دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

المفرد المذكّر ، وتشخّصه إنّما جاء من قبل الإشارة ، أو التخاطب بهذه الألفاظ إليه ، فإنّ الإشارة أو التّخاطب لا يكاد يكون إلّا إلى الشّخص أو معه ، غير مجازفة.

فتلخّص ممّا حققناه : أنّ التشخّص النّاشئ من قبل الاستعمالات ، لا يوجب تشخص المستعمل فيه ، سواء كان تشخّصا خارجيّا ـ كما في مثل أسماء الإشارة ـ أو ذهنيا ـ كما في أسماء الأجناس والحروف ونحوهما ـ من غير فرق في ذلك أصلا بين الحروف وأسماء الأجناس ، ولعمري هذا واضح. ولذا ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصّا في الحرف عين ولا أثر ، وإنّما ذهب إليه بعض من تأخّر ، ولعلّه لتوهم كون قصده بما هو في غيره ، من خصوصيات الموضوع له ، أو المستعمل فيه ، والغفلة من أنّ قصد المعنى من لفظه على أنحائه ،

______________________________________________________

عليه من قبيل الموجود الخارجي أو الموجود الذهني أو معنى من المعاني المفردة أو التركيبيّة.

ولا يعتبر في استعمال (هذا) كون الإشارة خارجية ، بل ربّما تكون الإشارة معنوية ، كما في قولك : (الإنسان مدرك للكليات) ، وبهذا يمتاز عن سائر الحيوانات حيث إنّ الإشارة بهذا في المثال معنويّة ، وكما في قولك : (الإنسان كلي يصدق على كثيرين ، وهذه الكليّة ليس موضعها الإنسان الخارجي).

نعم ضمير الغائب ك «هو» تكون الإشارة فيه معنوية إلى السابق ذكرا أو ذهنا ، بخلاف ضمير الخطاب ، فإنّه للإشارة إلى المخاطب الحاضر حقيقة أو ما يكون بمنزلة الحاضر ، وبما أنّ خصوصيّة الإشارة مستفادة من اللفظ ، فكيف لا تكون داخلة في معناه ولو بنحو التقيد؟ ثمّ إنّ الإشارة في استعمال (هذا) في الخارجيات بمثل الإصبع ونحوه إنّما هو لتعيين المشار إليه لا لخصوصية الإشارة ، كما يظهر للمتدبر.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ الوضع في تلك الأسماء عامّ ، والموضوع له خاصّ ،

٦١

لا يكاد يكون من شئونه وأطواره ، وإلّا فليكن قصده بما هو هو وفي نفسه كذلك ، فتأمّل في المقام فإنّه دقيق ، وقد زلّ فيه أقدام غير واحد من أهل التّحقيق والتّدقيق.

______________________________________________________

ولا نعني بالخاصّ ، الجزئي الخارجي ، بل ما ينطبق عليه عنوان الفرد المذكر ولو كان في نفسه معنى من المعاني وطبيعة من الطبائع ، كما لا يخفى.

٦٢

الثالث

صحّة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له ، هل هو بالوضع [١] ، أو بالطبع؟ وجهان ، بل قولان ، أظهرهما أنّه بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه ولو مع منع الواضع عنه ، وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه ولو مع ترخيصه ، ولا معنى لصحته إلّا حسنه ، والظاهر أنّ صحة استعمال اللفظ في نوعه أو مثله من قبيله ، كما يأتي الإشارة إلى تفصيله.

______________________________________________________

الاستعمال المجازي :

[١] المراد بصحة الاستعمال حسنه عند أهل المحاورة ، بأن لا يستهجن عندهم استعمال اللفظ في المعنى المزبور ، وهل الصحة محتاجة إلى الوضع بمعنى ترخيص الواضع في خصوص ذلك الاستعمال (ويسمّى بالوضع الشخصي) أو ترخيصه في نوع ذلك الاستعمال بأن يرخص الاستعمال فيما كانت بين الموضوع له والمستعمل فيه إحدى العلاقات المعروفة ، أو لا تحتاج إلى شيء من ذلك ، بل كل استعمال لا يكون مستهجنا عند أهل اللسان وكان استعمالا للفظ فيما يناسب معناه عندهم فهو صحيح ، حتّى مع منع الواضع عنه فضلا عن عدم ترخيصه ، وكل ما يكون مستهجنا عندهم ولا تقبله الطباع فهو غير صحيح حتّى لو رخّص الواضع فيه.

قال سيّدنا الأستاذ قدس‌سره : إنّ البحث في أنّ المجاز محتاج إلى وضع شخصي أو نوعي ، يتوقّف على أمرين :

أحدهما : ثبوت الاستعمالات المجازيّة ، بأن يستعمل اللفظ الموضوع لمعنى في غير ذلك المعنى ، وأمّا بناء على ما ذهب إليه السكّاكي في باب الاستعارة من أنّ اللفظ يستعمل دائما في معناه الموضوع له ويكون تطبيقه على غير مصداقه ،

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

بدعوى أنّه فرده ، فلا يبقى مجال لهذا البحث ، والصحيح ما ذهب إليه السكّاكي والوجه فيه أنّه يفهم الفرق بين قول القائل : (زيد أسد ، أو أنّه قمر) وبين قوله : (زيد شجاع ، أو أنّه حسن الوجه) حيث يفهم المبالغة من الأوّل دون الثاني ، ولو كان لفظ (أسد) أو (قمر) مستعملا في معنى الشجاع أو حسن الوجه لما كان بينهما فرق.

ثانيهما : الالتزام بأنّ الوضع غير التعهّد والالتزام بإرادة المعنى الفلاني عند ذكر هذا اللفظ ، وإلّا فبناء على مسلك التعهّد يكون كل مستعمل متعهّدا بإرادة ذلك المعنى منه عند ذكره بلا قرينة وإرادة مناسبة عند ذكره مع القرينة سواء كان تعيين ذلك المعنى المناسب أيضا بالقرينة كما في الوضع النوعي ، أو بما عيّنه أولا ، كما في الوضع الشخصي (١).

أقول : ما ذهب إليه السكاكي من الالتزام بالعناية والمجاز في الإسناد والتطبيق ، لا يعمّ جميع الاستعمالات المجازيّة ليقال إنّ أمر التطبيق خارج عن شأن الواضع ، بل ذكر ذلك في الاستعارة وهي ما يكون بعلاقة المشابهة في أظهر الأوصاف والخواصّ ، وأمّا في موارد سائر العلاقات فلا ينبغي إنكار استعمال اللفظ في غير معناه الموضوع له ، كما في قوله : (من قتل قتيلا) وقوله : (رأس القوم) وإرادة رئيسهم ، و (عين القوم) وإرادة حارسهم ، و (أعتق رقبة) وإرادة العبد والمملوك ، إلى غير ذلك من الموارد التي لا ينتقل ذهن السامع فيها إلى المعاني الأوّلية للألفاظ ، وإنّما ينتقل إلى المعاني التي يستعمل فيها اللفظ (ولو بالقرينة) ، حتّى مع جهله بالمعاني الحقيقية ، وهذا بخلاف (زيد أسد) أو (أنّ وجهه قمر).

__________________

(١) المحاضرات : ١ / ٩٢.

٦٤

الرابع

ـ لا شبهة في صحة إطلاق اللفظ ، وإرادة نوعه به ، كما إذا قيل : ضرب ـ مثلا ـ فعل ماض [١] ، أو صنفه كما إذا قيل : (زيد) في (ضرب زيد) فاعل ، إذا لم يقصد به شخص القول أو مثله ك (ضرب) في المثال فيما إذا قصد.

______________________________________________________

وأمّا عدم جريان النزاع على مسلك التعهّد فلا يتمّ أيضا ، وعلى تقديره أيضا يكون للبحث مجال ؛ وذلك لأنّ الوضع ينسب إلى المتعهّد الأوّل ؛ ولذا يقال في جواب من سأل : من سمّى الولد بهذا الإسم؟ سمّاه أبوه ، ولو لم يكن الوضع مستندا إلى السابق في التعهّد لم يكن للسؤال والجواب مجال ، وعلى ذلك يقع الكلام في أنّ استعمال اللفظ المزبور في معنى آخر يحتاج إلى رخصة الشخص المزبور شخصا أو نوعا ، أو أنّ كلّ ما تقبله الطباع من الاستعمال يصحّ ولو مع منع ذلك الشخص.

استعمال اللفظ في اللفظ :

[١] التزموا بصحّة استعمال اللفظ في اللفظ ، بأن يكون اللفظ دالّا على إرادة اللفظ الآخر ، فيكون اللفظ الآخر مدلولا وصحّحوه في استعمال اللفظ في نوعه واستعماله في صنفه واستعماله في مثله.

فالأوّل كما إذا قيل : (ضرب فعل ماض) إذ من الظاهر أنّ الملفوظ ليس بالفعل الماضي بل هو مبتدأ في الكلام ، والذي هو فعل ماض ما يقال عند الإخبار بوقوع الضرب بنحو التحقّق ، وإذا أراد المتكلّم بقوله (ضرب) طبيعيّ لفظ ضرب (الذي يقال عند الإخبار بوقوع الضرب بنسبة تحقيقيّة) يكون ذلك الطبيعي من قبيل المعنى لما تلفظ به ، فيكون الملفوظ دالّا وذلك الطبيعي مدلولا.

والثاني فيما إذا قال : (زيد في ضرب زيد ، فاعل) ولم يرد شخص ما ذكره من

٦٥

وقد أشرنا إلى أنّ صحة الإطلاق كذلك وحسنه ، إنّما كان بالطبع لا بالوضع ، وإلّا كانت المهملات موضوعة لذلك ، لصحة الإطلاق كذلك فيها ، والالتزام بوضعها كذلك كما ترى.

وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه ، كما إذا قيل : (زيد لفظ) وأريد منه شخص نفسه ، ففي صحته بدون تأويل نظر ، لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول ، أو تركب القضية من جزءين كما في الفصول.

______________________________________________________

(ضرب زيد) بل كان مراده : أنّ كلما ذكر زيد بعد (ضرب) في مقام الإخبار فهو فاعل ، وعليه فإنّ لفظ زيد الذي ذكره أوّلا دالّ وزيد الثاني مدلول ، وهو من قبيل إرادة الصنف لا النوع إذ لا يشمل كل أفراد لفظ زيد حتّى الواقعة غير فاعل ، مثل (زيد ضرب) ، بل خصوص أفراده الواقعة فاعلا في مقام الإخبار من أيّ متكلّم ، فالمراد الصنف من لفظ زيد لا النوع.

والثالث نفس المثال ، فيما إذا أراد من لفظ زيد الذي ذكره أوّلا ، لفظ زيد فيما تكلّم به من شخص القول وهو من قبيل استعمال لفظ زيد في مثله.

ومما ذكرنا يظهر أنّ قول المصنف قدس‌سره : «كضرب في المثال فيما إذا قصد» من سهو القلم ، ولا بدّ من تبديله إلى قوله ك (زيد في المثال فيما إذا قصد شخص القول).

ثمّ أراد قدس‌سره بقوله : «وقد أشرنا إلى أنّ صحّة الإطلاق ... إلخ» ما تقدم منه في الأمر الثالث من أنّ صحّة استعمال اللفظ في غير ما وضع له بالطبع ، وزاد عليه بالاستشهاد له بوقوع هذا النحو من الاستعمال في الألفاظ المهملة ، كما إذا قيل (ويز) مهمل. ودعوى أنّ الألفاظ المهملة إنّما يطلق عليها المهملة لعدم وضعها لمعنى على حدّ سائر الألفاظ ، ولا ينافي ذلك كونها موضوعة للاستعمال في نوعها أو صنفها أو

٦٦

بيان ذلك : أنّه إن اعتبر دلالته على نفسه ـ حينئذ ـ لزم الاتحاد ، وإلّا لزم تركّبها من جزءين ، لأنّ القضية اللفظية ـ على هذا ـ إنّما تكون حاكية عن المحمول والنسبة ، لا الموضوع ، فتكون القضية المحكية بها مركبة من جزءين ، مع امتناع التركّب إلّا من الثلاثة ، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين.

______________________________________________________

شخصها ، واضحة البطلان.

واختلفوا فيما إذا ذكر لفظ وأريد منه شخصه ، كما إذا قيل : (زيد لفظ) وأريد منه شخص الملفوظ لا نوعه وصنفه ومثله ، فإنّ كون ذلك من قبيل استعمال اللفظ في المعنى محل إشكال ؛ لأنّ شخص الملفوظ إن كان دالّا ومدلولا لزم اتّحاد الدال والمدلول ، وإن كان دالّا فقط ، لزم تركّب القضية المحكية من جزءين المحمول والنسبة ، مع أنّ تلك القضية لا بدّ من تركّبها من ثلاثة أجزاء : الموضوع ، والمحمول ، والنسبة ، فإنّه لا يمكن تحقّق النسبة بدون المنتسبين.

وأجاب الماتن قدس‌سره عن الإشكال بوجهين :

الأوّل : أنّه يكفي في تعدّد الدالّ والمدلول ، تعدّدهما بالاعتبار ، ولا يلزم التعدّد الخارجي ، فاللفظ بما أنّه صادر عن لافظه دالّ وباعتبار أنّه بنفسه وبشخصه مراد ، يكون مدلولا.

والثاني : أنّ القضية المعقولة وإن امتنع تركّبها إلّا من ثلاثة أجزاء ، إلّا أنّ القضية الملفوظة لا يمتنع تركّبها من جزءين ، وبيان ذلك أنّه إذا أمكن للمتكلّم إحضار الموضوع في القضية المعقولة في ذهن السامع بلا توسيط استعمال اللفظ ، كانت الأجزاء في القضية المعقولة تامّة بلا حاجة إلى الإتيان بالحاكي عنه ، وفيما إذا تلفّظ بلفظ وأريد شخصه في ثبوت المحمول له تتمّ القضية المعقولة ، ولا يكون في ناحية الموضوع استعمال للّفظ في المعنى أصلا.

٦٧

قلت : يمكن أن يقال : إنّه يكفي تعدد الدالّ والمدلول اعتبارا ، وإن اتحدا ذاتا ، فمن حيث إنّه لفظ صادر عن لافظه كان دالّا ، ومن حيث إنّ نفسه وشخصه مراده كان مدلولا ، مع أنّ حديث تركّب القضية من جزءين ـ لو لا اعتبار الدلالة في البين ـ إنّما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه ، وإلّا كان أجزاؤها الثلاثة تامّة ، وكان المحمول فيها منتسبا إلى شخص اللفظ ونفسه ، غاية الأمر أنّه نفس الموضوع ، لا الحاكي عنه ، فافهم ، فإنّه لا يخلو عن دقة.

______________________________________________________

أقول : أمّا الجواب الأوّل فهو لا يفيد شيئا ؛ لأنّ الكلام في المقام في الدلالة اللفظية واستعمال اللفظ ، بأن يكون خطور اللفظ إلى ذهن السامع أوّلا ، وخطور معناه بتبعه ثانيا ، ولو ببركة القرينة ، وهذه الدلالة تحتاج إلى تعدّد اللفظ والمعنى حقيقة ، وأمّا دلالة صدور اللفظ من لافظه على إرادة اللافظ ذلك اللفظ ، فهي دلالة عقلية ، فإنّ اللفظ في كل مورد صدر من متكلّم عاقل ، يكون كاشفا عقلا عن تعلّق إرادة اللافظ ولحاظه به ، ولا يختصّ ذلك بالتلفّظ بل يجري في كلّ فعل صادر عن فاعل مختار ، فيكون صدوره كاشفا عن تعلّق قصد فاعله به ولحاظه إيّاه ، وأين هذا من الدلالة اللفظية وإحضار المعنى إلى ذهن السامع بتبع إحضار اللفظ؟

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا يمكن المساعدة على ما ذكر المحقّق الاصفهاني قدس‌سره في المقام في توجيه كفاية التعدّد الاعتباري بين الدالّ والمدلول ، من أنّ التضايف بين الشيئين لا يقتضي التقابل بينهما مطلقا بأن يكون لكلّ من المتضائفين وجود مستقل ، بل التقابل ينحصر بالموارد التي يكون بين الشيئين تعاند وتناف في الاتّحاد ، كما في العلّية والمعلولية والأبوّة والبنوّة ، لا في مثل العالمية والمعلومية والمحبيّة والمحبوبية ، فإنّ النفس من كلّ إنسان عالمة ومعلومة لها ، ومحبّة لها ومحبوبة لها ، والدلالة ـ أي كون الشيء دالّا ومدلولا ـ من هذا القبيل ؛ ولذا ورد في

٦٨

وعلى هذا ، ليس من باب استعمال اللفظ بشيء ، بل يمكن أن يقال : إنّه ليس أيضا من هذا الباب ، ما إذا أطلق اللفظ وأريد به نوعه أو صنفه [١] ، فإنّه فرده ومصداقه حقيقة ، لا لفظه وذاك معناه ، كي يكون مستعملا فيه استعمال اللفظ في المعنى ،

______________________________________________________

دعاء أبي حمزة الثّمالي : «وأنت دللتني عليك» (١).

ووجه الظهور أنّ الكلام في المقام في الدلالة اللفظية واستعمال لفظ في معنى ، والمراد بها ما تقدّم ، من انتقال ذلك المعنى إلى ذهن السامع بنقل اللفظ إليه ، وهذه تكون من قبيل العلّية والمعلوليّة في الانتقال ، فلا يعقل اتّحاد الدالّ والمدلول خارجا ، وأمّا الدلالة في دعاء أبي حمزة الثّمالي «وأنت دللتني عليك» فهي كون شيء منشأ للعلم به.

ومن الظاهر أنّ الله سبحانه نفسه منشأ لعرفان الخلائق إيّاه ، فإنّه الذي هو خالق الأشياء ومكوّن الأجرام الفلكية والكونيّة ومركّب الإنسان وغيره من سائر الحيوانات ، فيكون كلّ ذلك معرّفا لقدرته وعظمته وجبروته وحكمته ، فإنّ البناء بعظمته يكشف عن مهارة بانيه وبالتالي تظهر مهارة الباني بمهارته نفسه.

وأمّا ما ذكره في الجواب ثانيا من إحضار الموضوع وإلقائه إلى ذهن السامع بلا توسيط استعمال اللفظ ، فهو أمر صحيح ؛ لأنّ الاستعمال إنّما يحتاج إليه فيما إذا لم يمكن إلقاء المعنى ونقله إلى ذهن السامع بلا توسيط ، وأمّا إذا كان مقصود المتكلّم ومراده نفس اللفظ والحكم عليه ، فلا موجب للاستعمال بل لا مصحّح له ، وعليه فلا يكون من باب استعمال اللفظ في المعنى ، كما تقدّم.

[١] ثمّ إنّه قدس‌سره قد أجرى ما ذكره في ذكر اللفظ وإرادة شخصه ـ من عدم كون

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٦١.

٦٩

فيكون اللفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجا ، قد أحضر في ذهنه بلا وساطة حاك ، وقد حكم عليه ابتداء ، بدون واسطة أصلا ، لا لفظه ، كما لا يخفى ، فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنى ، بل فرد قد حكم في القضية عليه بما هو مصداق لكلي اللفظ ، لا بما هو خصوص جزئيه.

______________________________________________________

إرادة الشخص من قبيل استعمال اللفظ ، بل من إلقاء الموضوع بلا توسيط الاستعمال ـ على ما إذا ذكر اللفظ وأريد به نوعه أو صنفه ، وذكر أنّه يمكن في موارد إرادة النوع أو الصنف أن يحكم على اللفظ ـ أي الملفوظ ـ بما هو فرد ومصداق من الطبيعي ، فيقال : زيد ثلاثي ، أو بما هو فرد من صنف نوعه بأن يقال : زيد المذكور في أوّل الكلام مرفوعا مبتدأ ، إلى غير ذلك.

ولكن قد التزم باستعمال اللفظ في اللفظ في موارد إرادة المثل كما أنّه التزم في آخر كلامه بأنّه يمكن في موارد إرادة النوع أو الصنف كونه بنحو إلقاء الموضوع كما تقدّم ، ويمكن كونه من قبيل استعمال اللفظ في المعنى ، كما إذا جعل اللفظ مرآة وحاكيا عن نوعه أو صنفه ، فإنّه كموارد إرادة المثل ، يكون مستعملا في المعنى وحاكيا عنه.

ثمّ ذكر قدس‌سره أنّ الاستعمالات المتعارفة في موارد إرادة النوع ليست من قبيل إلقاء الموضوع حيث أنّ الحكم المذكور في الكلام ربّما لا يعمّ نفس الملفوظ كما في قولنا : (ضرب فعل ماض) حيث إنّ ما تلفّظ به ليس بفعل ماض ، بل هو مبتدأ في الكلام. ومن الظاهر أنّ ما ذكره في النوع من عدم عموم الحكم يجري في إرادة الصنف أيضا ، فهذه الموارد تكون من قبيل استعمال اللفظ في اللفظ ولكن الاستعمال فيها ليس بحقيقة ؛ لعدم الوضع ، كما أنّه ليس بمجاز ؛ لعدم لحاظ العلاقة بين المعنى الحقيقي والمستعمل فيه ، لجريان الاستعمال في المهملات أيضا ، وهذا

٧٠

نعم فيما إذا أريد به فرد آخر مثله ، كان من قبيل استعمال اللفظ في المعنى ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ لفظ (ضرب) وإن كان فردا له ، إلّا أنّه إذا قصد به حكايته ، وجعل عنوانا له ومرآته ، كان لفظه المستعمل فيه ، وكان ـ حينئذ ـ كما إذا قصد به فرد مثله.

وبالجملة : فإذا أطلق وأريد به نوعه ، كما إذا أريد به فرد مثله ، كان من باب

______________________________________________________

هو المراد من قوله قدس‌سره فيما يأتي في بحث الحقيقة الشرعية : «وقد عرفت سابقا أنّه في الاستعمالات الشائعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز» (١).

لا يقال : ما الفرق بين إرادة المثل وقد التزم قدس‌سره فيه بالاستعمال وبين إرادة الصنف فالتزم فيه بإمكان الوجهين من الاستعمال وإلقاء الموضوع بنفسه.

فإنّه يقال : كأنّه قدس‌سره نظر إلى أنّ مقتضى كون شيء مثلا للآخر هو الاثنينيّة فيهما ، ولذا يلزم اجتماع المثلين ، بخلاف موارد إرادة الصنف ، فإنّه يمكن وجود فرد من الصنف والحكم عليه بما هو فرد ، كما إذا قيل : زيد في أوّل الكلام مبتدأ ، ولذا يكون الحكم المذكور شاملا لنفس ذلك اللفظ.

أقول : الصحيح عدم الفرق بين موارد إرادة الشخص وبين موارد إرادة المثل والصنف والنوع ، فإنّ شيئا منها ليس من قبيل استعمال اللفظ في اللفظ ؛ وذلك لأنّه كما يكون المعنى كليّا ويرد عليه التقييد بحيث لا ينطبق معه إلّا على واحد ، كذلك نفس اللفظ وإذا أريد طبيعي الملفوظ يعني زيد مع هيئته وقيّد بكونه بعد شخص (ضرب) ينطبق على الواقع بعده ولا يعمّ غيره ، فيكون الحكم في القضية على فرد خاصّ لا بصورته الخاصّة ، بل بالعنوان المنطبق عليه خاصّة ، ولو ببركة التقييد.

لا يقال : القابل للتقييد والانطباق على الفرد هو الطبيعي ، لا الشخص ،

__________________

(١) الكفاية : ص ٢١.

٧١

استعمال اللفظ في المعنى ، وإن كان فردا منه ، وقد حكم في القضية بما يعمّه ، وإن أطلق ليحكم عليه بما هو فرد كلّيه ومصداقه ، لا بما هو لفظه وبه حكايته ، فليس من هذا الباب ، لكن الاطلاقات المتعارفة ظاهرا ليست كذلك ، كما لا يخفى ، وفيها ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك ، مما كان الحكم في القضية لا يكاد يعمّ شخص اللفظ ، كما في مثل : (ضرب فعل ماض).

______________________________________________________

وبالتلفّظ بلفظ زيد ، يوجد الشخص لا الطبيعي القابل للتقييد ، ففي مورد إرادة المثل لا بدّ من الالتزام بالاستعمال.

فإنّه يقال : تقييد الطبيعي بقيد بحيث لا ينطبق معه إلّا على واحد يكون في موطن النفس ، فلا ينافي ذلك كونه شخصا بالتلفّظ به ، فهو ـ مع قطع النظر عن تشخّصه باللّفظ ـ يكون كلّيا في أفق النفس ، وقد قيّد فيه وحكم عليه بما ذكر.

وبالجملة الإطلاقات المتعارفة في موارد الحكم على اللفظ كلّها من قبيل إلقاء الموضوع في الخارج بنفسه لا بلفظه. وما ذكره قدس‌سره من أنّ الحكم في القضية قد لا يعمّ شخص اللفظ كما مثّل له بقوله : ضرب فعل ماض ، وأنّ الملفوظ مبتدأ لا فعل ماض ، لا يمكن المساعدة عليه ، حيث إنّ (ضرب) فيما إذا استعمل في معناه الموضوع له يكون ماضيا ، وأمّا مع عدم استعماله في المعنى المزبور وإرادة نفس الصيغة كما هو المفروض يمكن الحكم عليه فيكون مبتدأ. وبتعبير آخر : يكون المراد (ضرب) في المثال السابق على تقدير استعماله في معناه الموضوع له فعلا ماضيا لا مطلقا ، كما لا يخفى. نعم يمكن الحكم عليه بما إذا لم يقيّد بحال استعماله في المعنى ، كما في قولنا : (ضرب لفظ).

٧٢

الخامس

ـ لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها [١] من حيث هي ، لا من حيث هي مرادة للافظها ، لما عرفت بما لا مزيد عليه ، من أنّ قصد المعنى على أنحائه من مقوّمات الاستعمال ، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه.

______________________________________________________

خروج القصد عن المعنى :

[١] وبيانه أنّه يتحقّق الاستعمال بأمرين : الأوّل لحاظ المتكلّم المعنى ، وثانيهما كون قصده من الاستعمال الالتفات إليه بأن يحضر ذلك المعنى إلى ذهن السامع بتبع التفاته إلى اللفظ أوّلا ، وقد ذكر قدس‌سره سابقا خروج الأمر الأوّل ـ يعني لحاظ المعني ـ عن حريم الموضوع له والمستعمل فيه ، وأنّ المستعمل فيه اللفظ كالموضوع له ، نفس المعنى.

ويذكر في المقام خروج الأمر الثاني عن حريمهما وأنّ القصد المزبور كاللحاظ غير مأخوذ في معاني الألفاظ ، واستشهد للخروج بأمور :

الأوّل : أنّ القصد المزبور مقوّم للاستعمال ومحقّق له فلا يؤخذ في الموضوع له والمستعمل فيه ، كاللحاظ.

والثاني : صحّة الحمل والإسناد في الجمل بلا تصرف في أطرافها ، فإنّ الألفاظ لو كانت موضوعة للمعاني بما هي مرادة ، لما صحّ الإسناد والحمل فيها بلا تجريد في أطرافها ، مع أنّ المحمول على زيد في (زيد قائم) والمسند إليه في (ضرب زيد) نفس القيام والضرب لا بما هما مرادان ، وكذلك الأمر في ناحية الموضوع والفاعل ، فإنّ الموضوع والفاعل هو زيد لا بما هو مراد.

والثالث : أنّ اللازم على تقدير أخذ القصد المزبور في المعاني هو كون الوضع

٧٣

هذا مضافا إلى ضرورة صحة الحمل والاسناد في الجمل ، بلا تصرّف في ألفاظ الأطراف ، مع أنّه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة ، لما صح بدونه ، بداهة أنّ المحمول على (زيد) في (زيد قائم) والمسند إليه في (ضرب زيد) ـ مثلا ـ هو

______________________________________________________

في عامّة الألفاظ عامّا ، والموضوع له خاصّا ؛ لأنّ ما يتوقّف عليه الاستعمال بل مقوّمه ليس هو مفهوم الإرادة والقصد ، بل ما يكون بالحمل الشائع إرادة وقصدا وأخذ واقع القصد في معنى اللفظ يوجب جزئيته.

أقول : كلامه كما ذكرنا ناظر إلى خروج قصد المعنى عن الموضوع له والمستعمل فيه ، وأمّا أنّ المقصد المزبور ليس شرطا في ناحية الوضع نظير ما التزم به في المعنى الحرفي والاسمي من كون اللحاظ الآلي شرطا في وضع الحرف ، والاستقلالي شرطا في وضع الإسم ، فليس في كلامه تعرّض لإبطال ذلك. ولقائل أن يقول : بما أنّ الوضع في الألفاظ أمر بنائي ، فلا محالة يختصّ بصورة خاصّة ، وهي ذكر اللفظ في مقام قصد المعنى وإرادة انتقاله إلى ذهن السامع.

وأمّا مع ذكره في غير هذا المقام فلم يتعلق باللفظ تعيين وقرار ، فيكون نفس الوضع مقيّدا بصورة إرادة التفهيم لا الموضوع له والمستعمل فيه ، ليرد عليه لزوم التجريد في مورد الحمل أو الإسناد أو كون الوضع في عامّة الألفاظ عامّا والموضوع له خاصّا.

وما ذكر من خطور المعنى إلى الذهن عند سماع اللفظ ولو من غير شاعر لا ينافي اشتراط الوضع بالقصد ، فإنّ الخطور المذكور لا يستند إلى الوضع ، بل إلى أنس الأذهان بتلك المعاني من تلك الألفاظ ؛ ولذا يخطر المعنى ولو مع تصريح الواضع باختصاص وضعه بصورة قصد التفهيم ، وحيث إنّ قصد التفهم لا بدّ من

٧٤

نفس القيام والضرب ، لا بما هما مرادان ، مع أنّه يلزم كون وضع عامة الألفاظ عاما والموضوع له خاصا ، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ ، فإنّه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة فيه ، كما لا يخفى ، وهكذا الحال في طرف الموضوع.

______________________________________________________

إحرازه بوجه ؛ فلو أحرز تكون الألفاظ معيّنة للمعاني بمقتضى قرار الوضع والتعيين ، وقد جرت سيرة أهل المحاورات عند صدور كلام عن متكلّم عاقل على حمله على إرادة التفهيم ما لم يكن في البين قرينة على الخلاف.

والحاصل أنّ الدلالة التصديقية التي ذكرها المصنّف في ذيل كلام العلمين قدس‌سرهما عين الدلالة الوضعية وأنّ الدلالة التصوريّة ـ يعني خطور نفس المعني من نفس اللفظ عند سماعه بأي نحو كان ـ ناشئة عن أنس الذهن بالاستعمال ولا يكون في اشتراط الوضع بذلك شيء من المحاذير المتقدّمة.

ولكنّ الصحيح أنّه كما لا اشتراط في ناحية المستعمل فيه كذلك لا اشتراط في ناحية الوضع أيضا ، وذلك لأنّه إن كان المأخوذ في ناحية الوضع مطلق إرادة التفهيم في مقابل التلفظ غفلة وبلا إرادة ، فهذا لا يحتاج إلى الاشتراط ؛ لأنّ الاستعمال لا يكون بدون تلك الإرادة وإنّما يمكن اشتراط شيء في الوضع إذا أمكن استعمال اللفظ بدونه لو لا الاشتراط ، وإلّا يكون الاشتراط لغوا ، وإن كان المأخوذ إرادة خاصّة كالإرادة المتعلّقة بتفهيم المعنى الفلاني مثلا ، فاشتراطها في الوضع غير معقول ؛ لأنّه على ذلك يلزم على السامع إحراز أنّ المتكلّم يريد المعنى المزبور من الخارج لأنّه شرط دلالة اللفظ ، وهذا في الحقيقة إبطال لدلالة الألفاظ ، فتحصّل من جميع ذلك أنّ اللفظ في مقام الوضع يتعيّن لذات المعنى ، من غير أن يؤخذ اللحاظ أو الإرادة والقصد في ناحية.

٧٥

وأما ما حكي عن العلمين (الشيخ الرئيس ، والمحقق الطوسي) من مصيرهما إلى أنّ الدلالة تتبع الإرادة ، فليس ناظرا إلى كون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة ، كما توهمه بعض الأفاضل [١] ، بل ناظر إلى أنّ دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية ، أي دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها ، ويتفرع عليها تبعيّة مقام الإثبات للثبوت ، وتفرع الكشف على الواقع المكشوف ، فإنّه لو لا الثبوت في الواقع ، لما كان للاثبات والكشف والدلالة مجال ، ولذا لا بدّ من إحراز كون المتكلّم بصدد الإفادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودلالته على الإرادة ، وإلّا لما كانت لكلامه هذه الدلالة ، وإن كانت له الدلالة التصورية ، أي كون سماعه موجبا لإخطار معناه الموضوع له ، ولو كان من وراء الجدار ، أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار.

______________________________________________________

تبعية الدلالة للإرادة :

[١] وحاصل التوهّم هو أنّ ما حكي عن العلمين قدس‌سرهما من تبعية الدلالة للإرادة ، ظاهره أنّ ثبوت المدلول للكلام تابع وموقوف على إرادة المتكلّم له ، بأن يكون قصد المعنى قيدا للمعنى ، وإلّا لم يكن المدلول موقوفا وتابعا للإرادة.

وبتعبير آخر : حيث إنّ ظاهر كلام العلمين قدس‌سرهما توقّف ثبوت المدلول للكلام على إرادة المتكلّم بحيث لا يثبت المدلول فيما لم يكن له إرادة ، يلزم أخذ الإرادة في معانى الألفاظ.

ودفع قدس‌سره التوهّم بأنّ للكلام مدلولين :

الأوّل : المدلول التصوري ، وهو الناشئ من العلم بوضع الألفاظ ، بأن يكون سماع اللفظ موجبا للانتقال إلى معناه فيما كان السامع عالما بوضعه ، وهذا المدلول

٧٦

إن قلت : على هذا ، يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ ، والقطع بما ليس بمراد ، أو الاعتقاد بإرادة شيء ، ولم يكن له من اللفظ مراد.

قلت : نعم لا يكون حينئذ دلالة ، بل يكون هناك جهالة وضلالة ، يحسبها الجاهل دلالة ، ولعمري ما أفاده العلمان من التبعية ـ على ما بيّنّاه ـ واضح لا محيص عنه ، ولا يكاد ينقضي تعجبي كيف رضي المتوهم أن يجعل كلامهما ناظرا إلى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل ، فضلا عمن هو علم في التحقيق والتدقيق؟!.

______________________________________________________

ثابت للكلام على كلّ تقدير ، وغير موقوف على قصد المتكلّم وإرادته.

والثاني : المدلول التصديقي ، وهو كون المتكلم قاصدا لتفهيم المعاني المقررة في وضع تلك الألفاظ ، وهذه الدلالة لا تثبت بمجرّد العلم بالوضع ؛ ولذا لا بدّ فيها من إحراز كون المتكلّم في مقام التفهيم ليحرز قصده تلك المعاني من تلك الألفاظ وكلام العلمين قدس‌سرهما ناظر إلى هذه الدلالة الموقوفة والتابعة للقصد والإرادة.

لا يقال : هذه الدلالة أيضا لا تتبع قصد المتكلم ، فإنّ المدلول التصديقي يثبت في موارد عدم إرادة المتكلّم ، كما في مقام الخطأ والاعتقاد بإرادة شيء مع أنّه لم يكن ذلك الشيء مرادا للمتكلّم.

فإنّه يقال : لا يكون في هذه الموارد دلالة حقيقة ، بل تخيّل دلالة يحسبها الغافل دلالة.

أقول : الدلالة التصديقيّة أيضا على قسمين :

الأوّل : الدلالة التصديقية الاستعمالية ، وهذه الدلالة تتبع قصد التفهيم ، فإنّه إذا قصد المتكلم تفهيم أمر وأتى بالكلام على وفق وضع الألفاظ المقرّرة للمعاني ثمّ جزم السامع بأنّ ما أفهمه المتكلّم بكلامه أمر آخر ، يكون ذلك من خطأ السامع

٧٧

السادس

لا وجه لتوهّم وضع للمركبات ، غير وضع المفردات [١] ، ضرورة عدم الحاجة إليه ، بعد وضعها بموادها ، في مثل (زيد قائم) و (ضرب عمرو بكرا) شخصيّا ، وبهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيا ، ومنها خصوص

______________________________________________________

وتخيّله ، لا من المتكلّم.

والثاني : الدلالة التصديقية ، بالمراد الجدي يعني كشف المراد الجدي بأصالة التطابق بين مراده الاستعمالي ومراده الجدّي وهذه الدلالة ـ المعبّر عنها بأصالة التطابق ـ تثبت ولا تتبع إرادة المتكلم جدّا ، لما أفهم بكلامه كما في موارد الإفتاء تقيّة. وبتعبير آخر : هذه الدلالة لا تتبع إرادة المتكلم واقعا وجدا ، ولا ينافيها عدم إرادته كذلك ، وإنّما ينافيها العلم بالخلاف أو نصبه القرينة على الخلاف ، كما لا يخفى. وعلى ذلك فإن أراد العلمان قدس‌سرهما تبعيّة هذه الدلالة التصديقية لإرادة المتكلم ، فقد ذكرنا عدم تبعيتها لها ، وإن أراد التبعية في ثبوت الدلالة الاستعمالية فلها وجه ، كما تقدم.

الوضع في المركبات :

[١] بأن يقال : المركّب بما هو مركّب ـ مادّة وهيئة ـ قد وضع لمعنى المركب بوضع آخر زائدا على وضع مفرداته في ناحية موادها شخصيا ، وفي ناحية هيئات مفرداته نوعيا ، وقوله قدس‌سره : «ومنها خصوص هيئات المركبات» عطف على قوله : «بهيئاتها المخصوصة يعني من الهيئات الطارئة على المواد هيئات المركبات ، كهيئة المبتدأ والخبر ، مع أداة التأكيد أو مع غيرها أو بدونهما.

ثمّ إنّ ظاهر كلامه وكلام غيره أنّ الوضع في مثل (زيد قائم) و (ضرب زيد عمروا) في ناحية موادهما شخصيّ وفي جهة الهيئات نوعيّ.

٧٨

هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب والإضافات ، بمزاياها الخاصة من تأكيد وحصر وغيرهما نوعيا ، بداهة أن وضعها كذلك واف بتمام المقصود منها ، كما لا يخفى ، من غير حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها ، مع استلزامه الدلالة على

______________________________________________________

ولنا أن نتساءل : كيف صار الوضع في ناحية المواد شخصيا ، وفي ناحية الهيئات نوعيا؟

فإن قيل : بأن الواضع حين وضع المواد لاحظ مادّة مخصوصة بحيث لا تعمّ سائر المواد ووضعها لمعنى ؛ ولذا صار الوضع في ناحية المادة شخصيا.

فيقال : بأنّ الوضع في ناحية الهيئات أيضا كذلك ، فإنّ الواضع حين الوضع لاحظ هيئة خاصّة بحيث لا تعمّ سائر الهيئات ، مثلا لاحظ هيئة (الفاعل) بخصوصها ولم يكن الملحوظ شاملا لهيئة (مفعول) أو غيرها.

وإن قيل : إنّ الملحوظ حين وضع هيئة (فاعل) كان شاملا لجميع جزئياتها الطارئة على المواد المختلفة بالنوع وبهذا الاعتبار سمّي وضعها نوعيّا.

فإنّه يقال : الملحوظ عند وضع المادّة أيضا كان شاملا لجميع جزئياتها الطارئة عليها الهيئات المختلفة بالنوع ، وبالجملة لم يظهر وجه لتسمية الوضع في ناحية الهيئة نوعيّا وفي ناحية المادّة شخصيّا.

واجيب عن الإشكال : بأنّ حال الهيئات ـ حتّى في مقام اللحاظ ـ حال العرض في الخارج ، فكما أنّ العرض في الخارج لا يتحقق بلا موضوع كذلك الهيئة لا تكون ملحوظة إلّا في ضمن مادّة ، حيث لا يمكن حين وضعها لحاظها بنفسها بخلاف الموادّ فإنّها قابلة للتصوّر بنفسها ، بمعنى أنّه يمكن للواضع ملاحظة مادّة من المواد ، عارية عن جميع الهيئات المعروفة الموضوعة في مقابل المواد ، وعليه فاللازم في وضع الهيئات أحد أمرين : إمّا ملاحظتها طارئة على عنوان جعلي مشير إلى المواد

٧٩

المعنى : تارة بملاحظة وضع نفسها ، وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها ، ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلك ، هو وضع الهيئات على حدة ، غير وضع المواد ، لا وضعها بجملتها ، علاوة على وضع كل منهما.

______________________________________________________

المختلفة بالنوع ، كما يعبرون عن ذلك ب (ف ع ل) ويجعلونه مشيرا إلى المواد المختلفة. وإمّا ملاحظتها طارئة على مادة فتوضع هي وما يماثلها من الهيئات لمعناها.

أقول : عدم إمكان لحاظ الهيئة مستقلا والاحتياج عند وضعها إلى أحد الأمرين لا يكون موجبا لافتراقها عن المادة بحسب الموضوع ، حيث إنّ الموضوع في كلّ منها كما ذكرنا هو النوع لا الشخص في أحدهما والنوع في الآخر وإمكان لحاظ المادة بلا هيئة لا يفيد فيما ذكر في الفرق ، فإنّ علماء الأدب القائلين بوضع المادة شخصيا والهيئة نوعيا قد صرّحوا بأنّ الأصل في الكلام ـ أي المشتقات ـ هو المصدر أو الفعل الماضي ، ومرادهم من الأصل أنّ المادة حين وضعها لوحظت في ضمن هيئة المصدر أو هيئة الفعل الماضي.

وعلى ذلك فالموضوع ليس خصوص المادة الملحوظة مع هيئة المصدر أو الفعل ، بل هي وما يكون منها في ضمن سائر الهيئات فيكون وضعها أيضا نوعيا كالوضع في ناحية الهيئة.

واستدلّ الماتن قدس‌سره على عدم وضع آخر للمركب بما هو مركب بأمرين :

الأوّل : عدم الحاجة إليه بعد وفاء الوضع في ناحية مواد المركب وهيئاتها لغرض الوضع.

والثاني : بأنّ لازم ثبوت وضع آخر للمركب بما هو مركب تعدّد الانتقال ، فباعتبار الوضع في مواده وهيئاته يكون الانتقال تفصيليا ، وباعتبار وضعه بما هو

٨٠