دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

الفصل الثالث

الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء في الجملة بلا شبهة ، وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والإبرام ، ينبغي تقديم أمور :

أحدها : الظّاهر أنّ المراد من (وجهه) [١] ـ في العنوان ـ هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا وعقلا ، مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة ، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا ، فإنّه عليه يكون (على وجهه) قيدا توضيحيا ، وهو بعيد ، مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع ، بناء على المختار ، كما تقدم من أن قصد القربة من كيفيات الإطاعة عقلا ، لا من قيود المأمور به شرعا ، ولا الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب ، فإنّه ـ مع عدم اعتباره عند

______________________________________________________

مبحث الإجزاء :

[١] قد تقدّم في بحث التعبدي والتوصلي عدم إمكان أخذ قصد التقرب في العبادات في متعلّق الأمر بالإتيان بالصلاة مثلا بلا قصد التقرب ، وإن كان من الإتيان بالمأمور به بتمامه إلّا أنّه لا يكفي في سقوط الأمر بها ، وعليه فاللازم في اندراج العبادات في عنوان البحث أن يقال المراد من «وجهه» الوارد فيه هو النحو المعتبر شرعا وعقلا في الإتيان بمتعلّق الأمر ، ولا يصحّ إرادة خصوص النحو المعتبر شرعا ، وإلّا لكان ذكر «على وجهه» توضيحيا مع لزوم خروج التعبديات عن عنوان الخلاف بناء على ما هو المختار عند الماتن قدس‌سره وغيره من أنّ قصد التقرّب اللّازم في العبادات من القيود المعتبرة في كيفية الإطاعة عقلا ، لا ممّا يعتبر في متعلّق الأمر شرعا.

والوجه في لزوم خروجها وضوح عدم الإجزاء فيها بمجرّد الإتيان بتمام متعلّق

٣٨١

المعظم ، وعدم اعتباره عند من اعتبره ، إلّا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات ـ لا وجه لاختصاصه بالذكر على تقدير الاعتبار ، فلا بد من إرادة ما يندرج فيه من المعنى ، وهو ما ذكرناه ، كما لا يخفى.

ثانيها : الظّاهر أنّ المراد من الاقتضاء ـ هاهنا ـ الاقتضاء بنحو العلّية والتأثير [١] ، لا بنحو الكشف والدلالة ، ولذا نسب إلى الإتيان لا إلى الصيغة.

______________________________________________________

الأمر.

ولا مجال أيضا لتوهم أنّ المراد بالقيد المزبور هو قصد الوجه الذي ذهب بعض إلى اعتباره في العبادات ، والوجه فيه هو أنّ قيد «على وجهه» وارد في عنوان البحث في كلام الاصحاب كلّهم ، ولو كان المراد القصد المزبور لما ذكره إلّا من يرى اعتباره. ولا وجه أيضا لتقييد مطلق الإتيان بالمأمور به ، بالقصد المزبور فإنّ من يعتبره لا يرى اعتباره إلّا في خصوص العبادات.

كما لا وجه لاختصاصه بالذكر وإهمال قصد التقرّب بناء على ما تقدّم من عدم إمكان أخذه كقصد الوجه في متعلّق الأمر ، فيتعيّن أن يكون المراد المعنى الجامع ليندرج فيه قصد الوجه أيضا على تقدير القول باعتباره ، وهو ما تقدّم من النحو المعتبر في الإتيان بالمأمور به عقلا وشرعا.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه بناء على أنّ قصد التقرّب وكذا قصد الوجه مما يمكن أخذه في متعلّق التكليف وأنّه لا فرق بينهما وبين سائر القيود المأخوذة في متعلّقه ، يكون قيد «على وجهه» في عنوان البحث توضيحيا لا محالة.

[١] ذكر قدس‌سره أنّ المراد من الاقتضاء في عنوان البحث هو التأثير والعليّة لا بمعنى الكشف والدلالة ؛ ولذا نسب فيه الاقتضاء إلى الإتيان بالمأمور به ، لا إلى الصيغة ونحوها ، مما يدلّ على طلب الشيء وإيجابه.

٣٨٢

إن قلت : هذا إنّما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره ، وأما بالنسبة إلى أمر آخر ، كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي ، فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره ، بنحو يفيد الإجزاء ، أو بنحو آخر لا يفيده.

______________________________________________________

لا يقال : إنّ الإتيان بمتعلّق تكليف على وجهه يؤثّر ويوجب سقوط الأمر بذلك المتعلّق فيكون بمعنى التأثير والعلية ، وأمّا اقتضاء الإتيان بمتعلّق تكليف لسقوط تكليف آخر ، كما في الإتيان بالمأمور به الظاهري ، حيث يسقط معه التكليف الواقعي ، وكذا في الإتيان بالمأمور به الاضطراري ، حيث يسقط معه التكليف بالاختياري ، والخلاف فيه يرجع إلى الخلاف في دلالة خطاب الأمر بالظاهري أو بالاضطراري على الإجزاء وعدم دلالته.

فإنّه يقال : يمكن أن يعنون مورد الخلاف في اقتضاء الأمر الظاهري والاضطراري للإجزاء بذلك المعنى أيضا ، بأن يقال : إنّ البحث في أنّ الإتيان بالمأمور به الظاهري أو الاضطراري هل يؤثّر في الإجزاء وسقوط التكليف بالإضافة إلى التكليف الواقعي أو الاختياري أم لا؟ كما كان بالإضافة إلى أمر نفسهما ، غاية الأمر البحث في أنّ الإتيان بهما يؤثّر في سقوط التكليف الواقعي والاختياري ، ينشأ عن الخلاف في دلالة دليل الأمر الظاهري أو الاضطراري وأنّ ذلك الدليل يدلّ على كون المأمور به الظاهري أو الاضطراري واجدا لتمام ملاك المأمور به الواقعي أو الاختياري أو بالمقدار اللازم من ملاكهما أم لا؟ بخلاف البحث في أنّ الإتيان بهما يوجب سقوط الأمر بهما ، فإنّ البحث في هذه الجهة لملاك آخر كما يأتي.

والمراد من قوله قدس‌سره «ويكون النزاع في إجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري أو الاضطراري بالإضافة إلى التكليف بالواقعي والاختياري صغرويا أيضا ، بخلافه في

٣٨٣

قلت : نعم ، لكنه لا ينافي كون النزاع فيهما ، كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم ، غايته أن العمدة في سبب الاختلاف فيهما ، إنّما هو الخلاف في دلالة دليلهما ، هل أنّه

______________________________________________________

الإجزاء بالإضافة إلى أمره فإنّه لا يكون إلّا كبرويّا» (١) أي بخلاف البحث في أنّ الإتيان بهما يجزي عن أمر نفسهما ، فإنّ البحث فيه على تقديره كبروي لا محالة ، هو أنّ مع الإتيان بالمأمور به على وجهه يكون المأتي به واجدا لتمام ملاك متعلّق التكليف ، ويبحث في المسألة في أنّ المأتي به كذلك يوجب سقوط التكليف ، بحيث لا يكون مجال للامتثال ثانيا ، لا أداء ولا قضاء ، أو لا يوجب سقوطه مطلقا كما يأتي ، وبما أنّ البحث في المأتي به الظاهري أو الاضطراري يقع في دلالة دليلهما على أنّهما واجدان لملاك المأمور به الواقعي والاختياري لا محالة يكون البحث في إجزائهما عن التكليف الواقعي والاختياري بحثا صغرويا ، بخلاف البحث في أنّ الإتيان بهما يجزي عن أمر نفسهما ، فإنّ هذا البحث والخلاف على تقديره كما نقل عن بعض يكون كبرويا لا محالة ؛ لأنّ المزبور حصول ملاك المأمور به الظاهري أو الاضطراري في المأتي به منهما.

وذكر المحقّق الاصفهاني قدس‌سره أنّ المراد بالاقتضاء في عنوان الخلاف وإن كان هو الاقتضاء الثبوتي لا الإثباتي (أي الكشف والدلالة) ولذا نسب الاقتضاء في العنوان إلى الإتيان لا إلى الأمر بالشيء ، إلّا أنّ في إسناد الاقتضاء إلى الإتيان لكونه علة لسقوط الأمر بالفعل أو لعدم الأمر بالقضاء والتدارك مسامحة ؛ لأنّ الإتيان بمتعلّق الأمر معلول للأمر به ، فكيف يكون الإتيان علة لعدم الأمر به ، فإنّ الشيء لا يمكن أن يكون علّة لعدم نفسه ، بل سقوط الأمر مستند إلى انتهاء أمده وعدم بقاء الغرض منه

__________________

(١) الكفاية : ص ٨٢.

٣٨٤

على نحو يستقل العقل بأن الاتيان به موجب للإجزاء ويؤثر فيه ، وعدم دلالته؟ ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا ، بخلافه في الإجزاء بالإضافة إلى أمره ، فإنّه لا يكون إلّا كبرويا ، لو كان هناك نزاع ، كما نقل عن بعض. فافهم.

______________________________________________________

لانتهاء المعلول بانتهاء علّته ، وكذا الحال بالإضافة إلى الأمر بالقضاء ، حيث إنّ الأمر بالتدارك يتوقّف على الخلل في المتدارك ، من فوته بنفسه ، أو فوت بعض ملاكه ، ومع الإتيان بالمأمور به أو حصول ملاكه لا يكون في البين فوت ، لا في المأمور به ولا في بعض ملاكه (١).

أقول : الظاهر أنّ المراد بالاقتضاء ليس الاقتضاء الإثباتي ولا الاقتضاء الثبوتي بمعنى علّية الإتيان بالمأمور به وتأثيره في سقوط التكليف ، لا لما ذكره قدس‌سره ، بل لأنّ الطلب والبعث الاعتباري حدوثا وبقاء يكون بالاعتبار والجعل ، فعدم الأمر بعدم الإتيان بالمتعلّق خارجا إنّما هو لعدم سعة المجعول من الطلب بالإضافة إلى بقائه ، ولا يؤثر فيه شيء من الإتيان أو لعدم بقاء الغرض على غرضيته ، فإنّه لو التزم بعدم الغرض في أوامر الشارع أصلا لكان الإتيان بالمتعلّق ـ سواء كان على نحو صرف وجود الطبيعي أو غيره ـ مقتضيا لسقوط الأمر وعدم بقائه ، فالمراد من الاقتضاء مجرّد حكم العقل بعدم الانفكاك ، بمعنى أنّ عدم البعث نحو الفعل بقاء المستند إلى عدم جعله ، ملازم للإتيان بمتعلّق الأمر ، وكذلك بالإضافة إلى عدم الأمر بالتدارك والقضاء. وبالجملة ، هذه المسألة نظير مسألة اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ ، أو مسألة الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته بحث عن حكم العقل بالملازمة وعدمها.

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٣٦٧.

٣٨٥

ثالثها : الظاهر أن الإجزاء ـ هاهنا ـ بمعناه لغة ، وهو الكفاية [١] ، وإن كان يختلف ما يكفي عنه ، فإنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي يكفي ، فيسقط به التعبد به ثانيا ، وبالأمر الاضطراري أو الظاهري الجعلي ، فيسقط به القضاء ، لا أنّه يكون ـ هاهنا ـ اصطلاحا ، بمعنى إسقاط التعبد أو القضاء ، فإنه بعيد جدا.

رابعها : الفرق بين هذه المسألة ، ومسألة المرة والتكرار [٢] ، لا يكاد يخفى ، فإنّ البحث ـ هاهنا ـ في أن الإتيان بما هو المأمور به يجزي عقلا ، بخلافه في تلك المسألة ، فإنّه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها ، أو بدلالة أخرى.

______________________________________________________

وما ذكره المحقّق الاصفهاني قدس‌سره من أنّ الإتيان بمتعلّق الأمر معلول للأمر به ففيه أنّ الأمر لا يكون علّة ، بل يمكن أن يكون داعيا ومرجّحا لاختيار المكلف ، ولكن لا بوجوده الواقعي ، بل بوجوده الإحرازي والعلمي ، والفرق بين المرجح والداعي وبين العلّة تقدّم تفصيله في بحث الطلب والإرادة.

[١] قد فسّر في كلام جماعة الإجزاء بسقوط التعبّد ثانيا وبسقوط القضاء ، وعليه يكون استعماله فيهما من استعمال اللفظ في معنيين مختلفين ، ولكن لا يخفى أنّه ليس للإجزاء معنى مصطلح ، بل المراد منه المعنى اللغوي وهو الكفاية ، ويختلف ما يكفي عنه ، فإن كان ما يكفي عنه الأمر به ، فلازم الكفاية عدم لزوم الإعادة أو عدم جواز تكرار الامتثال ، وإن كان الأمر الآخر كما في إجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري عن الواقعي وإجزاء المأمور به الاضطراري عن الاختياري ، فلازمه عدم لزوم التدارك أو القضاء.

[٢] ذكر قدس‌سره أنّ الفرق بين البحث السابق في دلالة صيغة الأمر على المرة أو التكرار ، وبين البحث في هذه المسألة ظاهر ، حيث كان البحث في تلك المسألة في

٣٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

تعيين متعلّق الأمر بحسب دلالة الصيغة بنفسها ، أو بالقرينة العامّة كما تقدّم ، ولكن البحث في هذه المسألة هو أنّه بعد تعيين المأمور به يكون البحث في أنّ مع الإتيان به هل يحكم العقل بالاكتفاء به وأنّه لا يبقى للتعبّد به ثانيا مجال ، أم لا يحكم؟

نعم لو قيل في تلك المسألة بدلالة الصيغة بنفسها أو بالقرينة على التكرار ، لكان التكرار عملا موافقا لعدم الإجزاء.

وكذا الفرق بين مسألة الإجزاء ومسألة تبعيّة الأداء للقضاء ظاهر ، فإنّ البحث في مسألة تبعية القضاء للأداء في دلالة الصيغة على تعدّد المطلوب بأن يكون نفس الفعل مطلوبا والإتيان به في الوقت مطلوبا آخر ، بحيث يتحقّق بالإتيان في الوقت كلا المطلوبين ويجب الإتيان بالفعل خارج الوقت على تقدير تركه في الوقت ، أو أنّ المستفاد منها وحدة المطلوب ، ويحتاج لزوم الإتيان بالفعل خارج الوقت إلى تكليف وخطاب آخر.

ويكون البحث في المقام ـ بعد تعيين أنّ المطلوب هو الطبيعي أو المقيد ـ في أنّ الإتيان بالمأمور به هل يوجب سقوط الأمر أم لا؟ ولا يخفى أنّ مسألة تبعية القضاء للأداء تركت في كتب المتأخّرين ؛ لوضوح عدم استفادة المطلوبين من الأمر بالفعل في الوقت ، بل لا يبعد القول بعدم إمكان تعلّق وجوبين في زمان ، أحدهما بطبيعي الفعل ، وثانيهما بالطبيعي المقيّد بالزمان أو بغيره ؛ لأنّ الأمر بالطبيعي في زمان الأمر بالمقيّد يصبح لغوا لحصول الطبيعي بالمقيد ، وإنّما يصحّ وجوبه معلّقا أو مشروطا بترك المقيّد أو فوته.

٣٨٧

نعم كان التكرار عملا موافقا لعدم الإجزاء لكنه لا بملاكه ، وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للأداء ، فإن البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها ، بخلاف هذه المسألة ، فإنّه ـ كما عرفت ـ في أن الإتيان بالمأمور به يجزي عقلا عن إتيانه ثانيا أداء أو قضاء ، أو لا يجزي ، فلا علقة بين المسألة والمسألتين أصلا.

إذا عرفت هذه الأمور ، فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين :

الأول : إنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ـ بل بالأمر الاضطراري [١] أو الظّاهري أيضا ـ يجزي عن التعبد به ثانيا ، لاستقلال العقل بأنّه لا مجال مع موافقة الأمر بإتيان المأمور به على وجهه ، لاقتضائه التعبد به ثانيا.

______________________________________________________

إجزاء الأمر عن نفسه :

[١] يقع البحث في مسألة الإجزاء في موضعين :

أحدهما : إجزاء الإتيان بكلّ من المأمور به الاختياري أو الاضطراري الظاهري عن الأمر المتعلّق بكلّ منها ، وحاصل ما ذكره قدس‌سره في هذا الموضع أنّه لو كان حصول متعلّق الأمر علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى ، كما إذا أمر المولى عبده ببيع شيء فباعه العبد ، ففي مثل ذلك لا محيص عن سقوط الأمر بحقيقته وملاكه ، ونظيره ما إذا أمره بعتق نفسه أو عتق عبد آخر فأعتقه.

وأمّا إذا لم يكن الإتيان علة تامة لحصول الغرض ، كما إذا أمره بالإتيان بالماء ليشربه أو يتوضّأ به ، ففي مثل ذلك لا يكون الأمر ساقطا بعد الإتيان بالماء ، بحقيقته وملاكه ، وإن سقطت داعويّته ، حيث إنّ الغرض الداعي إلى الأمر به ليس مجرّد تمكّنه من الماء ولو آناً ما ، بحيث لو أهرق الماء بعد المجيء به لكان حاصلا ، بل الغرض رفع عطشه والوضوء به ، والمفروض بقاء هذا الغرض ، فكيف يسقط الأمر

٣٨٨

نعم لا يبعد أن يقال : بأنّه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا ، بدلا عن التعبد به أولا ، لا منضما إليه ، كما أشرنا إليه في المسألة السابقة ، وذلك فيما علم أنّ مجرد امتثاله لا يكون علّة تامة لحصول الغرض ، وإن كان وافيا به لو اكتفى به ، كما

______________________________________________________

المسبّب منه؟ نعم تسقط كما ذكرنا داعويّته ما دام المأتي به قابلا لصرفه في عطشه أو وضوئه ، فلو أهرق واطّلع عليه العبد تتجدّد داعويته ، فيجب الإتيان به ثانيا ، كما إذا لم يأت بالماء أوّلا.

وعلى ذلك ، فما دام لم يصرف المولى الماء ، فللعبد تبديل امتثاله بامتثال آخر مثله أو أحسن منه.

تبديل الامتثال :

ولو لم يعلم أنّ الإتيان بالمأمور به من أي القسمين يكون له تبديل الامتثال لاحتمال بقاء الأمر ، ويؤيد جواز تبديل الامتثال ـ بل يدلّ عليه ـ ما ورد في إعادة من صلّى فرادى جماعة ، من أنّ الله (سبحانه) يختار أحبّهما إليه.

أقول : الإتيان بمتعلّق الأمر وإن لم يكن موجبا لحصول الغرض الاقصى ، ولكنّ ذلك الغرض لا يطلب حصوله من المكلف وما يكون مترتّبا على متعلّق التكليف يحصل بالإتيان به لا محالة ، فإذا أمر المولى بالإتيان بالماء ليشربه أو يتوضّأ به ، فما دام لم يصرفه في شربه أو وضوئه وإن لم يحصل غرضه الأقصى ، إلّا أنّ الغرض الداعي له إلى الأمر بالإتيان بالماء ـ وهو تمكنه منه وحصول الماء تحت يده ـ حاصل ، ومعه لا معنى لبقاء أمره ، إذ مع وجود الماء عنده بعد الإتيان أو قبله لا يصحّ أمر العبد بالإتيان بالماء.

والحاصل أنّه مع الإتيان بالماء وتمكين المولى منه ، يكون الأمر به ساقطا بحقيقته وملاكه ، ولو كان في الإتيان بالماء الآخر غرض آخر غير إلزامي ، يكون

٣٨٩

إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه ، فلم يشربه بعد ، فإن الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ، ولذا لو أهريق الماء واطلع عليه العبد ، وجب عليه إتيانه ثانيا ، كما إذا لم يأت به أولا ، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه ، وإلّا لما أوجب حدوثه ، فحينئذ يكون له الإتيان بماء آخر موافق للأمر ، كما كان له قبل إتيانه الأول بدلا عنه.

______________________________________________________

الإتيان ثانيا امتثالا للطلب غير الإلزامي ، وتحصيلا لذلك الغرض غير الملزم ، ولا معنى لامتثال الأمر السابق الساقط.

نعم ، لو أهرق الماء في المثال واطّلع عليه العبد ، يجب الإتيان به ثانيا ، لكن لا بالأمر السابق الساقط ، بل للطلب الجديد الذي هو مثل السابق ، والعلم بأنّ المولى يريد منه الإتيان ثانيا كاف في لزوم ذلك عليه ، بحيث لو فرض غفلة المولى عن إراقته يكون علمه بأنّ لمولاه غرضا في حصول الماء عنده ، حجّة عليه.

وما ورد في إعادة الصلاة جماعة ، فهو أمر آخر استحبابي تعلّق بإعادتها ، كاستحباب إعادة صلاة الآيات ، لا أنّها امتثال للأمر الأوّل ، وما في بعضها من أنّه يجعلها فريضة ، فالمراد منها قصد القضاء لا قصد فريضة الوقت ، كما صرّحت بذلك موثّقة إسحاق بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «تقام الصلاة وقد صلّيت ، فقال : صلّ واجعلها لما فات» (١). فلا يتعيّن أن يكون المراد من جعلها فريضة قصد الفريضة بالأصل وإن كانت مستحبّة بعنوان إعادتها ، كما هو المحتمل في صحيحة الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا صليت وأنت في المسجد ، وأقيمت الصلاة ، فإن شئت فاخرج ، وإن شئت فصلّ معهم واجعلها تسبيحا» (٢). وفي موثقة عمار ،

__________________

(١) الوسائل : ج ٥ ، الباب ٥٥ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١.

(٢) الوسائل : ٥ ، الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ٨.

٣٩٠

نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض ، فلا يبقى موقع للتبديل ، كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه ، بل لو لم يعلم أنّه من أيّ القبيل ، فله التبديل باحتمال أن لا يكون علّة ، فله إليه سبيل ، ويؤيد ذلك ـ بل يدلّ عليه ـ ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلّى فرادى جماعة ، وأن الله تعالى يختار أحبّهما إليه.

______________________________________________________

قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلّي الفريضة ثمّ يجد قوما يصلّون جماعة ، أيجوز أن يعيد الصلاة معهم؟ قال : نعم ، وهو أفضل» الحديث (١).

وبالجملة ، إعادة الصلاة المأتي بها ثانيا كما في إعادة صلاة الآيات ما لم يحصل الانجلاء ، والصلاة التي صلّاها فرادى مع الجماعة ثانيا إنّما هو بأمر استحبابي آخر ، وكذا يجوز لمن صلّى في جماعة إماما أن يعيد تلك الصلاة إماما لقوم آخرين ، بأن يكون المأموم في إعادتها غير المأموم في المأتي به أوّلا ، كما يدلّ على ذلك الإطلاق في صحيحة ابن بزيع ، قال : كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام : «إنّي أحضر المساجد مع جيرتي وغيرهم ، فيأمرونني بالصلاة بهم ، وقد صلّيت قبل أن آتيهم ، وربّما صلّى خلفي من يقتدي بصلاتي والمستضعف والجاهل ، فأكره أن أتقدّم ، وقد صلّيت لحال من يصلّي بصلاتي ممّن سميّت ذلك ، فمرني في ذلك بأمرك أنتهي إليه وأعمل به إن شاء الله تعالى ، فكتب عليه‌السلام : صلّ بهم» (٢).

كل ذلك بأمر آخر ، وليس امتثالا للأمر الأوّل.

نعم يمكن أن يكون المراد في بعض الروايات الإتيان بصورة الصلاة لا إعادتها

__________________

(١) الوسائل : ٥ ، الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ٩.

(٢) الوسائل : ٥ ، الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث : ٥.

٣٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

حقيقة ، كالتي وردت في إعادة الصلاة مع المخالفين ، وأمره عليه‌السلام بجعلها تسبيحة ، ولكنّ ظاهر البعض الآخر استحباب الإعادة لمن صلّى منفردا ثمّ وجد جماعة ، كصحيحة حفص البختري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يصلّي الصلاة وحده ، ثمّ يجد جماعة ، قال يصلّي معهم ويجعلها الفريضة» (١). والمراد بجعلها فريضة في مثلها قصد الفريضة بالأصل ، وإن كانت مستحبّة بالإعادة. وموثّقة عمّار ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلّي الفريضة ثمّ يجد قوما يصلّون جماعة ، أيجوز له أن يعيد الصلاة معهم؟ قال : نعم ، وهو أفضل ، قلت : فإن لم يفعل؟ قال : ليس به بأس» (٢).

وما في رواية أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أصلّي ثمّ أدخل المسجد فتقام الصلاة ، وقد صلّيت ، فقال : صلّ معهم يختار الله أحبّهما إليه» (٣) ، مضافا إلى ما في سندها من الضعف لا يدلّ على تبديل الامتثال بالمعنى الذي ذكره ، فإنّها ناظرة إلى مرحلة حفظ العمل لإعطاء الثواب ، ولا دلالة فيها على وقوع الأحبّ مصداقا للواجب ، وإلّا يكون اختيار المصداق بإرادة الله لا بقصد العبد ، كما هو المراد من تبديل الامتثال ، وظاهرها أنّه لو كانت الجماعة المزبورة موجبة للمزية في الصلاة ، كما إذا كانت واجدة لشرائطها ، تحسب صلاته المنفردة التي صلّاها أوّلا بتلك المزية في مقام إعطاء الثواب.

ثمّ إنّ هذا كلّه بالإضافة إلى الإتيان بالمأمور به الواقعي الاختياري أو الإتيان

__________________

(١) الوسائل : ٥ ، الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١١.

(٢) الوسائل : ٥ ، الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ٩.

(٣) الوسائل : ٥ ، الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١٠.

٣٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بالمأمور به الاضطراري الواقعي ، بالإضافة إلى أمر نفسهما وأنه لا مجال بعد الإتيان بمتعلّق الأمر فيها لإعادة الامتثال ، إلّا مع ورود الأمر الاستحبابي بإعادتهما أو مع احتمال الأمر الاستحبابي بإعادتهما ، حيث يمكن الإعادة بقصد الرجاء واحتمال ذلك الأمر.

وأمّا المأمور به الظاهري ، فلا مجال فيه للتفصيل المتقدّم في كلام الماتن قدس‌سره من كون الإتيان علّة تامّة لحصول الغرض أو بقاء الغرض الأقصى مع الإتيان به ؛ وذلك لأن المأمور به الظاهري لا يكون فيه ملاك ليقال إنّ الإتيان به علّة تامّة لحصول ذلك الملاك أو بقاء الغرض الأقصى ، كما هو المقرّر في محلّه. نعم إذا صادف المأمور به الظاهري المأمور به الواقعي يجري عليه ما تقدّم في الإتيان بالمأمور به الواقعي. وبالجملة ، التفصيل في الاجزاء بحسب الغرض والملاك لا يجري في المأمور به الظاهري.

٣٩٣

الموضع الثاني : وفيه مقامان :

المقام الأول : في أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري ، هل يجزي عن الاتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ثانيا ، بعد رفع الاضطرار في الوقت إعادة ، وفي خارجه قضاء ، أو لا يجزي؟

تحقيق الكلام فيه يستدعي [١] التكلم فيه تارة في بيان ما يمكن أن يقع عليه

______________________________________________________

إجزاء الأمر الاضطراري عن الواقعي :

[١] تعرض قدس‌سره لأقسام المأمور به الاضطراري ، وذكر له أربعة أقسام ، والتزم بالإجزاء في القسم الأوّل والثاني والرابع ، وبعدم الإجزاء في الثالث.

أنحاء الفعل الاضطراري :

القسم الأوّل : ما إذا كان المأمور به الاضطراري في ظرف تشريعه الواقعي مشتملا على تمام ملاك الاختياري أو المقدار اللازم منه ، وظرف التشريع يختلف ، فتارة يكون عدم التمكّن من الاختياري في تمام وقته ، وأخرى يكون ظرف تشريعه عدم التمكّن من الاختياري ، ولو في بعض الوقت مطلقا ، أو بشرط اليأس من التمكّن من الاختياري إلى آخر الوقت ، وعبّر عن الفرض الأوّل بالاضطرار بشرط الانتظار ، وعن الثاني بالاضطرار مطلقا ، وعن الثالث بالاضطرار مع اليأس من طروّ الاختيار ، وعلى الفروض الثلاثة يكون الإتيان بالمأمور به الاضطراري في ظرف تشريعه موجبا للإجزاء في الفرض الأوّل عن القضاء فقط ، وعن القضاء والإعادة في الفرضين الآخرين.

٣٩٤

الأمر الاضطراري من الانحاء ، وبيان ما هو قضية كلّ منها من الإجزاء وعدمه ، وأخرى في تعيين ما وقع عليه.

فاعلم أنّه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار ، كالتكليف الاختياري في حال الاختيار ، وافيا بتمام المصلحة ، وكافيا فيما هو

______________________________________________________

هذا بحسب الفروض في القسم الأوّل ، ولكن لا يخفى أنّ ظاهر خطاب الاضطراري مع عدم القرينة على الخلاف هو الفرض الأوّل ، أي اعتبار عدم التمكّن من الاختياري في شيء من الوقت ، وذلك لأنّ التمكّن اللازم في الأمر بالاختياري هو التمكّن من صرف وجوده لا على كلّ واحد من وجوداته ومصاديقه ، ومع التمكّن منه ولو في آخر الوقت يصحّ إيجابه من أوّل الوقت ، حيث يترتّب على إيجابه من أوّل الوقت تهيئة بعض ما يتوقّف على تهيئته الإتيان به ولو في آخر الوقت ، وعلى ذلك فيكون ظاهر عدم التمكّن من الاختياري ، الموضوع للأمر بالاضطراري هو عدم التمكّن من صرف وجوده في وقته ، نعم مع القرينة على الخلاف تتبع تلك القرينة ، سواء كان مقتضاها اعتبار مجرّد الاضطرار مطلقا ، أو بشرط اليأس. وبالجملة ، ففي فروض اشتمال المأمور به الاضطراري في ظرف تشريعه على تمام ملاك الاختياري لا موجب لوجوب الإعادة أو القضاء.

القسم الثاني : أن يكون الفعل الاضطراري مشتملا على بعض ملاك الاختياري ، ولكن لو استوفى ذلك البعض بالإتيان به لا يبقى مجال لتدارك الباقي لا بالاعادة ولا بالقضاء ، وفي مثل ذلك لا يصحّ للآمر الأمر بالفعل الاضطراري إلّا مع استيعاب الاضطرار جميع الوقت ، كما لا يجوز للمكلّف الإتيان به أوّل الوقت أو في جزء منه مع تمكّنه من الاختياري ، ولو في آخر الوقت ؛ لأنّ في هذه المبادرة تفويتا للغرض ولمقدار من الملاك الملزم ، لفرض تمكّنه من إدراك تمام الملاك الملزم بالإتيان

٣٩٥

المهم والغرض ، ويمكن أن لا يكون وافيا به كذلك ، بل يبقى منه شيء أمكن استيفاؤه أو لا يمكن. وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه ، أو يكون بمقدار يستحب ، ولا يخفى أنّه إن كان وافيا به يجزي ، فلا يبقى مجال أصلا للتدارك ، لا قضاء ولا إعادة ، وكذا لو لم يكن وافيا ، ولكن لا يمكن تداركه ، ولا يكاد يسوغ له

______________________________________________________

بالاختياري ولو في آخر وقته ، وهذا فيما كان المقدار الفائت بالبدار ملاكا ملزما كما هو ظاهر الفرض.

لا يقال : لا مجال في الفرض لتشريع الاضطراري أصلا ، بل يتعيّن الأمر بقضاء الاختياري لإمكان الاستيفاء به.

فإنّه يقال : لا يتدارك بالقضاء مصلحة الوقت ؛ ولذا يتعيّن تشريع الاضطراري في صورة استيعاب الاضطرار لتمام الوقت ، ومع فرض الاستيعاب يجوز للمكلف الإتيان بالاضطراري في أوّل الوقت ؛ إذ مع إحرازه استيعاب الاضطرار لا تفويت في البدار. نعم ، مع عدم إحرازه لا يجوز له ذلك لاحتمال التفويت ، والاستصحاب في بقاء الاضطرار إلى آخر الوقت لا يثبت عدم التفويت ، ولو بادر المكلّف إلى الإتيان بالاضطراري في هذا القسم ـ ولو مع إحرازه التمكّن من الاختياري ـ فهل يمكن الحكم بصحته حتّى في العبادات ، فلا يبعد ذلك كما هو ظاهر الماتن قدس‌سره أيضا ، حيث فرض مع البدار حصول بعض الملاك وبهذا الاعتبار يمكن قصد التقرّب بالعمل ولا يكون الفعل الاضطراري المتبادر إليه محرّما شرعا لعدم اقتضاء الأمر بالاختياري النهي عن ضده الخاصّ ، وإنّما يحكم العقل بعدم جوازه في الفرض لئلّا يكون الإتيان به موجبا لفوات الملاك الملزم في الاختياري.

ثمّ إنّه لا وجه للاستثناء من عدم جواز البدار في الفرض بقوله : «إلّا لمصلحة

٣٩٦

البدار في هذه الصورة إلّا لمصلحة كانت فيه ، لما فيه من نقض الغرض ، وتفويت مقدار من المصلحة ، لو لا مراعاة ما هو فيه من الأهم ، فافهم.

______________________________________________________

كانت فيه» (١) وذلك لأنّه لو كان المراد البدار في صورة استيعاب الاضطرار لتمام الوقت فهذا ليس من البدار المصطلح ، وإن كان المراد البدار في صورة ارتفاع الاضطرار قبل تمام الوقت فلا يحصل بالبدار تمام الملاك الملزم ، فضلا عن أن يكون أهمّ من ملاك الاختياري ، ولعلّه إلى ذلك أشار بقوله «فافهم».

القسم الثالث : أن يكون الفعل الاضطراري واجدا لبعض الملاك الملزم ، ويبقى بعضه الآخر قابلا للتدارك بالإتيان بالاختياري مع ارتفاع الاضطرار في الوقت بالإعادة ومع ارتفاعه بعد خروج الوقت بالقضاء ، وفي هذا القسم يجب الإتيان بالاختياري بالإعادة عند ارتفاع الاضطرار في الوقت وبالقضاء عند ارتفاعه خارجه ، ويجوز البدار إلى الاضطراري ، وعليه فيتخيّر المكلف في فرض ارتفاع الاضطرار قبل خروج الوقت بين الإتيان بالاضطراري حال اضطراره مع الإتيان بالاختياري قبل خروج الوقت وبين الإتيان بالاختياري خاصّة قبل خروج الوقت وهذا فيما إذا كان البعض الباقي من الملاك وافيا بالمقدار اللّازم استيفاؤه ولا يقلّ عنه.

أقول : لا يمكن المساعدة على ما ذكره في هذا القسم ، فإنّ الفعل الاختياري في هذا القسم مع تمكّن المكلّف من صرف وجوده قبل خروج الوقت ، مأمور به من الأوّل ، كما هو مقتضى كونه واجبا موسعا ، ومعه كيف يمكن إيجاب الاضطراري حال الاضطرار ، والتكليف التخييري بين فعل وبين ذلك الفعل مع الفعل الآخر غير معقول ؛ لأنّ أحد الفعلين مأمور به على كلا التقديرين ، وإنّما الممكن الأمر

__________________

(١) الكفاية : ص ٨٤.

٣٩٧

لا يقال : عليه ، فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار ، لإمكان استيفاء الغرض بالقضاء.

فإنّه يقال : هذا كذلك ، لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت ، وأمّا تسويغ البدار أو

______________________________________________________

الاستحبابي بالبدار إلى الاضطراري.

نعم ، مع استيعاب عدم التمكّن لتمام الوقت ، يمكن الأمر بكل من الاضطراري بعنوان الاداء لاستيفاء ملاك الوقت وبالاختياري بعنوان القضاء لاستيفاء باقي الملاك الملزم ، ولا يمكن في موارد الأمر بالقضاء اشتمال الاختياري قضاء على تمام ملاك الاختياري أداء وإلّا كان اشتراط الوقت بلا ملاك.

القسم الرابع : ما إذا أمكن استيفاء بعض الباقي من الملاك ، ولكن لم يكن ذلك البعض بالمقدار اللازم استيفائه ، بل كان أقلّ منه ففي هذا الفرض إن كان الاضطرار مستوعبا لتمام الوقت يتعيّن الإتيان بالاضطراري في الوقت ويستحبّ قضاء الاختياري خارج الوقت.

ولو كان الفعل الاضطراري مشتملا على بعض الملاك الملزم كذلك فبمجرّد طروّ الاضطرار وإن لم يستوعب تمام الوقت لا يتعيّن البدار ، بل يجوز للمكلّف الإتيان بالاضطراري حال الاضطرار والإتيان بالاختياري بعد رفع الاضطرار قبل خروج الوقت.

ولا يخفى أنّ كلام الماتن قدس‌سره : «وفي الصورة الثانية» أي فيما لم يكن المقدار الباقي لازم الاستيفاء يتعيّن عليه البدار ، ويستحبّ إعادته بعد زوال الاضطرار ، غير تامّ لا في فرض وجود الملاك مع استيعاب الاضطرار ، فإنّه خلاف مصطلح البدار وإن صحّ البدار في هذا الفرض ولا في فرض وجود الملاك بمجرد حدوث

٣٩٨

إيجاب الانتظار في الصورة الأولى ، فيدور مدار كون العمل ـ بمجرد الاضطرار مطلقا ، أو بشرط الانتظار ، أو مع اليأس عن طروّ الاختيار ـ ذا مصلحة ووافيا بالغرض.

______________________________________________________

الاضطرار ، حيث ذكرنا أنّ المكلّف مخيّر مع ارتفاع الاضطرار قبل خروج الوقت.

وقد ظهر ممّا ذكرناه في الأقسام أنّه يلزم من تشريع المأمور به الاضطراري في القسمين الأوّلين والقسم الرابع الإجزاء بخلاف تشريعه في القسم الثالث ، فإنّه لا يلازم الإجزاء.

ولا يخفى أنّ في البين قسما خامسا من المأمور به الاضطراري ، وهو أن يكون فيه ملاك ملزم آخر يحدث ذلك الملاك عند الاضطراري إلى ترك الاختياري ولكن لا يفوت ـ حتّى مع الإتيان به ـ ملاك الفعل الاختياري رأسا ، حيث إنّ الملاكين سنخان لا يرتبط أحدهما بالآخر أصلا ، وفي هذا الفرض كما يؤمر بالاضطراري يؤمر بالاختياري أيضا بعد تجدّد الاختيار لاستيفاء الملاك الفائت ولو بقدر الإمكان كما في مسألة من لا يتمكّن من إدراك الوقوف بالمشعر بعد الإحرام بالحجّ ، فإنّه مكلّف بإتمام الإحرام عمرة وبالحج في السنة القابلة.

وقد يقال : إنّ البحث عن إجزاء المأمور به الاضطراري عن الاختياري في الأقسام الأربعة مبني على تعدّد الأمر والوجوب بأن يتعلّق وجوب بالفعل الاختياري ووجوب آخر بالفعل الاضطراري ، ويبحث في أنّ موافقة الثاني أو امتثاله هل يوجب سقوط الأمر بالاختياري أو لا؟ مع أنّه لو كان الأمر كذلك فكلّ تكليف يقتضي امتثال نفسه ولا يوجب سقوط التكليف الآخر ، بل التتبّع فيما هو الثابت في الشرع من التكاليف الاضطرارية يرشدنا إلى أنّه ليس في البين إلّا تكليف متعلّق بطبيعة واحدة بالإضافة إلى جميع المكلّفين على نحو الوجوب العيني أو الكفائي ، وتختلف أفراد

٣٩٩

وإن لم يكن وافيا ، وقد أمكن تدارك الباقي في الوقت ، أو مطلقا ولو بالقضاء خارج الوقت ، فإن كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزي ، بل لا بد من إيجاب الإعادة أو القضاء ، وإلّا فيجزي ، ولا مانع عن البدار في الصورتين ، غاية الأمر يتخير

______________________________________________________

تلك الطبيعة بالإضافة إلى المكلّفين تارة ، وإلى مكلّف واحد بحسب حالاته تارة أخرى ، فمثلا خطاب «أقيموا الصلاة» يقتضي توجّه التكليف بالصلاة إلى كلّ واحد من المكلفين والمطلوب في الخطاب طبيعي الصلاة من كلّ مكلف.

غاية الأمر أنّ الطبيعي من المسافر في الرباعيات ركعتان ومن غيره أربع ركعات كما أنّ الطبيعي من واجد الماء يكون بوضوء أو غسل ومن فاقد الماء يكون بالتيمم ، وهكذا من القادر على القيام لا يتحقّق بالجلوس ويتحقّق به من العاجز عن القيام.

والحاصل أنّ على كلّ مكلّف امتثال الأمر بالطبيعي ، ولا يكون فرده في حال فردا في حال آخر ، وهذا لا يوجب تعدّد الطبيعة وتعدّد الأمر ، نعم يبقى في البين تشخيص أنّ الصلاة مع التيمّم مثلا فرد لها عند عدم وجدان الماء في جميع الوقت أو إنّما فرد لها بمجرّد عدم التمكّن ولو في بعض الوقت مطلقا أو بشرط اليأس عن وجدانه قبل خروج الوقت ، فإنّ أحرز أنّ المعتبر العجز في تمام الوقت فلا مورد لوجوب القضاء وإن أحرز الثاني فلا موضوع للامتثال بعد سقوط الأمر بالطبيعي. وعدم جواز البدار واقعا مع اعتبار العجز في تمام الوقت ، إنّما هو لعدم كون المأتي به مع البدار فردا من الطبيعي ، فتحصّل أنّه مع إحراز كون المأتي به فردا لا إعادة ولا قضاء.

لا يقال : يمكن أن يكون الفرد الاختياري للصلاة أتمّ صلاحا وأقوى ملاكا ولبقاء الملاك بالإتيان بالفرد الاضطراري يجب الإعادة أو القضاء لتدارك الباقي من الملاك.

فإنّه يقال : اللازم عقلا على المكلّف امتثال أمر الشارع لا تحصيل المصالح لعدم إحاطة عقولنا بالمصالح الواقعية ليلزم علينا تحصيلها.

٤٠٠