دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

المبحث الرابع : إنّه إذا سلم أنّ الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب ، هل لا تكون ظاهرة فيه أيضا أو تكون؟ قيل بظهورها فيه ، إمّا لغلبة الاستعمال فيه ، أو لغلبة وجوده أو أكمليته ، والكلّ كما ترى ، ضرورة أنّ الاستعمال في الندب وكذا وجوده ، ليس بأقل لو لم يكن بأكثر. وأمّا الأكملية فغير موجبة للظهور ، إذ الظهور لا يكاد يكون إلّا لشدة أنس اللفظ بالمعنى ، بحيث يصير وجها له ، ومجرد الأكملية لا يوجبه ، كما لا يخفى ، نعم فيما كان الأمر بصدد البيان ، فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل على الوجوب ، فإنّ الندب كأنّه يحتاج إلى مئونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك ، بخلاف الوجوب ، فإنّه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد ،

______________________________________________________

في مقام الطلب ولم ينصب قرينة على غير الطلب الوجوبي.

والفرق بين هذه الدعوى ودعوى الظهور المتقدّم هو أنّ هذا الظهور إطلاقي موقوف على جريان مقدّمات الحكمة ، بخلاف الظهور السابق ، فإنّه ظهور انصرافي ولا حاجة في الظهور الانصرافي إلى إجراء مقدّمات الحكمة.

أقول : الصحيح عدم الفرق بين الظهور في صيغة الأمر ، والظهور في الجملة الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب ، في أنّ كلّا من الظهورين إطلاقي ، حيث إنّ تفهيم المولى عبده طلب الفعل ـ سواء كان بإنشائه بالصيغة أو بغيره ـ مع عدم ثبوت الترخيص منه في تركه ، مصحّح لمؤاخذته على المخالفة ، كما تقدّم في بيان دلالة الصيغة على الطلب الوجوبي.

ويؤيد ذلك استعمال الجملة الخبرية في موردي الوجوب والاستحباب ، وعدم الفرق في المستعمل فيه بينهما ، كما في قوله عليه‌السلام فيمن وجد في إنائه فأرة وتوضّأ منه مرارا وصلّى : «يعيد وضوئه وصلاته» (١) ، فإنّ الإعادة بالإضافة إلى

__________________

(١) الوسائل : ج ١ ، الباب ٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١.

٣٢١

فإطلاق اللفظ وعدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان ، كاف في بيانه ، فافهم.

المبحث الخامس : إنّ إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليا [١] ، فيجزي إتيانه مطلقا ، ولو بدون قصد القربة ، أو لا؟ فلا بدّ من الرجوع فيما شك في تعبديته وتوصليته إلى الأصل.

لا بدّ في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات :

______________________________________________________

الوضوء استحبابي ، وبالإضافة إلى الصلاة وجوبي ، وكذا نظائره.

التعبدي والتوصلي :

[١] لا يخفى أنّ قصد التقرب بأيّ معنى فرض لا يكون قيدا للوجوب ، بأن يكون الوجوب بالإضافة إليه مطلقا أو مشروطا ، بل القصد المزبور على تقدير كونه قيدا فهو قيد للواجب ، يعني مأخوذا فيه ، فالمبحوث عنه في المقام إطلاق المادة وعدم إطلاقها بالإضافة إليه ، لا إطلاق الهيئة ، وحينئذ يبحث في أنّ إطلاق المادّة هل يدلّ على كون الواجب توصّليا أو أنّ إطلاقها لا يكشف عن ذلك.

نعم قد يطلق التعبّدي والتوصّلي على الواجب بمعنى آخر على ما ذكره المحقّق النائيني قدس‌سره وهو أنّ التكليف التعبدي ما لا يسقط عن المكلف بفعل غيره ، أو بفرد غير اختياري صادر بلا قصد والتفات ، أو بفرد محرّم لا يعمّه الترخيص في التطبيق ، والتكليف التوصلي يسقط عن المكلّف به بفعل غيره أو بالفرد غير الاختياري أو بالفرد المحرّم والتوصلي بهذا المعنى ربما يكون تعبّديا بالمعنى الأوّل ، نظير سقوط التكليف بقضاء ما على الميت من الصلاة والصوم عن الولد الأكبر بفعل الآخرين ، ومقتضى إطلاق الهيئة ثبوت التكليف وعدم سقوطه بفعل الغير أو الإتيان بالفرد غير الاختياري أو المحرّم ، كما يأتي.

٣٢٢

إحداها : الوجوب التوصلي ، هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول الواجب ، ويسقط بمجرد وجوده ، بخلاف التعبدي ، فإنّ الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك ، بل لا بدّ ـ في سقوطه وحصول غرضه ـ من الاتيان به متقربا به منه تعالى.

ثانيتها : إن التقرب المعتبر في التعبدي [١] ، إن كان بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره ، كان ممّا يعتبر في الطاعة عقلا ، لا ممّا أخذ في نفس العبادة شرعا ، وذلك لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلّا من قبل الأمر بشيء في متعلق ذاك الأمر مطلقا شرطا أو شطرا ، فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر ، لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها.

______________________________________________________

أنحاء قيود المتعلّق :

[١] القيود المأخوذة في صحّة العمل بحيث لا يسقط التكليف إلّا مع الإتيان بالمتعلق معها على نحوين :

الأوّل : ما لا يمكن تحقيق ذلك القيد في الخارج ولحاظه تفصيلا إلّا بعد الأمر بالعمل وتعلّق الطلب بالفعل.

الثاني : ما يمكن تحقيقه خارجا ولحاظه تفصيلا قبل الأمر بالعمل ، كما في الطهارة من الحدث المأخوذة في الصلاة ، فإنّ التوضّؤ ولحاظه التفصيلي قبل الأمر بالصلاة المشروطة به أمر ممكن ، وهذا النحو من القيد يمكن للآمر أخذه في متعلق الوجوب ثبوتا وإثباتا ، ومع عدم أخذه في متعلّق التكليف في خطابه وعدم وروده في خطاب آخر أيضا يؤخذ بإطلاق متعلّق التكليف في الخطاب مع تمامية مقدمات الإطلاق ، فيثبت عدم اعتباره في متعلق التكليف ثبوتا أيضا.

أمّا القسم الأوّل من القيود ، فلا يمكن للآمر أخذها في متعلّق التكليف بالعمل لا ثبوتا ولا إثباتا ، فإنّ أخذها في متعلق التكليف يكون بلحاظها حين لحاظ المتعلق

٣٢٣

وتوهم إمكان تعلّق الأمر [١] بفعل الصلاة بداعي الأمر ، وإمكان الاتيان بها بهذا الداعي ، ضرورة إمكان تصور الأمر بها مقيدة ، والتمكن من إتيانها كذلك ، بعد تعلّق الأمر بها ، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة الأمر إنّما هو في حال الامتثال لا حال الأمر ، واضح الفساد ؛ ضرورة أنّه وإن كان تصورها كذلك بمكان من الإمكان ، إلّا أنّه لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها ، لعدم الأمر بها ، فإنّ الأمر حسب الفرض تعلّق بها مقيدة بداعي الأمر ، ولا يكاد يدعو الأمر إلّا إلى ما تعلّق به ، لا إلى غيره.

______________________________________________________

عند اعتبار الوجوب ، والمفروض عدم إمكان لحاظها إلّا بعد الأمر ، وعلى ذلك فلا يكون عدم أخذها في المتعلق في خطاب التكليف كاشفا ودليلا على صحّة العمل بدونه ، وكذلك عدم ذكرها في الخطاب المتكفّل لبيان متعلّق ذلك الوجوب من حيث أجزائه وقيوده المتعلق بها التكليف لا يكون كاشفا.

ثمّ إنّ قصد التقرّب والامتثال بمعنى داعوية الأمر للمكلّف إلى الإتيان بمتعلقه من القسم الأول ، حيث إنّ داعوية الأمر إنّما تكون بعد تحقّق الأمر ، كما أنّ لحاظ داعوية شخص ذلك الأمر إلى الإتيان بمتعلقه يكون بعد الأمر به ، وقوله قدس‌سره : «لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتّى إلّا من قبل الأمر» إشارة إلى القسم الأوّل من القيود ، وإلى كون قصد الامتثال منها ، فيكون قصد الامتثال مما يعتبر في صحّة العمل عقلا فيما إذا كان الغرض والملاك ممّا لا يحصل بمجرّد الإتيان بذات متعلق الأمر خارجا ، حيث إنّ العقل مستقلّ بلزوم الإتيان بالعمل بنحو يحصل غرض المولى من الأمر.

[١] وقد يقال إنّ قصد الامتثال يمكن أخذه في متعلق الأمر ، حيث يمكن للشارع أن يأمر ثبوتا بالصلاة الخاصة مثلا ، وهي الصلاة التي أريد بها امتثال الأمر ، وبعد الأمر بالصلاة الخاصة يمكن للمكلف الإتيان بها كذلك ؛ لأنّ القدرة المعتبرة في

٣٢٤

إن قلت : نعم ، ولكن نفس الصلاة أيضا صارت مأمورة بها بالأمر بها مقيدة [١].

قلت : كلّا ، لأنّ ذات المقيد لا يكون مأمورا بها ، فإن الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلا ، فإنّه ليس إلّا وجود واحد واجب بالوجوب النفسي ، كما ربما يأتي في باب المقدمة.

______________________________________________________

التكليف هي القدرة على متعلقه في ظرف الامتثال ، لا القدرة حال الأمر ، فإنّ الموجب لخروج التكليف عن اللغوية هو الأوّل دون الثاني ، وتوقّف لحاظ قصد شخص الأمر وتصوّره تفصيلا على تحقّق الأمر ، لا يوجب عدم إمكان لحاظه بنحو الكلي أو بالعنوان المشير إلى الشخص الموجود بالأمر فيما بعد ، فلا محذور في أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر لا للمولى ولا للعبد في ظرف الامتثال.

ودفع قدس‌سره هذا التوهّم : بأنّ تصوّر الصلاة الخاصة في مقام الأمر وإن كان ممكنا ، إلّا أنّه مع تعلّق الأمر بتلك الصلاة لا يتمكّن المكلف من الصلاة بداعوية الأمر بها حتّى في ظرف الامتثال ، حيث إنّ قصد الامتثال عبارة عن الإتيان بالعمل بداعوية الأمر بذلك العمل ، والمفروض أنّ الأمر لم يتعلّق بنفس الصلاة (أي بذات العمل) ليمكن للمكلّف الإتيان به بداعويته إلى الإتيان ، بل تعلّق بالصلاة الخاصّة ، ومن الظاهر أنّ الأمر لا يكاد يدعو إلّا إلى متعلّقه لا إلى غيره ، وداعوية الأمر المفروض إلى نفس الصلاة من داعوية الأمر إلى غير متعلّقه.

[١] وحاصل الإشكال أنّ تعلّق الأمر بالصلاة المقيدة بقصد امتثال الأمر لا يوجب عدم تمكّن المكلف من الإتيان بها بداعوية الأمر بها ، فإنّ ذات المقيّد ـ يعني نفس الصلاة ـ تكون متعلّقة للأمر المتعلّق بالصلاة المقيدة.

٣٢٥

إن قلت : نعم ، لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطا ، وأما إذا أخذ شطرا ، فلا محالة نفس الفعل الذي تعلق الوجوب به مع هذا القصد ، يكون متعلقا للوجوب ، إذ المركب ليس إلّا نفس الأجزاء بالأسر ، ويكون تعلقه بكل بعين تعلقه بالكل ، ويصح أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب ، ضرورة صحة الإتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه.

قلت : مع امتناع اعتباره كذلك ، فإنّه يوجب تعلّق الوجوب بأمر غير اختياري ، فإن الفعل وإن كان بالإرادة اختياريا ، إلّا أن إرادته ـ حيث لا تكون بإرادة أخرى ، وإلّا لتسلسلت ـ ليست باختيارية ، كما لا يخفى. إنّما يصح الإتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي ، ولا يكاد يمكن الإتيان بالمركب عن قصد الامتثال ، بداعي امتثال أمره.

______________________________________________________

وأجاب قدس‌سره عن ذلك بأنّ الأمر المتعلّق بالمقيد لا يكون أمرا بذات المقيد ، حيث إنّ انحلال المقيد إلى الذات والتقييد عقلي ، فإنّ المقيّد بما هو مقيّد له وجود واحد تعلّق به وجوب نفسي واحد.

لكن قد يقال : إنّ عدم تعلّق الأمر بنفس الصلاة مثلا إنّما يصحّ فيما إذا أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر بنحو القيد والاشتراط ، وأمّا إذا أخذ في متعلّق التكليف جزءا بأن يكون متعلّق الأمر الكلّ المركّب من ذات العمل وقصد امتثال أمره ، كانت نفس الصلاة متعلّقا للأمر الضمني لا محالة ، إذ ليس الكلّ إلّا نفس الأجزاء ، فيمكن للمكلّف الإتيان بنفس الصلاة بداعوية الأمر المتعلّق بها ضمنا.

وأجاب قدس‌سره عن ذلك بوجهين :

الوجه الأوّل : إنّ الفعل وإن كان بالإرادة والقصد اختياريّا ، إلّا أنّ نفس الإرادة والقصد غير اختياري لعدم كونه بإرادة أخرى وإلّا تسلسل ، فالقصد بما أنّه غير اختياري لا يتعلّق به التكليف ، وعليه فلا يكون قصد الامتثال جزءا من متعلّق الأمر.

٣٢٦

إن قلت : نعم ، لكن هذا كلّه إذا كان اعتباره في المأمور به بأمر واحد [١] ، وأمّا إذا كان بأمرين : تعلّق أحدهما بذات الفعل ، وثانيهما بإتيانه بداعي أمره ، فلا محذور أصلا ، كما لا يخفى. فللآمر أن يتوسل بذلك في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده ، بلا منعة.

قلت : ـ مضافا إلى القطع بأنه ليس في العبادات إلّا أمر واحد ، كغيرها من

______________________________________________________

الوجه الثاني : أنّ داعوية الأمر الضمني إلى الإتيان بالجزء إنّما هي في ضمن داعوية الأمر بالكلّ إلى الإتيان بالكلّ ، وفيما نحن فيه لا بدّ من افتراض داعوية الأمر الضمني بالصلاة داعوية مستقلّة ؛ إذ لا يحصل المركّب من قصد الامتثال وغيره ، بقصد امتثال الأمر بذلك المركّب ، فإنّ لازمه أن يتعلّق الأمر بقصد الامتثال نفسه ، ومن الواضح أنّ الأمر يحدث منه الداعوية لا أنّه يتعلّق بداعوية نفسه.

[١] وتقريره أنّ لزوم المحذور من أخذ قصد الامتثال في متعلّق التكليف إنّما هو فيما إذا كان التكليف واحدا وقد أخذ في متعلّقه قصد الامتثال جزءا ، وأمّا إذا كان في البين تكليفان مولويان ، أحدهما يتعلّق بنفس الصلاة ، وثانيهما بالإتيان بها بقصد امتثال الأوّل ، فلا يلزم محذور أصلا ، غاية الأمر تفترق الواجبات التعبدية عن التوصلية ، بأنّ التكليف المولوي في التوصليات واحد يتعلّق بنفس العمل ، وفي التعبديات يثبت في كلّ منها تكليفان يتعلّق أحدهما بذات العمل ، والآخر بالإتيان به بداعوية الأمر الأوّل ، فلا يدعو شيء من التكليفين إلّا إلى الإتيان بمتعلّقة ، لا إلى قصد امتثال نفسه ، كما كان عليه الحال مع فرض وحدة التكليف فان لزوم قصد الامتثال في الأمر لا يكون بتعلق ذلك الأمر بقصد امتثال نفسه.

وأجاب قدس‌سره عن ذلك : بأنّ من المقطوع به عدم الفرق بين التعبدي والتوصلي بثبوت تكليفين مولويين في الأوّل وتكليف مولوي واحد في الثاني ، هذا أوّلا.

٣٢٧

الواجبات والمستحبات ، غاية الأمر يدور مدار الامتثال وجودا وعدما فيها المثوبات والعقوبات ، بخلاف ما عداها ، فيدور فيه خصوص المثوبات ، وأمّا العقوبة فمترتبة على ترك الطاعة ومطلق الموافقة ـ أنّ الأمر الأوّل إن كان

______________________________________________________

وثانيا : إذا فرض كون الأمر الأوّل المتعلّق بنفس العمل مولويا ، كما هو الفرض ، فإن كان يسقط بمجرّد الإتيان بذات العمل ولو لم يقصد به الامتثال الذي يقتضيه الأمر الثاني ، فلا يبقى مجال لموافقة الأمر الثاني ؛ لانتفاء موضوعه فلم يصل المولى إلى غرضه بجعل تكليفين ، وإن لم يسقط التكليف الأوّل بالإتيان بنفس المتعلّق ، فلا بدّ من أن يكون عدم سقوطه لعدم حصول غرضه من أمره ، ولو سقط التكليف بلا حصول غرضه لم يكن الغرض موجبا لحدوثه ، ومع عدم سقوطه لعدم حصول غرضه ، لا حاجة إلى التكليف الثاني ، لاستقلال العقل بلزوم الإتيان بالمتعلّق على نحو يحصل غرض المولى والآمر ، فلا يكون في التكليف المولوي الثاني ملاك.

والحاصل : إنّ تعلّق أمر بفعل وتعلّق أمر آخر باستناد ذلك الفعل إلى داعوية الأمر الأوّل ـ فيما إذا كانا من قبيل الأمرين النفسيين ـ يوجب أحد المحذورين : إمّا سقوط الأمرين معا بالإتيان بذات الفعل ؛ لسقوط أحدهما بهذا الإتيان ، والثاني لارتفاع موضوعه ، وإمّا أن لا يكون للأمر الثاني ملاك المولوية ، كما إذا لم يسقط الأمر الأوّل بالإتيان بذات الفعل.

أقول : يمكن افتراض أمر واحد يكون لمتعلّقه جزءان ، أحدهما ذات الفعل ، والآخر استناد ذلك الفعل إلى داعوية أمره الضمني بأن يكون أحد الضمنيين متعلّقا بذات الفعل ، والضمني الآخر متعلّقا بداعوية الضمني الأوّل إلى متعلّقه ، ولا يلزم من ذلك محذور ؛ لأنّ داعوية الأمر الضمني بذات الفعل ، بداعوية الضمني الآخر الذي دعى إلى متعلّقه ، وهو استناد الفعل إلى الأمر الضمنى به.

٣٢٨

يسقط بمجرد موافقته ، ولو لم يقصد به الامتثال ، كما هو قضية الأمر الثاني ، فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأوّل بدون قصد امتثاله ، فلا يتوسل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة ، وإن لم يكد يسقط بذلك ، فلا يكاد يكون له وجه ،

______________________________________________________

وما تقدّم في كلامه من أنّ داعوية الأمر الضمني إلى متعلقه إنّما هي في ضمن داعوية الأمر بالمركب إلى المركّب ولا تكون داعويته مستقلة ، فإنّما يصحّ لو كان كلّ من جزئي المركّب تعبديا ، أو لم يحصل الجزء الآخر بمجرّد امتثال الأمر الضمني ، وبما أنّ المفروض في المقام أنّ الضمني الآخر قد تعلّق باستناد الفعل إلى داعوية الضمني الأوّل ، فبقصد امتثال الأمر الضمني الأوّل يحصل كلا جزئي المركّب.

والحاصل : أنّه لم يتعلّق شيء من الأمرين الضمنيين بداعوية نفسه إلى متعلّقه ليقال إنّ الأمر لا يتعلّق بداعوية نفسه لأنه من قبيل كون الشيء علّة لعلّيّة نفسه ، بل تعلّق أحدهما بذات العمل والثاني بداعوية الأوّل إلى متعلّقه.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا موجب للالتزام بثبوت أمرين مستقلّين في التعبديات يتعلّق أحدهما بذات العمل والثاني بداعوية الأمر الأوّل إلى متعلّقه ليقال إنّ من المقطوع به عدم الفرق بين التوصليات والتعبديات بثبوت الأمر المولوي الواحد في الأوّل وثبوت أمرين مولويين في الثاني.

لا يقال : لا يمكن التبعيض في الأمر الواحد المتعلّق بالمركب في الجعل إذ لو كان استناد الفعل إلى الأمر الضمني المتعلّق بذاته ، متعلّقا للأمر الضمني الآخر ، لزم فرض حصول الأمر الضمني بذات العمل قبل حصول الأمر الضمني المتعلّق بقصد التقرب ، مع أنّ التبعيض في حصول الأمرين الضمنيين غير ممكن.

فإنّه يقال : الملحوظ في متعلّق الأمر الضمني الثاني ، طبيعي الأمر الضمني المتعلّق بذات العمل ، لا الضمني الموجود وذلك الطبيعي يحصل بالأمر الواحد

٣٢٩

إلّا عدم حصول غرضه بذلك من أمره ، لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله ، وإلّا لما كان موجبا لحدوثه ، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الأمر ، لاستقلال العقل ، مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الأمر بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه ، فيسقط أمره.

هذا كلّه إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال.

______________________________________________________

بالمركب.

وذكر المحقّق النائيني قدس‌سره في استحالة أخذ قصد التقرب في متعلّق الأمر وجها آخر وهو أنّه لا بدّ في تقييد المتعلّق بقصد الأمر من أخذ الأمر بالفعل مفروض الوجود كما هو مقتضى كلّ قيد غير اختياري مأخوذ في الواجب ، فإنّه يؤخذ في الواجب مفروض الوجود ، ولذا لا يكون الأمر بالواجب المزبور إلّا على هذا التقدير ، وبما أنّ الأمر بالفعل الذي يتمكّن المكلّف من الإتيان به بقصد امتثال أمره ، خارج عن اختيار المكلف فلا بد في الأمر بالفعل ، من فرض وجود ذلك الأمر بعينه ، وهذا معنى اتحاد الحكم والموضوع في مرحلة الجعل ، بل لا يمكن فعلية ذلك الأمر أيضا ، إلّا بوجه دائر لأنّ فعلية الحكم بفعلية موضوعة ، وحيث إنّ الحكم مأخوذ في ناحية الموضوع ومفروض وجوده ، تكون فعليّة الحكم موقوفة على فعلية نفسه ، كما هو مقتضى كون الموضوع هو نفس حكمه (١).

وقال قدس‌سره إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة فيعتبر في الاطلاق إمكان التقييد ، وإذا لم يمكن تقييد متعلّق الأمر بقصد التقرب (بمعنى العمل بداعوية الأمر به) لما تقدّم من المحذور ـ يعني اتحاد الحكم والموضوع ـ

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ١٠٨ ؛ وفوائد الأصول : ١ / ١٤٩.

٣٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا يكون لمتعلق الأمر إطلاق ليثبت به كونه توصليا ، ويتبع مقام الإثبات مقام الثبوت (١).

وقد ظهر أنّ المحذور في أخذ قصد التقرّب في متعلّق الأمر غير ناش من ناحية عدم تمكّن المكلف من الإتيان به بداعوية الأمر به كما ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره ، بل الامتناع من ناحية عدم إمكان الأمر بالنحو المذكور ، فيكون جعل الحكم وفعليته دوريا.

وذكر أيضا أنّ العمل بقصد التقرّب (أي الإتيان بمتعلّق الأمر بداعويته) من الانقسامات اللاحقة لمتعلّق الأمر ، بعد الأمر به ، كما أنّ كون المكلف عالما أو جاهلا بالحكم من الانقسامات اللاحقة لموضوع الحكم بعد جعله ، ولو كان الغرض المفروض في البين في متعلّق الأمر على نحو يعمّ العالم بالحكم والجاهل به ، فعلى الآمر أن ينشأ خطابا آخر يكون مفاده تعميم الحكم في حقّهما ، كما أنّه لو كان غرضه في خصوص العالم به فاللازم أن يكون مفاد الخطاب الآخر نفي البأس عن الجاهل في ترك العمل بالخطاب الأوّل ، كما دلّ على ذلك ما ورد في التمام في موضع القصر ، أو الجهر في موضع الإخفات وبالعكس ، وورد في غير ذلك ما يقتضي اشتراك العالمين والجاهلين في أحكام الشرع ، كالأدلّة الدالّة على وجوب تعلّم الأحكام ، وعدم كون الجهل بها عذرا ، وكذلك فيما يكون الغرض مختصّا بصورة الإتيان بمتعلّق الأمر بقصد التقرّب ، فإنّه لا بدّ من خطاب آخر يتضمن الأمر بذلك الفعل مع قصد التقرّب (أي الإتيان بمتعلق الأمر الأوّل بداعويته) بخلاف ما لو

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ١١٣.

٣٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

كان توصليا ، فإنّه لا يحتاج إلى الخطاب الآخر ، بل يكون عدم ورود الخطاب الثاني مع إحراز أنّ المولى في مقام إظهار تمام ما له الدخل في غرضه ، من الإطلاق المقامي المقتضي للتوصلية.

والحاصل ، تمتاز التعبديات عن التوصليات بثبوت أمرين في التعبدي ، وأمر واحد في التوصلي ، وما في الكفاية من ثبوت أمر واحد ـ بلا فرق بين التعبدي والتوصلي ، بدعوى أنّ العقل يستقلّ بلزوم رعاية قصد التقرّب مع إحراز دخله أو احتمال دخله في حصول الغرض ـ غير صحيح ، فإنّ شأن العقل الإدراك لا الإلزام والحكم في مقابل حكومة الشرع ، فإلزام المكلف بقصد التقرب لا يكون إلّا من قبل الشارع ، ولكن كلا الأمرين في التعبدي لا يكونان من الأمرين النفسيين ، كوجوب صلاة الظهر ونذر الإتيان بها جماعة ، أو في المسجد ، بأن يكون لكلّ منهما ملاك ملزم وإن لم يكن لامتثال وجوب الوفاء بالنذر مجال بعد الإتيان بالصلاة فرادى أو في غير المسجد بل كلا الأمرين في المقام ناشئان عن ملاك ملزم واحد ، قائم بالفعل القربي ويحتال الآمر وبجعل الأمرين وسيلة إلى بعث المكلف إلى ما فيه غرضه ، فيكونان متساويين في الثبوت والسقوط ، ونظير ذلك ، الأمر باغتسال الجنب ليلا والأمر بالصوم بناء على أنّ وجوب الصوم مقيّد بطلوع الفجر فإنّ الأمرين في حكم أمر واحد ، ولهما ملاك واحد ، وإنّما جعلا وسيلة لبعث المكلف إلى ما فيه الغرض ، يعني الصوم المقيد بالطهارة (١).

أقول : يستفاد من كلامه أمور ثلاثة :

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ١٠٥ ؛ وفوائد الأصول : ١ / ١٦١.

٣٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الأوّل : أنّ أخذ قصد التقرب ـ بمعنى الإتيان بالمتعلّق بداعوية الأمر ـ في متعلّق ذلك الأمر ، يوجب اتّحاد الموضوع والحكم في مقام الجعل وكون فعليته دوريّا.

الثاني : أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد في مقام الثبوت كالاطلاق والتقييد في مقام الإثبات ، تقابل العدم والملكة ، ولا يتحقّق إطلاق فيما لم يمكن تقييده ؛ ولذا لا يكون في ناحية الموضوع للحكم ، أو المتعلّق للأمر ، إطلاق بالإضافة إلى الانقسامات المترتّبة على جعل الحكم وثبوت الأمر.

الثالث : أنّه لا بدّ في موارد الانقسامات اللاحقة من متمّم الجعل ، وفي مورد الأمر التعبّدي لا بدّ من ثبوت أمر آخر بإتيان العمل بداعوية الأمر الأوّل ، وفي مورد التوصلي لا حاجة إلى ذلك ؛ للإطلاق المقامي ـ أي عدم الأمر بالفعل بقصد التقرّب ـ على ما تقدّم.

لا يقال : الوجدان حاكم بأنّ الشارع لو أخبر بعد الأمر بفعل ، أنّ الغرض الملحوظ عندي لا يحصل بغير قصد التقرب ، يكفي هذا الإخبار في تعبدية الأمر الأوّل ، فلا يحتاج إلى الحكم المولوي الثاني.

فإنّه يقال : الإخبار بعدم حصول الغرض ، بداعي البعث إلى الإتيان بالفعل بقصد التقرّب ، بنفسه يعتبر أمرا آخر.

أمّا الأمر الأوّل ففيه : أنّ الوجه في أخذ قيود الواجب غير الاختيارية مفروضة الوجود في مقام الجعل هو عدم إمكان التكليف في فرض عدم تلك القيود ، حيث يكون التكليف مع فرض عدمها من قبيل التكليف بغير المقدور ، ويختص ذلك بما كان في البين صورتان صورة وجود القيد وصورة عدمه ، وحيث إنّ التكليف في

٣٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

إحدى الصورتين من قبيل التكليف بما لا يطاق ، فاللازم تقييد موضوع التكليف بصورة أخرى ، وهي صورة حصول القيد ، وأمّا إذا كان القيد غير الاختياري يحصل بنفس اعتبار التكليف ، كما هو الفرض في المقام ، حيث إنّ قصد التقرب يكون بالأمر وهذا الأمر غير الاختياري يحصل بنفس اعتبار التكليف فلا موجب لفرض وجوده.

ثمّ إنّ فرض وجود القيد لا ينحصر بما إذا كان القيد أمرا غير اختياري ، بل يمكن فرض وجود أمر اختياري أيضا إذا كان الملاك الملزم في متعلّق التكليف متوقّفا على اتّفاق وجوده ، فيعتبر في التكليف مفروض الوجود ، كما يأتي توضيحه في بحث الواجب المعلّق والمشروط ، هذا في التكاليف الوجوبية.

وأمّا التكاليف التحريمية التي يكون الملاك فيها مفسدة الفعل ، فلا موجب لأخذ قيود الموضوع بتمامها مفروضة الوجود بحيث لا تكون الحرمة فعلية قبل حصول القيد ، كما في تحريم شرب الخمر والميتة وغيرهما ، فإنّ مثل هذه التكاليف مما يتمكّن المكلف من إيجاد الموضوع لها ، كصنع الخمر أو جعل الحيوان ميتة ونحوهما ، فيكون التحريم فعليا ، حيث يمكن للمكلف ترك شرب الخمر ولو بترك صنع الخمر ، ويمكن له ترك أكل الميتة ولو بعدم جعل الحيوان ميتة ونحو ذلك.

وأمّا الأمر الثاني : يعني كون التقابل بين الإطلاق والتقييد بحسب مقام الثبوت ، تقابل العدم والملكة ، وإذا لم يمكن التقييد في متعلّق الحكم أو موضوعه يكون الإطلاق أيضا ممتنعا ، فلا يمكن المساعدة عليه ، فإنّه إذا لم يمكن أخذ قيد في الموضوع أو المتعلّق يكون إطلاقه الذاتي (أي عدم أخذ ذلك القيد في الموضوع أو المتعلّق) ضروريا ؛ ولذا التزم قدس‌سره بأنّ متعلّق الأمر الأوّل في الواجبات التعبدية هو

٣٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ذات الفعل ، ويتعلّق الأمر الثاني بالإتيان به بداعوية الأمر المتعلّق بنفس الفعل ، وإذا لم يكن ذلك المتعلّق مطلقا ، فكيف يقصد الإتيان بالعمل بداعوية الأمر المتعلّق بنفس ذلك العمل؟

ومن هنا ظهر أنّه لو لم يمكن تقييد موضوع الحكم بالعالم به ، يكون الإطلاق الذاتي في موضوع ذلك الحكم ضروريا ، وبالجملة الإطلاق الذاتي في متعلّق الأمر مما لا بدّ من الالتزام به.

غاية الأمر لا يستفاد منه أنّ الغرض الملزم لجعل التكليف قائم بذات المتعلّق ، أو قائم بالفعل بقصد التقرب ، وإذا لم يرد بعد الأمر الأوّل أمر ثان بالإتيان بمتعلّق الأمر الأوّل بداعويته ، يكون الطلب الأوّل متّصفا بالتوصلية ، نظير ما ذكرنا من أنّ إطلاق صيغة الأمر (أي طلب فعل) وعدم ورود الترخيص في الترك يوجب اتّصاف الطلب بالوجوب ، وكما أنّ إطلاق الصيغة هناك ـ بمعنى عدم ورود الترخيص في الفعل ـ يكون مقتضيا لكون الطلب وجوبيا ، كذلك إطلاق الأمر بمعنى عدم ورود أمر ثان بالإتيان بالعمل بداعوية الأمر الأوّل يقتضي كونه توصليّا ، وكما أنّ الإطلاق الأوّل لفظي ، كذلك الإطلاق فيما نحن فيه ، غاية الأمر أنّ الإطلاق ليس في ناحية المتعلّق ، بل في ناحية نفس الأمر والطلب.

وأمّا ما ذكره ثالثا : من جعل الأمرين في مورد كون الوجوب تعبّديا ، فقد تقدّم إمكان قصد التقرّب في متعلّق الأمر الأوّل ، ومعه لا تصل النوبة إلى الاحتيال بأمرين.

لا يقال : ما الفرق بين ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من عدم إمكان أخذ التقرب في متعلّق الأمر الأوّل وأنّ دخله في حصول الغرض يكون موجبا لحكم العقل

٣٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

برعايته في امتثال الأمر المتعلّق بذات العمل ، وبين ما ذكره المحقّق النائيني قدس‌سره من أنّ شأن العقل الإدراك لا التشريع والإلزام وفي موارد دخله في الغرض ، على الشارع أن يأمر ثانيا بالإتيان بمتعلّق الأمر الأوّل بداعويته ، مع أنّ إخبار الشارع بعدم حصول غرضه بالإتيان بذات العمل كاف في لزوم قصد التقرّب بلا حاجة الى الأمر المولوي الثاني؟

فإنّه يقال : نفس الإخبار بعدم حصول غرضه ، بداعي البعث إلى قصد التقرب أمر ثان بالإتيان به بداعوية الأمر الأوّل ، ويظهر الفرق بين المسلكين في الرجوع إلى الأصل العملي ، فإنّه على ما سلكه المصنف قدس‌سره يكون المورد من موارد الاشتغال ، للشكّ في سقوط التكليف بخلاف ما سلكه المحقّق النائيني قدس‌سره ، فإنّ مقتضى البراءة الشرعية عن الوجوب الثاني هو الاكتفاء بذات العمل ، نظير البراءة الشرعية في موارد دوران أمر الواجب بين الأقل والأكثر ، وكما أنّه مع جريان البراءة عن تعلّق الوجوب بالأكثر تكون أصالة البراءة واردة على قاعدة الاشتغال ، من جهة العلم بأصل التكليف والشك في سقوطه مع الاقتصار على الأقل ، كذلك جريان البراءة في ناحية الوجوب الثاني تكون واردة على قاعدة الاشتغال من جهة احتمال بقاء الأمر الأوّل ، وعدم سقوطه بالإتيان بذات العمل ، فتدبّر جيّدا.

٣٣٦

وأما إذا كان بمعنى الاتيان بالفعل بداعي حسنه ، أو كونه ذا مصلحة أو له تعالى [١] ، فاعتباره في متعلق الأمر وإن كان بمكان من الإمكان ، إلّا أنه غير معتبر فيه قطعا ، لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال ، الذي عرفت عدم إمكان أخذه فيه بديهة.

______________________________________________________

أنحاء قصد التقرب :

[١] قد يقال : إنّ قصد التقرب في العبادة لا ينحصر بالإتيان بالعمل بداعوية الأمر بذلك العمل ، ليقال إنّ قصد التقرب بهذا المعنى لا يمكن أخذه في متعلّق الأمر لما تقدّم من المحاذير ، بل يكون قصد التقرب في العمل بالإتيان به بداعوية حسنه أو بداعوية مصلحته أو قصد كونه لله (سبحانه) ، فيمكن للشارع الأمر بالصلاة أو غيرها بشرط أن يؤتى بها لله أو لحسنها ومصلحتها ، ولا يلزم من أخذ شيء من ذلك في متعلّق الأمر أيّ محذور.

وأجاب قدس‌سره عن ذلك بأنّ أخذ ما ذكر في متعلّق الأمر وإن كان ممكنا إلّا أنّ شيئا منها غير معتبر في متعلّق الأمر في العبادات قطعا ، لأنّه يكفي في صحّة العمل عبادة الإتيان بقصد التقرب بالمعنى المتقدّم ، ولازم صحّة العمل بقصد التقرب ـ بالمعنى المتقدّم ـ أن يتعلّق الأمر بذات العمل ، بأن لا يؤخذ في متعلّق الأمر شيء ممّا ذكر.

أقول : يمكن ان يؤخذ جامع قصد التقرب في متعلّق الأمر بالصلاة وغيرها من العبادات جزءا ، ففي هذه الصورة ، كفاية قصد التقرّب بالمعنى المتقدّم يكشف عن عدم اعتبار خصوص غيره ، ولا ينافي اعتبار الجامع بين أنحاء التقرّب وهو أن يكون عند العمل قصد يكون معه العمل لله ، نظير قوله (سبحانه) : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)(١).

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٩٦.

٣٣٧

تأمل فيما ذكرناه في المقام ، تعرف حقيقة المرام ، كيلا تقع فيما وقع فيه من الاشتباه بعض الأعلام.

______________________________________________________

وبتعبير آخر : لا يكون ذلك الجامع قيدا لمتعلّق التكليف بنحو الشرطية ، ليقال إنّ متعلّق الأمر يصير حصة من الصلاة لا نفس الصلاة ، وإنّ الأجزاء التحليلية لا تتصف بالوجوب ، بل يكون الجامع جزءا من المركّب على نحو ما تقدّم ، فيمكن للمكلف الإتيان بذات العمل بداعوية الأمر الضمني المتعلّق بنفس العمل ، كما يمكن له الإتيان بالمركب من الصلاة وقصد الإتيان بها ، لصلاحها أو لتحصيل رضا الربّ بها.

لا يقال : إذا فرض أخذ الجامع بين أنحاء التقرّب فذلك الجامع لا يمكن أن يعمّ الإتيان بداعوية الأمر بالعمل.

فإنّه يقال : إذا فرض حصول فرد للتقرب المأخوذ في متعلّق الأمر ، يصح الإتيان بذات الفعل مع ذلك الفرد من التقرب ، حيث إنّ الفعل مع ذلك الفرد من التقرب يكون مصداقا للمجموع المتعلّق به الأمر ، وسراية الحكم إلى الفرد ، من الطبيعي الحاصل بعد الحكم لا محذور فيه ، نظير قولك : (خير الكلام ما قلّ ودلّ) فإنّ الحكم المذكور فيه يشمل نفسه.

وبالجملة لو فرض امتناع أخذ التقرب ـ بمعنى داعوية الأمر إلى العمل ـ في متعلّق الأمر بذلك العمل ، لما تقدّم من لزوم اتحاد الحكم والموضوع ، فهذا الوجه يختصّ بأخذ خصوص التقرب المزبور لا جامع التقرب ، فإنّ أخذ جامع التقرب لا يتوقف على فرض وجود الأمر بالفعل في مقام جعل الحكم ، حيث إنّ الإطلاق ـ كما تقدّم ـ عبارة عن رفض القيود وعدم دخالتها في متعلّق الحكم ، ولا يكون شيء من خصوصيات أنحاء التقرب مأخوذا في متعلّق الأمر ، فلا يلزم من أخذ الجامع لها

٣٣٨

ثالثتها : إنّه إذا عرفت بما لا مزيد عليه ، عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في المأمور به أصلا ، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه ـ ولو كان مسوقا في مقام البيان ـ

______________________________________________________

محذور اتّحاد الحكم والموضوع.

نعم قد يقال ـ كما عن المحقّق النائيني قدس‌سره ـ : أنّه كما لا يمكن أخذ قصد التقرب ـ بمعنى قصد الفعل بداعي الأمر المتعلّق به ـ في المتعلّق ، كذلك لا يمكن أخذ سائر وجوه القربة في متعلّق الأمر ؛ وذلك لأنّ الدواعي كلّها في عرض واحد ، بمعنى كونها في مرتبة سابقة على إرادة الفعل وتنشأ منها إرادة الفعل ، وإذا كان الأمر كذلك ، فيستحيل تعلّق الأمر بالفعل بداع خاصّ منها ، أو بالجامع بينها ، وذلك لأنّ إرادة العبد الناشئة من داع ما تتعلّق بالفعل ولا تتعلّق بالداعي ، وإذا استحال تعلّق الإرادة التكوينية بشيء ، استحال تعلّق الإرادة التشريعية به ، فإنّ ما تتعلّق به الإرادة التكوينية من العبد يتعلّق به أمر المولى ، ومن الظاهر أنّ إرادة العبد تتعلق بنفس العمل لا بالداعي الموجب لإرادة العمل ، حيث إنّ الإرادة متأخّرة عن الداعي ، فكيف تتعلّق الإرادة المتأخّرة بالداعي المتقدم عليها؟ وإذا كان الأمر في الإرادة التكوينية كذلك ، فالإرادة التشريعية ـ يعني أمر المولى ـ أيضا كذلك فإنّها تتعلّق بنفس ما تتعلّق به إرادة العبد لا بالداعي الموجب لإرادته (١).

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ الداعي الموجب لإرادة الفعل واختياره لا يدخل في متعلّق تلك الإرادة والاختيار ، وأمّا تعلّق إرادة واختيار أخرى بذلك الداعي فلا محذور فيه ، ولو كان في ذلك محذور لما أمكن للمحقّق النائيني قدس‌سره الالتزام بتعلّق الأمر الثاني في العبادات باستناد الإتيان بالعمل إلى داعوية الأمر الأوّل المتعلّق

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ١٠٩.

٣٣٩

على عدم اعتباره [١] ، كما هو أوضح من أن يخفى ، فلا يكاد يصح التمسك به إلّا فيما يمكن اعتباره فيه.

______________________________________________________

بذات العمل ، فإنّه من تعلّق الأمر الثاني بالداعي الموجب لإرادة الفعل. وبتعبير آخر : يمكن للعبد أن يختار ويريد الداعي الموجب لإرادته العمل.

ثمّ إنّه لو أغمض عن كلّ ما ذكرنا إلى الآن ، فنقول : لا مانع عن تعلّق أمر الشارع بالصلاة الخالية عن إرادتها بالدواعي النفسانية ولو بنحو التقييد ، بأن يكون متعلّق الأمر الصلاة الخاصّة وهي الصلاة التي تعلّقت بها إرادة غير ناشئة عن الدواعي النفسانية ، وهذا الوصف يستلزم قصد التقرب ، فقصد التقرب بنفسه غير مأخوذ في متعلّق الأمر بالصلاة لا شرطا ولا جزءا ، بل متعلّق الأمر نفس الصلاة الخالية عن الإرادة الناشئة من الدواعي النفسانية ، وعليه يتمكّن المكلّف من الإتيان بالصلاة المتعلّق بها الأمر ، فإنّه مع فرض الإتيان بها بداعوية الأمر بها تكون تلك الصلاة هي الصلاة التي تعلّق بها الأمر ، فتدبر. ولعلّ هذا هو المراد ممّا حكي عن بعض تقريرات العلّامة الشيرازي قدس‌سره ، فلا يرد عليه شيء ممّا ذكر حوله (١).

استظهار التوصلية من إطلاق صيغة الأمر :

[١] قد تقدّم أنّه قدس‌سره بنى على عدم إمكان أخذ التقرب في مقام الثبوت في متعلّق الوجوب وأنّ الوجوب ثبوتا يتعلّق بذات الفعل ، سواء كان من قبيل الواجب التعبدي أو التوصّلي ، وإنّما الفرق بينهما في ناحية الغرض والملاك الملحوظ بنظر الشارع ، فإن كان ذلك الملاك والغرض في ذات الفعل ، يسقط الوجوب المتعلّق به بالإتيان بنفس المتعلّق ، بخلاف التعبدي فإنّ الملاك والغرض لا يحصل إلّا بوقوع

__________________

(١) حكي عنه قدس‌سره في أجود التقريرات : ١ / ١١١.

٣٤٠