دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

في الاستنباط تغاير الحكم المستنبط والمستنبط منه ، إمّا بأن لا يكون المستنبط منه حكما شرعيا ولكن يستخرج منه حكم شرعي فرعي ، كقاعدة الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته التي يستخرج منها وجوب الوضوء والغسل وتطهير الثوب أو البدن عند وجوب الصلاة في قياس استثنائي فيقال مثلا :

كلما كانت الصلاة واجبة ، كان الوضوء الذي هو مقدمة للصلاة واجبا أيضا.

لكن الصلاة واجبة.

فالوضوء واجب.

وإمّا بأن يكون المستنبط منه حكما شرعيا طريقيّا يحرز به تارة نفس الحكم الشرعي العملي وأخرى حال الحكم الشرعي الفرعي لا نفسه.

فالأوّل كحجية خبر الثقة بناء على كون مفاد أدلّة الاعتبار جعل الخبر علما تعبديا فيقال مثلا : العصير العنبي بعد الغليان مما قام خبر الثقة على حرمته.

وكلّ ما قام خبر الثقة على حرمته فهو معلوم الحرمة.

فينتج : أنّ العصير العنبي بعد الغليان مما علم حرمته ، وبعد إحراز الحرمة يفتي الفقيه بحرمة العصير العنبي بالغليان.

والثاني كحجية خبر الثقة بناء على كون مفاد أدلة الاعتبار جعل المنجزيّة والمعذريّة ، أو جعل المؤدّى (أي جعل الحكم الطريقي على طبق مؤدياتها) وكمباحث الأصول العملية ، فالحكم الشرعي العملي لا يستنتج منها بل يستنتج من هذه المباحث حاله من المنجزيّة والمعذرية.

٢١

القواعد الفقهية :

وكيف ما كان فقد ظهر مما ذكرنا خروج القواعد الفقهية التي لا يستنبط منها نفس الحكم الشرعي الكلّي من حيث تنجزه وعدمه عن مسائل علم الأصول ، فإنّ تلك القواعد بأنفسها أحكام شرعية عملية تكليفيّة كانت أم وضعيّة ، وضمّها إلى صغرياتها من قبيل تطبيق الكبرى الشرعية العملية على صغراها ، لا من الاستنباط.

وتوضيح ذلك : أنّ القواعد الفقهية على قسمين :

الأوّل : ما يكون مدلولها حكما فرعيا ثابتا لعنوان تندرج تحته الجزئيات الخارجية فقط ، كما في نجاسة الخمر وحرمة شربه ، ولا مورد لتوهّم النقض في هذا القسم ، حيث لا يثبت بضمّها إلى صغراها إلّا الحكم الجزئي الفرعي لا الكلّي.

الثاني : ما يكون مدلولها حكما شرعيا ثابتا لعنوان تندرج تحته العناوين الكلية ، كقاعدة «ما يضمن وما لا يضمن» فإنّ موضوعها العقد ، ويندرج تحته البيع والإجارة والقرض والمصالحة وغير ذلك من أنواع العقود ، فتكون النتيجة في هذا القسم بعد تطبيقها على صغرياتها ثبوت الحكم الكلي ، ولكن هذا من باب التطبيق لا الاستنباط فإنّ الملازمة على تقدير ثبوتها ، شرعية بمعنى أنّ الشارع قد أخذ في موضوع حكمه بالضمان في العقد الفاسد ، ثبوت الضمان في صحيحه ، نظير الملازمة بين وجوب القصر على المسافر ووجوب الإفطار ، فإنّ مرجعها إلى أنّ الشارع قد جعل السفر الموضوع لوجوب القصر موضوعا لوجوب الإفطار أيضا ، إلّا ما استثني ، وهذا بخلاف الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته ، فإنّها أمر واقعي قد كشف عنه العقل أو هي بنفسها حكم العقل ، ولذا يكون القول بها مصححا لاستنباط حكم

٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

شرعي كلّي بقياس استثنائي على ما تقدم ، أو قياس حملي تكون نتيجته الملازمة بين الأمر بالصلاة في أوقاتها والأمر بمقدماتها.

والحاصل ، تمتاز القاعدة الفقهية عن القاعدة الأصولية بأنّ مفاد القاعدة الأصولية إما أن لا يكون حكما شرعيا ولكن ينتقل منه إلى حكم شرعي كلّي ، أو يكون مفادها حكما شرعيا طريقيا ، ولكن تارة يحرز به حكم شرعي كلي واقعي بأن تكون نتيجة قياس الاستنباط العلم بذلك الحكم لا نفس الحكم فيتم بذلك موضوع جواز الإفتاء كما في موارد الأمارات المعتبرة ، وأخرى يحرز به حال الحكم الكلّي الواقعي من حيث التنجّز وعدمه كما في موارد الأصول العملية الجارية في الشبهات الحكمية.

بخلاف القاعدة الفقهية فإنّ مفادها بنفسه حكم شرعي عملي كلّي لعنوان يكون تحته جزئيات حقيقية أو إضافية وتكون قياساتها من قبيل تطبيق الكبرى على صغرياتها ونتيجتها ثبوت نفس ذلك الحكم فيها ، وإذا كان مفاد القاعدة حكما طريقيا فيحرز به حال الحكم الجزئي من حيث التنجز وعدمه ، كالأصول العملية الجارية في الشبهات الموضوعية وغيرها من القواعد المجعولة عند الشك في الموضوع.

ومما ذكر يظهر أنّ قاعدة «لا حرج» أو «لا ضرر» قاعدة فقهية تطبّق على صغرياتها ويكون مفادها ثبوت نفس الحكم الشرعي أو عدمه ، ولا يكون مفادها مما يستنبط منه الحكم الشرعي نفسه أو حاله من حيث التنجز وعدمه.

نعم قاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكمية قاعدة أصولية ، إذ يحرز بها حال الحكم الشرعي الواقعي الكلي من حيث التنجز وعدمه ، وإنّما لم يبحث عنها

٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

في الأصول لعدم الخلاف فيها ولاختصاصها بباب الطهارة ، فتذكر في الفقه استطرادا بمناسبة الكلام في قاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الموضوعية.

ومما ذكرنا يظهر ضعف ما عن المحقق النائيني قدس‌سره في الفرق بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية من أنّ الأولى لا تنفع العامي ؛ لعدم تمكّنه من تشخيص صغراها ، بخلاف الثانية فإنّها تنفعه فيما إذا ألقيت إليه لتمكّنه من معرفة صغرياتها (١).

ووجه الضعف ؛ أنّ الفرق غير جار في القسم الثاني من القواعد الفقهية ، فإنّ العامي لا يتمكّن من تشخيص صغرياتها كما في قاعدة «الشرط جائز ما لم يكن محلّلا للحرام أو محرّما للحلال» و «الصلح جائز بين المسلمين ما لم يخالف الكتاب والسنّة» إلى غير ذلك.

الضابطة في المسألة الأصولية :

ثمّ إنّه يقع الكلام في المراد بالاستنباط من القاعدة الأصولية ، هل هو الاستنباط بلا ضمّها إلى قاعدة أخرى من قواعد الأصول أو المراد به الاستنباط ولو بضمّها إليها ، فإن كان المراد هو الأوّل فمن الظاهر أنّ المسائل الأصولية ليست كذلك ، وإن كان المراد هو الثاني دخل في المسائل الأصولية ، مسائل علم الرجال أيضا.

ذهب سيدنا الأستاذ قدس‌سره إلى الأول ولكن لا بنحو كلّي ، فذهب إلى أنّ القاعدة الأصولية هي التي يكون ضم صغراها إليها كافيا في استنباط الحكم الفرعي الكلي ولو في مورد واحد ، بخلاف القواعد في سائر العلوم فإنّها لا تكون كذلك ، بل

__________________

(١) فوائد الأصول : ٤ / ٣٠٩ ؛ أجود التقريرات : ٢ / ٣٤٥.

٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

دائما تحتاج إلى قاعدة أصولية لاستنباط الحكم الشرعي منها ، فمثلا مسألة «ظهور صيغة الأمر في الوجوب» مسألة أصولية وإذا أحرز الأمر بفعل بصيغته في الكتاب المجيد أو السنّة القطعيّة يستنبط منه وجوب ذلك الفعل.

لا يقال : لا بدّ في الحكم بوجوب ذلك الفعل من ضمّ كبرى حجية الظواهر.

فإنّه يقال : إنّ المسألة الأصولية هي التي لا تحتاج لاستنباط الحكم الشرعي منها إلى ضمّ قاعدة أخرى من قواعد الأصول إليها ، لا أنها لا تحتاج إلى ضمّ مقدمة أخرى أصلا ، وحجّية الظواهر من المسلمات التي لم يقع الخلاف فيها ، وباعتبار ذلك لم تجعل من مسائل علم الأصول ، وإن وقع الخلاف فيها في موارد ، كحجية ظواهر الكتاب المجيد ، أو حجية الظاهر مع الظن بالخلاف ، وحجية الظهور لغير من قصد إفهامه.

والحاصل أنّ استنباط الحكم من قاعدة ظهور صيغة الأمر في الوجوب وإن كان يحتاج إلى مقدمة أخرى إلّا أنّ تلك المقدمة ليست من مسائل علم الأصول ولا من مسائل سائر العلوم ، وهذا بخلاف مسائل سائر العلوم ، فإنّه يحتاج لاستنباط الحكم منها إلى ضمّ قاعدة أصولية لا محالة.

ثمّ أردف هذا القائل الجليل قدس‌سره أنّه لا يلزم أن تكون نتيجة المسألة الأصولية على كل تقدير كذلك ، بل يكفي في كون المسألة أصولية كون نتيجتها كذلك ، ولو على بعض التقادير. مثلا مسألة «اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ» وإن كانت لا تكفي بمجردها للاستنباط على تقدير القول بالاقتضاء ، بل نحتاج لاستنباط الحكم منها إلى ضمّ مسألة أصولية أخرى هي «اقتضاء النهي عن عبادة ، ولو كان

٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

غيريا فسادها» إلّا أنّه على القول بعدم اقتضاء الأمر بشىء النهى عن ضده الخاص يستنبط منها بضمّ صغراها صحة العبادة المضادة للواجب ، كالصلاة في أوّل الوقت مع وجوب إزالة النجاسة عن المسجد.

لا يقال : نفس ثبوت الحرمة الغيرية للضد الواجب وعدم ثبوتها له حكم شرعي يستنبط من نفس مسألة «اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضدّه» فكيف لا تكون المسألة كافية في الاستنباط؟

فإنّه يقال : نفس الحرمة الغيرية لشيء لا يعدّ أثرا عمليا ولا تكون المسألة ـ بهذا الاعتبار ـ مسألة أصولية ، كما يأتي توضيحه في بحث مقدمة الواجب (١).

أقول : الصحيح أنّه لا يستنبط من مسألة «اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه» بمجرّدها الحكم الفرعي العملي ، سواء التزم فيها بالاقتضاء أو عدمه. فإنّه حتّى على القول بعدم الاقتضاء نحتاج ـ لتصحيح العبادة المضادة ـ إلى ضمّ قاعدة أصولية أخرى هي قاعدة جواز الترتّب (أي جواز الأمر بالمتضادّين ترتّبا) ، أو قاعدة عدم التزاحم بين الواجب الموسّع والمضيّق ، أو قاعدة كشف الملاك الإلزامي في الفرد العبادي المضاد من إطلاق المتعلّق في خطاب التكليف ، كما ذكروا تفصيل ذلك في بحث الضدّ.

ثمّ إنّه قد تكون مسألة من سائر العلوم بنفسها كافية في الاستنباط بضمّ صغراها إليها ، ولو في بعض الموارد ، كبعض مسائل علم اللغة التي يستفاد منها معنى الوجوب والحرمة والكراهة أو معنى النجس والطاهر ، مما يدلّ على الحكم تكليفا أو

__________________

(١) المحاضرات : ١ / ١٢.

٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وضعا ، فإنّه إذا وقعت هذه الألفاظ في الكتاب أو في الخبر المحفوف بقرينة موجبة للقطع بصدوره وجهته ، استنبط منه الحكم بلا ضمّ مقدمة أصولية أخرى.

والحاصل : يتعيّن أن يراد بالاستنباط من القواعد الأصولية ما هو الأعمّ من الاستنباط بضمّ قاعدة أخرى من مسائله (حتّى في جميع الموارد).

وإنما لم تجعل مسائل علم الرجال وبعض مسائل علم اللغة من علم الأصول ، باعتبار وضوحها أو باعتبار معلوميتها في علم آخر.

نعم المباحث التي تذكر في كتب الأصول ولكن لا تكون واسطة في استنباط نفس الحكم بل يحرز بها الموضوع أو المتعلّق للحكم ، كمباحث المشتق والحقيقة الشرعية والصحيح والأعم ونحوها ، لا تدخل في مسائل علم الأصول ، بل تعتبر من المبادئ التصورية لعلم الفقه ، بخلاف المسائل الأصولية فإنّها من المبادئ التصديقيّة لعلم الفقه. ولذا ينبغي تقسيم المسائل الأصولية إلى أربعة أقسام :

الأوّل : مباحث الدلالات اللّفظية على الأحكام وتعيين الظهورات فيها.

الثاني : مباحث الاستلزامات العقلية ، ولو كانت غير مستقلّة ، كبحث الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته.

الثالث : مباحث الحجج الاعتبارية والأمارات.

الرابع : مباحث الأصول العملية.

٢٧
٢٨

الأمر الثاني

الوضع هو نحو اختصاص للّفظ بالمعنى [١]

______________________________________________________

حقيقة الوضع :

[١] مراده قدس‌سره ؛ إن اللّفظ يتّصف بكونه موضوعا فيما إذا عيّن بإزاء معنى لتفهيمه بذلك اللفظ في مقام التخاطب ، ويتّصف أيضا بكونه موضوعا فيما إذا تكرّر استعماله في معنى بنصب القرينة ورعاية العلاقة إلى حدّ لا يحتاج تفهيم ذلك المعنى به إلى نصب القرينة بل يكون المعنى الأوّل مهجورا عن الأذهان وينسبق إليها المعنى الثاني عند الإطلاق. واتّصاف اللّفظ بكونه موضوعا في الصورتين يكشف عن كون الوضع في الألفاظ أمرا يحصل بالتعيين تارة ، وبكثرة الاستعمال أخرى ، وذلك الأمر نحو علقة وارتباط بين اللفظ والمعنى يحصل بأحد الأمرين ، وعلى ذلك فما ذكر من أنّ الوضع عبارة عن «تعيين اللفظ بازاء المعنى» غير سديد ، فإنّه بهذا التعريف غير قابل للتقسيم إلى التعييني والتعيّني.

أقول : الوضع هو تعيين اللفظ بإزاء معنى ، سواء كان ابتدائيا أو مسبوقا بالاستعمال المجازي ، إذ في الوضع التعيّني تلغى العناية ولحاظ العلاقة في الاستعمال ولو بعد شيوع ذلك الاستعمال لا محالة ، وفي أيّ زمان فرض إلغائها يحصل التعيين. وبتعبير آخر : كما يحصل التعيين بإنشائه ، كذلك يحصل بالاستعمال ، كما صرّح بذلك قدس‌سره في أوائل البحث في الحقيقة الشرعية ، فيكون إلغاء العناية في الاستعمال بعد تكرّره من التعيين.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره في حقيقة الوضع من كونه نحو اختصاص وارتباط مخصوص بين اللفظ والمعنى ، فإن أراد قدس‌سره من الارتباط والاختصاص أنس الأذهان من لفظ خاصّ ، بمعنى مخصوص ، بحيث ينتقل الذهن عند سماعه إلى ذلك المعنى فهذا

٢٩

وارتباط خاصّ بينهما ، ناش من تخصيصه به تارة ، ومن كثرة استعماله فيه أخرى ، وبهذا المعنى صحّ تقسيمه إلى التعييني والتعيّني ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

الارتباط صحيح ، إلّا أنّه معلول للعلم بالوضع فيكون الوضع غير الارتباط المفروض. وإن أراد من الاختصاص أمرا آخر فلا نعرفه.

وقد يقال في المقام كما عن المحقق الأصفهاني قدس‌سره : إن الارتباط بين اللفظ والمعنى مما يلازم الوضع وليس عينه ، بل الوضع أمر اعتباري يشبه وضع العلم على الأرض أو الحجر على الحجر لغرض ما ، غاية الأمر الوضع في المثالين حقيقي ، يندرج تحت مقولة الوضع وفي اللفظ اعتباري لا يندرج تحت أيّ مقولة ، فلا يكون مما بإزائه شيء في الخارج ، ولا ممّا له منشأ انتزاع خارجي.

ويشهد لذلك أنّ الارتباط حاصل بين طبيعيّ اللفظ وطبيعيّ المعنى ، ولو مع الإغماض عن وجود اللّفظ خارجا أو ذهنا ، بحيث لو لم يتلفّظ أحد بلفظ الماء مثلا ولم يوجد معناه في ذهن أحد ، لكان الارتباط بين لفظه ومعناه موجودا ، ومن ذلك يظهر أنّ الوضع ليس من الأمور الاعتبارية الذهنية نظير الكليّة والجزئيّة والنوعية والجنسيّة ، لأنّه لو كان كذلك لاحتاج إلى لحاظ اللّفظ ولكان المعروض ذهنيا مع أنّ الاختصاص الوضعي حاصل لطبيعي اللّفظ لا بما هو موجود ذهنا ولا بما هو موجود خارجا.

ودعوى أنّ قول الواضع : (وضعت هذا اللّفظ) منشأ لانتزاع الوضع فيكون من الأمور الانتزاعية ـ نظير ما يقال من أنّ قول البائع : (بعت المال) منشأ لانتزاع الملكية ، فتوجد الملكية بمنشإ الانتزاع ـ لا يمكن المساعدة عليها ، فإنّ الأمر الانتزاعي من منشأ يحمل العنوان الاشتقاقي المأخوذ منه ، على منشئه مع أنّ العنوان الاشتقاق من الملكية والوضع لا يحمل على صيغة بعت ولا على صيغة وضعت.

ويشهد أيضا لعدم كون اختصاص اللّفظ بالمعنى ، معنى مقوليا ، اختلاف أنظار

٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الأقوام والطوائف في ارتباط لفظ بمعنى ، فيرى قوم ارتباط لفظ بمعنى ، ويرى آخرون ارتباطه بمعنى آخر (١).

أقول : ما ذكره قدس‌سره ـ من كون الوضع بنفسه أمرا اعتباريا لا يندرج تحت مقولة ـ صحيح ، والشاهد على ذلك إمكان إلغائه ، ولو كان أمرا حقيقيا لما كان يقبل الإلغاء ، إلّا أنّ ما ذكره قدس‌سره من كونه أمرا اعتباريا مسانخا للوضع الخارجي ـ كما ذكره ـ مما لا يمكن المساعدة عليه ؛ إذ اللّفظ وإن كان يتّصف بأنّه موضوع ، والمعنى لا يصحّ اتّصافه بالموضوع عليه ، وإنّما يتّصف بالموضوع له ، ولو كان وضع اللفظ أمرا اعتباريا من سنخ الوضع الخارجي لصحّ اتّصاف اللفظ بالموضوع عليه.

كما أنّ ما ذكره قدس‌سره من أنّ الارتباط والاختصاص لازم الوضع لا يمكن المساعدة عليه أيضا ؛ وذلك لأنّ هذا الارتباط والاختصاص إنّما هو أنس الذهن بالمعنى من اللفظ ، بحيث ينسبق المعنى إلى الذهن عند سماع اللفظ ، وهذا الأنس يحصل من العلم بالوضع أو تكرار الاستعمال ، لا من مجرّد الوضع وإن أريد من الارتباط والاختصاص معنى آخر ، فلا نعرفه.

وعن المحقق الايرواني قدس‌سره أنّ حقيقة الوضع في الألفاظ عبارة عن تنزيل اللفظ منزلة المعنى وجعله عينه ادّعاء ، وهذه العينيّة الادعائيّة يصحّحها ترتّب غرض التفهيم والتفهم عليها ، وهذا الغرض المهمّ كاف في تصحيح الادّعاء فإنّه باب واسع. وذكر قبل ذلك أنّ دلالة الألفاظ على المعاني ذاتية ، ولا يحتاج في أصل دلالتها إلى الوضع ، وإنّما يحتاج إلى الوضع في تعيين المعنى وتمييز المراد من

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٤٤.

٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

المعاني من غير المراد منها ، ويشهد لذلك صحّة استعمال اللفظ وحصول دلالته على نوعه أو مثله حتّى لو كان اللفظ مهملا غير موضوع لمعنى (١).

أقول : لم يظهر وجه الاستشهاد ، فإنّه عند إرادة النوع أو المثل لا بدّ من وجود قرينة يكون اللّفظ بها دالّا على إرادة نوعه أو مثله ، وإن كانت تلك القرينة المحمول المذكور في الكلام ، كما في قوله : (ضرب فعل ماض).

هذا مع الإغماض عمّا يأتي من عدم كون إرادة مثل اللّفظ أو نوعه أو شخصه من استعمال اللفظ في المعنى.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من كون حقيقة الوضع هو الادّعاء ، بأنّ هذا اللفظ عين ذلك المعنى ، فيكذّبه الوجدان عند ملاحظة الوضع في الأعلام الشخصية ، فإنّ حقيقته لا تختلف عن الوضع في سائر الألفاظ ، مع أنّه لا تنزيل ولا ادّعاء في وضعها قطعا ، فإنّ قول الوالد : (سميت ولدي محمّدا) ليس مفاده جعلته عين لفظ «محمّد» أو أنّ صورته عين ذلك اللّفظ ، ويوضّح ذلك كمال الوضوح ، ملاحظة أسماء ذات الحق «جلّ وعلا».

وأمّا دعوى (٢) كون أصل الدلالة في الألفاظ ذاتية ، بتقريب أنّه لو سمع شخص كلاما وكان جاهلا بوضع ألفاظه ، علم أنّ المتكلّم أراد معنى ما ، فيردّها أنّ علم السامع بذلك ليس ناشئا من دلالة الألفاظ ذاتا ، بل من ظهور حال المتكلم العاقل بأنّه لا يفعل شيئا بلا غرض ، والغرض من الكلام عادة إرادة المعاني.

__________________

(١) نهاية النهاية : ١ / ٧.

(٢) الدعوى منسوبة إلى عبّاد بن سليمان الصميري ، قوانين الأصول : ١ / ١٩٤ ؛ والمحصول : ١ / ٥٧.

٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الالتزام بأنّ دلالة الألفاظ ليست بذاتية محضة بل بها وبالوضع معا ـ كما عن المحقق النائيني قدس‌سره ـ ، بدعوى أنّ كل لفظ يناسب معنى واقعا وتلك المناسبة مجهولة عندنا ، والله (تبارك وتعالى) عيّن كلّ لفظ لمعناه المناسب له وألهمنا بالتكلّم بذلك اللّفظ عند إرادة ذلك المعنى ، فيكون الوضع في الألفاظ أمرا متوسطا بين الأحكام الشرعية التي يحتاج إبلاغها إلى الأنام إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب ، وبين الأمور الجبلّيّة التي جبل الإنسان على إدراكها من الأمور التكوينية كالعطش والجوع عند احتياج البدن إلى الماء والغذاء ، ولو كانت دلالة الألفاظ ذاتية محضة بلا توسيط وضع لما جهل أحد معنى لفظ ، ولو عند قوم آخرين ، واحتمال أنّ الواضع هو الإنسان غير صحيح ؛ لأنّا نقطع بحسب التواريخ التي بأيدينا أنّه لم يكن شخص أو أشخاص وضعوا الألفاظ في لغة ، فضلا عن سائر اللغات.

ومما يؤكّد ذلك أنّ جماعة لو أرادوا وضع ألفاظ جديدة في لغة بقدر الألفاظ التي في تلك اللّغة لما قدروا عليه ؛ لكثرة المعاني وتعذّر تصوّرها من قبل أشخاص ، فضلا عن شخص واحد. فقد ظهر أنّ حقيقة الوضع هو تعيين اللفظ لمعنى بمقتضى مناسبة له وأنّ هذا التعيين من الله (عزوجل) (١) ، فغير صحيح ؛ وذلك لأنّ دعوى المناسبة الواقعيّة بين كل لفظ ومعناه ، مما لم يشهد بها شاهد ، وما يقال من أنّ الوضع يستلزم الترجيح بلا مرجح لو لا مناسبة واقعية ، غير صحيح ؛ لأنّ الغرض من الوضع ـ وهو التسبيب إلى تفهيم المعاني والمرادات ـ بنفسه كاف في تعيين أيّ لفظ لأيّ معنى ، وعدم وجود اسم شخص أو أشخاص في التواريخ التي بأيدينا لا تدلّ

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ١١.

٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

على أنّ واضع الألفاظ هو الله سبحانه ، إذ يحتمل أن يكون أصل الوضع في أيّ لغة قد حدث قبل التاريخ ، ثمّ كملت تلك اللغة على مرّ العصور نتيجة تطوّر الأفكار وكثرة الحاجات ، كما نرى بالوجدان أنّ المصنوعات والمخترعات الجديدة توضع لها الأسماء من غير أن يذكر في التاريخ من سمّاها بها ، ومما ذكر يظهر الجواب عن تعذّر وضع أشخاص لغة جديدة ، فضلا عن شخص واحد.

وقد ذهب سيدنا الأستاذ قدس‌سره إلى أنّ وضع الألفاظ في حقيقته تعهّد وقرار من مستعمل اللفظ بأنّه كلّما أتى به أراد تفهيم المعنى الفلاني ، ولا يفرّق في ذلك بين أن يكون التعهّد والقرار ابتدائيا ، أو كان مسبوقا بالتعهد والاستعمال من الآخرين فيكون مستعمل الألفاظ مع ذلك التعهّد واضعا ، ولو كانت استعمالاته مسبوقة بالاستعمال من الآخرين ، فإنّ عدم إعراضه عن استعمال السابقين وإقرار اللفظ على ما هو عليه إمضاء للتعهّد والقرار ، فكلّ مستعمل واضع ، غاية الأمر السابق ـ لسبقه في التعهّد والاستعمال ـ يطلق عليه الواضع ، وعلى ذلك فما يرى من خطور المعنى إلى الذهن عند سماع اللفظ ولو من غير شاعر فهو ليس من الدلالة الوضعيّة ، بل منشؤه أنس الأذهان لكثرة الاستعمال (١).

ولكن لا يخفى أنّه لو كان الأمر كذلك لكان الأنس حاصلا بين اللفظ وإرادة تفهيم المعنى لا نفسه.

والصحيح أنّ الوضع في الألفاظ عبارة عن جعلها علامات للمعاني ، والغرض من جعل العلامة تفهيمها بها ، فالمعنى هو الموضوع له ومسمّى اللّفظ ، لا أنّ إرادة

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه : ١ / ٤٥.

٣٤

ثمّ إنّ الملحوظ حال الوضع إمّا أن يكون معنى عامّا [١] ، فيوضع اللّفظ له تارة ، ولأفراده ومصاديقه أخرى ، وإمّا يكون معنى خاصّا ، لا يكاد يصحّ إلّا وضع اللفظ له دون العام ، فتكون الأقسام ثلاثة ، وذلك لأنّ العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك ، فإنّه من وجوهها ، ومعرفة وجه الشيء

______________________________________________________

المعنى نفسها مسمّى اللّفظ ، ثمّ إنّ هذا التعيين وجعل اللفظ علامة للمعنى قد يكون ابتدائيا ، وقد يكون مسبوقا بالاستعمالات المتكررة بالعناية وملاحظة العلاقة فيكون الوضع تعيّنيّا.

أقسام الوضع :

[١] حاصل ما ذكره قدس‌سره في المقام : أنّ وضع اللفظ لمعنى يتوقّف على لحاظ ذلك المعنى ، فإن كان المعنى الملحوظ عامّا يعني كليّا يكون في ذلك العامّ جهتان ؛ الأولى : أنّه معنى من المعاني ، وبهذا الاعتبار يكون وضع اللفظ له من الوضع العامّ والموضوع له العامّ. والثانية وجهة كونه عنوانا لأفراده ووجوداته وصورة لها ، وبهذا الاعتبار يكون وضع اللّفظ من الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فإنّ الموضوع له في الحقيقة وجوداته وأفراده غاية الأمر لم تلاحظ تلك الأفراد تفصيلا بل إجمالا ، يعني بعنوانها وبالصورة المشتركة بينها.

وأمّا إذا كان المعنى الملحوظ جزئيا فبما أنّ لحاظه ليس إلّا لحاظ نفسه لا غيره من سائر الأفراد ولا للصورة المشتركة بينها حيث إنّ الجزئي لا يكون صورة لغيره فيكون وضع اللّفظ له من الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ.

نعم إذا لوحظ الجزئي فربّما ينتقل الذهن إلى أنّ له كليّا ويوضع اللفظ لذلك الكلّي ، فهذا أمر ممكن إلّا أنّ الوضع في هذا الفرض كالموضوع له عامّ ، فإنّه لوحظ

٣٥

معرفته بوجه ، بخلاف الخاصّ ، فإنّه بما هو خاصّ ، لا يكون وجها للعام ، ولا لسائر الأفراد ، فلا يكون معرفته وتصوّره معرفة له ، ولا لها ـ أصلا ـ ولو بوجه.

نعم ربّما يوجب تصوّره تصوّر العام بنفسه ، فيوضع له اللفظ ، فيكون الوضع عامّا ، كما كان الموضوع له عامّا ، وهذا بخلاف ما في الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، فإنّ الموضوع له ـ وهي الأفراد ـ لا يكون متصوّرا إلّا بوجهه وعنوانه ،

______________________________________________________

المعنى العامّ ثانيا ، بعد تصور الجزئي أوّلا ، وفرق بين تصور الشيء بعنوانه وصورته المرآتيّة كما في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، وبين تصوّر الشيء بنفسه ولو بعد الانتقال إليه من تصوّر شيء آخر كما في حالة الانتقال إلى أنّ للجزئي كليّا.

لا يقال : كون اللفظ موضوعا للجزئي أو استعماله فيه يلازم إدخال الخصوصيات الموجبة للجزئية في ذلك المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه ، وتصور العامّ في مقام الوضع أو الاستعمال لا يكون إلّا تصوّرا لنفسه وهي الجهة المشتركة بين أفراده ومع حذف خصوصيات الأفراد في الملحوظ لا يكون الموضوع له خاصا فلا بدّ من جعل الموضوع له المعنونات بذلك العنوان بأن يلاحظ ما يكون إنسانا أو غيره بالحمل الشائع ويجعل الموضوع له هو المعنون ، لا العنوان ، وهذا في الحقيقة انتقال إلى الجزئي ، ولحاظه إجمالا بعد تصوّر العامّ ويجري ذلك في الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ الذي ذكر قسما رابعا للوضع بأن يلاحظ الجزئي أوّلا ويوضع اللفظ لما هو عنوان له ، وبالجملة يكون في كلتا الصورتين تصور المعنى بنفسه ولو إجمالا ، بعد تصور شيء آخر عامّ أو خاصّ.

فإنّه يقال : إنّ إمكان الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ إنّما هو باعتبار أنّ لحاظ معنى بخارجيّته كاف في جزئيّته ، فإنّ المعنى الكلي يمكن تصوّره بحيث يكون لحاظا لتلك الوجودات العينية ، حيث إنّ الكلي عينها خارجا ، كما يمكن ملاحظته بحيث

٣٦

وهو العام ، وفرق واضح بين تصوّر الشيء بوجهه ، وتصوّره بنفسه ، ولو كان بسبب تصوّر أمر آخر.

ولعلّ خفاء ذلك على بعض الأعلام ، وعدم تميّزه بينهما ، كان موجبا لتوهّم إمكان ثبوت قسم رابع ، وهو أن يكون الوضع خاصّا ، مع كون الموضوع له عامّا ، مع أنّه واضح لمن كان له أدنى تأمّل.

______________________________________________________

يقبل الاتصاف بالوجود والعدم. فإن كان اللّفظ قد وضع له مع الإغماض عن العينيّات الخارجيّة ، بحيث يكون قابلا للاتصاف بكل من الوجود والعدم ، كان الموضوع له كالوضع عامّا ، وإن كان اللفظ قد وضع له بلحاظ العينيّات الخارجيّة بحيث لا يقبل الاتصاف بالوجود والعدم بل يكون الأمر فيه نظير ما في الأعلام الشخصية في عدم اتصافها بالوجود والعدم كان الموضوع له خاصّا ، مثلا ؛ في العنقاء يصحّ أن يقال : إنّه معدوم ، ولا يصح أن يقال : زيد معدوم ، بل يقال : إنّه غير باق. والحاصل أنّ الطبيعيّ عين وجوداته خارجا ، فلحاظه بجهة خارجيّته كاف في كون الموضوع له خاصا ، والمراد بجهة العينيّة واقعها لا مفهوم العينيّة فإنّ مفهومها هو عين مفهوم الوجود ، كما هو ظاهر.

٣٧

ثمّ إنّه لا ريب في ثبوت الوضع الخاص والموضوع له الخاص كوضع الأعلام ، وكذا الوضع العام والموضوع له العام ، كوضع أسماء الأجناس وأمّا الوضع العام والموضوع له الخاص ، فقد توهّم أنّه وضع الحروف ، وما ألحق بها من الأسماء ، كما توهّم أيضا أنّ المستعمل فيه فيها خاصّ مع كون الموضوع له كالوضع عامّا.

والتّحقيق ـ حسبما يؤدّي إليه النّظر الدقيق [١] ـ أن حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الأسماء ، وذلك لأنّ الخصوصية المتوهمة ، إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصّص بها جزئيا خارجيا ، فمن الواضح أنّ

______________________________________________________

المعنى الحرفي :

[١] وبتعبير آخر إنّ مثل لفظ «من» ولفظ «الابتداء» موضوعان لمعنى واحد غاية الأمر ، ذلك المعنى يلاحظ تارة بما هو هو فيستعمل فيه لفظ «الابتداء» ، وأخرى يلاحظ آليّا فيستعمل فيه لفظ «من» وليس المراد أنّ اللّحاظ الآلي أو الاستقلالي داخل في المستعمل فيه ، بل هما نحوان من اللّحاظ يتعلّقان بنفس المعنى في مقام الاستعمال ، ونفس ذلك المعنى ـ الذي يتعلّق به اللّحاظ الآلي تارة والاستقلالي أخرى ـ هو الموضوع له والمستعمل فيه ، فيهما.

ويدلّ على عدم كون معاني الحروف جزئيات بل كمعاني الأسماء كليّات ؛ أنّ القائل بالجزئية إن أراد الخصوصية الخارجيّة الموجبة لكون المعنى جزئيا خارجيا ، فمن الظاهر أنّ تلك الخصوصية غير داخلة في معاني الحروف ، فإنّه كثيرا ما يكون معنى لفظ «من» كلّيا يصدق على كثيرين ، كما إذا وقع تلو الأمر أو النهي ، كقوله «سر من البصرة» ولذا التجأ بعض الفحول إلى جعله جزئيّا إضافيا ، وهو كما ترى ؛ لأنّ ما

٣٨

كثيرا ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك بل كلّيا ، ولذا التجأ بعض الفحول إلى جعله جزئيا إضافيا ، وهو كما ترى. وإن كانت هي الموجبة لكونه جزئيا ذهنيا ، حيث إنّه لا يكاد يكون المعنى حرفيا ، إلّا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر ، ومن خصوصياته القائمة به ، ويكون حاله كحال العرض ، فكما لا يكون في الخارج إلّا في الموضوع ، كذلك هو لا يكون في الذهن إلا في مفهوم آخر ، ولذا قيل في تعريفه : بأنّه ما دلّ على معنى في غيره ، فالمعنى ، وإن كان لا محالة يصير جزئيا بهذا اللحاظ ، بحيث يباينه إذا لوحظ ثانيا ، كما لوحظ أولا ، ولو كان اللاحظ واحدا ، إلّا أن هذا اللحاظ لا يكاد يكون مأخوذا في المستعمل فيه ، وإلّا فلا بدّ من لحاظ آخر ، متعلّق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ ، بداهة أن تصوّر المستعمل فيه مما

______________________________________________________

يوجب كونه جزئيّا إضافيا غير داخل في معناها بل هو مستفاد من دالّ آخر ، كمدخولها كما لا يخفى.

وإن أراد جزئيّة معاني الحروف باعتبار خصوصيّة ذهنيّة مأخوذة فيها ، موجبة لكونها جزئيات ذهنيّة ، بأن يكون الموضوع له نفس الوجود العرضي الذهني ، بأن يقال : كما أنّ الموجود الخارجيّ قد يكون قائما بنفسه فيعبّر عنه بالجوهر وقد يكون قائما بالغير فيعبّر عنه بالعرض ، كذلك الموجود الذهني فإنّ المعنى قد يلاحظ بنفسه ، فيكون اسميّا ، وقد يلاحظ آليّا ، حالة لمعنى آخر (بأن يكون الموجود ذهنا بما هو ، المعنى الآخر) فيكون حرفيا ، وعليه يكون معنى الحرف باعتبار أخذ واقع اللحاظ الآلي فيه وتقوّمه بمعنى آخر ، جزئيا ذهنيا.

ففيه : أن هذا اللّحاظ لا يمكن أخذه في معاني الحروف بشهادة أمور :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله قدس‌سره : «وإلّا فلا بدّ من لحاظ آخر» وتوضيحه : أنّه لو كان واقع اللّحاظ الآلي داخلا في معنى الحرف لزم تعدد اللّحاظ في استعماله ، ضرورة

٣٩

لا بدّ منه في استعمال الألفاظ ، وهو كما ترى. مع أنه يلزم أن لا يصدق على الخارجيات ، لامتناع صدق الكلّي العقلي عليها ، حيث لا موطن له إلّا الذهن ، فامتنع امتثال مثل (سر من البصرة) إلّا بالتجريد وإلغاء الخصوصية ، هذا مع أنّه ليس لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف إلّا كلحاظه في نفسه في الأسماء ، وكما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في المستعمل فيه فيها ، كذلك ذاك اللحاظ في الحروف ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

أنّ الاستعمال موقوف على لحاظ المعنى وتصوّره ، وقد فرضنا واقع اللحاظ الآلي دخيلا في معنى الحرف ، فلا بدّ من لحاظ الابتداء آليا أوّلا ، ثمّ لحاظ الملحوظ باللّحاظ الأوّل ، وهذا ممّا يكذّبه الوجدان.

أقول : توقّف الاستعمال على لحاظ المستعمل فيه ، وإن كان صحيحا إلّا أنّ لحاظ المستعمل فيه ليس إلّا إحضاره في أفق النفس ، وإذا فرض حضور المستعمل فيه عند النفس باللّحاظ الأوّل ـ كما في المعلوم بالذات ـ فلا معنى لإحضاره فيها بلحاظ آخر وفي الجملة لو كان واقع اللّحاظ الآلي مأخوذا في معاني الحروف لم يكن في استعمالها حاجة إلى أزيد من ذلك اللحاظ.

الثاني : ما ذكره قدس‌سره من أنّه لو كان اللّحاظ مأخوذا في معاني الحروف لما صحّ أن تصدق معانيها على الخارجيّات ؛ لأنّ الصدق عليها هو الانطباق عليها ، والانطباق هو العينيّة ، والمعنى المركب والمقيد باللحاظ أمر ذهني لا ينطبق على الخارج بوجه. نعم عدم الانطباق لا يمنع الحكاية عن كثيرين فإنّ الطبيعي المقيّد بالكلّي المنطقي لا يمكن حصوله في الخارج ، مع ذلك يكون كلّيا باعتبار حكايته عن كثيرين ـ كما في الكلي العقلي المصطلح ـ وعلى ما ذكر فيمتنع امتثال قوله «سر من البصرة» إلّا بالتجريد بإلغاء خصوصية اللّحاظ عن متعلّق الأمر.

٤٠