسخ للحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتنزيله الحديث منزلة القرآن في وقوع النسخ فيه يشير إلى إجزاء العمل السابق قبل ورود

__________________

(١) الوسائل : ج ١٨ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

٤٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الحديث الناسخ ، فإنّ النسخ في المقام ، وإن لم يكن بمعناه المعروف بل المراد منه التقييد والتخصيص ، إلّا أنّ العمل بالكتاب قبل ورود المخصّص أو المقيّد عليه كما كان يجزي كذلك العمل بالحديث قبل ورود الحديث اللاحق ، ويؤيّد ذلك الإجماعات المنقولة في المقام على الإجزاء حيث قال في العروة : «فإذا أفتى المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغير الحديد مثلا ، فذبح حيوانا كذلك ، فمات مجتهده ، وقلّد من يقول بحرمته ، فإن باعه أو أكله حكم بصحّة البيع وإباحة الأكل ، وأمّا إذا كان الحيوان المذبوح موجودا فلا يجوز بيعه ولا أكله» ، وقال قبل ذلك : «وكذا لو أوقع عقدا أو إيقاعا بتقليد مجتهد يحكم بصحّته ، فإن مات وقلّد من يقول ببطلانه ، يجوز له البناء على الصحّة. نعم يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني فيما يأتي» (١).

ولا يخفى أنّ ما ذكره من الفرق بين الذبح بغير الحديد وبين العقد السابق لا يصحّ ، إلّا بأن يقال المتيقّن من التسالم على الإجزاء ، موارد العبادات السابقة والعقود والإيقاعات ، ويبقى غيرها تحت القاعدة المشار إليها آنفا في الأصل الأولي على القول بالطريقية في الأمارات واعتبار الأصول من عدم الإجزاء.

ثمّ إنّه يقع الكلام في أنّه لو قلنا بإجزاء الأعمال السابقة على طبق الفتوى السابقة ، فيما إذا انكشف خلافها بالفتوى اللّاحقة ، فهل تكون تلك الأعمال مجزية بالإضافة إلى غير العامل أيضا ممّن يكون الطريق المعتبر عنده على خلاف تلك الأعمال ، مثلا إذا تيمّم الإمام لصلاته في مورد ، يرى الغير أنّه يتعيّن في ذلك المورد

__________________

(١) العروة الوثقى : ج ١ ، مسألة ٥٣ ، من كتاب الاجتهاد والتقليد.

٤٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وضوء الجبيرة ، فهل يجوز ـ لمن يكون الحكم عنده كذلك ـ الائتمام بصلاة هذا الإمام الذي يصلّي بالتيمّم ، بدعوى أنّه إذا كانت صلاة الإمام مجزية بحيث لا يجب عليه تداركها بالإعادة والقضاء بعد كشف الخلاف عنده بتبدّل فتواه أو رجوعه إلى المجتهد الآخر ، تكون صلاته مع التيمّم المزبور كالصلاة مع الخلل في الموارد التي تدخل في المستثنى منه من حديث «لا تعاد» ، وكما أنّه يجوز الاقتداء فيها مع علم المأموم بخلل صلاة الإمام بما لا يضرّ الإخلال به في صحّتها في حقّه ، فكذلك الحال في الفرض ، أو أنّه لا يجوز للغير ممن يقوم الطريق المعتبر عنده على بطلان عمله واقعا ترتّب أثر الصحيح على تلك الأعمال؟

الصحيح هو الثاني ، وذلك لأنّ الحكم بالإجزاء في الأعمال السابقة بالإضافة إلى العامل ، ليس بمعنى صحّتها واقعا ، بل معنى الإجزاء إبقاء فتواه السابقة أو فتوى المجتهد السابق على الاعتبار بالإضافة إلى تلك الأعمال في حقّ العامل ؛ ولذا لو كان كشف الخلاف في الفتوى السابقة مع الواقع كشفا وجدانيا لم تكن مجزية ، ولزم تدارك الواقع الفائت ، فلا يقاس الإجزاء فيها بموارد الخلل في الصلاة ، ممّا يدخل في المستثنى منه من الحديث ، فإنّ الصحّة في تلك الموارد واقعية ؛ ولذا لا تجب إعادة الصلاة ولا قضائها بالكشف الوجداني للخلل.

وبالجملة غاية ما يستفاد ممّا تقدّم ـ من أنّ لزوم التدارك في موارد تبدّل الفتوى أو الرجوع الى المجتهد الآخر ينافي كون الشريعة سهلة وسمحة وقيام السيرة المتشرعة الجارية على عدم التدارك فيما إذا وقعت الأعمال السابقة عن تقليد أو اجتهاد صحيح في العبادات والمعاملات من العقود والإيقاعات ـ هو بقاء الفتوى السابقة أو الاجتهاد السابق على الاعتبار بالاضافة إلى العامل فحسب ، وكذا فيما

٤٢٧

ثمّ إن هذا كلّه فيما يجري في متعلّق التكاليف ، من الأمارات الشرعية والأصول العملية [١] ، وأمّا ما يجري في إثبات أصل التكليف ، كما إذا قام الطريق

______________________________________________________

أشرنا إليه من الرواية ، فتدبّر.

قد يقال : إنّه يستثنى ممّا ذكر من عدم ترتيب أثر الصحيح لمن يرى بطلان ذلك العمل بحسب اجتهاده أو تقليده موردان :

أحدهما : النكاح ، فإنّه إذا عقد على امرأة بعقد صحيح عندهما بحسب تقليدهما ، فلا يجوز للغير الذي يرى بطلانه اجتهادا أو تقليدا تزويجها بعد ذلك بلا طلاق صحيح ، بدعوى أنّ المرأة من الأوّل خليّة ؛ لبطلان العقد على رأيه.

الثاني : الطلاق فإنّه إذا طلّق زوجته بطلاق يرى صحّته ، كما إذا أنشأه ببعض الصيغ مما أفتى بعض بصحّة إنشائه بها ، ويرى الغير بطلان ذلك الطلاق ، فيجوز له التزويج بتلك المرأة بعد انقضاء عدّتها.

والدليل على ترتيب الأثر في الموردين ـ مضافا إلى السيرة المستمرّة ـ ما يستفاد ممّا ورد في أنّ «لكلّ قوم نكاح» وما ورد في قاعدة الإلزام.

ولكن لا يخفى ما فيهما ، إذ دعوى السيرة المستمرّة في موارد الحكم الظاهري لم تثبت ، وما ورد في أنّ لكلّ قوم نكاح أو في قاعدة الإلزام لا يستفاد منهما إجزاء النكاح أو الطلاق الواقع على طبق الحجّة المعتبرة عند العامل ، بالإضافة إلى من تكون الحجّة المعتبرة عنده على خلافها ، وكذلك الحال في الميراث. نعم إذا كان النكاح والطلاق أو الميراث عند قوم مخالفا لما عندنا ، فهو مجرى السيرة وقاعدة الإلزام لا ما إذا كان عند مجتهد مخالفا لما عند مجتهد آخر.

[١] كان كلامه قدس‌سره في الأصول العملية والأمارات التي تكون مقتضاها إحراز قيود متعلّق التكليف جزءا أو شرطا ، نفيا أو إثباتا. وأمّا التي مقتضاها إحراز التكاليف

٤٢٨

أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة ، فانكشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر في زمانها ، فلا وجه لإجزائها مطلقا ، غاية الأمر أن تصير صلاة الجمعة فيها ـ أيضا ـ ذات مصلحة لذلك ، ولا ينافي هذا بقاء صلاة الظهر على ما هي عليه من المصلحة ، كما لا يخفى ، إلّا أن يقوم دليل بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.

______________________________________________________

المستقلّة ، فلا يوجب الالتزام بالسببية فيها الإجزاء ، ولو قامت أمارة على وجوب فعل ، وكان الواجب في الواقع غيره ، فلا يوجب قيامها عدم لزوم تدارك الواقع بعد انكشافه ، حيث إنّ غاية اعتبارها أنّ قيامها أوجب صلاح ذلك الفعل لا سقوط الواجب الواقعي عن صلاحه ، إلّا فيما كانت الأمارة القائمة على وجوب فعل دالّة على عدم وجوب ذلك الواجب الواقعي ، كما في مثل الأمارة القائمة على وجوب القصر أو الجمعة في يومها ، فإنّها بالملازمة تنفي وجوب التمام أو الظهر لقيام الضرورة ، ولا أقلّ من الإجماع على عدم وجوب الأزيد من الصلوات الخمس في اليوم والليلة على كلّ مكلّف ، فإنه في الفرض يحكم بالإجزاء على مسلك السببية ، حتّى مع كشف الخلاف في الوقت ، حيث إنّه لو وجب التدارك لزم وجوب الأزيد من الصلوات الخمس على المكلّف.

٤٢٩

تذنيبان :

الأول : لا ينبغي توهم الإجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطأ [١] ، فإنّه لا يكون موافقة للأمر فيها ، وبقي الأمر بلا موافقة أصلا ، وهو أوضح من أن يخفى ، نعم ربما يكون ما قطع بكونه مأمورا به مشتملا على المصلحة في هذا الحال ، أو على مقدار منها ، ولو في غير الحال ، غير ممكن مع استيفائه استيفاء الباقي منها ، ومعه لا يبقى مجال لامتثال الأمر الواقعي ، وهكذا الحال في الطرق ، فالإجزاء ليس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعي أو الطريقي للإجزاء بل إنّما هو لخصوصية اتفاقية في متعلقهما ، كما في الإتمام والقصر ، والإخفات والجهر.

______________________________________________________

[١] مراده قدس‌سره أنّه يمكن أن يكون الجزم بوجوب فعل في مورد ، مع الغفلة عن الواجب الواقعي في ذلك المورد ، موجبا لحدوث تمام مصلحة الواقع في ذلك الفعل ، فلو أتى به حال الغفلة عن الواجب الواقعي لا يبقى مجال لتدارك الواجب الواقعي بعد زوال الجزم ؛ لأنّ المزبور تدارك مصلحته بالفعل الذي جزم بوجوبه. وكون فعل في حال الغفلة عن الواجب الواقعي كذلك وإن كان ممكنا إلّا أنّه لا يمكن أن تكون مصلحة الواقع في ذلك الفعل مطلقة ، (يعني ولو في غير حال الغفلة عن الواجب الواقعي) وإلّا كان تخصيص الوجوب بذلك الفعل وعدم جعله تخييريّا بينهما بلا موجب.

نعم ، يمكن أن يكون الفعل الذي جزم بوجوبه مع كون الواجب فعلا آخر مشتملا على بعض ملاك الواجب مطلقا ، ولو في غير حال الغفلة عن الواجب الواقعي ، ومع ذلك لا يتعلّق به الواجب لا تعيينا ولا تخييرا بين الفعلين والفعل الواحد ؛ لأنّ مع الإتيان به أوّلا لا يمكن تدارك الباقي بالإتيان بالفعل الآخر ؛ ولذا عمّم قدس‌سره الاشتمال على مقدار من المصلحة بقوله : «ولو في غير هذا الحال».

٤٣٠

الثاني : لا يذهب عليك أنّ الإجزاء في بعض موارد الأصول [١] والطرق والأمارات ، على ما عرفت تفصيله ، لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه في

______________________________________________________

وبالجملة اشتمال فعل على تمام ملاك الواجب الواقعي حال الغفلة عنه أو على بعض ملاكه مطلقا ، مع عدم إمكان استيفاء الباقي ، أمر ممكن ، ولكن هذا لا يرتبط ببحث إجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري عن الواقعي ؛ لأنّ القائل بالإجزاء في المأمور به الظاهري لا يلتزم بالإجزاء بالإتيان بما اعتقد أنّه الواجب الواقعي ، كما أنّ القائل بعدم الإجزاء في الإتيان بالمأمور به الظاهري يلتزم بالإجزاء في موارد كون الاعتقاد بوجوب فعل موجبا لحدوث مصلحة الواقع فيه ، أو كونه واجدا لبعض ملاك الواجب الواقعي ولم يمكن مع الإتيان به تدارك الباقي فيما قام دليل خاصّ على ذلك ، كإجزاء كلّ من الجهر والإخفات في موضع الآخر ، وكالتمام في صورة الجهل بوجوب القصر.

[١] كأنّ هذا الأمر ردّ على من ذكر أنّ الالتزام بإجزاء المأمور به الظاهري ـ حتّى بعد انكشاف الخلاف ـ يلازم التصويب في الأحكام والتكاليف الواقعية ، ويظهر من صدر كلامه قدس‌سره إلى ذيله أنّ التصويب الباطل هو ما كان يستتبع خلو الواقعة عن الحكم الواقعي الإنشائي في حقّ الجاهل ، وإنّ هذا لا يلزم من الالتزام بالإجزاء ، فإنّ معنى خلو الواقعة عن الحكم الواقعي في حقّ الجاهل هو أن لا يكون في حقّه حكم إلّا مؤدّى الأمارة أو مقتضى الأصل ، بحيث لو أغمض عن تلك الأمارة أو الأصل لم يكن في الواقع للواقعة حكم في حق الجاهل أصلا ، والقول بالإجزاء لا يلازم ذلك ؛ لأنّ الحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل في مرتبة الإنشاء محفوظ ، ولا يختصّ بالعالم ، ولكنّ هذا الحكم الإنشائي لا يصل إلى مرتبة الفعلية في ظرف قيام الأمارة أو وجود الأصل العملي على خلافه ، بلا فرق في ذلك بين الالتزام بالإجزاء أو عدمه ،

٤٣١

تلك الموارد ، فإنّ الحكم الواقعي بمرتبته محفوظ فيها ، فإنّ الحكم المشترك بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ، ليس إلّا الحكم الإنشائي المدلول عليه بالخطابات المشتملة على بيان الأحكام للموضوعات بعناوينها الأولية ، بحسب ما يكون فيها من المقتضيات ، وهو ثابت في تلك الموارد كسائر موارد الامارات ، وإنّما المنفي فيها ليس إلّا الحكم الفعليّ البعثيّ ، وهو منفي في غير موارد الإصابة ،

______________________________________________________

فالقائل بعدم الإجزاء متّفق مع القائل بالإجزاء على عدم الفعلية في التكليف الواقعي في مورد الأصل أو ظرف قيام الأمارة فيما لو خالفا الواقع ، والفرق أنّ الأوّل يقول بصيرورته فعليّا بعد انكشاف الخلاف ويلزم التدارك ، والقائل بالإجزاء يقول بأنّه لا يصير فعليّا ؛ إمّا لحصول الملاك ، أو لعدم إمكان استيفاء الباقي ، وعليه فكيف يكون الإجزاء موجبا للتصويب ، أي خلوّ الواقعة عن الحكم ، وأن لا يكون في حقّ الجاهل حكم غير مؤدّى الأمارة ومفاد الأصل ، مع أنّ الجهل بخصوصية الواقعة أو بأصل حكمها موضوع لاعتبار الأمارة والأصل ، وما دام لم يفرض أنّ في الواقعة حكما لا يتم الموضوع للأصل أو لاعتبار الأمارة.

أقول : التصويب تارة يكون باختصاص الأحكام الشرعية والتكاليف الواقعية بالعالمين بها ، بأن يكون المجعول الواقعي قاصرا عن الشمول للجاهلين بها ولا يكون في حقّ غير العالمين إلّا مقتضى الأصل أو مدلول الأمارة ، وهذا النحو من التصويب منسوب إلى الأشعري ، ولازمه أخذ العلم بالحكم في موضوع ذلك الحكم ، وأخرى بأن يكون الحكم المجعول في الوقائع بنحو الاقتضاء ، يعني اعتبر التكليف والحكم في حقّ المكلّف مطلقا ما لم يكن مقتضى الأصل أو الأمارة على خلافه ، ومع مخالفة مقتضاهما له يكون الحكم الثابت هو مقتضى الأصل أو مدلول الأمارة ، وهذا النحو من التصويب منسوب إلى المعتزلي ، والإجزاء المتقدّم في بعض الأصول العملية

٤٣٢

وإن لم نقل بالإجزاء ، فلا فرق بين الإجزاء وعدمه ، إلّا في سقوط التكليف بالواقع بموافقة الأمر الظاهري ، وعدم سقوطه بعد انكشاف عدم الإصابة ، وسقوط التكليف بحصول غرضه ، أو لعدم إمكان تحصيله غير التصويب المجمع على بطلانه ، وهو خلو الواقعة عن الحكم غير ما أدت إليه الأمارة ، كيف؟ وكان الجهل بها ـ بخصوصيتها أو بحكمها ـ مأخوذا في موضوعها ، فلا بد من أن يكون الحكم الواقعي بمرتبته محفوظا فيها ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

كما التزم به الماتن قدس‌سره ولو مع دعوى الطريقية في مفادها ، يلازم هذا النحو من التصويب ، كما أنّ الالتزام بالسببية في الأمارات يوجبه أيضا ، فإنّه إذا اقتضى الأصل تحقّق قيد متعلّق التكليف وقيل إنّ الأصل المزبور حاكم على أدلّة شرائط متعلّق التكليف ، وأنّه يوجب التوسعة فيه واقعا تكون الطهارة المعتبرة في الصلاة ـ في حال الشكّ فيها ـ أوسع من الطهارة الواقعية ، وكذلك القول في الأمارة القائمة على الشرط بناء على السببية ، وكذا فيما قامت الأمارة بناء عليها على تكليف مستقلّ ، كما إذا قامت الأمارة على وجوب القصر مع كون الحكم المجعول الأوّلي فيه هو التمام ، فإنّه لا محالة يتقيّد وجوب التمام تعيينا في ذلك المورد ، بما إذا لم تقم الأمارة على وجوب القصر ، ومع قيامها إمّا يسقط وجوب التمام رأسا ، أو يكون وجوبه حال قيام الأمارة المزبورة تخييريا.

وبالجملة الحكم المجعول أوّلا يتبع الصلاح والملاك ومع عدم انحصار الملاك في وجوب التمام عند قيام الأمارة على خلافه يكون تخصيص الوجوب التعييني بالتمام بلا ملاك.

وبتعبير آخر : كما أنّ طريان الإكراه أو الاضطرار على الحرام الواقعي أو ترك الواجب الواقعي يوجب انتهاء تلك الحرمة أو ذلك الوجوب ، فيكون الثابت بعد

٤٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

طريان أحدهما الحلّية ، كذلك قيام الأمارة المخالفة للواقع بناء على السببية أو كون مفاد الأصل في مورد على خلافه يوجبان انتهاء الحكم الواقعي. وهذا التصويب المعتزلي يلازم القول بالسببيّة في اعتبار الأمارات والأصول ، كما أنّ القول بالسببية يلازم الإجزاء ، فالتزامه قدس‌سره بالإجزاء في موارد بعض الأصول العملية يلازم القول بالسببية في مفادها الموجبة للتصويب لا محالة.

نعم الالتزام بالإجزاء في موارد بعض الأمارات ـ على ما ذكره في التذنيب الأوّل ـ لا يلازم التصويب بالنحو الأوّل ولا بالنحو الثاني ؛ لأنّ المزبور في مواردها أنّ العمل على مفاد الأمارة هو الذي يلازم حدوث الملاك في الفعل لا قيام الأمارة بحكم ذلك الفعل ، فقيام الأمارة على وجوب القصر في مورد وجوب التمام أو على وجوب الظهر في مورد وجوب الجمعة لا يوجب حدوث الصلاح في القصر أو الظهر ، كما هو مقتضى القول بالسببية في اعتبار الأمارة ، بل القصر والظهر بعد قيام الأمارة على وجوبهما باقيان على ما هما عليه من عدم الملاك ، وأنّ المصلحة الملزمة تكون في التمام أو في الجمعة ، إلّا أنّ الإتيان بالقصر أو الظهر يلازم حدوث مصلحة فيها تسدّ مكان صلاح التمام أو الجمعة ، ويعبّر عن هذا الأمر بالمصلحة السلوكية ، ولكن هذا النحو من المصلحة أيضا يوجب التقييد في المجعول الأوّلي بأن ينشأ الوجوب في ذلك المورد ما دام لم يأت المكلف بالقصر وينشأ وجوب الجمعة ما دام لم يعمل بأمارة وجوب الظهر.

وذلك لأنّ إنشاء الحكم والتكليف بفعل يكون لغرض إمكان كونه داعيا للمكلّف إلى العمل عند وصوله إليه ، فالإنشاء لداع آخر ـ كالتعجيز والاستهزاء ـ لا يدخل في الحكم والتكليف ، وإذا فرض عدم الملاك في التمام بعد الإتيان

٤٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

بالصلاة قصرا أو في الجمعة بعد الإتيان بالظهر ، يكون جعل الوجوب المتعلّق بهما مطلقا لغوا.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الإجزاء فيما إذا أتى بفعل باعتقاد وجوبه أو قيام الأمارة على وجوبه وإن كان لا يلازم التصويب بالنحوين ، فإنّ التصويب ـ كما ذكرنا ـ تغيير الحكم الواقعي في ظرف ثبوت مدلول الأمارة أو مفاد الأصل. ومن الظاهر أنّه في الفرض يثبت الحكم الواقعي على ما هو عليه من غير تغيير في ظرف قيام الأمارة على الخلاف ، وإنّما يكون سقوط الحكم الواقعي بعد العمل بمدلول الأمارة من أجل عدم إمكان امتثاله لا لسبب آخر.

وعليه فالالتزام بعدم وجوب الإعادة على المسافر الجاهل بالقصر بعد ما صلّى تماما ثمّ علم بوجوب القصر عليه ، ليس التزاما بالتصويب ، وهكذا في مسألة الجهر في موضع الإخفات وبالعكس ، ولكن لو قلنا بالمصلحة السلوكية المعبّر عنها بالطريقية المخلوطة فقد يقال إنّها أيضا توجب التصويب لا محالة (أي التبدّل في الحكم الواقعي) فيما لو كانت المصلحة السلوكية بحيث يتدارك بها مصلحة الواقع ، فإنّه إذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة ، وكان الواجب بحسب الواقع صلاة الجمعة ، وقيل بأنّ قيام الأمارة لا يوجب المصلحة في صلاة الظهر ، بل العمل بتلك الأمارة والالتزام بأنّ مدلولها حكم من قبل الشارع ، يشتمل على مصلحة يتدارك بها ما فات بترك الواجب الواقعي ، فإنّه مع انكشاف الخلاف قبل خروج الوقت وإن لزم الإتيان بالواجب الواقعي لعدم فوته ، إلّا أنّه إذا لم ينكشف الخلاف إلّا بعد الوقت لم يجب القضاء ، باعتبار أنّ مصلحة الجمعة في الواقع متداركة بصلاة الظهر المأتي بها بعنوان العمل بالأمارة.

٤٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فاللازم أن يكون التكليف الواقعي متعلّقا بأحد أمرين إمّا بالجمعة أو الإتيان بالظهر بعنوان العمل بالأمارة مع فرض عدم انكشاف خلافها ، هذا بالإضافة إلى من قامت الأمارة عنده على وجوب صلاة الظهر ، وأمّا في حقّ من لم تقم عنده هذه الأمارة فالواجب في حقّه صلاة الجمعة خاصّة ، فليس وجوب صلاة الجمعة تعيينا بمشترك بين العالم والجاهل ، كما هو مبنى القول ببطلان التصويب حتّى المنسوب إلى المعتزلي وغيره.

لا يقال : في موارد كشف الخلاف بعد الوقت يتدارك مصلحة الفعل في الوقت لا مصلحة نفس الفعل ؛ لئلّا يلزم تداركه بالقضاء.

فإنّه يقال : لا سبيل لنا إلى العلم بتعدّد الملاك الملزم في الفعل في الوقت ليلتزم بوجوب القضاء مع انكشاف الخلاف في خارج الوقت ، والأمر بالقضاء على من فاته الواقع لا يكشف عن ذلك ، فلعلّ الملاك في الفعل خارج الوقت قد حصل بعد خروج الوقت في حقّ من لم يدرك مصلحة الفعل في الوقت ، ولذا من تدارك مصلحة الفعل في الوقت لا يجب عليه العمل بالأمارة ، فيلزم على القول بالمصلحة السلوكية الالتزام بالإجزاء بالإضافة إلى القضاء.

وبالجملة الالتزام بالمصلحة السلوكية يوجب التغيير والتبدّل في الحكم الواقعي بالإضافة إلى من لا ينكشف خلاف الأمارة له أصلا ، أو حتّى فيما إذا انكشف خلافها عنده بعد خروج الوقت ، كما في فرض وحدة الملاك الملزم في الفعل في الوقت وحدوث ملاك ملزم آخر في ذات الفعل بعد خروجه في حقّ من فات عنه الملاك الملزم الذي كان في الفعل في الوقت لا مطلقا ، كما لا يخفى.

فقد تحصّل أنّ القول بالإجزاء يوجب التقييد في التكليف الواقعي بعدم الإتيان

٤٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

بمؤدّى الأمارة فيما إذا لم يمكن تدارك مصلحة الواقع بعد العمل بها من غير أن يكون في العمل بها مصلحة شخصية ، وإلّا لزم التبدّل والتغيّر في الحكم الواقعي كما مرّ.

ولا يخفى أيضا أنّه إنّما يلزم من الالتزام بالإجزاء تقييد الحكم الواقعي بعدم العمل بمدلول الأمارة المخالفة فيما إذا التزم بالإجزاء في مورد كشف الخلاف وجدانا ، كما في مسألة التمام في موضع القصر والإخفات أو الجهر في موضع الآخر.

وأمّا إذا التزمنا بالإجزاء في خصوص كشف الخلاف بأمارة معتبرة ، كما في موارد تبدّل الفتوى ، أو عدول العامي إلى مجتهد آخر ، فلا يلزم من الالتزام بالإجزاء التقييد في التكليف الواقعي أصلا ، فإنّ معنى الإجزاء في هذه الموارد بقاء الأمارة السابقة على اعتبارها بالإضافة إلى الأعمال السابقة وعدم اعتبار الأمارة الحادثة إلّا بالإضافة إلى الأعمال الآتية ؛ ولذا لو كان كشف الخلاف في الأمارة السابقة وجدانا كان يجب تدارك العمل السابق والعمل على الوظيفة الواقعية.

لا يقال : من أين علمنا أنّ الأحكام الواقعية في الوقائع والتكاليف الشرعية المجعولة في حقّ المكلّفين لم تقيّد بعدم الإتيان بمؤديات الطرق والأمارات القائمة على خلافها ، حتّى نلتزم بلزوم التدارك ، فيما إذا انكشف الخلاف مطلقا ، أو في خصوص الانكشاف الوجداني؟

فإنّه يقال : نكتشف عدم التقييد من الأوامر الواردة بالاحتياط في الدين والوقائع المبتلى بها ، حتّى مع قيام الأمارة فيها على تعيين الأحكام والتكاليف بنحو خبر العدل والثقة وغيرهما ، مما يحتمل مخالفتها مع الواقع ، كما يأتي الكلام في ذلك في بحث شرائط العمل بالأصل إن شاء الله تعالى ، كما أنّ إطلاق هذه الأخبار ينفي التصويب حتّى المنسوب منه إلى المعتزلي.

٤٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

بقي في المقام أمر وهو أنّ ما ذكره الماتن قدس‌سره من عدم فعلية الحكم الواقعي في مورد قيام الأمارة على خلافه ـ سواء قيل بالإجزاء أم لا ـ ينافي ما اختاره في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي في مبحث حجية الامارات. وقد ذكرنا أنّ الفعلية بالمعنى الذي التزم به وجعلها من مراتب الحكم أمر غير صحيح ، وليست الفعلية في التكليف المجعول على نحو القضية الحقيقية إلّا تحقّق الموضوع لذلك التكليف المجعول خارجا ، وبينّا أنّ الفعلية في التكليف الواقعي مع جهل المكلّف به لا ينافي الحكم الظاهري ، حيث إنّ الحكم واقعيا كان أو ظاهريا ، مجعول اعتباري يكون منافاته مع المجعول الآخر ، إمّا في الملاك أو في الغرض من الجعل ، والحكم الظاهري والواقعي يختلفان في الغرض ولا يتنافيان في الملاك ، ولتفصيل الكلام مقام آخر.

٤٣٨

فصل

في مقدمة الواجب

وقبل الخوض في المقصود ، ينبغي رسم أمور :

الأول : الظّاهر أنّ المهم المبحوث عنه في هذه المسألة ، البحث عن الملازمة [١]

بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، فتكون مسألة أصولية ، لا عن نفس وجوبها ، كما هو المتوهم من بعض العناوين ، كي تكون فرعية ، وذلك لوضوح

______________________________________________________

مقدمة الواجب :

[١] المبحوث عنه في هذه المسألة هي الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمته ، وأنّ التفكيك بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمته ممتنع أم لا ، وليس المراد من وجوب المقدّمة وجوبها المولوي التفصيلي ، بأن يكون القائل بوجوبها مدّعيا عدم تحقّق الأمر بشيء إلّا مع الأمر بمقدّمته أيضا ، ليقال كثيرا ما لا يكون الآمر عند أمره بشيء ملتفتا إلى مقدّمته ، فضلا عن أمره بها أيضا. بل المراد الوجوب المولوي الارتكازي ، بمعنى أنّ الآمر على تقدير لحاظ مقدّمة الشيء هل يعتبر الوجوب لها أيضا أم لا؟ ويعبّر عن هذا الوجوب بالتبعي وهو على تقدير ثبوته غيري ، بمعنى أنّ تعلّقه بما ينطبق عليه عنوان مقدّمة الواجب يكون لغرض الوصول بها إلى ذلك الواجب ، لا لتعلّق غرض بنفسها مع الإغماض عن ذيها.

وحيث إنّ نتيجة البحث عن الملازمة تقع في طريق الاستنباط تكون المسألة

٤٣٩

أن البحث كذلك لا يناسب الأصولي ، والاستطراد لا وجه له ، بعد إمكان أن يكون البحث على وجه تكون عن المسائل الأصولية.

ثمّ الظّاهر أيضا أنّ المسألة عقلية ، والكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدمه ، لا لفظية كما ربّما يظهر من صاحب المعالم ، حيث استدلّ على النفي

______________________________________________________

أصولية ؛ إذ بناء على الملازمة يكون ثبوتها موجبا للعلم بوجوب الوضوء ونحوه في قياس استثنائي ، فيقال :

لو كان الشيء واجبا وجبت مقدّمته أيضا ، ولكنّ الصلاة تجب عند الزوال فتجب مقدّمتها أيضا من الوضوء وتحصيل الساتر وتطهير الثوب والبدن إلى غير ذلك.

وظاهر بعض عبارات الأصحاب أنّ المبحوث عنه في المسألة نفس وجوب المقدّمة لا الملازمة بين وجوب ذيها ووجوبها ، حيث ذكر في عنوان البحث أنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به ، واجب ، وعليه لا تكون المسألة أصولية ، بل تكون فرعيّة ، فإنّ البحث عن وجوب المقدّمة كالبحث عن وجوب الوفاء بالنذر ، ووجوب طاعة أمر الوالد وغيرها من المسائل الفرعية.

وقد ذهب السيّد الأستاذ قدس‌سره إلى أنّ البحث في مقدّمة الواجب من المبادئ الاحكاميّة (١).

وفيه : أنّ المبادئ إمّا تصوّرية أو تصديقيّة ، والأولى هي التي يكون البحث فيها عن نفس موضوعات مسائل العلوم أو محمولاتها ، كالبحث عن المراد من الفاعل أو المفعول أو الحال أو التمييز من موضوعات مسائل علم النحو ، أو البحث عن المراد من الرفع أو النصب من محمولاتها.

__________________

(١) نهاية الأصول : ١ / ١٤٢.

٤٤٠