دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

وإن اتحدا عينا وخارجا ، فصدق الصفات ـ مثل : العالم ، والقادر ، والرحيم ، والكريم ، إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال ـ عليه تعالى ، على ما ذهب إليه أهل الحق من عينية صفاته ، يكون على الحقيقة ، فإنّ المبدأ فيها وإن كان عين ذاته تعالى خارجا ، إلّا أنّه غير ذاته تعالى مفهوما.

ومنه قد انقدح ما في الفصول ، من الالتزام بالنقل أو التجوز في ألفاظ الصفات

______________________________________________________

والقدرة مغاير لذات الحق (جل وعلا) فلا إشكال في حمل عنوان العالم والقادر عليه سبحانه.

وما في الفصول من أنّ الصفات الجارية عليه (سبحانه) منقولة عن معانيها الأوّليّة ، أو مستعملة في غيرها مجازا ، وبتلك المعاني المنقولة إليها أو المجازية تحمل عليه (سبحانه) (١) لا يمكن المساعدة عليه ، حيث لا ملزم لما التزم به ، بعد عدم مغايرة المبدأ مع الذات وجودا.

أقول : لا يعتبر في صدق المشتق وحمله على الذات مغايرتها مع المبدأ حتّى مفهوما ، وآية ذلك صدق المنير على النور ، والموجود على الوجود ونحوهما ، والوجه في ذلك أنّ الذات المأخوذة في معنى المشتق أمر مبهم سيّال حتّى في نفس المبدأ.

والحاصل : أنّه لا يعتبر في حمل المشتق تغاير المبدأ مع الذات المحمول عليها حتّى مفهوما ، بل ولا تغايره مع معنى المشتق ولو اعتبارا.

وقد يورد على ما ذكرنا ـ من عدم اعتبار المغايرة وأنّ الذات المأخوذة في معنى المشتق مبهمة تصدق على نفس المبدأ ـ بأنّه يلزم صدق الضارب على الضرب ، والقاتل على القتل ، إلى غير ذلك ، مع أنّ قول القائل (الضرب ضارب)

__________________

(١) الفصول الغروية : ص ٥٠.

٢٦١

الجارية عليه تعالى ، بناء على الحق من العينية ، لعدم المغايرة المعتبرة بالاتفاق ، وذلك لما عرفت من كفاية المغايرة مفهوما ، ولا اتفاق على اعتبار غيرها ، إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره ، كما لا يخفى ، وقد عرفت ثبوت المغايرة كذلك بين الذات ومبادئ الصفات.

______________________________________________________

غلط فاحش ، ولكن لا يخفى أنّ الذات المبهمة ليست تمام المدلول بحيث ينطبق معناه على نفس المبدأ في كلّ مورد ، بل يعتبر في بعض المشتقات ـ بمقتضى مبادئها ـ التلبّس بنحو خاصّ ، أي صدورا أو نحوه ، والذات المأخوذة بهذه الخصوصية لا تنطبق على الضرب والقتل ونحوهما.

ولكن يرد على الماتن قدس‌سره بأنّ ما ذكره في هذا الأمر إبطال لما تقدّم منه سابقا في الفرق بين المشتق ومبدئه ، من كون الأوّل لا بشرط بالإضافة إلى الحمل ، والثاني بشرط لا ، فإنّ مقتضى ذلك عدم صحّة حمل العلم والقدرة والحياة على ذات الحق (جلّ علا) ، مع أنّه قد ذكر في هذا الأمر أنّ اتّحاد المبدأ في القادر والعالم مع ذات الحق (عزوجل) حقيقي ، والتغاير اعتباري ، ولازم ذلك صحّة حمل ذات المبدأ على ذاته سبحانه ، وهذا يتنافى مع كونه بشرط لا بالإضافة إلى الحمل على الذات.

اللهم إلّا أنّ يراد من بشرط لا ، عدم أخذ الذات في معنى المبدأ ، فلا يتّحد مع الذات في كلّ مورد يتّحد معه مفهوم المشتق مع الذات.

ثمّ لا يخفى أنّ الإشكال في المقام والجواب عنه يجريان في خصوص صفات الذات ، ولا يعمّان مثل الرحيم والكريم ونحوهما من صفات الأفعال ، فلا موجب فيها بالالتزام باتّحاد المبدأ مع الذات عينا وتغايرهما مفهوما ، كما هو ظاهر الماتن قدس‌سره ، حيث جعل صفات الذات (المعبّر عنها بصفات الكمال) مع صفات

٢٦٢

الخامس : إنّه وقع الخلاف بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة [١] ـ كما عرفت ـ بين المبدأ وما يجري عليه المشتق ، في اعتبار قيام المبدأ به ، في صدقه على نحو الحقيقة ، وقد استدلّ من قال بعدم الاعتبار ، بصدق الضارب والمؤلم ، مع قيام الضرب والألم بالمضروب والمؤلم ـ بالفتح ـ.

______________________________________________________

الأفعال (المعبّر عنها بصفات الجمال) سواء في الإشكال والجواب.

[١] حاصل ما ذكره قدس‌سره في المقام أنّه بعد الاتفاق على لزوم المغايرة بين المبدأ وما يحمل عليه المشتق مفهوما ، يقع الكلام في أنّه هل يعتبر في حمل المشتق على الذات قيام المبدأ بها ، ليكون صدق المشتق عليها على نحو الحقيقة ، أو لا يعتبر ذلك؟

وقد استدلّ من قال بعدم الاعتبار بصدق الضارب والمؤلم على الذات مع قيام الضرب والألم بالمضروب.

ولكن لا ينبغي التأمّل في اعتبار تلبّس الذات بالمبدإ في صدق المشتق عليها حقيقة ، إلّا أنّ التلبّس لا ينحصر بقيام المبدأ بالذات قيام العرض بمعروضه ، بل للتلبّس أنحاء ، والقيام بها أحد أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارة ، واختلاف الهيئات أخرى من القيام صدورا ، أو حلولا ، أو وقوعا عليه ، أو فيه ، وانتزاع المبدأ عن الذات مفهوما مع اتّحاده معها خارجا من أحد أنحاء التلبّس ، حيث إنّ العينية الخارجيّة نحو من أنحاء التلبّس ، ضرورة أنّ كون الشيء واجدا لنفسه أقوى من كونه واجدا لغيره ، وأيضا من أنحاء التلبّس ما إذا كانت الذات متّصفة بالمبدإ خارجا ، ولكن لم يكن في الخارج بإزاء المبدأ وجود ، بأن يكون المبدأ أمرا اعتباريا عقليا أو عقلائيا ، كما في حمل الواجب والممكن على الذات خارجا أو حمل الزوج والزوجة عليها ، فيكون من خارج المحمول في مقابل المحمول بالضميمة الذي يكون بإزائه وجود ، كما في حمل الأبيض أو الأحمر على الجسم الخارجي.

٢٦٣

والتحقيق : إنّه لا ينبغي أن يرتاب من كان من أولى الألباب ، في أنّه يعتبر في صدق المشتق على الذات وجريه عليها ، من التلبس بالمبدإ بنحو خاص ، على اختلاف أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارة ، واختلاف الهيئات أخرى ، من القيام صدورا أو حلولا أو وقوعا عليه أو فيه ، أو انتزاعه عنه مفهوما مع اتحاده معه خارجا ، كما في صفاته تعالى ، على ما أشرنا إليه آنفا ، أو مع عدم تحقق إلّا للمنتزع عنه ، كما في الإضافات والاعتبارات التي لا تحقق لها ، ولا يكون بحذائها في

______________________________________________________

وعلى ذلك فلا يبقى إشكال في صفات الذات الجارية على ذات الحق (جلّ وعلا) ، حيث يكون المبدأ مغايرا له (سبحانه) مفهوما ، ومتحدا معه عينا ، وقد تقدّم أنّ هذا أحد أنحاء التلبّس ، فيكون حمل العالم والقادر عليه (سبحانه) حقيقة ، حيث لم يعتبر في صدقها إلّا التلبّس بمبدإ العلم والقدرة ، لا التلبّس بهما بنحو قيام العرض بمعروضه ، وعدم اطلاع العرف على التلبّس العيني لا يضرّ بكون انطباقهما عليه (تعالى) بنحو الحقيقة ، فإنّ نظر العرف متبع في تشخيص معنى اللفظ ، وأمّا أنّ انطباقه على مورد بنحو الحقيقة ، بعد وضوح المفهوم ، فالمتبع فيه نظر العقل.

أقول : كان ينبغي للماتن قدس‌سره أن يضيف إلى اختلاف أنحاء التلبّس اختلاف الذوات ، فإنّ اختلافها كاختلاف المبادئ والهيئات.

ثمّ ذكر قدس‌سره أنّه لا مجال لدعوى صاحب الفصول قدس‌سره أنّ الصفات الجارية عليه (سبحانه) منقولة ، أو مستعملة في غير معانيها اللغوية مجازا ؛ ولذا لا تصدق على غيره (سبحانه) وتكون أسمائه تعالى توقيفية.

والوجه فيه ، مضافا إلى ما ذكر من صدقها عليه (سبحانه) بما لها من المعاني لغة ، أنّ النقل أو التجوّز يوجب كون تلك الألفاظ مجرّد لقلقة وألفاظا بلا إرادة المعنى ، فإنّ معانيها المنقولة إليها ، أو المستعملة فيها مجازا ، مجهولة لنا.

٢٦٤

الخارج شيء ، وتكون من الخارج المحمول ، لا المحمول بالضميمة ، ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايرا له تعالى مفهوما ، وقائما به عينا ، لكنه بنحو من القيام ، لا بأن يكون هناك اثنينية ، وكان ما بحذائه غير الذات ، بل بنحو الاتحاد والعينية ، وكان ما بحذائه عين الذات ، وعدم اطلاع العرف على مثل هذا التلبس من الأمور الخفية لا يضر بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة ، إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقة ، ولو بتأمل وتعمّل من العقل. والعرف إنما يكون مرجعا في تعيين المفاهيم ، لا في تطبيقها على مصاديقها.

وبالجملة : يكون مثل العالم ، والعادل ، وغيرهما ـ من الصفات الجارية عليه تعالى وعلى غيره ـ جارية عليهما بمفهوم واحد ومعنى فارد ، وإن اختلفا فيما يعتبر في الجري من الاتحاد ، وكيفية التلبس بالمبدإ ، حيث إنّه بنحو العينية فيه

______________________________________________________

والعجب أنّه جعل نقل الصفات أو التجوّز فيها علّة لعدم جواز إطلاقها على غيره (سبحانه) ، مع أنّ إطلاق عالم وقادر وحيّ على غيره (سبحانه) شائع.

أقول : قد تقدّم في الأمر السابق عدم اعتبار مغايرة المبدأ مع الذات المحمول عليها عنوان المشتق حتّى مفهوما ، ولو كانت العينية الخارجية مصحّحة للتلبّس المعتبر في معنى العالم والقادر لانطبق معناهما على نفس القدرة والعلم ، ولصحّ قول القائل (علمه عالم) و (قدرته قادرة) وعدم مقبولية هذا الحمل في أذهان العامة لم ينشأ إلّا من عدم التفاتهم إلى التلبّس بنحو العينية.

ولا نريد بذلك أنّ عنوانا من العناوين إذا كان محكوما بحكم شرعي يثبت ذلك الحكم لكلّ ما يراه العقل مصداقا له ، وإن لم يكن مصداقا بنظر العرف ، فإنّ الخطابات الشرعية متوجّهة إلى العرف ، فما يفهمه العرف من الموضوعات الواردة فيها يكون هو المراد منها.

٢٦٥

تعالى ، وبنحو الحلول أو الصدور في غيره ، فلا وجه لما التزم به في الفصول ، من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عما هي عليها من المعنى ، كما لا يخفى ، كيف؟ ولو كانت بغير معانيها العامة جارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنى ، فإن غير تلك المفاهيم العامة الجارية على غيره تعالى غير مفهوم ولا معلوم إلّا بما يقابلها ، ففي مثل ما إذا قلنا : إنّه تعالى عالم ، إما أن نعني أنّه من ينكشف لديه الشيء فهو ذاك المعنى العام ، أو أنّه مصداق لما يقابل ذاك المعنى ، فتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وإمّا أن لا نعني شيئا ، فتكون كما قلناه من كونها صرف اللقلقة ، وكونها بلا معنى ، كما لا يخفى.

والعجب أنّه جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره ، وهو كما ترى ، وبالتأمل فيما ذكرنا ، ظهر الخلل فيما استدلّ من الجانبين والمحاكمة بين الطرفين ، فتأمل.

السادس : الظاهر أنّه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة ، التلبس بالمبدإ [١]

______________________________________________________

وأمّا ما ذكره الماتن قدس‌سره ـ من الاستدلال على عدم النقل والتجوّز من أنّه لو كانت الصفات الجارية عليه (سبحانه) منقولة ، أو مستعملة في غير معانيها الأصلية لكانت لقلقة اللسان وألفاظا بلا معنى ـ فلا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ كون تلك المعاني معلومة بالإجمال يكفي في خروجها عن مجرد لقلقة اللسان ، وكون تلك الصفات عين ذات الواجب (جلّ وعلا) مما يوجب الإشارة إلى معانيها ولو بالإجمال.

[١] وحاصله أنّ استعمال المشتق في معناه أمر ، وتطبيق ذلك المعنى على شيء أمر آخر ، وفيما كان الشيء غير متلبّس بالمبدإ حقيقة ، بل كان التلبّس في غيره حقيقة يكون المجاز في تطبيق معنى المشتق وإسناده إلى الشيء الأوّل لا في

٢٦٦

حقيقة وبلا واسطة في العروض ، كما في الماء الجاري ، بل يكفي التلبس به ولو مجازا ، ومع هذه الواسطة ، كما في الميزاب الجاري ، فاسناد الجريان إلى الميزاب ، وإن كان إسنادا إلى غير ما هو له وبالمجاز ، إلّا أنّه في الاسناد ، لا في الكلمة ، فالمشتق في مثل المثال ، بما هو مشتق قد استعمل في معناه الحقيقي ، وإن كان مبدؤه مسندا إلى الميزاب بالإسناد المجازي ، ولا منافاة بينهما أصلا ، كما لا يخفى ، ولكن ظاهر الفصول بل صريحه ، اعتبار الإسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة ، وكأنّه من باب الخلط بين المجاز في الإسناد والمجاز في الكلمة ، وهذا ـ هاهنا ـ محل الكلام بين الأعلام ، والحمد لله ، وهو خير ختام.

______________________________________________________

استعمال المشتق في معناه ، كما في قوله (الميزاب جار).

وبتعبير آخر : يكون المجاز في الإسناد لا في الكلمة ، فإنّ المجاز في الكلمة عبارة عن استعمالها في غير ما وضعت له ، والمشتق في موارد المجاز في الإسناد لا يستعمل في غير معناه الموضوع له ، بل يكون تطبيق ذلك المعنى الموضوع له عليه بالعناية ، فما عن صاحب الفصول قدس‌سره من اشتراط تلبّس الذات بالمبدإ في استعمال المشتق حقيقة (١) غير صحيح.

أقول : عبارة الماتن لا تخلو عن التعقيد والاضطراب ، والمراد ما ذكرنا ، فإنّ المراد من قوله «حقيقة» ليس قيدا للصدق والجري ، بل قيد للمشتق ، أي لا يعتبر في حمل المشتق بمعناه الحقيقي على الذات ، تلبّس تلك الذات بالمبدإ حقيقة ، بل يكفي تلبّسها بالعناية ، فيكون الإسناد مجازيا.

__________________

(١) الفصول الغروية : ص ٥٠.

٢٦٧
٢٦٨

المقصد الأوّل

(الأوامر)

٢٦٩

المقصد الأوّل : في الأوامر

وفيه فصول :

الأول : فيما يتعلّق بمادة الأمر من الجهات ، وهي عديدة :

الأولى : إنّه قد ذكر للفظ الأمر معان متعددة [١] ، منها الطلب ، كما يقال ، أمره بكذا.

ومنها الشأن ، كما يقال : شغله أمر كذا.

ومنها الفعل ، كما في قوله تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ.)

ومنها الفعل العجيب ، كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا.)

ومنها الشيء ، كما تقول : رأيت اليوم أمرا عجيبا.

ومنها الحادثة ، ومنها الغرض ، كما تقول : جاء زيد لأمر كذا.

______________________________________________________

معنى مادة الأمر :

[١] ذكر للفظ «الأمر» معان عديدة :

منها : الطلب ، فيقال : أمره فلان بكذا.

ومنها : الشأن والمراد به الحال مطلقا ، أو فيما كان خطيرا فيقال : (شغله أمر كذا).

ومنها : الفعل ، كما في قوله سبحانه (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)(١).

__________________

(١) سورة هود : الآية ٩٧.

٢٧٠

ولا يخفى أن عدّ بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم ، ضرورة أنّ الأمر في (جاء زيد لأمر) ما استعمل في معنى الغرض ، بل اللام قد دلّ على الغرض ، نعم يكون مدخوله مصداقه ، فافهم ، وهكذا الحال في قوله تعالى

______________________________________________________

(فَلَمَّا جاءَ) ومنها : الفعل العجيب ، كما في قوله سبحانه (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا)(١).

ومنها : الشيء ، كقولك : (رأيت أمرا عجيبا).

ومنها : الحادثة ، كقوله : (فلما وقع الأمر).

ومنها : الغرض ، كقوله (جئتك لأمر).

وذكر الماتن قدس‌سره أنّ الظاهر عدم استعمال لفظ «أمر» في جميع هذه المعاني ، بل عدّ بعضها من معانيه من قبيل اشتباه المصداق بالمفهوم ؛ وذلك لأنّ لفظ «أمر» في قولك (جاء زيد لأمر كذا) استعمل في معنى الشيء ، واللّام الداخلة عليه تدلّ على أنّ الشيء المزبور مصداق للغرض ، لا أنّ مدخول اللام استعمل في معنى الغرض ومفهومه ، وكذا استعمل في قوله سبحانه (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) في معنى الشيء ، لا في معني التعجّب. غاية الأمر أنّ الشيء المزبور مصداق للعجيب ، وكذا الحال في الحادثة والشأن.

فما عن صاحب الفصول قدس‌سره من أنّ لفظ «أمر» حقيقة في المعنيين الأوّلين يعني الطلب والشأن (٢) غير سديد ، حيث إنّ عدّ الشأن من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم أيضا ، فلا يبعد أن يكون مشتركا لفظا بين الطلب في الجملة ـ على تفصيل يأتي ـ وبين معنى الشيء.

__________________

(١) سورة هود : الآية ٥٨.

(٢) الفصول الغروية : ص ٥١.

٢٧١

أَمْرُنا) يكون مصداقا للتعجب ، لا مستعملا في مفهومه ، وكذا في الحادثة والشأن.

وبذلك ظهر ما في دعوى الفصول ، من كون لفظ الأمر حقيقة في المعنيين الأولين ، ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء ، هذا بحسب العرف واللغة.

______________________________________________________

وذكر المحقّق النائيني قدس‌سره أنّه لا إشكال في كون لفظ «أمر» حقيقة في الطلب ، وأمّا بقية المعاني فكلّها راجعة إلى معنى واحد ، وهي الواقعة التي لها أهمية ، وهذا المعنى ينطبق على الحادثة والغرض وغيرهما من المعاني (١).

ولكن فيه ؛ أوّلا : أنّه لم يؤخذ في معناه الأهمية ، بل قد يوصف بعدم الأهمية ، فيقال : (لا يهمّه الأمر الفلاني ، أو إن الأمر الفلاني لا أهميّة له) ، ولو كان قيد الأهمية مأخوذا في معناه ؛ لكان توصيفه بعدمها من توصيف الشيء بعدمه.

وثانيا : أنّ الأمر يجمع على نحوين ، فيصح إطلاق أحدهما على الطلب ، ولا يصح إطلاق الآخر عليه ، فمثلا يطلق على الطلب المتعدّد أوامر ، ولا يطلق عليه الأمور ، وكذا العكس. وأيضا يصح الاشتقاق منه بمعنى الطلب ، ولا يصح منه الاشتقاق بمعناه الآخر فلا يمكن أن يقال إنّ جميع معانيه ترجع إلى معنى واحد ، حتّى يكون مشتركا معنويا.

وعن السيّد الأستاذ (رضوان الله تعالى عليه) أنّه مشترك بين الطلب في الجملة وبين الفعل ، الذي يعبّر عنه باللغة الفارسية بلفظ (كار) ، واختلاف جمعه باعتبار المعنيين ، فإنّه بمعنى الطلب يجمع على أوامر ، وبمعنى الفعل يجمع على أمور (٢).

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ٨٦.

(٢) نهاية الأصول : ١ / ٧٥.

٢٧٢

وأما بحسب الاصطلاح ، فقد نقل الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص [١] ، ومجاز في غيره ، ولا يخفى أنه عليه لا يمكن منه الاشتقاق ، فإن معناه ـ حينئذ ـ لا يكون معنى حدثيا ، مع أن الاشتقاقات منه ـ ظاهرا ـ تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم ، لا بالمعنى الآخر ، فتدبر.

______________________________________________________

أقول : هذا الكلام أيضا لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ لفظ «أمر» قد يستعمل في موارد لا يصلح لشيء ممّا ذكر ، كما يقال (البياض أمر خارجي ، بخلاف الإمكان فإنّه أمر عقلي) كما أنّ ما ذكر في الكفاية أيضا غير تامّ ، فإنّه لا يصحّ في مثل قوله (سبحانه) (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) وضع لفظ الشيء مكانه.

فالحق في المقام هو أنّه لا يبعد كونه مشتركا في كلّ من الطلب ، والشيء ، والعمل ، بنحو الاشتراك اللفظي ويعيّن المراد بالقرائن في موارد الاستعمال.

وما يقال من أنّ الأمر لا يطلق على الجواهر كما عن السيد الاستاذ (رضوان الله تعالى عليه) (١) ، لا يمكن المساعدة عليه أيضا ؛ فإنّه يقال : (مفهوم الإنسان أمر ذهني وواقعه أمر خارجي).

[١] وحاصله أنّ لفظ «أمر» بحسب اصطلاح الاصوليين ، حقيقة في المعنى الأوّل من المعاني المتقدّمة ، وهو الطلب في الجملة ، وما ذكروا في تعريفه بيان للمعنى الأوّل ، وعليه فيرد عليهم أنّ القول المخصوص لعدم كونه معنى حدثيّا غير قابل للاشتقاق منه ، مع أنّ الاشتقاقات منه بلحاظ معناه الاصطلاحي (أي بلحاظ المعنى الأوّل من المعاني المتقدمة) ، فلا يبعد أن يكون مرادهم في التعريف ـ من القول المخصوص ـ الطلب بالقول المخصوص ، ليمكن الاشتقاق منه. نعم لو ثبت أنّ

__________________

(١) نهاية الاصول : ١ / ٧٥.

٢٧٣

ويمكن أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه تعبيرا عنه بما يدل عليه ، نعم القول المخصوص ـ أي صيغة الأمر [١] ـ إذا أراد العالي بها الطلب يكون من مصاديق الأمر ، لكنّه بما هو طلب مطلق أو مخصوص.

______________________________________________________

لهم فيه اصطلاح خاصّ ، بأن يكون لفظ الأمر في اصطلاحهم منقولا عن المعنى اللغوي وموضوعا للقول المخصوص ، فلا مشاحّة فيه ، وعليه فتكون الاشتقاقات منه بلحاظ المعنى اللغوي ، أي الطلب في الجملة ، لا معناه الاصطلاحي ، أي القول المخصوص.

أقول : لم يظهر وجه اشتقاق المشتقات من المعنى الاصطلاحي لتتمّ المناقشة في تعريفهم ، وظاهر القول المخصوص في كلامهم هو المقول المخصوص ، كصيغة افعل ، حيث لا خصوصية للقول بمعناه المصدري إلّا الجهر والإخفات ، وأمّا سائر الخصوصيات ـ ككونه صيغة الأمر ونحوها ـ فهي أوصاف المقول ، والمقول ـ باعتبار جموده ـ غير قابل للاشتقاق منه.

لا يقال : ما ذكره قدس‌سره من أنّ مرادهم بالقول المخصوص الطلب ليكون قابلا للاشتقاق منه ، غير تامّ ، فإنّ الأمر بهذا المعنى أيضا غير قابل للإنشاء ، والقابل للإنشاء هو نفس الطلب ، لا الطلب بالقول.

فإنّه يقال : تقييد الطلب بالقول المخصوص للإشارة إلى الحصة الخاصة منه ، حيث إنّ في الطلب المنشأ ضيق ذاتي ، نظير ضيق المعلول من ناحية علّته ، ويكون المدلول بمادة الأمر أو بصيغته هي الحصّة من الطلب في مقابل حصّته الأخرى ، يعني الطلب الحقيقي الذي لا يكون قابلا للإنشاء.

[١] هذا بيان أنّ تعريف الأمر في كلماتهم بالقول المخصوص غير صحيح ، فإنّ القول المخصوص لا يكون مساويا لمعنى الأمر والطلب.

نعم القول المخصوص كصيغة الأمر عند استعمالها ، يكون باعتبار مدلوله

٢٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

مصداقا لعنوان الطلب ، لا بما هو قول مخصوص ، بل من حيث مدلوله من كونه طلبا مطلقا أو مخصوصا كما في صيغة (بعت) ، فإنّها باعتبار المنشأ بها (أي الملكية) تكون مصداقا للبيع ، لا بما هي لفظ وقول مخصوص وكما لا يصحّ تعريف البيع بأنّه القول المخصوص فكذلك الأمر كما لا يخفى.

وذكر المحقّق الاصفهاني قدس‌سره أنّ القول المخصوص بنفسه قابل للاشتقاق منه ، حيث إنّ القول المخصوص صنف من الكيف المسموع وعرض قائم بالإنسان ، وعليه فإن لوحظ بنفسه من دون لحاظ صدوره وقيامه بالإنسان ـ مثلا ـ فهو المبدأ الساري في جميع المشتقات ، وإن لوحظ قيامه به بنحو الحدوث فهو المعنى المصدري ، وإن لوحظ انتسابه إليه في الحال أو الاستقبال فهو المعنى المضارعي ، وإن لوحظ انتسابه إليه في الماضي فهو المعنى الماضوي إلى غير ذلك.

والحاصل أنّ هيئة «افعل» لا تكون من الجواهر كالحجر الذي لا يكون له قيام بالغير ولا يمكن فيه اللحاظ بالأنحاء المتقدمة ليكون مبدأ أو مصدرا أو ماضيا أو مستقبلا إلى غير ذلك. وعليه فلفظ (أمر) بصيغة الماضي ، موضوع للصيغة المنتسبة إلى الفاعل بانتساب تحقّقي في الماضي ولفظ (يأمر) موضوع لها بالانتساب المتحقّق في الحال أو الاستقبال ، وصيغة الأمر موضوعة للدلالة على طلب إيجاد الفعل من الفاعل (١).

أقول : مجرّد كون شيء عرضا خارجا لا يصحّح جعله مبدأ اشتقاق ، إذ معنى العرض ومعنى الجوهر في ذلك على حدّ سواء ، بل لا بدّ في الاشتقاق من تضمّن

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٢٥٤.

٢٧٥

وكيف كان ، فالأمر سهل لو ثبت النقل ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، وإنما المهم بيان ما هو معناه عرفا ولغة ، ليحمل عليه فيما إذا ورد بلا قرينة ، وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنّة [١] ، ولا حجة على أنّه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز.

وما ذكر في الترجيح ، عند تعارض هذه الأحوال ، لو سلم ، ولم يعارض بمثله ،

______________________________________________________

معنى حدثي ليكون إظهار فعليّته على نحو التحقّق ماضيا وعلى نحو الترقّب مضارعا إلى غير ذلك ، وليس وجه عدم الاشتقاق من معنى الجوهر كونه جوهرا وعدم قيامه بالغير خارجا ، بل الوجه عدم تضمّنه المعنى الحدثي.

والحاصل أنّ القول المخصوص بمعناه المصدري (أي التلفّظ به) قابل للاشتقاق منه ولكن مادة (أ ـ م ـ ر) لم توضع له ، ولا يقال لمن تلفّظ بمادة الأمر أو بصيغة الطلب بدون قصد إنشاء الطلب : إنّه قد أمر ، بل الأمر من مقولة المعنى (أي المعنى الانشائي) على نسق ما ذكر في البيع والوكالة والوضع وغيرها من الإنشائيات.

وعليه ، فاللازم في صدق الأمر من فرض الطلب وإنشائه بصيغة (افعل) أو غيرها من فعل أو قول ليقال على المنشأ بلحاظ إنشائه أمرا ، وأمّا القول المخصوص (أي ما هو ملفوظ) مع قطع النظر عن الإنشاء به ، فغير قابل للاشتقاق.

[١] لا أرى وجها تامّا لهذا الكلام بعد اختياره قدس‌سره أنّ لفظ الأمر حقيقة في الطلب في الجملة والشّيء ، فإنّه مع فرض كونه حقيقة فيهما على نحو الاشتراك اللفظي ، لم يكن مورد لقوله إنّ لفظ الأمر قد استعمل في الكتاب والسنّة في معان ، ولا حجّة على كونه من الاشتراك لفظا أو معنى ، أو أنّه بالحقيقة والمجاز ، كما لا وجه لما ذكر في آخر كلامه من ظهوره في المعنى الأوّل (أي الطلب) ، للانسباق من الإطلاق ، فإنّ مفهوم الشيء مع مفهوم الطلب لا يشتبه ، وليس استعماله في أحدهما كثيرا وفي

٢٧٦

فلا دليل على الترجيح به ، فلا بد مع التعارض من الرجوع إلى الأصل في مقام العمل ، نعم لو علم ظهوره في أحد معانية ، ولو احتمل أنه كان للانسباق من الإطلاق ، فليحمل عليه ، وإن لم يعلم أنه حقيقة فيه بالخصوص أو فيما يعمه ، كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الأول.

الجهة الثانية : الظاهر اعتبار العلو في معنى الأمر [١] فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمرا ، ولو أطلق عليه كان بنحو من العناية ، كما أن الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء فيكون الطلب من العالى أمرا ولو كان مستخفضا لجناحه.

وأمّا احتمال اعتبار أحدهما فضعيف ، وتقبيح الطالب السافل من العالي المستعلي عليه ، وتوبيخه بمثل : إنك لم تأمره ، إنّما هو على استعلائه ، لا على

______________________________________________________

الآخر نادرا حتّى يحمل في موارد الدوران على المعنى الغالب ، باعتبار أنّ إرادة المعنى النادر يحتاج إلى القرينة دون المعنى الغالبي.

اعتبار العلوّ في الآمر :

[١] قيل يعتبر في معنى الأمر وصدقه على الطلب علوّ الطالب ، أو استعلائه ، ويستدلّ عليه بتقبيح طلب السافل المستعلي فإنّ توبيخه بمثل (ليس لك أن تأمره) دليل على أنّ الصادر من المستعلي أمر ، ولو كان المعتبر هو العلوّ فقط ، لما أمكن صدوره من السافل ليتوجّه عليه التوبيخ.

والجواب : أنّ التوبيخ لا يكون لطلبه حقيقة ، بل لاستعلائه ورؤية نفسه عاليا ، وإطلاق الأمر على طلبه بلحاظ نظر المستعلي حيث يرى نفسه عاليا وطلبه أمرا ، ولذا يمكن سلب الأمر عن طلبه فيقال : إنّه ليس بأمر ، ولكنّه لغروره يرى نفسه عاليا ، ولو كان الاستعلاء كافيا في كون الطلب أمرا لما صحّ هذا السلب.

٢٧٧

أمره حقيقة بعد استعلائه ، وإنّما يكون إطلاق الأمر على طلبه بحسب ما هو قضية استعلائه ، وكيف كان ، ففي صحة سلب الأمر عن طلب السافل ، ولو كان مستعليا كفاية.

الجهة الثالثة : لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب [١] ، لانسباقه عنه

______________________________________________________

دلالة مادة الأمر على الطلب الوجوبي :

[١] لا يخفى أنّ لزوم الحذر يختص بمخالفة الأمر الوجوبي ، والطلب الندبي خارج عن المراد من الأمر في الآية الكريمة يقينا ، ولكن يدور الأمر بين أن يكون خروجه عنه بالتخصّص كما إذا كان الأمر حقيقة في الطلب الوجوبي فقط ، أو يكون خروجه عنه بالتقييد ، كما إذا كان حقيقة في الأعمّ ، ولا معيّن للخروج بالنحو الأوّل ، فإنّ أصالة عدم التقييد غير جارية في موارد العلم بالمراد ، من ثمّ جعل قدس‌سره الآية مؤيّدة لا دليلا.

وممّا ذكر يظهر وجه المناقشة في الاستدلال بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو لا أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك مع كلّ صلاة» (١) فإنّه لو لم يكن الأمر حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي ، لزم التقييد في الرواية بأن يراد لأمرتهم وجوبا بالسواك ، وقد تقدّم أنّه لا اعتبار بأصالة الإطلاق في مثل ذلك مما علم المراد.

وأما رواية بريرة (٢) فلم يظهر أنّها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الطلب الوجوبي ليستظهر أنّ لفظ الأمر حقيقة في الوجوب ، بل لعلّ السؤال عن أصل الطلب المولوي ، فلا وجه لعدّ الرواية مؤيّدة أيضا.

__________________

(١) الوسائل : ١ / ٣٥٥ ، باب ٥ من أبواب السواك ، الحديث ٣.

(٢) الفروع من الكافي : ٥ / ٤٨٥ ، باب الامة تكون تحت المملوك ، الحديث ١.

٢٧٨

عند إطلاقه ، ويؤيد قوله تعالى (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ـ لبريرة بعد قولها : أتأمرني يا رسول الله؟ ـ : (لا ، بل إنّما أنا شافع) إلى غير ذلك ، وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره ، وتوبيخه على مجرد مخالفته ، كما في قوله تعالى

______________________________________________________

نعم ، صحّة الاحتجاج على العبد ، ومؤاخذته على مخالفته وتوبيخه عليها ، فيما إذا قال إني آمرك بكذا فخالف ، دليل قطعيّ على ظهور مادة الأمر في الطلب الوجوبي.

لكن يبقى الكلام في أنّ هذا الظهور وضعي أو إطلاقي يثبت مع عدم ثبوت الترخيص في الترك.

فنقول : الصحيح أنّ مادة الأمر بنفسها دالة على الطلب الوجوبي ، بخلاف صيغة الأمر ، فإنّ دلالتها على الطلب الوجوبي بالإطلاق ؛ وذلك لأنّه لا فرق في المستعمل فيه للصيغة ، بين كون الطالب عاليا أم لا ، مثلا نفرض أنّ أحد الموالي طلب من عبده وعبد غيره قراءة القرآن ، بأن قال لكلّ منهما : (اقرأ القرآن) فإنّا لا نجد في أنفسنا فرقا في المستعمل فيه للصيغة بين الموردين ، ولكن يصدق الأمر على الطلب من العبد الأوّل ، ولا يصدق على الطلب من العبد الثاني ، فتكون خصوصية علوّ الطالب مأخوذة في صدق الأمر على الطلب ، وهذا العلوّ غير مأخوذ في معنى صيغة (افعل).

المائز بين الوجوب والندب :

وكذلك في موارد كون الطلب وجوبيا أو استحبابيا ، فإنّا لا نجد فرقا بين المستعمل فيه للصيغة ، في موارد كون الطلب وجوبيا أو استحبابيا ، كما لو ورد في قول الشارع (اغتسل للجمعة ومن مسّ الميت) وإن كان الطلب بالإضافة إلى الأوّل

٢٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

استحبابيا وبالإضافة إلى الثاني وجوبيا ، فإنّ افتراق الوجوب عن الندب ، بثبوت الترخيص في الثاني دون الأوّل.

وبتعبير آخر : أنّه إذا لم يكن في البين ترخيص في الترك ، ينتزع عنوان الوجوب ، وفيما إذا ثبت ، ينتزع عنوان الندب ، فإنّ المنشأ ـ بالفتح ـ بصيغة (افعل) هو النسبة الطلبية ، فمع كون المنشأ ـ بالكسر ـ في مقام البيان وعدم ترخيصه في الترك ، يستفاد الوجوب ، وهذا بخلاف مادة الأمر ، فإنّها ـ بمقتضى وضعها ـ تنفي الترخيص في الترك ، كما يجد ذلك كلّ من لاحظ مرادف مادة الأمر بمعنى الطلب في سائر اللغات كلفظة (فرمان) في اللغة الفارسية وصحّة سلب عنوان الأمر و (فرمان) عن الطلب الاستحبابي.

وبالجملة دلالة صيغة الأمر على الوجوب إنّما هو بمقتضى إطلاقها الوارد في مقام البيان ، بخلاف مادة الأمر ، فإنّه بمقتضى وضعها له ، وذلك لأنّ الفرق بين الوجوب والاستحباب لا يكون بشدّة الطلب وضعفه ، كما عليه الماتن قدس‌سره.

لكن لا من أجل أنّ الوجوب والندب أمران اعتباريّان والشدّة والضعف لا يكونان في الأمور الاعتبارية ، وذلك لثبوتهما في بعض الأمور الاعتبارية كالتعظيم والتحقير وغيرهما ، فيكون الفعل الفلاني أقوى تعظيما من الفعل الآخر.

بل لأنّا نرى بالوجدان أنّ الطلب لا يكون شديدا في موارد الوجوب وضعيفا في موارد الاستحباب. وأمّا شدّة الشوق وضعفه ، فهو خارج عن الحكم ومدلول صيغة الأمر ومادّته.

كما أنّ الفرق بين الوجوب والاستحباب لا يكون بتركّب الوجوب من طلب

٢٨٠