دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

فانقدح بذلك امتناع استعمال اللفظ مطلقا ـ مفردا كان أو غيره ـ في أكثر من معنى بنحو الحقيقة أو المجاز ، ولو لا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه [١] فإنّ اعتبار الوحدة في الموضوع له واضح المنع ، وكون الوضع في حال وحدة المعنى ، وتوقيفيته لا يقتضي عدم الجواز ، بعد ما لم تكن الوحدة قيدا للوضع ، ولا للموضوع له ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

وفيه : أنّه لا محذور في اجتماع اللحاظات المتعدّدة من النفس في زمان واحد وشاهده صدور أفعال مختلفة من الإنسان في زمان واحد مع أنّ كلّا من الأفعال مسبوق بالإرادة ومن مباديها اللحاظ ، وكذا يشهد لذلك صدور الحكم فإنّ الحكم يتوقّف على لحاظ الموضوع والمحمول والنسبة في آن الحكم.

نعم الشيء الواحد لا يلاحظ في آن واحد بلحاظين فيما إذا لم يكن بين اللحاظين اختلاف أصلا بأن يحضر ذلك الشيء مرّتين عند النفس في آن واحد ، فإنّه من قبيل إحضار الحاضر بخلاف ما إذا كان اختلاف في نحوي اللحاظ كما تقدّم في التنزيل وجعل اللفظ عين المعنى ، وإذا قلنا بأنّ الاستعمال عبارة عن الإتيان بالمبرز فلا يحتاج إلى تعدّد اللحاظ في ناحية اللفظ أصلا فإنّ كون شيء واحد علامة للمتعدّد لا مجال للمناقشة فيه ، كما تقدّم.

[١] إشارة إلى ما ذهب إليه صاحب القوانين قدس‌سره من عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى مفردا أو غيره ، بمعنى عدم صحته من غير أن يكون امتناع في البين ، وذكر في وجه عدم الجواز لغة ، أنّ الوضع في الألفاظ توقيفي فلا بدّ من رعاية الأمر الحاصل حال الوضع وهو وحدة المعنى يعنى أنّ الواضع عند وضعه اللفظ لم يلاحظ مع المعنى المفروض شيئا من سائر المعاني ، فاللازم أن يكون استعماله فيه أيضا على طبق الوضع ، وعلى ذلك فلا يجوز استعمال اللفظ في أكثر من معنى

١٨١

ثمّ لو تنزلنا عن ذلك ، فلا وجه للتفصيل بالجواز على نحو الحقيقة في التثنية والجمع ، وعلى نحو المجاز في المفرد [١] ، مستدلّا على كونه بنحو الحقيقة فيهما ، لكونهما بمنزلة تكرار اللفظ وبنحو المجاز فيه ، لكونه موضوعا للمعنى بقيد الوحدة ، فإذا استعمل في الأكثر لزم إلغاء قيد الوحدة ، فيكون مستعملا في جزء المعنى ، بعلاقة الكلّ والجزء ، فيكون مجازا ، وذلك لوضوح أن الألفاظ لا تكون

______________________________________________________

حتّى في التثنية والجمع ، فإنّ الوضع فيهما أيضا كان كالمفرد حال انفراد المعنى أي عدم إرادة طبيعة أخرى مع المعنى الذي تكون هيئتهما موضوعة لإفادة التعدّد من ذلك المعنى. ولا يخفى ضعف ما ذكره ، فإنّه لا اعتبار بحال الوضع فيما إذا لم يكن ذلك الحال مأخوذا في ناحية الموضوع له أو في نفس الوضع ، والمفروض أنّ وحدة المعنى لم تلاحظ قيدا في شيء منهما ولو لزم رعاية الحال حتّى مع عدم أخذه في ناحية شيء منهما لكان رعاية سائر الحالات أيضا لازما بأن يستعمل اللفظ في المعنى في الليل خاصة فيما إذا كان الوضع بالليل مثلا وإلى هذا يرجع ما ذكره الماتن قدس‌سره من أنّ وحدة المعنى وتوقيفية الوضع لا تقتضي عدم الجواز.

[١] يعني لو تنزّلنا عن الالتزام بامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى وبنينا على جوازه ، فلا وجه للتفصيل بين التثنية والجمع ، وبين المفرد ، وأنّ الاستعمال في التثنية والجمع بنحو الحقيقة ، وفي المفرد بنحو المجاز ، كما اختار ذلك في المعالم بدعوى أنّ المفرد موضوع للمعنى المأخوذ فيه الوحدة واستعماله في أكثر من معنى يوجب إلغاء قيد الوحدة عنه ، فيكون اللفظ الموضوع للكلّ مستعملا في الجزء فيكون مجازا ، بخلاف التثنية والجمع فإنّهما بمنزلة تكرار اللفظ ، وكما أنّه مع تكرار اللفظ يجوز إرادة معنى من كل لفظ غير المعنى المراد من لفظ آخر ، كذلك الحال فيما هو بمنزلته.

١٨٢

موضوعة إلّا لنفس المعاني ، بلا ملاحظة قيد الوحدة ، وإلّا لما جاز الاستعمال في الأكثر ، لأنّ الأكثر ليس جزء المقيد بالوحدة ، بل يباينه مباينة الشيء بشرط شيء ، والشيء بشرط لا ، كما لا يخفى ، والتثنية والجمع وإن كانا بمنزلة التكرار في اللفظ ، إلّا أنّ الظاهر أنّ اللفظ فيهما كأنه كرّر وأريد من كل لفظ فرد من أفراد معناه ، لا أنّه أريد منه معنى من معانيه ، فإذا قيل مثلا : (جئني بعينين) أريد فردان من العين الجارية ، لا العين الجارية والعين الباكية ، والتثنية والجمع في الأعلام ، إنما هو

______________________________________________________

وأجاب قدس‌سره بأنّ الوحدة ليست جزءا من الموضوع له ، فإنّه لا معنى لوحدة المعنى إلّا انفراده وعدم انضمام معنى آخر إليه ، فيؤخذ المعنى بشرط لا بالإضافة إلى سائر المعاني واستعماله في الأكثر استعمال للفظ فيه بشرط معنى آخر ، فيكون المعنى بشرط لا ، مع المعنى بشرط بشيء ، متباينين لا من استعمال اللفظ الموضوع للكلّ في جزئه.

وأمّا التثنية والجمع فكلّ منهما يتضمّن مادة وهيئة ، فالهيئة فيهما موضوعة لإفادة التعدّد من معنى المادة ، بأن يكون معنى هيئة التثنية فردين من الطبيعة ، وهيئة الجمع ثلاثة أو أكثر منها والجمع في الأعلام يؤول كما في التثنية فيها ، بأن يراد من زيد فيهما المسمّى به.

ومع الإغماض عن ذلك بأن يقال إنّ الهيئة فيهما موضوعة لإفادة مطلق التعدّد ، سواء كان بإرادة الأفراد أو المعاني الأخر ، فلا يكون استعمال لفظ عينين في الذهب والفضة مثلا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، نعم لو أريد فردان من الذهب وفردان من الفضّة لكان منه ، ولكن لا وجه معه ، للتفصيل بين المفرد وبين التثنية والجمع بالتزام المجاز في الأوّل ، والحقيقة في الثاني لاستلزام الاستعمال في كلّ منه ومنهما إلغاء قيد الوحدة.

ثمّ إنّه ربّما يقال بجواز استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى ، بخلاف

١٨٣

بتأويل المفرد إلى المسمى بها ، مع أنّه لو قيل بعدم التأويل ، وكفاية الاتحاد في اللفظ ، في استعمالهما حقيقة ، بحيث جاز إرادة عين جارية وعين باكية من تثنية العين حقيقة ، لما كان هذا من باب استعمال اللفظ في الأكثر ، لأنّ هيئتهما إنّما تدلّ على إرادة المتعدد مما يراد من مفردهما ، فيكون استعمالهما وإرادة المتعدد من معانيه ، استعمالهما في معنى واحد ، كما إذا استعملا وأريد المتعدد من معنى واحد منهما ، كما لا يخفى.

نعم لو أريد مثلا من عينين ، فردان من الجارية ، وفردان من الباكية ، كان من استعمال العينين في المعنيين ، إلّا أنّ حديث التكرار لا يكاد يجدي في ذلك أصلا ، فإنّ فيه إلغاء قيد الوحدة المعتبرة أيضا ، ضرورة أن التثنية عنده إنّما يكون لمعنيين ، أو لفردين بقيد الوحدة ، والفرق بينهما وبين المفرد إنّما يكون في أنّه موضوع للطبيعة ، وهي موضوعة لفردين منها أو معنيين ، كما هو أوضح من أن يخفى.

______________________________________________________

اللفظ الموضوع لمعنى واحد ، فإنّه لا يجوز استعماله فيه وفي معناه المجازي ؛ لأنّ استعماله في معناه المجازي يقتضي نصب القرينة واستعماله في معناه الحقيقي يقتضي عدمها ، فلا يمكن الجمع بينهما في استعمال واحد.

والجواب أنّ عدم الحاجة إلى القرينة في استعماله في معناه الحقيقي إنّما هو في حال استعماله فيه فقط ، وأمّا مع استعماله في معناه المجازي أيضا كما هو المفروض ، فلا بدّ من نصب القرينة على الجمع في الاستعمال.

١٨٤

وهم ودفع :

لعلّك تتوهم أنّ الأخبار الدالّة على أن للقرآن بطونا ـ سبعة أو سبعين ـ تدلّ على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد [١] ، فضلا عن جوازه ، ولكنك

______________________________________________________

[١] ربّما يختلج بالبال أنّ الأخبار (١) الواردة في ثبوت البطون للقرآن يمكن أن يستظهر منها وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ووجه الاستظهار ظهور تلك الأخبار في إرادة كلّ من البطون السبعة أو السبعين من القرآن بارادة مستقلّة ولو لم يجز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد لم يكن يراد من الآية الواحدة إلّا معنى واحدا ولم تكن سائر المعاني المعبّر عنها بالبطن والبطون داخلة في مدلولها لتكون بطنا لها ، والوجه في التعبير عنها بالبطن والبطون خفاء تلك المعاني عن غير أوليائه الذين نزل الكتاب في بيوتهم ، وأمر الناس بولايتهم ، وقرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وأجاب الماتن قدس‌سره عن ذلك بوجهين :

الأوّل : أنّه لا دلالة في تلك الأخبار على إرادة تلك المعاني المعبّر عنها بالبطون بنحو إرادة المعنى من اللفظ عند استعماله فيه ، بل لعلّ تلك المعاني كانت مرادة بأنفسها عند استعمال الآية في معناها الظاهر فيها ، وبتعبير آخر لم يستعمل كلمات الآية في تلك المعاني استعمال اللفظ في المعنى ، بل كانت تلك المعاني منظورة من الآية ومرادة منها بلا استعمال اللفظ فيها.

أقول وفيه : أنّ إرادة أمر بنفسه عند استعمال لفظ في معنى لا يوجب كون الأوّل بطنا للثاني ، مثلا إذا قال والد في مقام وعده أحد أولاده : أعطيك غدا دينارا ،

__________________

(١) البحار : ٩٢ / ٧٨ ، الباب ٨ من كتاب القرآن.

١٨٥

غفلت عن أنّه لا دلالة لها أصلا على أن إرادتها كان من باب إرادة المعنى من اللفظ ، فلعلّه كان بإرادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى ، لا من اللفظ ، كما إذا استعمل فيها ، أو كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ ، وإن كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها.

______________________________________________________

وكان من قصده اتفاقا إعطاء الدينار لسائر أولاده أيضا ، فلا يكون إعطائه لهم بطنا لكلامه.

الثاني : أنّ المراد بالبطون لوازم معاني القرآن وأنّ اللفظ يستعمل في معنى يعبّر عنه بالمعنى الظاهر ، إلّا أنّ لإرادة ذلك المعنى من اللفظ أو لنفس ذلك المعنى لوازم ، لخفائها وقصور أذهاننا عن الوصول إليها أطلق عليها البواطن ، ومن البديهي أنّ الدلالة على اللازم أجنبيّ عن استعمال اللفظ في أكثر من معنى بحيث يكون كلّ معنى مرادا مستقلّا من اللفظ.

وقد يستدلّ لهذا الوجه الثاني بروايات متواترة إجمالا ، منها ما عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «يا خيثمة القرآن نزل أثلاثا ... ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ، ولكنّ القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السموات والأرض» الحديث (١).

أقول : لا دلالة لهذه الطائفة من الأخبار على أنّ بطن القرآن يكون من قبيل لازم المعنى أو من قبيل الملزوم له ، بل يحتمل أن يكون المراد بالبطن أنّ المذكور في الآية وإن كان من قبيل حكاية واقعة خاصّة ماضية أو حاضرة أو بيان حكم لواقعة إلّا أنّ واقع الآية قضيّة سارية كليّة.

__________________

(١) البحار : ٩٢ / ١١٥ ، الباب ١٢ من كتاب القرآن ، الحديث ٤.

١٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

مثلا قوله سبحانه (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) في واقعها بيان لعدم عذرية الجهل بترك الفحص ومخالفة الحقّ اعتقادا أو عملا في الأصول والفروع ، وأنّ الشخص مع تمكّنه من الوصول إلى الحقّ ـ ولو بالسؤال عمن يعلم ذلك الحقّ ـ إذا تركه ، يؤاخذه الله به ، وأنّ ترك السؤال ممن يعلم الحقّ ـ ولو لعدم إحرازه أنّه يعلم الحقّ ، مع تمكّنه من إحراز أنّه يعلمه ولو بالفحص ـ لا يكون عذرا ، ومن أظهر مصاديق هذا المعنى عدم الرجوع في تعلّم الأحكام الشرعية إلى الائمة (صلوات الله عليهم أجمعين) كما ورد في عدّة من الروايات «نحن أهل الذكر ونحن المسئولون أمر الناس بسؤالنا» (٢).

مع أنّ ظاهر الآية الأمر بسؤال علماء الأديان الأخرى عمّا يردّد على أسماع الناس من أنّ النبوّة تناسب الملك لا البشر ، فينبغي أن يكون رسول ربّ العالمين ملكا لا يأكل الطعام ، وقد ذكر سبحانه (٣) أنّ هذه الوسوسة لا تكون عذرا لهم في ترك الإيمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّ أنبياء السلف كانوا رجالا ، ويمكن تحصيل العلم بذلك بسؤال علماء الأديان السابقة.

وبالجملة لا ينحصر البطن للقرآن بما ذكره ثانيا من لوازم معناه المستعمل فيه.

ثمّ إنّ ثبوت البطون للقرآن وقصور أذهاننا نوعا عن الوصول إليها من غير ورود حجّة معتبرة عن الأئمّة عليهم‌السلام لا يمنع عن اعتبار الكتاب المجيد بالإضافة إلى

__________________

(١) سورة النحل : الآية ٤٣ ؛ وسورة الأنبياء : الآية ٧.

(٢) الأصول من الكافي : ١ / ٢١٠.

(٣) سورة الفرقان : الآيات ٧ ـ ٢٠.

١٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ظواهره ، كيف وقد أمرنا بالتمسّك بالكتاب العزيز والعترة الطاهرة عليهم‌السلام كما أمرنا بعرض الأخبار المأثورة عنهم عليهم‌السلام على الكتاب وردّ ما ينافيه مما لا يعدّ قرينة عرفية على ظواهره ، وكذا عرض الحديثين المتعارضين على الكتاب والأخذ بما يوافقه ، ولو لم يكن لظاهر الكتاب اعتبار لما صحّ الإرجاع المزبور والأمر بالعرض عليه.

وأمّا الأخذ بالبواطن فيما لا يساعده الظاهر فهو دائر مدار ورود النصّ عنهم عليهم‌السلام فإنّهم هم الأعرفون بظواهر الكتاب والعاملون ببواطنه ، وأمّا بيان باطنه بما لا يعدّ الظاهر قرينة عليه داخل في تفسير القرآن بالرأي ، وإسناد الشيء إلى الله سبحانه من غير علم به ، فيكون من اتباع الظنّ وإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا.

ثمّ إنّه ربّما يذكر ثمرة لهذا البحث حكم قصد المصلي في قرأته سورة الحمد أن ينشأ الحمد بما يقرأه من قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١) وأن ينشأ الدعاء بإدخال نفسه في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(٢) حيث إنّ قصده القراءة من قبيل استعمال الألفاظ في الألفاظ النازلة إلى الرسول الأعظم من ربّ العالمين بقصد حكايتها ، فتكون قراءته بقصد إنشاء الحمد بها أو بقصد الدعاء من استعمال ما يتلفّظ به في معنى آخر أيضا على نحو الاستقلال. ولكن لا يخفى ما فيه.

فإنّه قد تقدّم في بحث استعمال اللفظ في اللفظ أنّ اللفظ لا يستعمل في اللفظ أصلا بل يلقى بنفسه خارجا فيكون الملقى خارجا نفس اللفظ الملحوظ ابتداء ، فإذا لاحظ القارئ سورة الحمد وأراد قراءتها فيوجد بما يتلفّظ به عين ما لاحظه من

__________________

(١) سورة الحمد : الآية ١.

(٢) سورة الحمد : الآية ٦.

١٨٨

الثالث عشر

إنه اختلفوا في أن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدإ في الحال ، أو فيما يعمه وما انقضى عنه [١] على أقوال ، بعد الاتفاق على كونه مجازا فيما يتلبس به في الاستقبال ، وقبل الخوض في المسألة ، وتفصيل الأقوال فيها ، وبيان الاستدلال

______________________________________________________

السورة فتكون قراءة.

ولا ينافي ذلك أن يريد من ألفاظها المعاني التي كانت للسورة عند نزولها ، وأن يقصد ما تقتضي تلك المعاني عند قراءتها من إدخال نفسه في مدلول الضمير ونحو ذلك ، كما لا يخفى.

المشتق :

[١] الخلاف في المشتقّ نظير الخلاف المتقدّم في الصحيح والأعمّ إنّما هو في سعة معنى المشتقّ وعدم سعته بأن تكون هيئات المشتقّات موضوعة لمعاني تنطبق على ما له المبدأ فعلا ولا تنطبق على ما لا يكون تلبّسه بالمبدإ حين الانطباق فعليّا ، أو أنها موضوعة للأعم بحيث تنطبق على ما يكون تلبّسه بالمبدإ عند الانطباق فعليا أو منقضيا.

وبتعبير آخر : لا خلاف في عدم سعة معنى المشتقّ بحيث ينطبق فعلا على ما يكون تلبّسه بالمبدإ في المستقبل ولو اطلق وانطبق عليه معنى المشتقّ فعلا يكون ذلك بنحو من العناية وإنّما الخلاف في سعة معناه بالإضافة إلى ما انقضى عنه المبدأ وعدم سعته.

والمراد بالمشتقّ في المقام خصوص ما يحمل معناه على الذوات ، فالأفعال والمصادر المزيد فيها وإن كان يطلق عليها المشتقّ في اصطلاح علماء الأدب ، إلّا أنّ

١٨٩

عليها ، ينبغي تقديم أمور :

أحدها : إنّ المراد بالمشتق هاهنا ليس مطلق المشتقات ، بل خصوص ما يجري منها على الذوات ، مما يكون مفهومه منتزعا عن الذات ، بملاحظة اتصافها بالمبدإ ، واتحادها معه بنحو من الاتحاد ، كان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور والايجاد ، كأسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبّهات ، بل وصيغ المبالغة ،

______________________________________________________

النزاع في المقام لا يعمّهما ؛ لعدم صحّة جري معانيها على الذوات ، والمراد بالذات كل ما يتلبّس بالمبدإ بأحد أنحاء التلبّس والاتّحاد ، سواء كان بنحو الحلول كما في الأسود والأبيض ، أو الانتزاع كما في المالك والمملوك ، أو الصدور والإيجاد كالضارب والقاتل.

وبتعبير آخر : لا يراد بالذات ما يقابل العرض ، بل يعم ما يكون عرضا ، كقوله : سواده شديد أو ضعيف.

وزعم صاحب الفصول قدس‌سره أنّ النزاع في المقام يختصّ باسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبّهة وما يلحق بها من النسب ، كالكوفيّ والبصريّ ، والوجه فيما زعمه أنّه ذكر لكلّ من سائر المشتقّات معنى واعتقد أنّه متّفق عليه عند الكلّ ، قال : «أمّا اسم المفعول فيكون بعض صيغه لخصوص المتلبّس ، كالمملوك فإنّه إذا قيل : (هذا مملوك زيد) يراد أنّه ملكه فعلا ، لا أنّه كان ملكا له سابقا ولو صار ملك شخص آخر بالفعل ، وبعض صيغه يكون للأعمّ كما في المكتوب ، فإنّه إذا قيل : (هذا مكتوب زيد) فلا يراد أنّه يكتبه فعلا ، وكذا غيره من المشتقّات» (١).

وفيه أنّ المبادئ المأخوذة في المشتقّات تختلف بحسب الفعلية والشأنية

__________________

(١) الفصول الغروية : ص ٤٨.

١٩٠

وأسماء الأزمنة والأمكنة والآلات ، كما هو ظاهر العنوانات ، وصريح بعض المحقّقين ، مع عدم صلاحية ما يوجب اختصاص النزاع بالبعض إلّا التمثيل به ، وهو غير صالح ، كما هو واضح.

فلا وجه لما زعمه بعض الأجلّة ، من الاختصاص باسم الفاعل وما بمعناه من

______________________________________________________

والصناعة والملكة واختلافها كذلك يوجب اختلاف فعلية التلبّس بالمبادئ ، فإن كان المبدأ أمرا فعليا كما في المالك والمملوك ، يكون المتلبّس بالمبدإ هو المتلبس بالمبدإ الفعلي ، وإن كان المبدأ صنعة كما في المكتوب ، يكون المتلبّس بنحو الصنعة متلبّسا بالمبدإ ، ويلاحظ الانقضاء بالإضافة إلى الأمر الفعلي في الأوّل وبالإضافة إلى الصنعة في الثاني ، وهذا الاختلاف الناشئ من ناحية المادّة لا يوجب اختلافا في ناحية هيئة المشتقّ التي يبحث عن مفادها في المقام.

وعن المحقّق النائيني قدس‌سره خروج أسماء الآلة عن مورد النزاع ؛ لكونها موضوعة للاستعداد والقابلية ، ولا يعتبر فيها تلبّس الذات بالمبدإ أصلا ، فضلا عن اعتبار بقائه وعدم انقضائه ، مثلا لفظ مفتاح موضوع بهيئته لما فيه استعداد الفتح به وإن لم يتلبّس بالفتح أصلا ، وكذا لا نزاع في المقام في اسم المفعول ، فإنّ صيغة «مفعول» موضوعة لما يقع عليه الفعل ، والذات بعد وقوع الفعل عليها لا تنقلب إلى غيره ، والمقتول من وقع عليه القتل والشخص بعد وقوع القتل عليه لا يتصف بغيره ، وكذا مثل الممكن والممتنع والواجب والعلّة والمعلول ؛ لعدم انقضاء المبدأ عن الذات في أمثالها ، فإنّ المبدأ في مثل ما ذكروا إن لم يكن عين الذات إلّا أنّه كالذاتيّات ، غير قابل للانفكاك والانقضاء (١).

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ٨٣.

١٩١

الصفات المشبهة وما يلحق بها ، وخروج سائر الصفات ، ولعل منشأه توهم كون ما ذكره لكل منها من المعنى ، مما اتفق عليه الكل ، وهو كما ترى ، واختلاف انحاء التلبسات حسب تفاوت مبادي المشتقات ، بحسب الفعلية والشأنية والصناعة والملكة ـ حسبما نشير إليه ـ لا يوجب تفاوتا في المهم من محل النزاع هاهنا ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

ولكن لا يخفى أنّ شيئا مما ذكره قدس‌سره لا يصلح لخروج المذكورات عن مورد الخلاف في المقام ؛ وذلك لأنّ غاية ما أفاده أنّ المبدأ في أسماء الآلات أخذ بنحو الاستعداد والقابلية لا الفعليّة ، ولكن هذا لا يقتضي عدم وضع الهيئة للمتلبّس بالمبدإ بالمعنى المزبور ، بل الهيئة تكون موضوعة له بالفعل ، ويكون الانقضاء فيه بلحاظ انقضاء الاستعداد والقابلية ، كما إذا انكسر بعض أسنان المفتاح بحيث لا يصلح للفتح به ، فيكون من الذات المنقضي عنها المبدأ ، وكون المبدأ في ضمن هيئة أمرا فعليا وعملا خاصا لا ينافي كونه في ضمن هيئة أخرى بمعنى استعداد ذلك الأمر والشأنية لذلك العمل ، فلا يقال إنّ معنى لفظ (فتح) بهيئة المصدر أمر فعلي فكيف يكون في اسم الآلة استعداديا وأمّا اسم المفعول فلم يحرز أنّ الموضوع لهيئته ما وقع عليه المبدأ ، بل من المحتمل وضعه لما يقوم به المبدأ قياما وقوعيّا ، فبعد انقضاء القيام بالوقوع عليه لا ينطبق معناه عليه إلّا بلحاظ حال القيام وإلّا فيجري ما ذكره في صيغ اسم الفاعل أيضا ، فيقال : إنّ هيئته موضوعة لذات صدر عنها الفعل ، والذات بعد صدور الفعل عنها لا تنقلب إلى غيره.

وأمّا مثل الممكن والواجب والمعلول مما لا يتصوّر في مبدئه الانقضاء ، فقد تقدّم أنّ النزاع في المقام في ناحية هيئة المشتقّات ، والهيئة فيما ذكر لم توضع مستقلّة ، بل وضعت في ضمن وضع هيئة اسم الفاعل أو المفعول أو الصفة المشبّهة ،

١٩٢

ثم إنّه لا يبعد أن يراد بالمشتق في محل النزاع ، مطلق ما كان مفهومه ومعناه جاريا على الذات [١] ومنتزعا عنها ، بملاحظة اتصافها بعرض أو عرضي ولو كان جامدا ، كالزوج والزوجة والرقّ والحرّ ، وإن أبيت إلا عن اختصاص النزاع المعروف بالمشتق ، كما هو قضية الجمود على ظاهر لفظه ، فهذا القسم من الجوامد

______________________________________________________

وعليه فعدم تحقّق الانقضاء في بعض المبادئ لا ينافي وضع الهيئة الداخلة على المبدأ مطلقا لمعنى وسيع ينطبق على المنقضي أيضا في موارد إمكان الانقضاء ، كما يمكن وضعها لمعنى أضيق لا ينطبق إلّا على الذات المتلبّسة بالمبدإ.

[١] يجري الخلاف في المقام في بعض الأسماء الجامدة التي لا يصحّ إطلاق المشتقّ عليها في اصطلاح علماء الأدب ؛ لأنّ اللفظ فيها بهيئته ومادته موضوع بوضع واحد ، بخلاف المشتقات بحسب اصطلاحهم التي يكون فيها لكل من الهيئة والمادة وضعا ، وتلك الأسماء هي الجارية على الذوات ممّا تكون معانيها منتزعة عنها بملاحظة اتّصافها بأمر عرضي أي اعتباري كالزوج والزوجة ، والرق والحر ونحوها.

وعلى ذلك فلا يبعد أن يراد بالمشتق في المقام ما يعمّ مثل هذه الأسماء بأن يكون المراد منه كلّ لفظ يكون معناه مأخوذا من الذات بملاحظة اتّصافها بعرض أي بمبدإ متأصّل ، كالضرب والقتل ، أو بملاحظة اتّصافها بعرضي (أي بأمر اعتباري) فتكون النسبة بين المشتق بحسب اصطلاح علماء الأدب وبين المراد في المقام العموم من وجه ؛ لخروج بعض ما يطلق عليه المشتق بحسب اصطلاحهم عن محلّ الكلام كالأفعال والمصادر المزيد فيها ، ودخول بعض ما لا يطلق عليه المشتق بحسبه فيه كالجوامد المشار إليها ، ولو لم يكن المراد بالمشتق ما يعم تلك الأسماء الجامدة كما هو مقتضى الجمود على ظاهر لفظ المشتق الوارد في عنوان الخلاف ، فلا ينبغي التأمّل في أنّ النزاع الجاري فيه ، جار فيها أيضا كما يشهد لذلك ما عن

١٩٣

أيضا محل النزاع.

كما يشهد به ما عن الايضاح في باب الرضاع ، في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان ، أرضعتا زوجته الصغيرة ، ما هذا لفظه : (تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين ، وأمّا المرضعة الأخرى ، ففي تحريمها خلاف ، فاختار

______________________________________________________

الإيضاح (١) وغيره في المسألة المعروفة في كون المراد من الزوجة في حرمة أمّ الزوجة ، خصوص المتلبّس بالزوجيّة أم يعمّ المنقضى عنها.

أقول : لا بأس بالتكلّم في تلك المسألة بما يناسب المقام ، ولها صور :

الصورة الأولى : فيما إذا أرضعت الكبيرتان زوجته الصغيرة مع الدخول بالمرضعة الأولى فقط ، ففي هذه الصورة تحرم المرتضعة على زوجها مؤبدا ؛ لأنّها إمّا بنته إذا كان اللبن منه ، أو ربيبته من المرضعة الأولى المدخول بها ، إذا لم يكن اللبن منه.

وهل تحرّم المرضعة الأولى أيضا؟ المشهور أنّها تحرم مؤبّدا كالمرتضعة ؛ لكونها أمّا لزوجته الصغيرة ، فيشملها قوله سبحانه : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) الآية (٢).

ولكن قد يناقش في حرمتها بأنّ ظاهر الآية المباركة حرمة من تكون أمّا لزوجته حال اتّصافها بالزوجية ، بأن يجتمع كونها أمّا وكون بنتها زوجة في زمان واحد ، وليس الأمر في الفرض كذلك ، فإنّه في زمان تحقّق أمومة المرضعة ترتفع زوجية المرتضعة ، فلا يجتمعان.

وقد أجيب عن المناقشة بما حاصله : إنّ مقتضى التضايف بين الأمومة والبنوّة

__________________

(١) الإيضاح : ٣ / ٥٢.

(٢) سورة النساء : الآية ٢٣.

١٩٤

والدي المصنّف رحمه‌الله وابن إدريس تحريمها لأنّ هذه يصدق عليها أم زوجته ، لأنّه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه هكذا هاهنا) ، وما عن المسالك في هذه المسألة ، من ابتناء الحكم فيها على الخلاف في مسألة المشتق.

______________________________________________________

أن يكون تحقّق الأمومة للمرضعة ، مساويا لحصول البنوّة للمرتضعة ، وبما أنّ حصول البنوّة للصغيرة علّة لارتفاع الزوجية عنها ، فيتأخّر ارتفاع الزوجيّة رتبة عن حصول البنوّة لها وعن الأمومة للمرضعة ، كما هو مقتضى التضايف بين الأمومة والبنوّة وتأخّر كلّ معلول عن علّته ، وعلى ذلك تكون الصغيرة متّصفة بالزوجية في رتبة حصول الأمومة للمرضعة ، فتجمع أمومة المرضعة مع زوجية المرتضعة في الرتبة ، وهذا المقدار يكفي في صدق أنّ المرضعة أمّ زوجته.

وفيه : أنّ ما ذكر لا يصحّح اجتماع الأمومة للمرضعة وزوجيّة الصغيرة في زمان واحد. والمدّعى في المناقشة ظهور الآية المباركة في اجتماعهما في الزمان ، وبتعبير آخر : ارتفاع الزوجية عن الصغيرة لصيرورتها بنتا أو ربيبة للزوج يتوقّف على تمام الإرضاع الموجب لصيرورتها بنتا للمرضعة وصيرورة المرضعة أمّا لها ، وبتمامه ترتفع الزوجية ، فيكون حصول الأمومة مقارنا لانحلال الزوجية ، فلا يجتمعان في الزمان.

وأمّا ما رواه الكليني قدس‌سره ، عن علي بن محمد ، عن صالح بن أبي حماد ، عن علي بن مهزيار ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قيل له إنّ رجلا تزوّج بجارية صغيرة ، فأرضعتها امرأته ، ثمّ أرضعتها امرأة له أخرى ، فقال ابن شبرمة : حرمت عليه الجارية وامرأتاه ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «أخطأ ابن شبرمة ، تحرم عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أوّلا ، وأمّا الأخيرة فلم تحرم عليه ، كأنّها أرضعت ابنته» (١) ، فهو وإن كان

__________________

(١) الوسائل : ج ١٤ ، باب ١٤ من أبواب ما يحرم بالرضاع ، الحديث ١.

١٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ظاهرا في حرمة المرضعة الأولى ، إلّا أنّه قد يناقش فيه بوجهين :

الأوّل : أنّ الرواية مرسلة ، فإنّ ظاهر نقل فتوى ابن شبرمة أنّ المراد بأبي جعفر هو الباقر عليه‌السلام ، وعليّ بن مهزيار لم يدرك الباقر عليه‌السلام ، فتكون الرواية مرسلة.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ علي بن مهزيار ظاهر نقله أنّه بالحسّ ، وهذا يكون قرينة على أنّ المراد بأبي جعفر هو الجواد عليه‌السلام ، ونقل فتوى ابن شبرمة إليه عليه‌السلام لا يكون قرينة على خلاف ذلك. ولعلّ ناقل الفتوى شخص آخر قد سمعها منه مباشرة أو مع الواسطة نقلها إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام.

الثاني : أنّ في سند الرواية صالح بن أبي حمّاد ، ولم يثبت له توثيق لو لم نقل بثبوت ضعفه ؛ لقول النجاشي «وكان أمره ملتبسا يعرف وينكر» (١).

أقول : هذا أيضا لا يصلح لسقوط الرواية عن الاعتماد عليها ، لا لدعوى انجبار ضعفها بعمل المشهور ، ليقال أنّه لم يظهر استناد المشهور إليها ، بل لعلّهم استفادوا الحكم من ظاهر الآية الشريفة كما تقدّم ، بل لأنّ الرواية رواها الشيخ في التهذيب (٢) عن الكليني قدس‌سره بالسند المزبور ، ولكن ذكر في فهرسته أنّ له إلى كتب علي بن مهزيار ورواياته طريقا صحيحا إلّا نصف كتاب مثالبه (٣) ، وهذه تدخل في روايات علي بن مهزيار ، ويبعد كونها من روايات كتاب المثالب ، مع أنّ طريقه إلى نصفه الآخر فيه إبراهيم بن مهزيار الذي قد يناقش في ثبوت التوثيق له ، لكن لا يبعد عدّه من المعاريف الذين لم

__________________

(١) رجال النجاشي : ص ١٩٨ ، رقم ٥٢٦ ، ط جماعة المدرسين.

(٢) التهذيب : ٧ / ٢٩٣ ، رواية ١٢٣٢.

(٣) الفهرست : ص ٢٣٢ ، ط جامعة مشهد.

١٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

يرد فيهم قدح ، فالرواية لتبديل أمر سندها لا مجال للمناقشة في سندها.

وقد يقال في المقام : إنّ تفريق فخر المحقّقين قدس‌سره بين المرضعتين ، ليس لفارق بينهما في الابتناء على وضع المشتق ليقال بأنّ الالتزام بحرمة المرضعة الأولى والخلاف في الثانية بلا وجه ، بل الالتزام بحرمة الأولى للإجماع والنصّ الصحيح في موردها ، دون الثانية ، ولذلك بنى حرمة الثانية على مسألة المشتق ، وأوضح الحكم فيها من طريق القاعدة. والنصّ هو صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام «لو أنّ رجلا تزوّج بجارية رضيعة فأرضعتها امرأته فسد النكاح» (١). وظاهرها فساد نكاح الرضيعة ، ويحتمل فساد نكاح المرضعة.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ الكلام في المقام في حرمة المرضعة الأولى مؤبّدا ولا دلالة للصحيحة على فساد نكاحها ، فضلا عن حرمتها ، بل ظاهرها فساد نكاح الرضيعة وحرمتها مؤبّدا ، وهذا لا كلام فيه ، كما تقدّم.

وذكر المحقّق النائيني قدس‌سره أنّ من المحتمل أن يكون صدق الزوجة على الرضيعة في زمان كافيا في حرمة أمّها حتّى لو كان حصول الأمومة بعد انقضاء الزوجية ، حيث لم يقيّد حرمة أمّ الزوجة في الآية بكونها أمّا للزوجة الفعلية ، بل إطلاقها يعمّ من تكون أمّا للزوجة الفعلية ، ومن تكون أمّا للزوجة السابقة ، نظير حرمة الربيبة ، حيث لا يعتبر في حرمة بنت الزوجة المدخول بها كونها بنتا لها حال كونها زوجة. والحاصل أنّ ما نحن فيه نظير ما يأتي من قوله سبحانه (لا يَنالُ عَهْدِي

__________________

(١) الوسائل : ج ١٤ ، باب ١٠ من أبواب ما يحرم بالرضاع ، الحديث ١.

١٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الظَّالِمِينَ)(١) من كون الظالم في زمان لا ينال العهد إلى الأبد (٢).

وفيه أنّ ظاهر الخطاب دوران الحكم مدار بقاء العنوان ، وكون حدوث عنوان موجبا للحكم في المعنون إلى الأبد ولو مع عدم بقاء العنوان يحتاج إلى قرينة ، مع أنّ الموضوع للحكم في المقام أمّهات نسائكم ، لا أمّهات من كانت من نسائكم ، وظاهر الأوّل تحقّق الأمومة في زمان انتساب المرأة إلى الإنسان بالزوجية ، ولا يقاس المقام بمسألة بنت الزوجة ، فإنّ الحرمة في الخطاب لم تتعلّق بعنوان بنت الزوجة ليقال فيه ما تقدّم في أمّ الزوجة ، بل تعلّقت بعنوان الربيبة ، والربيبة بنت من تزوّج بها سواء كانت بنتيّتها قبل الزواج أو بعد انقضائه.

والمتحصل أنّ العمدة في المقام هو أنّ دليل الحكم ـ بحرمة المرضعة الأولى كالصغيرة مؤبّدا ـ ما تقدّم من الرواية التي صحّحنا سندها.

الصورة الثانية : ما إذا أرضعت الكبيرتان الصغيرة ، مع الدخول بالمرضعة الثانية فقط ، فتكون المرتضعة محرّمة عليه مؤبّدا بعد إرضاع الكبيرتان ؛ لما تقدّم في الصورة الأولى ، ويحكم بفساد نكاح المرضعة الأولى من غير حرمة ، ووجهه أنّها قبل تحقّق الرضاع من المرضعة الثانية تكون أمّا للصغيرة ، والصغيرة بنتا لها ، وبما أنّه لا يمكن الجمع بين الأمّ والبنت في النكاح فيبطل نكاحهما ؛ لأنّ تعيين البطلان في أحدهما بلا معين إلّا أن يدعى بأن مجرّد النكاح على البنت كاف في تحريم أمّها ، بخلاف العكس ، وعليه تحرم المرضعة الأولى مؤبّدا لكونها أمّا لزوجته.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٢٤.

(٢) أجود التقريرات : ١ / ٥٥.

١٩٨

فعليه كلما كان مفهومه منتزعا من الذات ، بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتيات ـ كانت عرضا أو عرضيا ـ كالزوجية والرقّيّة والحرية وغيرها من الاعتبارات والإضافات ، كان محل النزاع وإن كان جامدا ، وهذا بخلاف ما كان مفهومه منتزعا عن مقام الذات والذاتيات [١] ، فإنه لا نزاع في كونه حقيقة في خصوص ما إذا كانت الذات باقية بذاتياتها.

ثانيها : قد عرفت أنه لا وجه لتخصيص النزاع ببعض المشتقات الجارية على الذوات ، إلّا أنه ربما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزمان ، لأن الذات فيه وهي الزمان بنفسه ينقضي وينصرم ، فكيف يمكن أن يقع النزاع في أن الوصف الجاري عليه حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال ، أو فيما يعم المتلبس به في المضي؟

______________________________________________________

الصورة الثالثة : ما إذا أرضعت الكبيرتان زوجته الصغيرة مع الدخول بالكبيرتين وقد نقل الماتن قدس‌سره هذا الفرع عن الإيضاح ، والحكم فيها بعينه ما تقدّم في الصورة الأولى.

الصورة الرابعة : ما إذا أرضعتاها بلا دخول بهما ، وفي هذه الصورة لا تحرم الصغيرة ولا الكبيرتان. نعم يكون نكاح الصغيرة والمرضعة الأولى باطلا ؛ لما تقدّم من عدم إمكان جمعهما في النكاح ، وتعيين البطلان في أحدهما بلا معيّن ، وعلى الاحتمال الآخر يبقى نكاح الصغيرة وتحرم المرضعتان مؤبّدا ؛ لكون كلّ منهما أمّا لزوجته.

[١] المنتزع عن مقام الذات كالأنواع ، والمنتزع عن الذاتيّات كالجنس والفصل خارجان عن مورد النزاع ، فإنّه لا يطلق على الملح المتبدّل إليه الكلب ، أنّه كلب ، وعلى التراب المتبدّل إليه الإنسان ، أنّه إنسان ، بل كان كلبا أو إنسانا ، والوجه في ذلك أنّ شيئية الأشياء إنّما هي بصورها لا بالهيولى والقوة القابلة لها حتّى بنظر العرف أيضا ، وإذا زالت الصورة انعدم الشيء ولا يمكن انطباق الشيء على عدمه.

١٩٩

ويمكن حل الإشكال بأن انحصار مفهوم عام [١] بفرد ـ كما في المقام ـ لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام ، وإلّا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة ، مع أن الواجب موضوع للمفهوم العام ، مع انحصاره فيه تبارك وتعالى.

______________________________________________________

[١] وقد يناقش في جريان النزاع في أسماء الزمان ، بأنّ زمان الفعل ينقضي وينصرم بنفسه ، فلا يكون له بقاء بعد انقضاء المبدأ ليبحث في انطباق عنوان اسم الزمان عليه بعد انقضاء المبدأ أو عدم انطباقه.

وذكر قدس‌سره أنّه يمكن حلّ الإشكال بأنّ زمان الفعل وإن كان متصرّفا ينقضي بنفسه ولا يمكن أن يكون له بقاء بعد انقضاء المبدأ ، إلّا أنّ هذا لا ينافي النزاع في أسماء الأزمنة باعتبار ما تقدّم سابقا من أنّ النزاع في المقام يقع في ناحية هيئة المشتقّات ويكون البحث في أنّها موضوعة لخصوص المتلبّس ، أو أنّ معناها عامّ شامل له وللمنقضي ، وهذا بعينه قابل لأن يجري في اسم الزمان أيضا بأن يكون البحث في أنّه موضوع لخصوص المتلبس أو للأعمّ ، ولو كان وضعه للأعمّ لكان إطلاقه على المتلبّس من قبيل إطلاق اللفظ الموضوع للكلّي على أحد فرديه ، وامتناع فرده الآخر خارجا لا يوجب اختصاص الوضع بفرده الممكن ، كما أنّه وقع الخلاف في لفظ الجلالة بأنّه علم شخصي لذات الحقّ (جلّ وعلا) أو أنّه اسم للكلّي وإطلاقه عليه سبحانه من إطلاق اللفظ الموضوع للكلّي على فرده الممكن فقط ، ولو كان امتناع فرد آخر من الكلي موجبا لعدم وضع اللفظ إلّا لخصوص فرده الممكن لما تحقّق هذا الخلاف بينهم ، وأيضا لما كان اتفاق على أنّ الموضوع له في لفظ الواجب هو الكلي مع انحصار فرده بواحد.

أقول : ما ذكره قدس‌سره من أنّ امتناع فرد آخر من الكلي لا يوجب وضع اللفظ لفرده

٢٠٠