دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه.

غاية الأمر يكون موجبا لإجمالها ، غير ظاهرة في واحد منها إلّا بقرينة أخرى ، كما أشرنا.

______________________________________________________

ونسب إلى بعض العامّة القول بعدم الفرق بين ورود صيغة الأمر في هذا المقام وبين ورودها في غيره في ظهورها في وجوب الفعل. كما نسب إلى بعض القول بظهورها في ما كان الفعل عليه قبل النهي عنه إذا علق الأمر بزوال موجب النهي ، كما في قوله سبحانه : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(١).

وقد استدلّ كلّ فريق على ما ذهب إليه ببعض استعمالاتها ، ولكن القرينة في تلك الموارد على إرادة الترخيص والاذن أو الوجوب أو الرجوع إلى ما قبل الحظر موجودة ، ومع قطع النظر عن تلك القرائن لم يظهر أنّ وقوعها عقيب الحظر يوجب ظهورها في غير ما كانت ظاهرة فيه قبل الحظر ، بل وقوعها كذلك يوجب إجمالها وعدم الظهور في شيء منها بخصوصه.

لا يقال : قد تقدّم أنّ دلالة الصيغة على وجوب الفعل بالإطلاق وعدم الترخيص في ترك متعلّق الطلب ، وتعلّق الطلب به مع ورود صيغة الأمر محرز ، وإذا لم يبيّن الترخيص في تركه يكون مقتضاه الوجوب ، كما تقدّم.

فإنّه يقال : إنّما يتمسّك بإطلاق الطلب فيما إذا كان تعلّق الطلب بالفعل بداعي البعث نحوه محرزا ، إمّا بالوضع أو بالانصراف ، وفي المقام لم يحرز كون تعلّق الطلب بالفعل بداعي البعث حتّى يحمل على الوجوب ، لاقتران الخطاب بما يصلح قرينة على أنّه بداعي الترخيص فيه ، وبيان عدم الحظر أو ارتفاعه ، كما لا يخفى.

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ٥.

٣٦١

المبحث الثامن : الحق أن صيغة الأمر مطلقا ، لا دلالة لها على المرة ولا التكرار [١] ، فإن المنصرف عنها ، ليس إلّا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها ، فلا دلالة لها على أحدهما ، لا بهيئتها ولا بمادتها ، والاكتفاء بالمرّة ، فإنّما هو لحصول الامتثال بها في الأمر بالطبيعة ، كما لا يخفى.

ثم لا يذهب عليك : أن الاتفاق على أن المصدر المجرّد عن اللام والتنوين ، لا

______________________________________________________

دلالة صيغة الأمر على المرة أو التكرار :

[١] المراد أنّ صيغة الأمر لا دلالة لها بمادّتها ولا بهيئتها على خصوصية المرّة أو التكرار ، حيث إنّ مادّتها لا تكون دالّة إلّا على الطبيعي ، وهيئتها لا تكون دالّة إلّا على البعث نحوه وطلب وجوده.

وبتعبير آخر : يلاحظ الطبيعي تارة في وجوداته الانحلالية ، وأخرى بوجوده الخاصّ ، ككونه متعقبا بوجوده الآخر أو غير متعقّب ، أو مقترنا بوجوده الآخر أو غير مقترن إلى غير ذلك ، وثالثة يلاحظ وجوده في مقابل عدمه ، فلا يلاحظ السريان ولا وجوده الخاصّ. ولا يستفاد من صيغة الأمر إلّا المعنى الأخير ـ أي ما يلاحظ وجوده في مقابل عدمه ـ ، فتكون المرة مسقطة للأمر به لحصوله بها وخروجه من كتم العدم إلى صفحة الوجود ، لا أنّ المطلوب فيها هو المرّة.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدس‌سره جعل النزاع في الهيئة والمادّة وقال : إنّ صيغة (افعل) لا تدلّ على خصوصيّة المرّة ولا التكرار ، لا بهيئتها ولا بمادّتها كما بيّنا.

ولكنّ صاحب الفصول قدس‌سره جعل النزاع في الهيئة فقط ، وأنّه هل يستفاد من الصيغة المرّة أو التكرار ، أو لا يستفاد منها شيء من الخصوصيتين وأنّ مدلولها طلب حصول الطبيعي. فالنزاع في المقام راجع إلى دلالة الهيئة على أحدهما؟ مع التسالم على أنّ الصيغة بمادّتها لا تدلّ على خصوصية المرة أو التكرار ؛ وذلك لاتّفاق أهل

٣٦٢

يدل إلّا على الماهية ـ على ما حكاه السكاكي ـ لا يوجب كون النزاع هاهنا في الهيئة ـ كما في الفصول ـ فإنه غفلة وذهول عن كون المصدر كذلك ، لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدلّ إلّا على الماهية ، ضرورة أن المصدر ليست مادة لسائر المشتقات ، بل هو صيغة مثلها ، كيف؟ وقد عرفت في باب المشتق

______________________________________________________

العربية ـ كما ذكر السكاكي ـ على أنّ المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدلّ إلّا على نفس الطبيعي (١).

وأجاب عنه الماتن قدس‌سره وقال : هذا الكلام غفلة عن أنّ كون المصدر المجرد عنهما كذلك لا يوجب الاتفاق على أنّ الصيغة بمادتها لا تدلّ على خصوصية المرة أو التكرار ؛ لأنّ المصدر المجرد لا يكون مادة لسائر المشتقات ومنها صيغة الأمر ، بل المصدر صيغة كسائر صيغ المشتقات له هيئة ومادّة ، وقد تقدّم في باب المشتق مباينة المصدر مع سائر المشتقات في المعنى ، فكيف يكون المصدر بمعناه المصدري مادة لها؟ وعليه فيمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادة صيغة الأمر ولا اتّفاق على عدمه.

لا يقال : إذا لم يكن المصدر مادّة لسائر المشتقات ، فما معنى ما اشتهر في الألسن من كون المصدر أصلا في الكلام ، والمراد بالكلام المشتق ، فإنّ إطلاق الكلام على المشتق اصطلاح الصرفيين.

فإنه يقال : المراد بكون المصدر أصلا في المشتقات مع أنّه محلّ خلاف بين علماء الأدب ، هو أنّ المصدر سابق على سائر المشتقات في الوضع ، وأنّ سائر المشتقات وضعت بتبع وضع المصدر.

__________________

(١) الفصول الغروية : ٥٨.

٣٦٣

مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ، فكيف بمعناه يكون مادة لها؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها ، كما لا يخفى.

إن قلت : فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام.

قلت : مع أنّه محلّ الخلاف ، معناه أن الذي وضع أولا بالوضع الشخصي ، ثم بملاحظته وضع نوعيّا أو شخصيّا سائر الصيغ التي تناسبه ، ممّا جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه ، بصورة ومعنى كذلك ، هو المصدر أو الفعل ، فافهم.

ثمّ المراد بالمرة والتكرار ، هل هو الدفعة والدفعات؟ أو الفرد والأفراد؟

______________________________________________________

وبيان ذلك : أنّ من يلاحظ ألفاظا مختلفة الهيئة متحدة المادة ك (ضرب وضرب ويضرب وضارب ومضروب واضرب) يرى أنّها تشترك في أمرين ؛ أحدهما : ملفوظ يتلفظ به ويعبّر عنه ب (ض ر ب). وثانيها : معنى ذلك الملفوظ وكأنّ هيئات تلك الألفاظ صور للأمر الأوّل ، ومعاني الهيئات صور للأمر الثاني ، فيكون (ض ر ب) مادة لفظية لتلك الهيئات ، ومعناه مادة لمعاني تلك الهيئات ، وحيث أنّ المادة اللفظية غير قابلة للحاظ إلّا في ضمن هيئة ، فالهيئة التي لاحظ الواضع المادة في ضمنها أوّلا كانت هي هيئة المصدر أو الفعل ، وبعد وضع المصدر أو الفعل وضع سائر المشتقات التي تشترك مع المصدر في الأمرين المتقدّمين بأن وضع موادها شخصا ، وهيئتها نوعا ، فالوضع في ناحية المصدر شخصي في هيئته ومادته ، وفي غيره نوعي بالإضافة إلى الهيئات ، وشخصي بالإضافة إلى موادّها.

وقد ذكر بعض الأعاظم قدس‌سره أنّ مناقشة صاحب الكفاية ضعيفة ؛ وذلك لأنّ المصدر وإن لم يكن مبدأ لسائر المشتقات ، إلّا أنّ عدم التفاوت بين مبدأ المصدر ومبدأ سائر المشتقات في المعنى قطعي ، وعليه فالعلم بخروج المرة أو التكرار عن معنى المصدر مساو للعلم بخروجهما عن مدلول مادة سائر المشتقات ، فينحصر

٣٦٤

والتحقيق : أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع ، وإن كان لفظهما ظاهرا في المعنى الأوّل ، وتوهم أنّه لو أريد بالمرة الفرد ، لكان الأنسب [١] ، بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي ، من أن الأمر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد؟ فيقال عند ذلك وعلى تقدير تعلقه بالفرد ، هل يقتضي التعلّق بالفرد الواحد أو المتعدد؟ أو لا يقتضي شيئا منهما؟ ولم يحتج إلى افراد كل منهما بالبحث كما

______________________________________________________

الخلاف في صيغة (افعل) من ناحية هيئتها فقط ، كما ذكر في الفصول.

أقول : العلم بخروج المرة والتكرار عن مدلول المصدر لا يكون موجبا للعلم بخروجهما عن مادة سائر المشتقات ، فإنّه من المحتمل أن يكون مادة جميع المشتقات حتّى المصدر موضوعة للطبيعي المقيد بأحدهما ، وتكون هيئة المصدر موضوعة لإلغاء الخصوصية من المادة وإشراب المعنى الحدثي لها مع كون الوضع في ناحية هيئة المصدر أيضا شخصيا ؛ ولذا يكون سماعيا بحسب المواد ، وإذا أمكن ذلك يكون تخصيص الخلاف في صيغة الأمر بمدلول الهيئة دون المادة بلا وجه.

[١] ذكر في الفصول أنّ المراد بالمرّة الدفعة ، وبالتكرار الدفعات ، لا الفرد والأفراد ، فإنّه لو كان المراد منها الفرد أو الأفراد لكان الأنسب ، بل المتعيّن جعل هذا البحث تتمة للبحث الآتي وهو تعلّق الأمر بالطبائع أو الأفراد ، فيقال : على القول بتعلّقه بالفرد ، هل المتعلّق فرد واحد أو المتعدّد أو لا دلالة في الأمر بشيء على أحدهما ، وأمّا على القول بتعلّق الأمر بالطبيعي فلا معنى لهذا البحث ، فإنّ مقتضى تعلّقه بالطبيعي عدم تعلّقه بالفرد أصلا فضلا عن أن يكون واحدا أو متعدّدا ، وهذا بخلاف ما إذا كان المراد منهما الدفعة والدفعات ، فإنّه بناء عليه يصحّ جعل الدلالة على المرة والتكرار أو عدم دلالتها عليهما بحثا مستقلّا.

وبما أنّ الأصحاب أفردوا هذا البحث عن البحث الآتي وجعلوا خلاف المرة

٣٦٥

فعلوه ، وأمّا لو أريد بها الدفعة ، فلا علقة بين المسألتين ، كما لا يخفى ، فاسد ، لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا ، فإن الطلب على القول بالطبيعة إنّما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج ، ضرورة أن الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي ، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين ، فيصحّ النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها.

أما بالمعنى الأول فواضع ، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أنّ المراد من الفرد أو الأفراد وجود واحد أو وجودات ، وإنما عبر بالفرد لأن وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد ، غاية الأمر خصوصيته وتشخصه على القول بتعلق الأمر بالطبائع يلازم المطلوب وخارج عنه ، بخلاف القول بتعلقه بالأفراد ، فإنّه ممّا يقوّمه.

______________________________________________________

والتكرار بحثا مستقلا يكون ذلك قرينة على أنّ المراد بالمرة والتكرار الدفعة والدفعات.

والوجه في عدم العلقة بين المسألتين بناء على أنّ المراد بالمرة الدفعة ، وبالتكرار الدفعات ، جريان النزاع على القول بتعلق الأمر بالطبيعي ، وكذا على القول بتعلّقه بالفرد ، فإنّ جريانه على الأوّل معناه الإتيان بالطبيعي مرة أو مرات ، وعلى الثاني معناه الإتيان بالفرد أو الإتيان بالأفراد.

وقد ذكر الماتن قدس‌سره أنّه لا علقة بين مسألة الدلالة على المرة والتكرار ومسألة تعلّق الأمر بالطبيعة أو الفرد ؛ وذلك لأن تعلّق الأمر بالطبيعة معناه طلب وجودها ، وإلّا فالطبيعة ـ مع قطع النظر عن وجودها ـ لا يتعلّق بها الحب والبغض ولا الإرادة والكراهة ولا البعث والزجر ، فالقائل بتعلقه بالطبيعة ملتزم بأنّ مفاد الأمر بها طلب وجودها ، ولكنه ملغى عنها جميع خصوصيات أفرادها وأنّ تلك الخصوصيات غير داخلة في المطلوب ، بحيث لو أمكن حصولها في الخارج عارية عن جميع تلك

٣٦٦

تنبيه : لا إشكال بناء على القول بالمرة في الامتثال [١] ، وأنّه لا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا ، على أن يكون أيضا به الامتثال ، فإنّه من الامتثال بعد الامتثال. وأمّا على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار ، فلا يخلو الحال : إمّا أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان ، بل في

______________________________________________________

الخصوصيات لحصل متعلّق الطلب وسقط الأمر بالطبيعة لحصول الغرض.

ولكنّ القائل بتعلّق الأمر بالأفراد يلتزم بأنّ تلك الخصوصيات أيضا داخلة في المطلوب ، بحيث لو أمكن حصول الطبيعة بدونها لما حصل المطلوب ولم يحصل متعلّق الأمر ، وعلى ذلك ـ سواء قيل بتعلق الأمر بالطبيعي أو بالفرد ـ يجري الخلاف في الدلالة على المرة والتكرار ، فإنّه على القول بتعلق الأمر بالطبيعي يكون الخلاف في أنّ المطلوب وجود واحد للطبيعي أو وجودات متعدّدة ، وعلى القول بتعلقه بالفرد يكون الخلاف في أنّ المطلوب خصوصيات فرد واحد أو أفراد متعدّدة.

وبتعبير آخر : المراد بالفرد الواحد في المقام هو الوجود الواحد ، كما أنّ المراد بالفرد في ذلك البحث دخول الخصوصيات لوجود الطبيعي في متعلّق الطلب ، فلا علقة بين المسألتين.

[١] ظاهر كلامه قدس‌سره أنّه إن قيل بدلالة الصيغة على المرّة فالامتثال يحصل بحصول متعلّق الطلب خارجا مرة ، ولا يبقى مجال للإتيان به ثانيا على أن يكون الثاني أيضا امتثالا للطلب ، فإنّه من الامتثال بعد الامتثال.

وأمّا لو قيل بعدم دلالتها على خصوصية المرة ولا على خصوصية التكرار ، بل كان مفادها طلب الطبيعي وإيجاد ذلك الطبيعي فإن لم يكن الآمر بصيغة الأمر في مقام البيان من هذه الجهة بل كان في مقام بيان أصل الطلب المتعلّق بالمادة المعبّر

٣٦٧

مقام الإهمال أو الإجمال ، فالمرجع هو الأصل. وإما أن يكون إطلاقها في ذلك المقام ، فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال ، وإنما الإشكال في جواز أن لا يقتصر عليها ، فإنّ لازم إطلاق الطبيعة المأمور بها ، هو الإتيان بها مرة أو مرارا لا لزوم الاقتصار على المرّة ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

عن ذلك بمقام الإهمال أو كان غرضه إخفاء خصوصية متعلّق الطلب وأنّه الطبيعي مرة أو مرات أو بدونهما ، فالمرجع الأصول العملية ، وإن كان في مقام البيان كما هو الأصل في كلّ خطاب صادر عن المتكلم ، فمقتضى إطلاق الطبيعة المأمور بها هو الإتيان بها مرة أو مرات لا لزوم الاقتصار على المرة ، كما لا يخفى.

ثمّ قال قدس‌سره : ولكنّ التحقيق أنّ مقتضى الإطلاق جواز الإتيان بالطبيعة مرة في ضمن فرد أو أفراد كما إذا قال (إذا حنثت اليمين فأعتق رقبة) فيجوز له عتق عبد أو عبيد دفعة امتثالا للأمر بعتق العبد ، وأمّا إيجاد فرد بعد إيجاد الآخر امتثالا للأمر بالعتق ثانيا فهذا غير جائز ؛ لسقوط الأمر بالعتق بالإتيان بالفرد الأوّل لا محالة ، فلا يبقى مجال للإتيان به ثانيا بعنوان الامتثال فيما إذا كان امتثال الأمر بالفرد الأوّل علّة تامّة لحصول الغرض كما في المثال ، ولا يبقى أيضا مجال للإتيان به ثانيا ليكون الإتيانان امتثالا واحدا.

نعم إذا لم يكن الإتيان الأوّل علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى وإن كان موجبا للغرض المترتّب على الإتيان بالفعل ، كما إذا أمر المولى بالإتيان بالماء ليشربه أو يتوضّأ به ، فأتى به ، فإنّه ما دام لم يشربه أو لم يتوضّأ فلا يبعد صحّة تبديل الامتثال بالإتيان بفرد آخر أحسن منه ، بل وإن لم يكن أحسن منه كما كان له أن يأتي بذلك الماء قبل الإتيان بالماء المأتي به على ما يأتى بيانه في بحث الإجزاء.

أقول : لو كان مراد القائل بدلالة صيغة الأمر على المرة أنّ المرة قيد لمتعلّق

٣٦٨

والتحقيق : إن قضية الإطلاق إنّما هو جواز الإتيان بها مرة في ضمن فرد أو أفراد ، فيكون إيجادها في ضمنها نحوا من الامتثال ، كإيجادها في ضمن الواحد ، لا جواز الإتيان بها مرة ومرات ، فإنّه مع الاتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الأمر ، فيما إذا كان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض الأقصى ، بحيث يحصل بمجرده ، فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر ، أو بداعي أن

______________________________________________________

الطلب وأنّ مفاد الهيئة تعلّق الطلب بالمادة ومفاد مادّتها الطبيعي المقيّد بالمرة ، ففي الفرض لا يجوز الإتيان بالطبيعي مرة أخرى ، فإنّ الإتيان مرة أخرى يوجب عدم حصول متعلّق الطلب أصلا ، كما هو الحال في الركوع الواجب في كلّ ركعة من ركعات الفريضة.

وأمّا إذا كان مراده دلالة هيئة الصيغة على أنّ الطلب المتعلّق بطبيعي الفعل واحد وأنّه لا تعدّد في ناحية الطلب المتعلّق بالطبيعي لا لزوما ولا استحبابا ، ففي مثل ذلك وإن لم يجز الإتيان بالفرد الآخر من الطبيعي امتثالا لطلب آخر إذ لا تعدّد فيه حسب الفرض ، إلّا أنّه إذا أتى بالفرد الآخر بلا قصد الامتثال أو حتّى معه فلا يضرّ بالامتثال الأوّل ، كما هو الحال في غسل الوجه أو اليد اليمنى في الوضوء ثلاث مرات ، فإنّ المكلف في الفرض وإن شرع بقصد الامتثال بالفرد الآخر مع علمه بالحال إلّا أنّه لا يضر بامتثاله بالفرد الأوّل ، ويترتّب على ذلك أنّه لو أعاد الجنب غسله بعد اغتساله من الجنابة أوّلا فلا تضرّ الإعادة بصحّة اغتساله الأوّل.

وكذلك الحال فيما لو قلنا بعدم دلالة الصيغة على المرة ولا التكرار لا بمادتها ولا بهيئتها ، بل مفادها طلب صرف وجود الطبيعي ، فإنّه بعد حصول صرف وجوده بالفرد الأوّل لا يبقى مجال للامتثال بالفرد الآخر ، ولكن إذا أتى بالفرد الآخر بلا قصد الامتثال أو معه ، فلا يضرّ بالامتثال بالفرد الأوّل.

٣٦٩

يكون الإتيانان امتثالا واحدا ، لما عرفت من حصول الموافقة بإتيانها ، وسقوط الغرض معها ، وسقوط الأمر بسقوطه ، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا ، وأمّا إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض ، كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتي

______________________________________________________

وما ذكره قدس‌سره في أوّل الأمر من أنّ مقتضى الإطلاق جواز عدم الاقتصار على المرة ، لا يخفى ما فيه ، فإنّ الإتيان بذات الفعل ثانيا وثالثا جائز ، ولكن لا يجوز بقصد الامتثال ؛ لسقوط الأمر بالطبيعي بالإتيان بالفرد الأوّل ، فإنّ مقتضى إطلاق المادة عدم أخذ الخصوصية في المتعلّق ، كما تقدّم ، ومقتضى إطلاق الهيئة تعلّق الطلب بما لم يلاحظ فيه الخصوصية لا تعلّقه بالخصوصيات أيضا.

وما ذكره ثانيا من أنّه مع عدم حصول الغرض الأقصى فلا بأس بالامتثال ثانيا أيضا غير صحيح ؛ لأنّ بقاء الغرض الأقصى مع حصول الغرض من متعلّق التكليف وهو تمكن الآمر من تناول الماء في المثال لا يوجب بقاء التكليف بذلك المتعلّق ليمكن الامتثال الآخر بعد الامتثال الأوّل.

ودعوى أنّه لو أريق الماء الأوّل لزم على العبد الإتيان به ثانيا ، وهذا دليل على بقاء التكليف ما دام لم يحصل الغرض لا يمكن المساعدة عليها ، فإنّ العلم بالغرض في نفسه ملزم للعبد بالفعل ومع إراقة الماء يعلم بعدم حصول الغرض الذي هو تمكّنه من تناول الماء وهو ملزم له بالفعل ثانيا ، ولذا لو علم العبد بهذا الغرض وغفل المولى عن حضور عبده عنده ليأمره بالإتيان بالماء كان عليه الإتيان به وجاز للمولى أن يؤاخذه على تركه.

نعم ، بقي في المقام أمر وهو أنّه قد يكون لمتعلّق الطلب مصاديق يختلف بعضها مع بعض في الملاك ، فيكون ملاك الطلب في بعضها أقوى وأكثر بالإضافة إلى بعضها الآخر ، كما في الأمر بالتصدّق على الفقير ، فإنّه يمكن التصدّق على فقير

٣٧٠

به ، ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا ، فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه ، بل مطلقا ، كما كان له ذلك قبله ، على ما يأتي بيانه في الإجزاء.

______________________________________________________

بالمال اليسير ويمكن التصدّق عليه بالمال الكثير كما يمكن التصدّق على فقير بعد التصدّق على فقير آخر ، ففي مثل هذه الموارد لا بأس بعد التصدّق بالمال اليسير التصدّق بمال آخر عليه ، أو على فقير آخر امتثالا للأمر المتوجّه إليه.

ولكن لا يخفى أنّ مثل ذلك لا يعدّ امتثالا بعد الامتثال ، بل من موارد تعدّد المطلوب بمعنى أنّ الطلب بمرتبته الوجوبيّة وإن سقط بالتصدّق الأوّل ؛ ولذا لا يجوز له التصدق على الفقير الثاني بقصد الوجوب ، ولكنه قد بقي بمرتبته الاستحبابية ، واستفادة تعدّد الطلب بهذا المعنى من الأدلة في بعض الموارد ومن مناسبة الحكم والموضوع في بعضها الأخر غير بعيد.

ثمّ إنّ هذا كلّه فيما إذا ثبت للآمر إطلاق ، سواء كان بالصيغة أو بغيرها ، وأمّا إذا لم يكن في البين إطلاق ، كما إذا لم يصل خطاب الأمر إلينا أو وصل ولكن لم تتمّ فيه مقدّمات الحكمة وفرض وصول النوبة إلى الأصل العملي ، فمقتضى البراءة عدم كون الإتيان بالطبيعي ثانيا مانعا ، سواء أتى به بلا قصد التقرّب والامتثال ، أو لاحتمال مطلوبيته ولو ندبا ، وبناء على ما ذكره المصنف قدس‌سره يكون مقتضى استصحاب بقاء التكليف جواز تبديل الامتثال.

٣٧١

المبحث التاسع : الحق أنّه لا دلالة للصيغة ، لا على الفور ولا على التراخي [١] ، نعم قضية إطلاقها جواز التراخي ، والدليل عليه تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها ، بلا دلالة على تقييدها بأحدهما ، فلا بدّ في التقييد من دلالة أخرى ، كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية.

______________________________________________________

دلالة صيغه الأمر على الفور أو التراخي :

[١] قد يكون الواجب مضيّقا بأن جعل الشارع للإتيان به وقتا يساوي الفعل ، كالصيام في أيّام شهر رمضان أو غيرها ، وقد يكون موسّعا كالصلوات اليومية ، حيث إنّ الزمان المعيّن لكلّ منها أوسع مما تقتضيه كلّ صلاة.

ولا كلام في أنّه يتعيّن في المضيّق الإتيان به في زمانه ، كما لا ينبغي التأمّل في أنّه يجوز في الموسّع التأخير إلى ما قبل انتهاء الوقت ممّن يدركه ويتمكّن منه قبل انتهائه ؛ لأنّ تحديد الوقت الوسيع للفعل ظاهره الترخيص في التأخير المزبور.

وإنّما الكلام فيما إذا تعلّق الطلب بفعل بصيغة الأمر أو نحوها من غير تحديد الفعل أو الطلب بالزمان فهل يكون مدلول الصيغة ونحوها طلب الإتيان به فورا أو طلب الإتيان به متراخيا أو لا دلالة لها على شيء منهما بل مدلولها طلب ايجاد الطبيعي فيكون مقتضى إطلاقها جواز تأخير الإتيان وعدم لزوم الإتيان فورا ، أو لزوم الإتيان متراخيا ، فلا ينافي دلالتها بالاطلاق على جواز كل من الفور والتراخي.

ولو التزم في مورد بتعين الإتيان بالفعل فورا فاللازم قيام دليل وقرينة على تلك الفورية سواء كانت الفورية بنحو وحدة المطلوب أو بنحو الإتيان به فورا ففورا وسواء كانت الفورية عقلية أو بنحو الفورية العرفية.

وقد يقال بقيام القرينة العامّة بالإضافة إلى جميع موارد طلب الفعل وإيجابه ،

٣٧٢

وفيه منع ، ضرورة أنّ سياق آية (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وكذا آية (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) إنّما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير ، من دون استتباع تركهما للغضب والشر ، ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا

______________________________________________________

وتلك القرينة مستفادة من قوله تعالى : (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)(١) و (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)(٢) ؛ لأنّ مفادهما وجوب المبادرة إلى الخير وموجب المغفرة ، وأمّا أنّ أيّ شيء خير أو موجب للمغفرة فلا تعرّض فيهما لذلك ، والمستفاد من إطلاق الصيغة ونحوها كما تقدّم أنّ طبيعي الفعل ـ في أي زمان حصل ـ خير وموجب للمغفرة ، وإذا انضمّ ذلك إلى الكبرى المستفادة من الآيتين تكون النتيجة وجوب الإتيان فورا ففورا ، فإنّه على تقدير الترك في الآن الأوّل يكون الإتيان به في الآن الثاني مسارعة واستباقا بالإضافة إلى الأزمنة اللاحقة وهكذا.

وأجاب الماتن قدس‌سره عن دعوى هذه القرينة العامّة بجوابين :

الجواب الأوّل : أنّ طلب المسارعة إلى الخير وموجب المغفرة استحبابي ، ولا أقلّ المستفاد منها مطلق مطلوبيّتهما لا الطلب الوجوبي ، وذلك لأنّ ظاهر الأمر بالمسارعة إلى الخير والمبادرة إلى موجب المغفرة أنّه ليس فيهما (يعني في المسارعة والاستباق) ملاك ملزم آخر يفوت بالإتيان بالخير وموجب المغفرة مع التأخير ، ليكون ترك المسارعة والاستباق موجبا للغضب والسخط من جهة تفويت الملاك الملزم بالتأخير في إتيان موجب المغفرة وبالإتيان بالخير فيما بعد ، ولو كان تركهما كذلك لكان الأمر بهما بنحو التحذير أنسب ؛ لئلّا يكون لهما ظهور في عدم

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ١٣٣.

(٢) سورة البقرة : الآية ١٤٨.

٣٧٣

للغضب والشر ، كان البعث بالتحذير عنهما أنسب ، كما لا يخفى ، فافهم.

مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات ، وكثير من الواجبات بل أكثرها ، فلا بدّ من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب ، ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق ، وكان ما ورد من الآيات

______________________________________________________

الملاك الملزم الآخر ، وما ذكر يعيّن ظهورهما في الاستحباب ، ومع الإغماض عن ذلك فالالتزام بوجوب المسارعة والاستباق يوجب التخصيص المستهجن في الآيتين بإخراج المستحبات طرّا والواجبات الموسعة ونحوهما ممّا يجوز فيها التأخير ، وعليه فلو لم تكونا ظاهرتين في الاستحباب فلا أقلّ من إرادة مطلق المطلوبية منهما.

والجواب الثاني : ما أشار إليه بقوله «ولا يبعد دعوى استقلال العقل ... إلخ» وحاصله أنّه لا يبعد أن يقال باستقلال العقل بحسن الاستباق إلى الخير والمسارعة إلى موجب المغفرة ، وليس المراد من حسنهما حسن الفعل ، بأن يكون في المسارعة والاستباق ملاك مولوي آخر ـ ملزم أو غير ملزم ـ غير ما في الإتيان بما هو خير وموجب للمغفرة ، نظير حكمه بحسن العدل وقبح الظلم ؛ ليتعيّن الأمر الشرعي والنهي الشرعي بقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع ، بل المراد الحسن الامتثالي يعني استقلال العقل بأنّ مع المسارعة يكون المكلف على إحراز من دركه الخير والوصول إلى المغفرة وهذا أرقى مراتب إحراز الامتثال ، وحيث إنّ الآيتين أيضا ظاهرتان في أنّه ليس في المسارعة والاستباق غير إحراز ملاك نفس الخير وموجب المغفرة فيكون الأمر بهما في الآيتين إرشادا إلى ما استقلّ به العقل ، كما هو الحال في أمر الشارع بأصل الطاعة وترك المعصية.

فتحصل ممّا ذكرنا أنّ مقتضى الجواب الثاني عدم كون الأمر بالمسارعة

٣٧٤

والروايات في مقام البعث نحوه إرشادا إلى ذلك ، كالآيات والروايات الواردة في الحثّ على أصل الإطاعة ، فيكون الأمر فيها لما يترتّب على المادة بنفسها ، ولو لم يكن هناك أمر بها ، كما هو الشأن في الأوامر الإرشادية ، فافهم.

______________________________________________________

والاستباق مولويا لا بنحو الايجاب ولا بنحو الاستحباب ، بل هو إرشاد ، ومقتضى الجواب الأوّل هو كون الأمر بالمسارعة والاستباق مولويا ، ولكن لا بنحو الإيجاب ، بل بنحو الاستحباب أو مطلق الطلب ومن دون دلالته على خصوصية الوجوب.

ولكن لا يخفى أنّ ما ذكره قدس‌سره في الجواب الأوّل غير تامّ ، حيث ذكر أنّ حمل الأمر بالمسارعة والاستباق على الوجوب يوجب التخصيص المستهجن في الآيتين ، والوجه في عدم التمامية هو ما ذكرناه من أنّ الوجوب مقتضى إطلاق الطلب المستفاد من الصيغة ، والمراد من إطلاق الطلب كونه متّصفا بعدم ورود الترخيص في الترك ، وعليه فإذا تعلّق الطلب بأفعال ثمّ ورد الترخيص في ترك بعضها أو أكثرها يرفع اليد عن إطلاقه بالإضافة إلى ما ورد الترخيص في تركه فحسب ، سواء كان تعلّق الطلب بالأفعال بعناوينها ، أو بها بعنوان انحلالي ، فقيام القرينة في المستحبّات على الترخيص في ترك أصلها فضلا عن المسارعة إليها وكذا في الواجبات الموسّعة بالإضافة إلى المسارعة إليها في أوّل وقتها لا يوجب رفع اليد عن إطلاق الطلب المتعلّق بالمسارعة إلى غيرهما من الخيرات وموجبات المغفرة.

وقد يقال : بأنّ ظاهر الأمر بالاستباق في الخير والمسارعة إلى المغفرة هو أمر المكلّفين بالمسابقة في الخيرات والمغفرة ، ولا تكون المسابقة إلّا فيما إذا لم يصل الشخص إلى المقصود قبل الآخرين لفات عنه ، كما في قوله سبحانه : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) فالاستباق والمسارعة هي المسابقة وإرادة الوصول إلى الشيء قبل الآخرين لئلّا يفوت عنه الشيء ، وهذا يناسب الواجب الكفائي ممّا يكون المطلوب من

٣٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

جميع المكلّفين عمل واحد بحيث لو قام به أحدهم لسقط عن الآخرين ، ولا يجري فيما إذا وجب على كلّ مكلّف فعله المختصّ به ، من دون أن يرتبط بعمل الآخرين كما في الواجبات العينية المهمّة في المقام.

وعلى ما ذكر من اختصاص الأمر بالاستباق والمسارعة بالواجبات الكفائية يكون الأمر بهما للإرشاد إلى عدم فوت العمل من غير السابق إليه.

أضف إلى ذلك أنّه لا دلالة لآية المسارعة إلى المغفرة على وجوب الإتيان بكلّ ما يؤمر به فورا ، حيث لا عموم فيها.

ودعوى توصيف المغفرة ب «من ربّكم» يقتضي العموم ، لا دليل عليها ، ويؤيّد عدم العموم وقوع الخلاف بين المفسّرين في المراد من المغفرة التي أمر بالمسارعة إليها حيث قيل المراد كلمة الشهادة ، أو أداء الفرائض ، أو تكبيرة الإحرام في صلاة الجماعة ، أو الصفّ الأوّل ، أو التوبة ، أو غير ذلك.

أقول : لم يؤخذ في معنى الاستباق فوت ما يتسابق فيه إذا لم يسبق إليه ، بل يكون الفائت ملاك السبق إليه كما إذا شرع كلّ عامل بعمله الخاصّ واستبقوا في أعمالهم ، يعني في فراغ كلّ منهم عن عمله ، لم يفت ما يتسابق فيه بسبق أحدهم في العمل. نعم إذا لم يكن العمل قابلا للتكرار بل كان أمرا واحدا يفوت عن غير السابق ، كما في قوله تعالى : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ)(١) يكون الأمر كما ذكر ، بخلاف مثل قوله سبحانه : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ)(٢) فإنّ العمل لا يفوت عن

__________________

(١) سورة يوسف : الآية ٢٥.

(٢) سورة يس : الآية ٦٦.

٣٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الآخرين باستباق واحد منهم ، وعلى ما ذكر فلا يوجب اختصاص الأمر باستباق الخيرات بالواجبات الكفائية ، حيث إنّ فوت ملاك السبق لا يلازم فوت ما يتسابق فيه ، وأمّا آية المسارعة ، فليس فيها دلالة على المسابقة المعروفة ، وما اشتهر من أنّ باب المفاعلة يكون بين الاثنين أمر لا أساس له ، وسارعوا إلى مصارعهم أو مضاجعهم ، يعني أراد كلّ الوصول إلى مصرعه أو مضجعه بسرعة.

وإذا كان المراد من المغفرة في الآية موجب الغفران والتزم بأنّ الواجبات من موجباتها كما يستظهر من قوله سبحانه (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)(١) فلا وجه لاختصاص الأمر بالمسارعة إليها ، بواجب دون واجب لحصول الملاك في كلّ منها.

نعم لو قيل إن المراد منها التوبة عن الفواحش كما لا يبعد ، بقرينة ما ذكر بعد ذلك ، فلا ترتبط الآية بالإتيان بالمأمور به فورا.

ثمّ إنّه ـ مع الإغماض عمّا تقدّم في تقرير كلام الماتن في جوابه الثاني من أنّ ظاهر الآيتين كون الأمر بالاستباق في الخيرات والمسارعة إلى المغفرة هو الإرشاد والأمن من عدم حصول الامتثال والغفران ـ يمكن أن يقال إنّ الأمر بالاستباق والمسارعة فيهما لا يناسب الإلزام ، وإلّا لخرج العمل مع التأخير عن كونه خيرا وموجبا للمغفرة ، حيث يكون التأخير موجبا للوزر. وإن شئت قلت يكون التأخير وترك السبق عنوانا مزاحما لكون العمل خيرا وموجبا للغفران ، وظاهر الآيتين كون ما في الاستباق والمسارعة من الملاك أمرا انضماميا الى ملاك الخير وموجب الغفران من دون أن يكون في تركهما مزاحمة للخير وموجب الغفران.

__________________

(١) سورة هود : الآية ١١٤.

٣٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذا نظير ما قلناه في مسألة وجوب التوبة من عدم كون وجوبها شرعيا ، وإنّما يكون عقليا دفعا للضرر الحاصل من العمل السابق. نعم لا بأس بالالتزام بكونها مطلوبا نفسيا بما فيها من التضرّع والخشوع والاستغفار.

والوجه في عدم كون وجوبها شرعيا أنّ التوبة قد فتح بابها ربّ العالمين رحمة لعباده ، ومقتضاها أن لا يزيد فتح بابها وزرا على العبد فيما إذا توانى فيها ، وقد ذكرنا أنّ ذلك يستفاد من بعض الروايات المعتبرة (١) ، ومدلولها أنّه إذا صدرت معصية من عبد مؤمن أجّله الله ساعات ، فإنّ تاب لا يكتب عليه وزر وذنب ، وإذا لم يتب يكتب عليه ذلك الذنب لا ذنبان ، فراجع.

بقي في المقام أمر ، وهو أنّه قد يدّعى أنّ الصيغة وما بمعناها وإن لم تكن لها دلالة بنفسها على لزوم الإتيان والعمل فورا وفي أوّل أزمنة الإمكان لما تقدّم من أنّ مدلول الهيئة طلب الإيجاد ، ومدلول المادة نفس طبيعي الفعل ، إلّا أنّ في البين قرينة عامّة على أنّ طلب الطبيعي يراد به طلب إيجاده في أوّل أزمنة الإمكان عرفا ما لم يكن في البين قرينة خاصّة على خلافها ، والقرينة العامّة هي توجيه الخطاب إلى الشخص ، حيث إنّ التوجيه قرينة على أنّ الغرض في الطبيعي حين توجيه الخطاب ، لا في الطبيعي ولو وجد بعد سنوات ، سواء كان الغرض ممّا يعود إلى الآمر أو إلى المأمور.

ولكن لا يخفى أنّ هذه الدعوى لو سلّمت في الخطاب الخاصّ المتوجّه إلى شخص أو أشخاص متضمّن لتكليفهم بفعل ، فهي لا تجري في الخطابات العامّة المتضمّنة

__________________

(١) الوسائل : ج ١١ ، الباب ٨٥ من أبواب جهاد النفس.

٣٧٨

تتمة : بناء على القول بالفور ، فهل قضية الأمر الإتيان فورا ففورا [١] بحيث لو عصى لوجب عليه الإتيان به فورا أيضا ، في الزمان الثاني ، أو لا؟ وجهان : مبنيان على أن مفاد الصيغة على هذا القول ، هو وحدة المطلوب أو تعدده ، ولا يخفى أنّه لو قيل بدلالتها على الفورية ، لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده ، فتدبّر جيدا.

______________________________________________________

للتكاليف الانحلالية بنحو القضية الحقيقية كما هو المهم في المقام.

نعم لا يبعد دعوى عدم جواز التواني في امتثال التكاليف الانحلاليّة بحيث يعدّ التأخير من عدم الاعتناء بالتكليف ، وهذا أمر آخر غير مسألة الإتيان بمتعلّق التكليف فورا.

[١] إنّ القائل بالفور إن استظهر لزومه من آيتي المسارعة والاستباق فقد تقدّم أنّ مقتضاهما الإتيان فورا ففورا ، وإن استفاد الفور من دلالة نفس صيغة الأمر كما هو ظاهر الماتن قدس‌سره ، فابتناء القول بالإتيان فورا ففورا أو الإتيان في الزمان الأوّل خاصة ، على كون مدلول الصيغة وحدة المطلوب أو تعدّده ، غير صحيح ، فإنّه بناء على تعدّد المطلوب يكون مدلولها مطلوبية ذات الطبيعي ومطلوبية الإتيان به أوّل الأزمنة بعد الأمر ، وإذا ترك المكلف العمل في أوّل أزمنة الإمكان يبقى الطلب المتعلّق بذات الطبيعي ، ومقتضى بقائه جواز التأخير لا الإتيان به فورا ففورا.

نظير ما يقال في تبعية القضاء للأداء من أنّ المستفاد من الأمر بالصلاة في الوقت مثلا أمران ؛ أحدهما : مطلوبية نفس الصلاة ، وثانيها : مطلوبيّتها في وقتها ، وإذا خالف المكلف التكليف الثاني يبقى الأوّل ، وهو التكليف بالإتيان بالطبيعي ولو خارج الوقت ومقتضاه التوسعة. هذا وقد تقدّم في بحث المرة والتكرار أنّ المستفاد من الهيئة وجوب واحد ، وإذا تعلّق بالعمل أوّل أزمنة الإمكان أو بالصلاة في وقت ،

٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

يسقط ذلك الوجوب بعد انقضاء أوّل أزمنة الإمكان كانقضاء الطلب بانقضاء وقت الصلاة. وحدوث ملاك ملزم في نفس الطبيعي بعد انقضاء أوّل أزمنة الإمكان أو بعد الوقت أو وجوده من الأوّل يحتاج إلى دليل وخطاب آخر متضمّن للتكليف بنفس الطبيعي ؛ ولذا التزم المشهور بأنّ وجوب القضاء بأمر جديد لا بالتكليف بالفعل في الوقت ، وإذا لم يتمّ دليل على التكليف بالطبيعي ووصلت النوبة إلى الأصل العملي فالمرجع هو استصحاب عدم جعل تكليف آخر ، ولا مجال لاستصحاب وجوب الفعل ، حيث إنّ الحادث المتيقّن سابقا ـ وهو الوجوب المتعلّق بالفعل المقيّد ـ قد علم بارتفاعه بانقضاء أوّل أزمنة الإمكان ، أو انقضاء الوقت ، والوجوب المتعلّق بنفس الطبيعي غير محرز من الأوّل ، فيكون الاستصحاب في طبيعي الوجوب من الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي ، فتدبّر.

لا يقال : إذا فرض دلالة الصيغة على الفور يكون مدلولها طلب الفعل في أوّل أزمنة الإمكان ، ومقتضى تقييد المتعلّق به عدم تعلّق طلب بذات الفعل ، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

فإنّه يقال : يكون مدلول الصيغة تعلّق الطلب المنشأ بالفعل المقيّد حتّى ثبوتا لا عدم إنشاء طلب آخر لذات الفعل ، فإنّ التقييد لا مفهوم له ، فاللازم عند الشك في إنشاء طلب آخر بذات العمل الرجوع إلى الأصل العملي ومقتضاه ما تقدّم ، ولا يبعد أن يكون ما ذكرنا هو مراد الماتن قدس‌سره من قوله «لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدّده» (١).

__________________

(١) الكفاية : ص ٨٠.

٣٨٠