دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

مفادها إمضاء المسبّبات ، فقوله سبحانه (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) ناظر إلى إمضاء المسبّب ، وأمّا أنّ سببه أيّ شيء ، فلا إطلاق له من هذه الجهة ، نعم يمكن أن يقال : إنّ قوله سبحانه (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) دالّ على إمضاء الأسباب إلّا أنّ التدبّر في حكمه يقتضي صرفه إلى المسبّبات أيضا ؛ لأنّ اعتبار البقاء يكون في المسبّب ، وأمّا السبب فلا بقاء له ليجب الوفاء به.

أقول : لا يخفى ما فيه ، فإنّ قوله سبحانه (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٣) من القضايا الحقيقيّة الانحلاليّة ، فيكون مفاده إمضاء كلّ مسبّب في الخارج يتعنون ويتّصف بكونه بيعا. ومن الظاهر أنّ إمضاء المسبّب كذلك ، لا ينفكّ من إمضاء السبب ، ولا يخفى أنّ هذا بناء على مسلك الأسباب والمسبّبات في المعاملات وهو مسلك سخيف كما تقدّم في بحث الإخبار والإنشاء ، ونتعرّض لذلك في المقام بوجه أخصر.

وأمّا ما ذكر من رجوع خطاب الإمضاء إلى المسبّب ، حتّى في مثل قوله سبحانه (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٤) بقرينة أنّ العقد بما هو إيجاب وقبول ، لا بقاء له ليجب الوفاء به ، بل الباقي هو المسبّب ، فيكون الوفاء به لا بالسبب ، ففيه أيضا ما لا يخفى ، فإنّ العقد له بقاء اعتبارا ولذا يتعلّق به الفسخ والإقالة ، حيث إنّ الفسخ حلّ ذلك العقد ، فيعود الملك إلى مالكه الأوّل بالسبب الناقل قبل العقد المفسوخ ، والإقالة

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

(٢) سورة المائدة : الآية ١.

(٣) سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

(٤) سورة المائدة : الآية ١.

١٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

اجتماع طرفي العقد على فسخه ، كما في البيعة وحلّها ، وبالجملة البقاء الاعتباريّ للعقد كإلغائه واضح لا يحتاج إلى تطويل الكلام ، وعليه فلو كانت أسامي المعاملات للتامّ من الأسباب فلا موجب لحمل الحكم الجاري عليها في الخطابات على الحكم للمسببات.

وأجاب المحقّق النائيني قدس‌سره عن المناقشة السابقة في التمسك بالإطلاقات عند الشكّ في قيود الأسباب بما حاصله : أنّ الإيجاب والقبول في العقود والإيجاب في الإيقاعات لا تكون من قبيل الأسباب ، والأمر الاعتباري المترتّب عليها ليس من قبيل المسبّب ليكون للمسبّب وجود آخر غير وجود السبب ، حتّى لا يمكن التمسّك بخطاب الأوّل عند الشكّ في اعتبار قيد للثاني بدعوى أنّ إمضاء الأوّل لا يستلزم إمضاء الثاني ، بل العقود والإيقاعات بالإضافة إلى الأمر الاعتباري من قبيل الآلة إلى ذيها ، فكما أنّ المفتاح آلة الفتح والمؤثّر في الفتح هو حركة يد الفاعل ، فكذلك للمعاملات ، عند العقلاء والشرع ما هو كالآلة لها ويعبّر عنه بصيغ العقود من الإيجاب والقبول وما هو بمنزلة ذي الآلة ويعبّر عنه بالمعاملة من البيع وغيره ، فالمعاملة بمعناها الاسم المصدري وإن كانت تباين المعنى المصدري إلّا أنّ الظاهر تعلّق الامضاء في مثل قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) بالجهة الصدورية ، فيكون إمضاء البيع بمعناه المصدريّ إمضاء للآلة التي يقصدها العاقد بتلك الآلة (١).

وفيه ما تقدّم من أنّ الإمضاء لو كان بنحو الانحلال كما هو مفاد القضية الحقيقيّة ، فيكون إمضاء المسبّب وذي الآلة إمضاء للسبب والآلة لا محالة ، حيث لا يمكن

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٤٩.

١٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الحكم بحصول المسبّب وذي الآلة في مورد ، مع عدم تحقّق السبب والآلة ، وإن كان مفاد الخطابات على نحو لم يكن فيها انحلال ، لا يكون إمضاء المسبّب أو ذي الآلة مفيدا في مورد الشكّ في السبب أو الآلة ؛ لأنّ للآلة أيضا وجودا غير وجود ذي الآلة ، كما في السبب ومسبّبه.

وقد يقال : إنّ المناقشة في التمسّك بإطلاقات المعاملات مبنية على كونها من قبيل الأسباب والمسبّبات أو الآلة وذيهما ، ولكنّهما ضعيفان ، وأمّا على المسلك الصحيح ، من كون البيع مثلا في حقيقته أمرا اعتباريّا يحصل بالقصد والاعتبار ، من غير تأثير للّفظ وبلا دخل له في حصول ذلك بنحو السببية أو الآلة ، بل اللفظ أو غيره يكون مبرزا ، ويطلق على المجموع من المبرز ـ بالفتح ـ ومبرزه ـ بالكسر ـ عنوان البيع ، فيجوز التمسّك بإطلاقاتها إذ على هذا المسلك لا يصدق البيع ولا غيره من عناوين المعاملات في العقود والإيقاعات ، بمجرّد الاعتبار من دون الإبراز بقول أو فعل ، وعلى ذلك فمثل قوله سبحانه : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) يكون إمضاء للمركّب من الأمر الاعتباريّ ومبرزه ـ بالكسر ـ فيكون دلالته على ما سمّوه بالسبب أو الآلة بالدلالة التضمّنية ويكون إمضاء البيع إمضاء المجموع المركّب من المبرز ـ بالكسر ـ والمبرز ـ بالفتح ـ ومعه لا مانع من التمسّك بالإطلاق (٢).

وفيه : أنّ ما ذكر من كون الإيجاب والقبول مبرزا للمعتبر الذي يكون إبرازه بقصد اعتباره ، ولا يكون الإبراز من قبيل السبب والآلة كما ذكرنا في بحث الإنشاء

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

(٢) المحاضرات : ١ / ١٩٢.

١٦٣

كألفاظ العبادات ، كي لا يصح التمسك بإطلاقها عند الشك في اعتبار شيء في تأثيرها شرعا ، وذلك لأنّ إطلاقها ـ لو كان مسوقا في مقام البيان [١] ـ ينزل على أن المؤثر عند الشارع ، هو المؤثّر عند أهل العرف ، ولم يعتبر في تأثيره عنده. غير

______________________________________________________

والخبر ، وإن كان صحيحا إلّا أنّ المأخوذ في معنى البيع بمعناه الإسم المصدريّ ، هو المبرز ـ بالفتح ـ بما هو مبرز بحيث يكون وصف المبرزية محقّقا ومقوّما له ، وأمّا نفس المبرز ـ بالكسر ـ فهو غير داخل في معناه على وجه الجزئيّة ، فيرد الإشكال بأنّ إمضاء المبرز ـ بالفتح ـ لا يلازم إمضاء مبرزه ـ بالكسر ـ مطلقا ، إلّا بنحو انحلال الخطاب ، كما تقدّم.

[١] لا يخفى أنّ التمسك بالاطلاق اللفظي في خطابات إمضاء المعاملات ، يبتني على كون المراد من ألفاظ المعاملات في تلك الخطابات الشرعية معانيها العرفية ، ـ أي ما يعتبره العرف معاملة ـ ، لما تقدّم من أنّ معانيها ليست من الأمور الواقعيّة ، ولا من المخترعات الشرعية ، فيكون مفاد الخطاب المتضمّن للحكم بنحو القضية الحقيقية ، شمول الامضاء والحكم لكلّ ما يصدق عليه عنوان المعاملة عرفا ، وعلى الشارع في موارد إضافة قيد في إمضاء معاملة أو عدم إمضاء فرد ، بيان القيد لتلك المعاملة ، أو تقييدها بغير ذلك الفرد ، في خطاب إمضائها ، أو بخطاب منفصل ولذلك تمسّك العلماء بخطابات المعاملات في أبوابها.

وأما إذا بني على أنّ المراد من أسامي المعاملات المعاني الواقعية منها ، كسائر الخطابات التي تتضمّن الحكم التكليفي أو الوضعي لعنوان واقعيّ ولو بنحو القضية الحقيقيّة ، بحيث لا توجب التخطئة في بعض مصاديقها تقييدا في خطاب الحكم ، كما التزم به الماتن قدس‌سره قبل ذلك ، فلا موجب للتمسّك بتلك الخطابات في موارد احتمال التخطئة في بعض المصاديق والمحقّقات لها بل لا بدّ لدفع احتمال التخطئة

١٦٤

ما اعتبر فيه عندهم ، كما ينزل عليه إطلاق كلام غيره ، حيث إنّه منهم ، ولو اعتبر في تأثيره ما شك في اعتباره ، كان عليه البيان ونصب القرينة عليه ، وحيث لم ينصب ، بان عدم اعتباره عنده أيضا. ولذا يتمسكون بالإطلاق في أبواب المعاملات ، مع ذهابهم إلى كون ألفاظها موضوعة للصحيح.

نعم لو شك في اعتبار شيء فيها عرفا ، فلا مجال للتمسك بإطلاقها في عدم اعتباره ، بل لا بد من اعتباره ، لأصالة عدم الأثر بدونه ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

فيها من التشبث بالاطلاق المقامي ، ويشكل إحراز هذا الاطلاق في المعاملات التي تكون لها مصاديق متيقنة توضيحه : أنّه لو كان لمعاملة ـ بناء على كون معانيها واقعية ـ مصاديق متيقّنة ولم يحرز كون الشارع في مقام بيان جميع أفراد تلك المعاملة ومحقّقاتها وشكّ في فرد منها فلا يجوز التمسّك بالإطلاق المقامي أيضا ، وذلك لأنّ شرطه إحراز كون المتكلّم في مقام البيان.

نعم إذا احرز ذلك فلا مانع منه ، وأمّا إذا لم يكن لها مصاديق متيقّنة فعلى هذا المبنى يصير الخطاب مجملا غير قابل للتمسّك به ، كما لا يخفى.

نعم لو احرز في مقام خاصّ بكون الشارع فيه متصدّيا لبيان جميع ما يقع من أفراد المعاملة ومحقّقاتها وكان مصداق منه مورد التخطئة ، يتمسّك بالاطلاق المقامي فيه ، كما تقدّم نظيره في العبادات على قول الصحيحي ، بل على الأعميّ ، بناء على الإجمال في خطابات التشريع.

وبالجملة فظاهر عبارة الماتن قدس‌سره جواز التمسّك بالاطلاق اللفظي في المعاملات حيث قال : «ولو اعتبر في تأثيره ما شك في اعتباره كان عليه البيان ونصب القرينة عليه (أي على اعتباره في المعاملة) وحيث لم ينصب بأنّ عدم اعتباره عنده أيضا ، ولذا يتمسّكون بالاطلاق في أبواب المعاملات مع ذهابهم إلى كون ألفاظها

١٦٥

الثالث : إنّ دخل شيء وجودي أو عدمي في المأمور به [١] :

______________________________________________________

موضوعة للصحيح» (١) وأنت ترى أنّ هذا التمسّك لا يناسب مسلك التخطئة في المصداق ، حيث إنّ اعتبار القيد لا يكون تقييدا لإطلاق المعاملة الواقعية ، فلاحظ وتدبّر ليس مراد صاحب الكفاية قدس‌سره في المقام هو جواز التمسّك بالإطلاق اللفظي ، بل غرضه (ره) انّ استشهاد صاحب الكفاية بتمسّك المشهور في أبواب المعاملات بالإطلاق مع ذهابهم إلى الصحيح استشهاد للإطلاق اللفظي كما لا يخفى على المتأمل. وقوله «لو اعتبر في تأثيره ما شكّ ... وحيث لم ينصب بان عدم اعتباره» ظاهر في الإطلاق المقامي الذي هو على القاعدة في المقام ، فبينهما تهافت واضح ، مع أنّه قدس‌سره تمسّك بالإطلاق اللفظي في «أحلّ الله البيع» و «أوفوا بالعقود» في حاشيته على مكاسب الشيخ قدس‌سره.

وعليه ، فإن أراد قدس‌سره من عبارته هذه الإطلاق اللفظي واستشهد له بتمسّك المشهور فهو غير صحيح ، إذ المقام ليس مجال الإطلاق اللفظي بل هو مجال الإطلاق المقامي لكون أسامي المعاملات المعاني الواقعية واعتبار قيد في خطاب الشارع لا يكون تقييدا لها ، بل بيان للمعاملة الواقعية وقيودها ، وإن أراد قدس‌سره منها الإطلاق المقامي فلا مجال للاستشهاد بالمشهور المتمسّكين بالإطلاق اللفظي ، فتأمّل.

أنحاء الدخل في المأمور به :

[١] وحاصله أنّ دخل أمر وجودي أو عدمي في متعلّق الأمر على أنحاء :

الأوّل : أن يكون الشيء بنفسه داخلا في متعلّقه ، بأن يتعلق الأمر بالمركّب منه

__________________

(١) الكفاية : ص ٣٣.

١٦٦

تارة : بأن يكون داخلا فيما يأتلف منه ومن غيره ، وجعل جملته متعلقا للأمر ، فيكون جزءا له وداخلا في قوامه.

______________________________________________________

ومن غيره ، كما في تعلّق الأمر بالصلاة التي منها السورة ، وعلى ذلك تكون السورة جزءا منها ودخيلة في قوامها ، بمعنى أنّ الصلاة الفاقدة لها لا تكون مصداقا لمتعلّق الأمر ، بل لا تكون صلاة على القول بالصحيح ، ولا فرق في ذلك بين كون الشيء أمرا وجوديا أو عدميا.

الثاني : أن يكون نفس الشيء خارجا عن متعلّق الأمر ، ولكن تؤخذ في متعلّقه خصوصيّة لا تحصل بدون ذلك الشيء ، كما إذا تعلّق الأمر بالصلاة المقيّدة بسبق الإقامة عليها ، أو بمقارنتها بالطهارة ، أو بتأخّر شيء عنها ، فلا تكون الإقامة أو الطهارة أو غيرهما بنفسها داخلة في الصلاة المأمور بها ، بل يكون الداخل فيها تقيّدها بها ، ولذا يمكن أن يكون نفس ذلك الشيء أمرا غير اختياري للمكلف كالوقت فإنّه يكفي في الأمر بالمقيد به كون الخصوصية اختيارية.

وبالجملة نفس الشيء في هذا الفرض من مقدمات المأمور به لا من مقوّماته ، ويعبّر عنه بالشرط مقابل الجزء ، هذا في الشرط الشرعي ، وأمّا العقلي فيأتي الكلام فيه في بحث مقدّمة الواجب وأنّ الشرط المزبور من أجزاء العلّة التامّة.

ولا يخفى أنّه يمكن أن يختصّ دخالة شيء في متعلّق الأمر بأحد النحوين بحالة دون أخرى ، كما في جلّ أجزاء الصلاة وشرائطها ، حيث إنّ اعتبارها مختص بحال الاختيار ، ويسقط عند الاضطرار وسائر الأعذار ، كما هو مقرّر في محلّه.

الثالث : أن لا يكون الشّيء داخلا في متعلّق الأمر بنفسه ولا يتقيّد به متعلّق الأمر ، كما في الصلاة بالإضافة إلى وقوعها في المسجد أو أوّل الوقت ، بل تتشخّص

١٦٧

وأخرى : بأن يكون خارجا عنه ، لكنه كان مما لا يحصل الخصوصية المأخوذة فيه بدونه ، كما إذا أخذ شيء مسبوقا أو ملحوقا به أو مقارنا له ، متعلقا للأمر ، فيكون من مقدماته لا مقوّماته.

______________________________________________________

به الصلاة ، حيث لا بدّ من وقوعها في مكان أو زمان ، وربما يكون الشيء كذلك موجبا لمزيّة أو نقص في الملاك الملحوظ في متعلق الأمر ، وتكون دخالته في المزيّة إمّا بنحو الشرطيّة كما في مثال المسجد ، وإمّا بنحو الجزئية بأن يكون الشيء بنفسه موجبا لمزية الملاك في متعلّق الأمر ، كما في القنوت على أحد الوجهين ، وتكرار ذكر الركوع والسجود ، فإنّ القنوت أو الذكر المكرّر بنفسه يوجب كمال الصلاة ومزيّتها ، وممّا ذكر يظهر أنّ الاخلال بالشيء في هذا النحو بكلا فرضيه لا يكون إخلالا بالمأمور به ، إذ المفروض أنّه لم يؤخذ في متعلّق الأمر لا جزءا ولا شرطا ، بخلاف النحوين الأوّلين.

ثمّ إنّه قد لا يكون لشيء دخل في متعلّق الأمر بأحد النحوين الأوّلين ، ولا في مزيّة ملاكه كما في النحو الثالث ، بل يكون الصلاح مترتّبا على الإتيان به أثناء الواجب والمستحب أو قبلهما أو بعدهما فيكون الإتيان بالواجب أو المستحب ظرفا لامتثال الأمر به ، كما في الأمر بالأذان أو التعقيب بعد الصلاة ، والقنوت على ثاني الوجهين ، والأدعية المأثورة في نهار شهر رمضان للصائم فيه ، حيث لا يتفاوت الحال في ناحية الصوم وملاكه بها ، كما أنّ النوافل للفرائض اليومية كذلك ، فإنّ لها مصالح تترتب على الإتيان بها فيما إذا وقعت قبل الفريضة أو بعدها.

أقول : إنّ مجرّد ترتّب زيادة ملاك المأمور به على الشيء لا يوجب كونه جزءا استحبابيا أو شرطا استحبابيا ولا ما يتشخّص متعلّق الأمر به ، فيما إذا كان له وجود ممتاز خارجا وغير مأخوذ في متعلّق الأمر بالمركّب ، لا بنفسه ولا بخصوصيته ، كما

١٦٨

وثالثة : بأن يكون مما يتشخص به المأمور به ، بحيث يصدق على المتشخص به عنوانه ، وربما يحصل له بسببه مزية أو نقيصة ، ودخل هذا فيه أيضا ، طورا بنحو الشطريّة وآخر بنحو الشرطية ، فيكون الإخلال بما له دخل بأحد النحوين في حقيقة المأمور به وماهيته ، موجبا لفساده لا محالة ، بخلاف ما له الدخل في تشخصه وتحققه مطلقا. شطرا كان أو شرطا ، حيث لا يكون الإخلال به إلّا إخلالا

______________________________________________________

هو المفروض ، فإنّه مع عدم أخذه في متعلّق الأمر يكون الأمر به عند الإتيان بالمركّب أمرا استحبابيا مستقلّا ويكون وجوده خارجا غير متحد مع وجود متعلّق الأمر لا محالة.

والحاصل كما يأتي في الواجب التخييري ، أنّ الوجوب التخييري بين الأقل والأكثر غير معقول ، بل يكون الواجب هو المقدار الأقل والزائد مستحبّا ، نعم إذا كان ما يسمّى بالشرط الاستحبابي متحدا مع المأمور به خارجا وتشخصا ، كما في الصلاة في المسجد وفي أوّل الوقت ، بحيث ينطبق عنوان متعلّق الأمر على المأتي به انطباق الكلي على فرده ، يكون الأمر بذلك الفرد إرشادا إلى كونه أفضل الأفراد ، بخلاف ما إذا كان للشرط وجود آخر كالتحنّك في الصلاة ، فإنّها صلاة بضمّ عمل آخر معها فيكون الأمر بالتحنّك في الصلاة استحبابيا نفسيا وإن كان الملاك في الأمر به زيادة فضل الصلاة ، ويترتّب على ذلك عدم بطلان الصلاة بالرياء في الجزء المستحبي لها أو الشرط المستحبي ممّا يكون وجودهما منحازا ولا يتّحد مع الصلاة خارجا ليكون من تشخّص الصلاة بهما ، حيث إنّ الرياء فيهما لا يكون رياء في طبيعيّ الصلاة المأمور بها ، كما أنّ زيادتهما في صورة الرياء فيهما لا تكون زيادة في الصلاة ؛ لأنّ المفروض عدم الإتيان بهما بقصد أنّهما جزء الطبيعي أو شرطه ، وهذا بخلاف الرياء في الجزء الواجب أو الشرط الواجب أو في الخصوصية التي تتحد مع الطبيعيّ

١٦٩

بتلك الخصوصية ، مع تحقق الماهية بخصوصية أخرى ، غير موجبة لتلك المزية ، بل كانت موجبة لنقصانها ، كما أشرنا إليه ، كالصلاة في الحمام.

ثمّ إنّه ربّما يكون الشيء مما يندب إليه فيه ، بلا دخل له أصلا ـ لا شطرا ولا شرطا ـ في حقيقته ، ولا في خصوصيته وتشخصه ، بل له دخل ظرفا في مطلوبيته ، بحيث لا يكون مطلوبا إلّا إذا وقع في أثنائه ، فيكون مطلوبا نفسيا في واجب أو مستحب ، كما إذا كان مطلوبا كذلك ، قبل أحدهما أو بعده ، فلا يكون الإخلال به موجبا للإخلال به ماهية ولا تشخصا وخصوصية أصلا.

إذا عرفت هذا كلّه ، فلا شبهة في عدم دخل ما ندب إليه في العبادات نفسيا في

______________________________________________________

خارجا ، كالصلاة في المسجد أو أوّل الوقت ، حيث يصدق معها الرياء في الصلاة فتبطل الصلاة. نعم الإتيان بالخصوصية المتحدة ، بداع آخر نفساني غير الرياء لا يبطل الصلاة ، حيث لم تؤخذ في متعلّق الأمر ليعتبر فيها قصد التقرّب ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الرياء في جزء العبادة أو شرطها ـ يعني في التقيد المأخوذ فيها ـ يبطلها ولا يفيد تداركه بقصد القربة ، وهذا إنّما هو فيما كانت الزيادة مبطلة للعبادة كالصلاة ، وأمّا فيما لا تبطلها الزيادة فلصحّة العمل مع التدارك وجه تعرّضنا له في مباحث الفقه.

١٧٠

التسمية بأساميها ، وكذا فيما له دخل في تشخصها مطلقا ، وأما ما له الدخل شرطا في أصل ماهيتها ، فيمكن الذهاب أيضا [١] إلى عدم دخله في التسمية بها ، مع الذهاب إلى دخل ما له الدخل جزءا فيها ، فيكون الإخلال بالجزء مخلا بها ، دون الإخلال بالشرط ، لكنك عرفت أنّ الصحيح اعتبارهما فيها.

______________________________________________________

[١] يعني كما أنّ ما له الدخل في كمال طبيعي العبادة غير مأخوذ في ناحية المسمّى ، كذلك ما له الدخل شرطا في أصل ماهيّتها ، بأن يمكن أن يقال بعدم أخذه في ناحية المسمّى أيضا ، وينبغي أن يراد بالشرط تقيّد الأجزاء بما يسمّى شرطا وإلّا

فنفس ما يطلق عليه الشرط كالوضوء والغسل والتيمّم بالإضافة إلى الصلاة ، فخروجه عن المسمّى مقطوع به وإلّا لا نقلب جزءا.

والوجه في خروج التقيد عن المسمّى ووضع اسم العبادة لنفس الأجزاء أو بعنوان ينطبق عليها خاصّة غير ظاهر ، بناء على وضع أساميها للصحيحة.

نعم ، قيل : إن أخذ الشرط في المسمّى مستحيل ؛ لأنّ الشرط متأخّر عن الأجزاء رتبة ، حيث إنّ الأجزاء هي المؤثّرة في الملاك والشروط دخيلة في فعليّة تأثيرها.

لكن ضعفه ظاهر فإنّ تأخّر رتبة الشرط لا يوجب امتناع وضع لفظ للمجموع ولو كان بعضه متقدّما على البعض الآخر رتبة أو زمانا ، أضف إلى ذلك ما ذكرناه من أنّ المراد بالشرط في العبادة أو المعاملة ما يكون التقيّد به داخلا في متعلّق الأمر أو الموضوع للإمضاء ، ولا يرتبط بالشرط من أجزاء العلّة التامّة الذي يكون به فعليّة تأثير السّبب وحصول أثره.

١٧١

الحادي عشر

الحق وقوع الاشتراك ، للنقل والتبادر [١] ، وعدم صحة السّلب ، بالنّسبة إلى

______________________________________________________

الاشتراك :

[١] الاشتراك في اللفظ عبارة عن كونه موضوعا لأكثر من معنى واحد ، بحيث لا يكون وضعه لمعنى موجبا لهجر المعنى الآخر ، ولذا يكون عند إطلاقه مجملا يحتاج تعيين أحد معانيه إلى القرينة المعيّنة. والمراد بالنقل في قوله «للنقل» نقل اللغويين فإنّهم ذكروا في بعض الألفاظ أنّه مشترك وأنّه من الأضداد ، كما أنّ المراد بالتبادر هو أنّه عند إطلاق مثل «قرء» يعلم أنّ مراد المتكلّم أحد معنييه الحيض أو الطهر ، وذلك علامة كونه حقيقة في كلّ منهما.

أقول : لعلّ المراد بنقل اللغويين ، النقل على نحو يوجب العلم بالصدق وإلّا فلا دليل على اعتبار نقل اللغوي بالإضافة إلى ثبوت الوضع.

وقد ينكر الاشتراك في الألفاظ ويقال إنّه غير جائز ، بمعنى خلاف الغرض من الوضع ، فلا يقع من الواضع الحكيم ، حيث إنّ الغرض من الوضع الدلالة على المعنى بنفس اللفظ ومع الاشتراك لا يحصل هذا الغرض.

وفيه أنّ الدلالة على المعنى بنفس اللفظ لا تنافي الاشتراك ، غاية الأمر يحصل في تلك الدلالة الإجمال الخاصّ ؛ ولذا يحتاج استعماله إلى القرينة المعيّنة على أنّ الإجمال في المدلول يتعلّق به غرض المتكلم أحيانا فيذكر بلا قرينة من غير لزوم محذور.

وممّا ذكر ، يظهر فساد ما قيل من استحالة استعمال المشترك في القرآن المجيد بدعوى أنّ الكلام مع عدم القرينة اللفظية يكون مجملا ومعها يكون تطويلا بلا طائل.

١٧٢

معنيين أو أكثر للفظ واحد. وإن أحاله بعض [١] ، لإخلاله بالتفهم المقصود من الوضع لخفاء القرائن ، لمنع الإخلال أولا ، لإمكان الاتكال على القرائن الواضحة ، ومنع كونه مخلّا بالحكمة ثانيا ، لتعلق الغرض بالاجمال أحيانا ، كما أن استعمال

______________________________________________________

وأما ما ذكر الماتن من الاتكال على قرينة حال فلا يخفى ما فيه فإن القرآن معجزة خالدة والقرينة الحالية تزول بزوال ذلك الحال والصحيح في الجواب تعلق الغرض بالاجمال الخاص او الاتيان بقرينة أتت لإفادة أمر آخر كالنهي للمرأة بترك صلاتها أيام اقرائها ولا يليق شيء منهما بكلامه (جل شأنه).

وجه الفساد : إمكان تعلّق غرضه (سبحانه) في بعض الموارد بالإجمال والاتكال على القرينة اللفظيّة ، فيما إذا كانت تلك القرينة لإفادة أمر آخر أيضا ، يتعلّق غرضه ببيانه فلا يكون تطويلا بلا طائل. وأمّا ما ذكر الماتن من الاتكال على قرينة حال فلا يخفى ما فيه فإن القرآن معجزة خالدة والقرينة الحالية تزول بزوال ذلك الحال والصحيح في الجواب تعلق الغرض بالاجمال الخاص أو الاتيان بقرينة أتت لإفادة أمر آخر كالنهي للمرأة بترك صلاتها أيام اقرائها.

وكيف لا يتعلّق غرض الحكيم بالإجمال وقد أخبر سبحانه بوقوع المشتبه في كتابه العزيز ، حيث قال سبحانه : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)(١).

[١] ذهب بعض إلى امتناع الاشتراك اللفظي واستدلّ له بأنّ الوضع عبارة عن جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى ، بحيث ينتقل الذهن إلى المعنى من سماع اللفظ ، وعليه فإن كان الوضع الثاني متمّما للوضع الأوّل ، بأن يحصل عند سماع اللفظ

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ٧.

١٧٣

المشترك في القرآن ليس بمحال كما توهم ، لأجل لزوم التطويل بلا طائل ، مع الاتكال على القرائن والإجمال في المقال ، لو لا الاتكال عليها. وكلاهما غير لائق بكلامه (تعالى جلّ شأنه) ، كما لا يخفى ، وذلك لعدم لزوم التطويل ، فيما كان الاتكال على حال أو مقال أتي به لغرض آخر ، ومنع كون الاجمال غير لائق بكلامه تعالى ، مع كونه مما يتعلق به الغرض ، وإلا لما وقع المشتبه في كلامه ، وقد أخبر في كتابه الكريم ، بوقوعه فيه قال الله تعالى (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.)

______________________________________________________

الانتقال إلى مجموع المعنيين فهو خلاف المفروض في الاشتراك ، وكذا إن كان موجبا للانتقال إلى أحد المعنيين أو المعاني بلا تعيين ، بأن يكون الموضوع له هو الجامع الاعتباريّ فهو خلاف المفروض أيضا ، وإن كان يوجب الانتقال إلى كلّ من المعنيين أو المعاني بخصوصه ، بانتقال مستقل ، فهذا لا يمكن من غير ترتّب. فلا محالة يكون أحد الانتقالين في طول الآخر.

وفيه أنّ : الوضع ليس عبارة عن جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى ؛ لأنّ الملازمة بين سماع اللفظ والانتقال إلى المعنى تحصل بسبب العلم بالوضع ، فلا بدّ أن يكون الوضع غير الملازمة الحاصلة من العلم به ، هذا أوّلا.

وثانيا : مع الغضّ عن ذلك ، فلا ينحصر الأمر فيما ذكره من الشقوق ، فإنّه يمكن أن يكون جعل الملازمة في موارد ذكر القرينة المعيّنة لأحد المعاني ، فمثلا إذا لم يكن لفظ القرء موضوعا للحيض لم ينتقل الذهن إليه من سماع لفظ القرء ولو مع ذكر «ثلاثة أيام» ، بخلاف ما إذا كان ذكرها بعد وضعه له فيحصل الانتقال بها ، وهذا المقدار يكفي في حصول الغرض من الوضع وخروجه عن اللغوية ، كما هو ظاهر ، وما ذكره من عدم إمكان تعدّد الانتقال المستقلّ من لفظ واحد يأتي ما فيه في البحث

١٧٤

وربّما توهم وجوب وقوع الاشتراك [١] في اللغات ، لأجل عدم تناهي المعاني ، وتناهي الألفاظ المركبات ، فلا بدّ من الاشتراك فيها ، وهو فاسد لوضوح امتناع الاشتراك في هذه المعاني ، لاستدعائه الأوضاع الغير المتناهية ، ولو سلم

______________________________________________________

الآتي من استعمال اللفظ في أكثر من معنى إن شاء الله تعالى.

[١] قيل بوجوب وقوع الاشتراك في اللّغات ، ولو في بعض الألفاظ المتداولة في كلّ لغة ، بدعوى أنّ ألفاظ كل لغة متناهية بخلاف المعاني فإنّها غير متناهية.

وأجاب المصنف قدس‌سره عن ذلك بوجهين :

الأوّل : أنّه لا يمكن الوضع لكلّ المعاني غير المتناهية ؛ لاستلزامه أوضاعا غير متناهية. ولو فرض إمكان صدور الأوضاع غير المتناهية بفرض الواضع واجب الوجود فلا يترك على الأوضاع غير المتناهية أثر فيكون لغوا وانما يجدي الوضع في مقدار الأوضاع المتناهية.

الثاني : أنّ المعاني الكلّية متناهية ، فيمكن وضع ألفاظ لتلك المعاني الكلية بحيث لا يحصل الاشتراك فيها ، وأمّا جزئيّاتها وإن كانت غير متناهية ، إلّا أنّه لا ضرورة لوضع لفظ لكلّ منها كما في الاعلام الشخصية ، بل يمكن في مقام الاستعمال تفهيم الجزئيّ بالقرينة ، بنحو تعدّد الدالّ والمدلول ، أو بنحو المجاز في الاستعمال ، فإنّ باب المجاز واسع.

أقول : ظاهر كلامه تسليم تناهي الألفاظ ، ولكنّ الواقع ليس كذلك ، بل الألفاظ كالمعاني غير متناهية ، وذلك لأنّ الحروف الهجائية وإن كانت متناهية إلّا أنّ المركّب منها غير متناه ، غاية الأمر تكون بعض الألفاظ كثيرة الحروف.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من تناهي المعاني الكلية فإن أراد بها نظير مفهوم الشيء

١٧٥

لم يكد يجدي إلّا في مقدار متناه ، مضافا إلى تناهي المعاني الكلية ، وجزئياتها وإن كانت غير متناهية ، إلّا أنّ وضع الألفاظ بإزاء كلياتها ، يغنى عن وضع لفظ بإزائها ، كما لا يخفى ، مع أنّ المجاز باب واسع ، فافهم.

______________________________________________________

والممكن من الكلّيات الوسيعة ، فالأمر كما ذكره وان أراد الكلّيات الضيّقة مفهوما (أي الجزئي الإضافي بالنسبة إلى ما هو أوسع منه) التي يتعلّق الغرض بتفهيمها في مقام التخاطب فهذه الكلّيات غير متناهية ويكفي في الإذعان بذلك ملاحظة مراتب الأعداد فإنّها غير متناهية.

ويظهر عن سيّدنا الأستاذ قدس‌سره أنّ الامتناع في المقام بمعنى عدم الوقوع ، حيث قال ما حاصله : أنّه ليس في الألفاظ ما يكون مشتركا لفظيا بل اللفظ في الموارد المعروفة بالاشتراك يوضع للجامع بين الأمرين أو أكثر ، فمثلا لفظ «قرء» موضوع لحالة المرأة الجامعة بين الطهر والحيض ، ولفظ «جون» موضوع للجامع بين السواد والبياض ، وخفاء الجامع أوجب الوهم بأنّ اللفظ من الأضداد ، ولو لم يكن بينهما جامع لما كان بينها تقابل ، فإنّ التقابل لا يحصل من غير جامع ، ولذا لا يكون بين العلم والحجر تقابل ، فإنّ أحدهما جوهر والآخر عرض ، هذا بناء على عدم تفسير الوضع في الألفاظ بالتعهّد ، وإلّا فكون اللفظ موضوعا للجامع لا يحتاج إلى الاستدلال (١).

أقول : غاية ما ذكر عدم التقابل بين أمرين لا جامع بينهما ، لا أنّ اللفظ في موارد التقابل موضوع للجامع مع أنّ لزوم الجامع في موارد التقابل غير صحيح ، فإنّ من التقابل تقابل الإيجاب والسلب والعدم والملكة والتضايف ، ولا يمكن الجامع في

__________________

(١) المحاضرات : ١ / ٢٠٢.

١٧٦

الثاني عشر

إنه قد اختلفوا في جواز استعمال اللفظ ، في أكثر من معنى على سبيل الانفراد والاستقلال [١] ، بأن يراد منه كل واحد ، كما إذا لم يستعمل إلّا فيه ، على أقوال :

أظهرها عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلا.

______________________________________________________

الأوّل وكذا في الثاني ، حيث إنّ التقابل بين الملكة وعدمها ، هو تقابل الوجود والعدم مع اعتبار القابلية للوجود ولو بحسب الجنس ، والتضايف اتّصاف كلّ من الأمرين بما يقتضي النسبة بينهما ، بل لا جامع في موارد تقابل التضاد إلّا كون الضدّين من مقولة واحدة ، ومن الظاهر أنّ اللفظ فيهما لم يوضع للمقولة وإلّا لصحّ استعمال اللفظ في غيرهما ، ممّا يدخل في تلك المقولة.

استعمال اللفظ في أكثر من معنى :

[١] المراد باستعمال اللفظ في أكثر من معنى ، إرادة كلّ من المعنيين أو المعاني منه كما إذا لم يستعمل إلّا في أحدهما أو أحدها ، وقد اختار قدس‌سره عدم إمكان استعمال اللفظ كذلك في أكثر من معنى ، وذكر في وجه امتناعه لزوم الخلف أو اجتماع المتنافيين.

وتقريره : أنّ الاستعمال ليس مجرّد الإتيان بعلامة للمعنى ، بحيث يكون مبرزا لإرادته ليقال بإمكان كون شيء علامة لأمور متعدّدة فضلا عن أمرين ، بل هو عبارة عن جعل اللفظ باللحاظ وجها وعنوانا للمعنى ، فانيا فيه فناء الوجه في ذي الوجه ، بل وكأنّ اللفظ عين المعنى ، وكأنّه الملقى خارجا ، كما عبّر عن ذلك بقوله «بوجه ، نفسه» يعني جعل اللفظ ولحاظه بنحو يكون عين المعنى ، والشاهد على ذلك سراية الحسن والقبح من المعاني إلى الألفاظ ، فيكون اللفظ مقبولا للطباع بمقبوليّة معناه

١٧٧

وبيانه : إنّ حقيقة الاستعمال ليس مجرّد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى ، بل جعله وجها وعنوانا له ، بل بوجه نفسه كأنّه الملقى ، ولذا يسري إليه قبحه وحسنه كما لا يخفى ، ولا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك ، إلّا لمعنى واحد ، ضرورة أنّ

______________________________________________________

ومنفورا عندها بالتنفّر عن معناه.

وعلى ذلك يكون لحاظ اللفظ فانيا في معنى كذلك منافيا للحاظه في نفس الوقت فانيا في معنى آخر ، إذ لحاظه فانيا في معنى آخر يوجب عدم لحاظه في المعنى الأوّل ، إلّا أن يكون اللاحظ أحول العينين فيرى اللفظ لفظين يمكن له لحاظ أحدهما فانيا في أحد المعنيين والآخر فانيا في الآخر منهما.

أقول : لا أرى محذورا في لحاظ اللفظ فانيا في كل من المعنيين وكأنّ كلّا منهما وجود لذلك اللفظ ، وقد تسلّم قدس‌سره في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ بإمكان لحاظ العامّ بحيث يكون وجها وعنوانا لكلّ من أفراده وكأنّه عين كلّ منها ، وفيما نحن فيه يلاحظ اللفظ كأنّه عين كلّ من المعنيين وكلّ من المعنيين وجود له. ولذا يشار إلى النقد الرائج في عصرنا ويقال : إنّه الدرهم والدينار اللّذان أهلكا الناس في العصور المتتالية.

وأمّا ما ذكر ـ من أنّ لحاظ اللفظ فانيا في المعنى الثاني بحيث كأنّه هو الثاني ، ولازمه عدم لحاظه عين الأوّل في ذلك الآن إذ لحاظه عين الأول فرض لاجتماع المتنافيين ـ فلا يمكن المساعدة عليه ؛ وذلك لأنّ لحاظه عين الثاني يلازم عدم لحاظه في ذلك الآن عين الأوّل ، إذا لم يمكن الجمع في تنزيل اللفظ منزلة كلّ من الشيئين في آن واحد ومع إمكان التنزيل فلا مانع منه.

والسرّ في ذلك أنّ التنزيل ليس من جعل الشيء شيئا آخر حقيقة ، بل هو قسم من الوهم والخيال ولا واقعية له ليقال إنّ الواحد حقيقة لا يكون اثنين ، وبالجملة

١٧٨

لحاظه هكذا في إرادة معنى ، ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر ، حيث إنّ لحاظه كذلك ، لا يكاد يكون إلّا بتبع لحاظ المعنى فانيا فيه ، فناء الوجه في ذي الوجه ، والعنوان في المعنون ، ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال

______________________________________________________

اللفظ وإن كان له وجود واحد ، وذلك الوجود وجود للفظ حقيقة ووجود للمعنى بالتنزيل ، إلّا أنّه لا مانع من كونه وجودا تنزيليا للمعنى الآخر أيضا في حين كونه وجودا تنزيليا للمعنى الأوّل ، غاية الأمر أنّ ما ذكره في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ من أنّ العامّ يصلح وجها وعنوانا لكلّ من أفراده ، يراد به الوجهيّة والعنوانيّة الحقيقيّة ، بخلاف وجهيّة اللفظ وعنوانيّته لمعانيه ، فإنّها اعتبارية وجعلية ، فالعنوانية لا تنافي لحاظ المتعدّد بالعنوان الواحد ، وعليه فلا محذور في لحاظ معنيين بلفظ واحد ، فإنّه لحاظ تنزيلي وليس من قبيل إخراج الواحد إلى المتعدّد حقيقة ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ حقيقة الاستعمال ليس ما ذكره قدس‌سره لحاظ اللفظ عين المعنى أو كأنّه نفس المعنى حتى يكون اللحاظ مقوّما للاستعمال ، بل الاستعمال هو الإتيان بعلامة المعنى عند إرادة تفهيمه بحيث يكون اللفظ مبرزا له ، وغفلة المتكلّم عن نفس اللفظ في مرحلة الاستعمال بلحاظه كأنّه المعنى ناش عن الأنس بالاستعمال وعدم غرض له إلّا في نفس تفهيم المعنى ونقله إلى ذهن السامع ، ولذا لا يكون الاستعمال على هذا الاسلوب في بداية تعلّم الإنسان لغات غير لسانه ، وكذا في موارد يكون المتكلّم فيها في مقام إظهار كمال فصاحته وبلاغته.

أفلا ترى أنّ غير العربي في أوائل تعلّمه اللسان العربيّ أو المتكلّم المتصدي لإلقاء خطبة يظهر بها بلاغته وفصاحته ملتفت إلى الألفاظ كمال الالتفات ، وهذا شاهد صدق على كون حقيقة الاستعمال إبراز المعاني بالألفاظ وجعلها كاشفة عن

١٧٩

واحد ، ومع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال.

وبالجملة : لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد ، لحاظه وجها لمعنيين وفانيا في الاثنين ، إلّا أن يكون اللاحظ أحول العينين.

______________________________________________________

مراداته.

وأمّا حديث سراية الحسن والقبح إلى الألفاظ فلا يشهد لما ذكره ، فإنّ سرايتهما من ذي العلامة إلى علامته ، ممكن وواقع ، فإنّ بعض الناس يكرهون بعض الطيور لكونها عندهم علامة الابتلاء وخراب البيوت وتشتّت الأهل ، ويحبّون بعضها الآخر بحيث يفرحون برؤيتها حيث إنّها عندهم علامة الرخاء والنعمة والرحمة.

والمتحصّل أنّه لا محذور في استعمال اللفظ وإرادة معان متعدّدة منه في استعمال واحد وجعله علامة لإرادة كلّ منها بنحو الاستقلال ، إلّا أنّه على خلاف الاستعمالات المتعارفة فلا يحمل كلام المتكلّم عليه إلّا مع القرينة عليه.

ولو ورد في كلامه لفظ مشترك ولم تكن في البين قرينة على تعيين المراد من معانيه يكون الكلام مجملا ، فلا يحمل على إرادة جميع المعاني لا بنحو الاشتراك المعنوي ولا بنحو استعمال العشرة في مجموع آحادها ولا على الاستعمال في أكثر من معنى حتّى بناء على جوازه كما هو المختار.

وذكر المحقّق النائيني قدس‌سره أنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى ممتنع ولو قيل بأنّ الاستعمال عبارة عن الإتيان بالمبرز والعلامة للمعنى ووجه الاستحالة : أنّ استعمال اللفظ في كلّ من المعنيين يتوقف على لحاظ كل منهما في آن واحد بالاستقلال بأن تلاحظ النفس كلّا منهما بلحاظ مستقلّ في آن واحد ، وهو غير مقدور للنفس (١).

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ٥١.

١٨٠