دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

(ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ.)

وتقسيمه إلى الإيجاب والاستحباب ، إنّما يكون قرينة على إرادة المعنى الأعم منه في مقام تقسيمه ، وصحة الاستعمال في معنى أعمّ من كونه على نحو الحقيقة ، كما لا يخفى ، وأمّا ما أفيد من أن الاستعمال فيهما ثابت ، فلو لم يكن

______________________________________________________

الفعل والمنع عن تركه ، والاستحباب طلب الفعل مع الترخيص في تركه كما عليه القدماء ، بل الفرق بينهما في إطلاق الطلب ، فإنّه لا يكون في موارد الوجوب ترخيص في ترك الفعل ، بخلاف موارد الندب فإنّ الطلب فيها موصوف بثبوت الترخيص في الترك ، ولذا يكون مجرد الطلب مع عدم الترخيص كافيا في استقلال العقل بلزوم اتّباعه ولا يحتاج إلى إحراز المنع عن تركه.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما يذكر في امتياز الوجوب عن الندب بكون مصلحة الفعل في الأوّل تامّة وفي الثاني ناقصة لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ المائز بين الطلب الوجوبي والندبي هو ما ذكرناه ، حتّى بناء على إنكار المصالح والمفاسد في المتعلقات ، نعم المصلحة غير الملزمة توجب الترخيص في الترك بخلاف الملزمة.

ولا يخفى أنّ الطلب لو كان مستفادا من مادة الأمر ، فجميع مشتقاتها تدلّ على الطلب بلا فرق بينها ، دون ما إذا كان مستفادا من صيغة الأمر فحسب ، حيث إنّ الهيئة تكون دالّة على الطلب ، والمادة تدلّ على متعلق النسبة الطلبية.

وعن المحقّق النائيني قدس‌سره أنّ كلّا من الوجوب والندب من حكم العقل وليسا من المداليل اللفظية ، فإنّ العقل يرى بمقتضى العبودية والرقّية لزوم الخروج عن عهدة ما أمر به المولى ، ولا معنى للوجوب إلّا إدراك العقل لا بدّية الخروج عن عهدة الفعل ، وذكر أيضا أنّ المنشأ بمادة الأمر أو بصيغته كون المادة في عالم التشريع على

٢٨١

موضوعا للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز ، فهو غير مفيد ، لما مرت الإشارة إليه في الجهة الأولى ، وفي تعارض الأحوال ، فراجع.

والاستدلال بأنّ فعل المندوب طاعة ، وكل طاعة فهو فعل المأمور به ، فيه ما لا يخفى من منع الكبرى ، لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي ، وإلّا لا يفيد المدعي.

______________________________________________________

المكلف وإيقاعها عليه (١).

أقول : لا أظن أنّ أحدا لا يلتزم بحكم العقل في موارد طلب الفعل وإيجابه على المكلّف ، ولكنّ حكم العقل بلا بدّية الفعل يختص بصورة وصول التكليف المجعول على المكلف مع عدم وصول الترخيص في الترك ، كما أنّ العقل مع وصول الطلب وترخيص المولى في الترك لا يحكم باللابدّية ، بل يحكم بكون المكلّف على خيار ، إلّا أنّ الكلام في المقام في منشأ هذا الحكم.

وقد ذكرنا أنّ منشأه إطلاق الطلب أو اقترانه بالترخيص كما ذكرنا أنّ مادة الأمر بمقتضى وضعها تثبت الطلب المطلق بلا حاجة إلى ضمّ مقدّمات الاطلاق ، بخلاف صيغة (افعل) فإنّ ظهورها في الطلب المطلق بمقدمات الحكمة لا بالوضع ، وهذا كما يقال في الفرق بين العامّ الوضعي والاطلاق الشمولي أو غيره.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من أنّ المنشأ والمعتبر ، في موارد استعمال الصيغة أو مادة الأمر ، كون المادة على المكلّف ، كما هو ظاهر الإيقاع عليه ، فيدفعه شهادة الوجدان على أنّ السامع لا يجد فرقا في المستعمل فيه للصيغة بين موارد الطلب الوجوبي والطلب الندبي ، فلو كان المستعمل فيه لصيغة الأمر إيقاع المادة على المكلّف ،

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ٩٥.

٢٨٢

الجهة الرابعة : الظاهر أن الطلب الذي يكون هو معنى الأمر [١] ، ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي ، بل الطلب الإنشائي الذي

______________________________________________________

لكان هو المستعمل فيه في كلا الموردين ، والحال أنّه لم يكن مستعملا فيه في الندب بالضرورة ، فلم يكن في الوجوب أيضا كذلك. نعم اعتبار المولى الفعل على عهدة المكلف داخل في عنوان الإيجاب ، فيما إذا كان بداعي صدور الفعل من المكلف ، إلّا أنّ هذا ليس بالمعنى الموضوع له والمستعمل فيه للصيغة ، بل المتبادر منها في موارد استعمالها ، البعث إلى المادة وتحريك المخاطب نحو صدور الفعل عنه ، غاية الأمر البعث والتحريك اعتباري ، فإذا كان مطلقا اتّصف بالإيجاب ، وإذا كان مقترنا بالترخيص في الترك ، اتّصف بالندب ، كما ذكر.

وأمّا ما في الكلمات من أنّ الوجوب بمعنى الثبوت ، فلا يدلّ على أنّ معنى الثبوت هو الثبوت على الذمة ، بل الثبوت بالمعنى اللغوي يعمّ الندب أيضا ، لثبوت الطلب بالإضافة إلى المندوبات أيضا.

الطلب والإرادة :

[١] حاصله أنّ للطلب نحوين من التحقّق :

النحو الأول : الطلب الاعتباري الذي يوجد وينشأ باستعمال اللفظ ويحمل عليه الطلب بالحمل الأوّلي ، بناء على انحصار الحمل الشائع الصناعي بحمل الطبيعي على فرده العيني ، على ما ذكره بعض في بحث الوجود الذهني ، ولفظ الأمر موضوع لهذا النحو من الطلب سواء كان إنشائه بصيغة الأمر أو بمادّته أو بمادة الطلب ، فإنّه إذا قيل : أمر فلان فلانا ، يفهم منه أنّه طلب منه طلبا إنشائيا.

والنحو الثاني : الطلب الحقيقي الذي هو أمر نفساني يحمل عليه عنوان الطلب

٢٨٣

لا يكون بهذا الحمل طلبا مطلقا ، بل طلبا إنشائيا ، سواء أنشئ بصيغة افعل ، أو بمادّة الطلب ، أو بمادّة الأمر ، أو بغيرها ، ولو أبيت إلّا عن كونه موضوعا للطلب فلا أقل من كونه منصرفا إلى الإنشائي منه عند إطلاقه كما هو الحال في لفظ الطلب أيضا ، وذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائي ، كما أنّ الأمر في لفظ الإرادة على عكس لفظ الطلب ، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقية واختلافهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة ، من المغايرة بين الطلب والإرادة ، خلافا لقاطبة أهل الحق والمعتزلة ، من اتحادهما ، فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المقام ، وإن حققناه في بعض فوائدنا إلّا أنّ الحوالة لمّا لم تكن عن المحذور خالية ، والإعادة بلا فائدة ولا إفادة ، كان المناسب هو التعرض هاهنا أيضا.

______________________________________________________

بالحمل الشائع ، وإن أبيت إلّا عن كون لفظ الأمر موضوعا لمطلق الطلب ، فلا أقلّ من كونه منصرفا عند إطلاقه إلى الانشائي منه ، لما ذكرنا من تبادره منه ، فيكون لفظ الأمر حاله حال لفظ الطلب ، فإنّ لفظ الطلب مع كونه موضوعا لمطلق الطلب ينصرف عند إطلاقه إلى الإنشائي منه ، وكذلك للإرادة نحوين من الوجود : حقيقي واعتباري ، وعند إطلاقها تنصرف إلى الحقيقي منهما الذي هو عين الطلب الحقيقي ، عكس لفظ الأمر والطلب ، فلفظ الإرادة ولفظ الطلب مترادفان ومتحدان مفهوما ومصداقا ، ومختلفان في المعنى المنصرف إليه ، حيث إنّ الأوّل ينصرف إلى الحقيقي منه ، والثاني إلى الإنشائي منه.

ولا يبقى مجال لتوهم أنّ في النفس غير الإرادة ومقدّماتها صفة أخرى قائمة بها تكون طلبا ، كما التزم به أبو الحسن الأشعري ، وسمّاه بالكلام النفسي ، الذي يكون في موارد الأمر ، والوجه في عدم المجال لذلك أنّ مراجعة الإنسان وجدانه كافية في

٢٨٤

فاعلم ، أنّ الحق كما عليه أهله ـ وفاقا للمعتزلة وخلافا للأشاعرة ـ هو اتحاد الطلب والإرادة ، بمعنى أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر ، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائية ، وبالجملة هما متحدان مفهوما وإنشاء وخارجا ، لا أنّ الطلب الإنشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه ـ كما عرفت ـ متحد مع الإرادة الحقيقية التي ينصرف إليها إطلاقها أيضا ، ضرورة أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس. فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد ، ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والأمر به حقيقة كفاية ، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان ، فإن الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها ، يكون هو الطلب غيرها ، سوى ما هو مقدمة تحققها ، عند خطور الشيء والميل وهيجان الرغبة إليه ، والتصديق لفائدته ، وهو الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لأجلها.

______________________________________________________

أن يحصل له اليقين بأنّه عند طلب الفعل ولو من الغير لا يجد من نفسه شيئا غير الإرادة ، أي الشوق المؤكّد المستتبع لتحريك عضلاته في موارد إرادة الفعل بالمباشرة ، أو المستتبع لأمر عبده في موارد إرادته لا بالمباشرة ، ولا توجد صفة أخرى لتكون حقيقة الطلب ، بل لا توجد في النفس مع الإرادة إلّا مقدّماتها التي تتحقّق عند خطور الشيء على قلبه والميل إليه أي هيجان رغبته إليه ، والتصديق بفائدته ، وهي الجزم بدفع ما يوجب توقّفه عن طلب الفعل وإرادته لأجل تلك الفائدة. وبتعبير آخر : الجزم المزبور في الحقيقة هو الجزء الأخير من مبادئ الإرادة ، وتحصل الإرادة عند خطور الفعل ـ أي حضوره في الذهن ـ والميل إليه والتصديق لفائدته والجزم بعدم المانع عن إرادته.

ثمّ إنّه قدس‌سره قد تعرّض لحال سائر الصيغ الإنشائية والجمل الخبرية ، وذكر أنّ في

٢٨٥

وبالجملة : لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة والإرادة هناك صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب ، فلا محيص عن اتحاد الإرادة والطلب ، وأن يكون ذلك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة ، أو المستتبع لأمر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك ، مسمّى بالطلب والإرادة كما يعبر به تارة وبها أخرى ، كما لا يخفى.

وكذا الحال في سائر الصيغ الانشائية ، والجمل الخبرية ، فإنّه لا يكون غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس ، من الترجي والتمني والعلم إلى غير ذلك ، صفة أخرى كانت قائمة بالنفس ، وقد دلّ اللفظ عليها ، كما قيل :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وقد انقدح بما حققناه ، ما في استدلال الأشاعرة على المغايرة بالأمر مع عدم الإرادة ، كما في صورتي الاختبار والاعتذار من الخلل ، فإنّه كما لا إرادة حقيقة في الصورتين ، لا طلب كذلك فيهما ، والذي يكون فيهما إنّما هو الطلب الإنشائي الإيقاعي ، الذي هو مدلول الصيغة أو المادة ، ولم يكن بيّنا ولا مبيّنا في الاستدلال مغايرته مع الإرادة الإنشائية.

______________________________________________________

موارد إنشاء الترجّي والتمنّي مثلا لا يكون في النفس غير الترجّي وغير التمنّي وفي مورد الإخبار غير العلم بثبوت النسبة أو لا ثبوتها ، صفات أخرى تكون تلك الصفات حقيقة التمنّي والترجي وحقيقة الإخبار ، كما التزم به الأشعري وسمّاها بالكلام النفسي ، وزعم أنّ الكلام اللفظي دالّ عليه ، كما يشير إليه ما قيل :

«إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا»

وعمدة ما استدلّ به الأشاعرة على مغايرة الطلب مع الإرادة هو أمر المولى عبده بفعل لا يريده منه ، كما في موارد الاختبار والاعتذار ـ والمراد بالاعتذار أن

٢٨٦

وبالجملة : الذي يتكفّله الدليل ، ليس إلّا الانفكاك بين الإرادة الحقيقية ، والطلب المنشأ بالصيغة الكاشف عن مغايرتهما. وهو ممّا لا محيص عن الالتزام به ، كما عرفت ، ولكنه لا يضرّ بدعوى الاتحاد أصلا ، لمكان هذه المغايرة والانفكاك بين الطلب الحقيقي والإنشائي ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه يمكن ـ مما حققناه ـ أن يقع الصلح بين الطرفين ، ولم يكن نزاع في البين ، بأن يكون المراد بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوما ووجودا حقيقيا وإنشائيا ، ويكون المراد بالمغايرة والاثنينية هو اثنينية الإنشائي من الطلب ، كما هو كثيرا ما يراد من إطلاق لفظه ، والحقيقي من الإرادة ، كما هو المراد غالبا منها حين إطلاقها ، فيرجع النزاع لفظيا ، فافهم.

______________________________________________________

يكون غرض المولى من أمره عصيان العبد ، ليعتذر عن توبيخه وعقابه على مخالفته ـ ففي موردهما يجد الآمر من نفسه حقيقة أمره وطلبه ، مع أنّه لا يريد فعله ، وهذا شاهد لكون الطلب غير الإرادة كما استدلّ على ثبوت الكلام النفسي بثبوت المدلول في مقامات الاخبار كذبا أو تردّدا (١).

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّه كما لا إرادة في موارد الاختبار والاعتذار ، كذلك لا طلب حقيقيّ في مواردهما ، بل الموجود الطلب الإنشائي ، وقد يعبّر عنه بالإرادة الإنشائية ، وإنّما الاختلاف بين الإرادة والطلب ، كما تقدّم في المعنى المنصرف إليه منهما.

وذكر قدس‌سره أنّه يمكن أن يقع التصالح بين الطرفين ويرتفع النزاع في البين بأن يكون مراد الأشعري من المغايرة مغايرة الطلب الإنشائي مع الإرادة الحقيقية ، ومراد معظم

__________________

(١) شرح تجريد الاعتقاد للقوشجي : ص ٢٤٦.

٢٨٧

دفع وهم : لا يخفى أنّه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة ، من نفي غير الصّفات المشهورة ، وأنّه ليس صفة أخرى قائمة بالنفس كانت كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي ، كما يقول به الأشاعرة ، إن هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام.

إن قلت : فما ذا يكون مدلولا عليه عند الأصحاب والمعتزلة؟

______________________________________________________

الأصحاب والمعتزلة من الاتحاد اتّحاد الطلب الحقيقي مع الإرادة الحقيقية.

أقول : لا يمكن ان يكون النزاع بين الطرفين لفظيا ، فإنّ الأشعري يلتزم بالكلام النفسي ، ويجعله من صفات الحقّ (جلّ وعلا) وأنّه غير العلم والإرادة ، ويقول بأنّ الكلام اللفظي كاشف عنه وطريق الوصول إليه ، وعليه فلا بدّ من فرض صفة زائدة على العلم والإرادة ، حيث إنّه سبحانه كما يوصف بأنّه عالم ومريد ، يوصف بأنّه متكلّم ، ولعلّه إلى ذلك أشار في آخر كلامه بقوله «فافهم».

وذكر المحقّق النائيني قدس‌سره ما حاصله : أنّ قضية الكلام النفسي على ما التزم به الأشعري وإن كان أمرا موهوما ـ إذ ليس في النفس غير الإرادة ومبادئها ، وغير العلم بثبوت النسبة أو لا ثبوتها ، وغير تصور النسبة بأطرافها ، أمر آخر يكون كلاما نفسيا ، والإرادة الخارجية وإن لم تكن مدلولا للأمر لا بمادّته ولا بصيغته ولا بغيرهما ، كما لا يكون مدلول الجملة الخبرية العلم بثبوت النسبة أو لا ثبوتها ؛ إذ دلالتها على تصوّر المتكلم لمدلول الكلام عقلية ، والعلم بتحقّق النسبة خارجا يستفاد من أمر آخر غير نفس الكلام ـ إلّا أنّه مع ذلك كلّه لا يكون الطلب حقيقة عين الإرادة ، فإنّ الطلب هو الاشتغال بتحقيق المطلوب والوصول إليه بالشروع في فعل أو أفعال يترتّب عليه أو عليها ذلك المقصود جزما أو احتمالا ، ولذا يطلق على من يجتهد في تحصيل متاع الدنيا وغرورها أنّه طالبها ، وللحاضر في المجالس العلمية بغرض التعلّم أنّه طالب العلم ، وعلى السائر في مظانّ الوصول إلى الضالّة بغرض الوصول إليها أنّه طالبها ،

٢٨٨

قلت : أمّا الجمل الخبرية ، فهي دالّة على ثبوت النسبة بين طرفيها ، أو نفيها في نفس الأمر من ذهن أو خارج ، كالإنسان نوع أو كاتب.

وأمّا الصيغ الإنشائية ، فهي ـ على ما حققناه في بعض فوائدنا ـ موجدة لمعانيها في نفس الأمر ، أي قصد ثبوت معانيها وتحققها بها ، وهذا نحو من الوجود ، وربّما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه شرعا وعرفا آثار ، كما هو الحال في صيغ العقود والإيقاعات.

______________________________________________________

والطلب في هذه الموارد حقيقي ، وهو كما ترى غير الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو الفعل ، فلا يكون مجرّد الاشتياق طلبا مهما كان بالغا وشديدا ، وإنّما الطلب هو التصدّي لتحصيل المطلوب بالاشتغال بالفعل والشروع فيه.

وبالجملة إن كان المدّعى أنّ المفهوم من لفظ الطلب عين المفهوم من لفظ الإرادة ، فلم يقم على ذلك دليل ، إلّا مجرّد دعوى الوجدان ، ولعلّه لم يذهب إليه غير صاحب الكفاية قدس‌سره ، والقائلون بالاتّحاد يريدون الاتّحاد عينا ، واستشهدوا بالوجدان على هذا الاتحاد ، مع أنّ صدق الإرادة دون الطلب فيما إذا لم يتصدّ لتحصيل المطلوب كاف في الإذعان باختلافهما مفهوما وخارجا ، حيث إنّ الإرادة من الكيف النفساني ، والطلب من مقولة الفعل.

وعلى ذلك فتصدّي المولى لتحصيل مقصوده بأمر الغير بإتيان المطلوب يكون طلبا ، فيكون الأمر بمادة الأمر أو بصيغته أو بغيرهما مصداقا للطلب ، لا أنّ المستعمل فيه في الموارد المذكورة معنى لفظ الطلب ومفهومه ، كما هو ظاهر الكفاية ، بل المستعمل فيه في جميع ذلك إيقاع المادة على الغير تشريعا واعتبار كون الفعل على عهدته ، كما تقدّم (١).

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ٨٨.

٢٨٩

نعم لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب والاستفهام والترجي والتمني ـ بالدلالة الالتزامية ـ على ثبوت هذه الصفات حقيقة ، إمّا لأجل وضعها لإيقاعها ، فيما إذا كان الداعي إليه ثبوت هذه الصفات ، أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصورة ، فلو لم تكن هناك قرينة ، كان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها ، لأجل كون الطلب والاستفهام وغيرهما قائمة بالنفس ، وضعا أو إطلاقا.

______________________________________________________

أقول : ما ذكره قدس‌سره من أنّ الطلب غير الإرادة فهو صحيح ، سواء قيل بأنّ الإرادة هي الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو الفعل ، أو قيل بأنّ الإرادة غير الشوق المزبور ، كما سيأتي ، بل هي عبارة عن اختيار أحد طرفي الشيء من الفعل أو الترك ، فإنّ الطلب لا يطلق على شيء منهما ، بل هو عنوان للحركة نحو الفعل والتصدّي لحصوله.

إلّا أنّ ما ذكره قدس‌سره من أنّ المنشأ بمادة الأمر وبصيغته أو بغيرهما هو النسبة الإيقاعية ، ويكون المنشأ بعد إنشائه واعتباره مصداقا للطلب ، حيث إنّ الطلب تصدّي المولى للوصول إلى مقصوده وهو فعل العبد ، لا يمكن المساعدة عليه ؛ إذ تقدّم أنّ الوجدان في موارد إيجاب الفعل وندبه شاهد على أنّ المستعمل فيه للصيغة أمر واحد ، مع أنّه لا يكون للمكلّف عهدة في موارد الندب ، فلا بدّ من أن يكون «كون الفعل على العهدة» خارجا عن المستعمل فيه ، ولا منافاة بين أن يكون المنشأ فيها عنوان الطلب ، ويكون المنشأ بعد إنشائه مصداقا للطلب ، فلاحظ قول البائع : بعت مالي بكذا ، فإنّه إنشاء لعنوان البيع ، ويكون المنشأ بعد إنشائه مصداقا للبيع.

نعم لا ينحصر مصداق الطلب بإنشاء عنوانه ، بل يحصل ذلك العنوان باعتبار الفعل على عهدة العبد وإبرازه بمبرز ، مثل قوله : عليك أو عليه هذا العمل ، فيما إذا كان القصد انبعاثه إلى ذلك العمل أو لرجاء الانبعاث ، إلّا أنّ ذلك ليس معنى

٢٩٠

إشكال ودفع : أمّا الإشكال [١] ، فهو إنّه يلزم بناء على اتحاد الطلب والإرادة ، في تكليف الكفار بالايمان ، بل مطلق أهل العصيان في العمل بالأركان ، إمّا أن لا يكون هناك تكليف جدّي ، إن لم يكن هناك إرادة ، حيث إنّه لا يكون حينئذ طلب حقيقي ، واعتباره في الطلب الجدّي ربما يكون من البديهي ، وإن كان هناك إرادة ، فكيف تتخلف عن المراد؟ ولا تكاد تتخلف ، إذا أراد الله شيئا يقول له : كن فيكون.

______________________________________________________

الصيغة ، كما تقدّم.

ثمّ إنّه قد يراد من الإرادة معنى الطلب ، أي التصدّي لتحصيل الشيء والوصول إليه ، كما يقال لمن يفحص عن ضالّته بالمشي أو بغيره : إنّه يريد ضالّته ، أي يطلبها ، ويقال : يريد الله (عزوجل) من العباد ، يعني يطلب منهم ، إلى غير ذلك. إلّا أنّ الكلام في ظهور الإرادة ومعناها الانسباقي وهو غير الطلب ، لا في جواز استعمال كلّ منهما في الآخر مع القرينة.

بيان مسلك الجبر وشبه الجبر وإبطالهما :

[١] يعني بناء على أنّ الإرادة عين الطلب الحقيقي ، ففي موارد تكليف الكفّار بالإيمان بل في تكليف العصاة بالواجبات وترك المحرّمات إمّا أن لا يكون تكليف جدّي بأن يكون التكليف بالإضافة إليهم صوريا وإنشائيا محضا بأن لا تكون في البين إرادة من الله سبحانه بالإضافة إلى عملهم ، وإمّا أن يلزم تخلّف إرادته تعالى عن مراده فيما إذا كان التكليف جدّيا ، وهذا كما ذكرنا مبنيّ على اتّحاد الطلب الحقيقي والإرادة ، وأمّا بناء على تغايرهما وتعدّدهما خارجا فالتكليف والطلب الحقيقي يثبت في حقّ الكفار والعصاة كما يثبت في حقّ أهل الإيمان والطاعة ، فلا يلزم محذور عدم ثبوت التكليف الجدّي.

٢٩١

وأمّا الدفع ، فهو أن استحالة التخلف إنّما تكون في الإرادة التكوينية وهي العلم بالنظام على النحو الكامل التام ، دون الإرادة التشريعية ، وهي العلم بالمصلحة في فعل المكلّف. وما لا محيص عنه في التكليف إنّما هو هذه الإرادة التشريعية لا التكوينية ، فإذا توافقتا فلا بد من الإطاعة والايمان ، وإذا تخالفتا ، فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان.

إن قلت : إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان ، بإرادته تعالى التي

______________________________________________________

وأجاب قدس‌سره بثبوت التكليف الجدّي في حقّ الكفار والعصاة بثبوت الإرادة في موارد التكليف ، حتّى بالإضافة إليهما ، ولا يلزم تخلّف إرادة الله (عزوجل) عن مراده ؛ لأنّ الثابت في موارد التكليف هي الإرادة التشريعية ، وتخلّف هذه الإرادة لا محذور فيه ، وإنّما المحذور في تخلّف الإرادة التكوينية عن المراد ، ولا يلزم في موارد التكاليف ثبوت الإرادة التكوينية على وفاق الإرادة التشريعية.

وتوضيح ذلك على ما ذكره قدس‌سره أنّ الإرادة التكوينية التي هي من صفات الذات لله (جلّ وعلا) هي العلم بالنظام على النحو الكامل التام (١) ، وهذه الإرادة لا يمكن أن تتخلّف عن المراد. وأمّا الإرادة التشريعية فهي العلم بالصلاح في فعل العبد وهذه الإرادة التي لا بدّ منها في التكليف يمكن أن تتخلّف ، وعلى ذلك فإن توافقت الإرادة التشريعية والتكوينية بأن كان العلم بالصلاح داخلا في العلم بالنظام على النحو الكامل التامّ ، فلا بدّ من الإطاعة والإيمان ، وإذا لم يدخل فيه فلا بدّ من أن يختار العبد الكفر والعصيان حيث إنّ ما لم يرد بالإرادة التكوينية لا يكاد يوجد.

__________________

(١) كشف المراد : ٣١٤ ؛ الأسفار : ٦ / ٣٦٠ ؛ شرح المنظومة : ١٨٤. هذا التفسير للإرادة هو المعروف والمشهور عند الفلاسفة وعندهم أنّها من صفات الذات لا من صفات الأفعال.

٢٩٢

لا تكاد تتخلف عن المراد ، فلا يصح أن يتعلق بها التكليف ، لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا.

قلت : إنّما يخرج بذلك عن الاختيار ، لو لم يكن تعلق الإرادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختيارية ، وإلّا فلا بد من صدورها بالاختيار ، وإلّا لزم تخلف إرادته عن مراده ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

______________________________________________________

ومن هنا ينفتح باب المناقشة في اختيار العباد في أفعالهم بأنّه إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان بإرادته (تعالى) التي لا يمكن تخلّفها عن المراد ، فكيف يمكن تعلّق التكليف بأفعالهم الخارجة عن اختيارهم؟ مع أنّ الاختيار يعتبر في التكليف عقلا.

وأجاب الماتن قدس‌سره عن الإشكال بما حاصله : أنّ الإرادة التكوينية تعلّقت بالكفر والعصيان أو الإيمان والطاعة الناشئ كلّ منها عن إرادة العبد واختياره ، وهذا التعلّق لا يوجب خروج أفعالهم عن اختيارهم لئلّا يصحّ التكليف بها ، ولو خرجت بذلك عن اختيارهم لزم تخلّف إرادة الله (تعالى) عن مراده ، حيث إنّ المراد هو الكفر والعصيان والإيمان والطاعة الصادرة من العباد عن اختيارهم ، وما تقدّم من أنّه إذا توافقتا فلا محيص عن الطاعة والإيمان فالمراد أنّه لا محيص عن الطاعة والإيمان الاختياريين ، كما أنّ المراد من قولنا : (فلا محيص عن الكفر والعصيان) هو أنّه لا محيص عن اختيارهما.

ولكن لا يخفى أنّ المناقشة في كون أفعال العباد اختيارية لهم ، لا تنتهي بما ذكره ، وإلى ذلك أشار بقوله «إن قلت : إنّ الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين ... إلخ» وحاصلها أنّ الكفر والعصيان وإن كانا ناشئين عن إرادة العبد واختياره ، إلّا أنّ إرادة العبد واختياره ناش عن مباد غير اختياريّة وحاصلة بإرادة الله

٢٩٣

إن قلت : إنّ الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما ، إلّا أنّهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار ، كيف؟ وقد سبقهما الإرادة الأزليّة والمشيّة الإلهيّة ، ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالآخرة بلا اختيار؟.

قلت : العقاب إنّما بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن

______________________________________________________

(تعالى) ومشيّته ، حيث إنّ خطور الفعل والتصديق بفائدته والميل (أي هيجان الرغبة) والجزم بعدم المانع لا يكون من واجب الوجود حتّى لا يحتاج إلى علّة ، ولا يكون حصولها بإرادة العبد وإلّا لزم التسلسل ، فلا بدّ من أن يؤثّر فيها إرادة الله (تعالى) ومشيّته ، فتكون النتيجة أنّ العقاب والمؤاخذة تكون على ما يكون بالمآل بلا اختيار ، وهذا في الحقيقة مذهب الجبرية ، وهو أنّ المؤثّر في فعل العبد إرادة الله (تعالى) ومشيّته.

وأجاب عن ذلك أنّ العقاب يكون على الكفر والعصيان ، وبتعبير آخر : استحقاق العقاب يتبع الكفر والعصيان (أي يلزمهما) والكفر والعصيان يتبعان إرادتهما ، وإرادتهما ناشئة عن مبادئها الناشئة عن الشقاوة الذاتية للكافر والعاصي ، واللازم الذاتي لا يحتاج إلى الجعل والعلّة ، فإنّ «السعيد سعيد في بطن أمّه ، والشقيّ شقيّ في بطن أمّه» (١) ، و «النّاس معادن كمعادن الذهب والفضة» (٢) كما في الخبر. وعليه فالإطاعة والإيمان من المؤمن والمطيع تتبع إرادتهما الناشئة من مبادئها الناشئة عن السعادة الذاتية اللازمة لخصوص الذات ، ونتيجة كلّ ذلك ، بما أنّ لوازم الذات لا يتعلق بها الجعل ، فلا تكون مبادئ إرادة الطاعة والإيمان أو الكفر والعصيان

__________________

(١) التوحيد للصدوق رحمه‌الله : ص ٣٥٦ ، الباب ٥٨ ، الحديث ٣.

(٢) الروضة من الكافي : ٨ / ١٧٧ ، الحديث ١٩٧ ؛ مسند أحمد بن حنبل : ٢ / ٥٣٩.

٢٩٤

مقدماته ، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما ، فإن (السعيد سعيد في بطن أمه ، والشقي شقي في بطن أمه) و (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة) ، كما في الخبر ، والذاتي لا يعلّل ، فانقطع سؤال : إنّه لم جعل السعيد سعيدا

______________________________________________________

حاصلة بإرادة الحقّ (جلّ وعلا) ، كما هو مقتضى مذهب الجبرية. وقوله : «قلم اينجا رسيد سر بشكست» كناية عن انقطاع السؤال بلم.

حقيقة الإرادة من الله (سبحانه) ومن العبد :

أقول : ما ذكره في المقام وإن كان غير مذهب الجبرية الملتزمين بأنّ تعلّق الإرادة الازلية بفعل العبد ، هو الموجب لحصول الفعل منه بالإرادة ، وأنّ إرادة العبد مغلوبة لإرادة الله (تعالى) وإرادة الله هو الموجب للفعل ، إلّا أنّ ما ذكره شبه الجبر في نفي الاختيار حقيقة عن العباد في أفعالهم ، فإنّ أفعالهم وإن كانت بإرادتهم ، وإرادتهم هي الموجبة لحصولها ، إلّا أنّ سلسلة صدور الفعل ينتهي إلى ما لا يكون باختيار العباد ، وهي المبادئ المنتهية إلى شقاوة الذوات وسعادتها.

فينبغي في المقام التعرّض لما يظهر من كلام الماتن قدس‌سره وجوابه ، وبسط الكلام عن إرادة الله (عزوجل) وإرادة العبد بما يسع المجال في هذا المختصر ، فنقول وعليه التكلان :

إنّه يمكن تلخيص ما ذكره ضمن أمور :

الأوّل : إن المنشأ بالأمر حتّى في الخطابات الإلهية هو الطلب الإنشائي ، والطلب الإنشائي يكون منبعثا من الطلب الحقيقي ، والطلب الحقيقي من الله (سبحانه) هو علمه بصلاح الفعل الصادر عن المكلف دون الإرادة التكوينية منه (تعالى) التي هي العلم بالنظام الكامل التامّ. نعم ربّما توافقت الإرادة التكوينية

٢٩٥

والشقي شقيا؟ فإن السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك ، وإنّما أوجدهما الله تعالى (قلم اينجا رسيد سر بشكست) ، قد انتهى الكلام في المقام إلى ما ربّما لا يسعه كثير من الافهام ، ومن الله الرّشد والهداية وبه الاعتصام.

وهم ودفع : لعلّك تقول : إذا كانت الإرادة التشريعية منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل ، لزم ـ بناء على أن تكون عين الطلب ـ كون المنشأ بالصيغة في

______________________________________________________

والطلب الحقيقي المعبّر عنه بالإرادة التشريعية ، فلا محيص عن اختيار الطاعة والإيمان ، وربّما تخالفتا فلا محيص عن اختيار الكفر والعصيان.

الثاني : أنّ لزوم الطاعة والإيمان عند توافق الإرادتين واختيار الكفر والإيمان عند تخالفهما لا يوجب خروج الفعل عن اختيار العبد وصدوره عنه بإرادته ، وأنّ المؤثّر في حصول الفعل هي إرادة العبد التي فسّرها في كلماته ـ تبعا للقوم ـ بالشوق المؤكّد المحرّك للعضلات.

الثالث : أنّ إرادة العبد المتعلّقة بالطاعة والإيمان أو بالكفر والعصيان ، وإن افتقرت في تحقّقها إلى المؤثّر لعدم كونها ضرورية وواجبة حتّى تستغني عن العلّة وإنّ مبادئها عند اجتماعها هي المؤثّرة في تحقّق الارادة ، إلّا أنّ حصول تلك المبادئ غير مستند إلى إرادة الله (سبحانه) ، بل تستند إلى ما هو لازم الذات من السعادة والشقاوة ، وشيء منهما لا يعلّل ، حيث إنّ اللازم للذات لا يحتاج إلى علّة ، بل يوجد بتبع وجود الشيء لا محالة.

وأساس هذه الأمور الثلاثة ، هو الالتزام بأمرين :

أحدهما : إنّ إرادة الله (سبحانه) من صفات الذات ، وعليه تكون إرادته تعالى عين علمه ، سواء كانت الإرادة تكوينية أو تشريعية ، وبذلك صرّح في كلامه قدس‌سره في

٢٩٦

الخطابات الإلهية هو العلم ، وهو بمكان من البطلان.

لكنّك غفلت عن أنّ اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح ، إنّما يكون خارجا لا مفهوما ، وقد عرفت أن المنشأ ليس إلّا المفهوم ، لا الطلب الخارجي ، ولا غرو أصلا في اتحاد الإرادة والعلم عينا وخارجا ، بل لا محيص عنه في جميع صفاته تعالى ، لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة ، قال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) : (وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه).

______________________________________________________

«وهم ودفع» فذكر أنّ المنشأ في الخطابات الإلهية ليس هو العلم ، إذ العلم بالصلاح يتحد مع الارادة خارجا ، لا مفهوما. وقد عرفت أنّ المنشأ ليس إلّا المفهوم لا الطلب الخارجي ، ولا غرو أصلا في اتّحاد الإرادة والعلم عينا وخارجا ، بل لا محيص عنه في جميع صفاته (تعالى) لرجوع الصفات إلى ذاته المقدّسة ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «وكمال توحيده الاخلاص له ، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه» (١).

ثانيهما : أنّ الممكن لا يوجد إلّا مع تماميّة علّته على ما هو المعروف بينهم من «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» (٢) ، بلا فرق بين الأفعال وغيرها ، إرادية كانت أو غير إرادية.

أقول : أمّا الأمر الأوّل وهو ما ذكره قدس‌سره من أنّ إرادة الله (سبحانه) من صفات الذات وعين العلم بالنظام على النحو التامّ الكامل ، وإرادته التشريعية عين العلم بمصلحة الفعل ، فقد أورد عليه المحقّق الاصفهاني قدس‌سره في تعليقته بأنّ صفات الذات تختلف كلّ منها مع الصفات الأخرى مفهوما ، وإنّما يكون مطابقها ـ بالفتح ـ واحدا

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١ / ٣٩.

(٢) الأسفار : ١ / ٢٢١ ، الفصل ١٥.

٢٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

خارجا ؛ لأنّه تعالى بذاته صرف القدرة وصرف العلم وصرف الإرادة ، ولكن كلّ منها غير الآخر مفهوما ، وعلى ذلك فلا يصحّ تحديد إرادته (سبحانه) بالعلم بالنظام الكامل التامّ والعلم بالصلاح ؛ ولذا قال أكابر القوم (١) : إنّ الإرادة في ذات الحق (جلّ وعلا) هو الابتهاج والرضا وما يقاربهما في المعنى ، لا العلم بالنظام أو الصلاح في الفعل. نعم الإرادة فينا هي الشوق المؤكّد.

والسرّ في الاختلاف وتحديد الإرادة منّا بالشوق المؤكّد وفي ذات الحق (جلّ وعلا) بصرف الابتهاج الذاتي والرضا هو إنّا لمكان إمكاننا وقصور فاعليّتنا حيث نحتاج ـ في ظهور هذه الفاعلية إلى الفعلية ـ إلى مقدمات زائدة على ذاتنا من تصور الفعل والتصديق بالفائدة ، فبالشوق الأكيد تصير القوة الفاعلية فعليّة ومحرّكة للعضلات ، بخلاف ذات الحقّ (جلّ وعلا) ، فإنّه خال عن جهات القوّة والنقص وعدم الفعلية ، فإنّه فاعل بذاته المريدة ، حيث إنّ ذاته بذاته مبتهجة أتمّ الابتهاج وينبعث عن الابتهاج الذاتي الإرادة الفعلية ، كما وردت الأخبار بذلك عن الأئمّة الأطهار (صلوات الله وسلامه عليهم) ، انتهى ما أردنا إيراده من كلامه قدس‌سره (٢).

ولكن لا يخفى أنّ الشوق المؤكّد منّا لا يطلق عليه الإرادة ، فإنّ الإرادة تطلق على أحد أمرين :

أحدهما : القصد إلى الفعل والعزم والبناء على العمل.

ثانيهما : بمعنى الاختيار ، وهو صرف القدرة في أحد طرفي الشيء من الفعل

__________________

(١) القبسات للسيد ميرداماد : ص ٣٢٢.

(٢) نهاية الدراية : ١ / ٢٧٨.

٢٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

أو إبقائه على عدمه ، والشوق المؤكّد غير هذين الأمرين ، والشاهد على عدم كون الشوق المؤكّد علّة لصدور الفعل منّا فضلا عن كونه علّة تامّة هو صدور بعض الأفعال عن الإنسان باختياره بلا اشتياق منه إلى الفعل المفروض ، فضلا عن كونه مؤكّدا ، كما إذا أصابت عضو الإنسان آفة ، يتوقّف دفع سرايتها إلى سائر بدنه والتحفّظ على حياته على قطع ذلك العضو ، فإنّ تصدّيه لقطعه بالمباشرة أو بغيرها يكون بلا اشتياق منه إلى القطع ، بل ربّما لا يحبّ الحياة بدون ذلك العضو المقطوع ، ولكن يقطعه امتثالا لما هو الواجب عليه شرعا تخلّصا من عذاب مخالفة التكليف ، وأيضا الشوق المؤكّد قد يتعلّق بفعل لا يتمكّن منه ويعلم بعدم الوصول إليه ، مع أنّ العاقل لا يريد غير المقدور له ، وكلّ من الأمرين شاهد قطعي على أنّ الشوق المؤكّد غير الإرادة التي لا تتعلّق بغير المقدور مع الالتفات إلى أنّه غير مقدور ، نعم قد يكون الاشتياق ـ مؤكّدا أو غير مؤكّد ـ داعيا له إلى إرادة المشتاق إليه أو إرادة الإتيان بأعمال يترتّب عليها ذلك المشتاق إليه جزما أو احتمالا ، وهذا أمر نتعرّض له إن شاء الله تعالى.

هذا بالإضافة إلينا ، وأمّا بالإضافة إلى ذات الحق (جلّ وعلا) فلا دليل على أنّ إرادة الله (سبحانه) من صفات الذات حتّى تفسّر بالعلم أو بالابتهاج الذاتي والرضا ، بل قام الدليل على أنّها من صفات الأفعال ، كما أنّ الرضا والسخط أيضا من صفات الأفعال ، ولا يرتبطان بصفات الذات ، كالقدرة والعلم والحياة.

فقد ورد في صحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت : لم يزل الله مريدا ، قال : لا يكون المريد إلّا لمراد معه ، لم يزل الله عالما قادرا ثمّ أراد (١).

__________________

(١) الكافي : ١ / ١٠٩ ، باب الإرادة أنّها من صفات الفعل ، الحديث ١.

٢٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وفي صحيحة صفوان بن يحيى قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق؟ فقال : الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك ؛ لأنّه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق ، فإرادة الله الفعل لا غير ، يقول له كن فيكون ، بلا لفظ ولا نطق بلسان ، ولا همّة ولا تفكّر ، ولا كيف لذلك ، كما أنّه لا كيف له (١) ، وظاهر نفي الكيف نفي الابتهاج.

والوجدان أكبر شاهد على أنّ أفعال العباد من الطاعة والعصيان والإيمان والكفر ، كلّها خارجة عن إرادة الله ومشيّته ، بل إرادته ومشيّته (جلّت عظمته) قد تعلّقت بتشريع تلك الأفعال على العباد ، وجعل الدنيا دار الابتلاء والامتحان لهم ؛ ليتميّز الخبيث من الطيّب ، ومن يستمع قول الحقّ ويتّبعه عمّن يعرض عنه وينسى ربّه ويوم الحساب ، ويشتغل بالدنيا وغرورها. نعم بما أنّ أفعال العباد تصدر عنهم بحول الله وقوّته ، يعني بالقدرة التي أعطاها ربّ العباد إيّاهم ، وأرشدهم إلى ما فيه الرشد والهداية وسعادة دنياهم وعقباهم ، يصحّ أن يسند الله (سبحانه) أفعال الخير إلى نفسه ، كما في قوله سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) الآية (٢) ، وقوله سبحانه : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٣) ، حيث إنّ كلّ ما يصدر عنّا هو من قبيل تحريك العضلات ، ولكن معطي قوة الحركة ونفس العضلات هو الله (سبحانه) ، وإذا أمسك قوّتها فلا نتمكّن من الفعل ، فيكون صدور الفعل عنّا باختيارنا وإرادتنا ،

__________________

(١) الكافي : ١ / ١٠٩ ، باب الإرادة أنّها من صفات الفعل ، الحديث ٣.

(٢) سورة الأنفال : الآية ١٧.

(٣) سورة الإنسان : الآية ٣٠.

٣٠٠