دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-62-8
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٤٦

١
٢

٣
٤

تذنيب : لا يخفى أن مثل قاعدة التجاوز حال الاشتغال بالعمل ، وقاعدة الفراغ بعد الفراغ عنه ، وأصالة صحة عمل الغير إلى غير ذلك من القواعد المقررة في الشبهات الموضوعية إلّا القرعة تكون مقدمة على استصحاباتها [١] المقتضية لفساد ما شك فيه من الموضوعات لتخصيص دليلها بأدلتها ، وكون النسبة بينه وبين بعضها عموما من وجه لا يمنع عن تخصيصه بها بعد الإجماع على عدم التفصيل بين مواردها مع لزوم قلة المورد لها جدا لو قيل بتخصيصها بدليلها إذ قلّ مورد منها لم يكن هناك استصحاب على خلافها كما لا يخفى.

______________________________________________________

تقديم قاعدة التجاوز والفراغ وأصالة الصحة وقاعدة اليد على الاستصحاب في مواردها

[١] قد ذكر قدس‌سره أن في البين قواعد فقهية يختص جريانها بالشبهات الموضوعية ولا مورد لها في الشبهات الحكمية كقاعدة التجاوز حيث تجري أثناء العمل عند الشك في الإخلال بجزء العمل الذي تجاوز محله وكقاعدة الفراغ عند الشك في صحة العمل بعد الفراغ عنه بأن احتمل الإخلال في العمل المأتي به بترك جزئه أو شرطه أو اقترانه بالمانع بحيث يكون ذلك الإخلال موجبا لبطلانه ولو كان من غير تعمد وكأصالة الصحة الجارية في عمل غير بحيث لو كان عمله فاسدا وجب عليه ذلك العمل كما في مورد الواجب الكفائي أو لم يجز له ترتيب الأثر على ذلك العمل كعدم جواز شراء متاع تملكه بايعه بالمعاملة الفاسدة وكقاعدة اليد فيما إذا شك في سلطنة ذي اليد بالمال الذي بيده فيبنى على كونه سلطانا أو مالكا ولا ينبغي التأمل أن في موارد جريان هذه القواعد يلغى الاستصحاب الجاري فيها المخالف لمفاد

٥

.................................................................................................

______________________________________________________

تلك القواعد بمعنى أنه يخصص خطابات النهي عن نقض اليقين بالشك بأدلة اعتبار تلك القواعد ، وقال : كون النسبة بين خطابات الاستصحاب ودليل اعتبار بعض تلك القواعد عموما من وجه لا يوجب التأمل في التخصيص وذلك لوجهين :

الأول ـ للإجماع بعدم الفرق بين موارد تلك القواعد وأنها معتبرة فيها سواء كان الاستصحاب مخالفا لها في تلك الموارد أم لا.

والثاني ـ أن النسبة بين خطاب الاستصحاب وقاعدة الفراغ وإن كانت العموم من وجه إلّا أن الغالب يكون الاستصحاب مخالفا لمفاد القاعدة ولو قدم الاستصحاب في تلك الموارد عليها يكون اعتبارها كاللغو حيث إن الشك في صحة عمل ناش عن إتيان الجزء أو شرطه والاستصحاب يقتضي عدم الإتيان بهما حال العمل فتختص القاعدة على تقدير تقديم الاستصحاب بما إذا كان الاستصحاب موافقا لها كما إذا شك في صحة العمل للشك في بقاء وضوئه حال صلاته أو شك المكلف في وضوئه حال الصلاة مع علمه بحدوث حالتين من الحدث والطهارة وشك في المتقدم والمتأخر منهما فإن مع حصول هذا العلم بعد صلاته لا يمكن تصحيح صلاته بالاستصحاب فتجري قاعدة الفراغ إلّا أن اختصاص القاعدة بمثل هذه الموارد النادرة يجعل اعتبارها كاللغو بخلاف تقديمها على الاستصحاب فإنه لا يوجب محذورا.

أقول : لا ينبغي التأمل في تقديم القواعد المذكورة على الاستصحابات في مواردها ودعوى الإجماع على ذلك لا يكون من الإجماع التعبدي لاحتمال أن يكون مدرك البعض لا الجل على التقديم ما تقدم من لزوم لغوية تلك القواعد أو كونها كاللغو مضافا إلى مسألة اعتبار الاستصحاب ، وكذا بعض تلك القواعد عند البعض

٦

.................................................................................................

______________________________________________________

تختلف ، وربّما يرى البعض تلك القواعد أمارة والاستصحاب أصلا عمليا ولذلك يكون تقديم تلك القواعد باعتبار أماريتها بل قد يذكر أنها على تقدير الأمارية تكون معتبرة في مثبتاتها كما إذا شك بعد الصلاة أنه توضأ لها قبلها أم لا يحكم بصحة الصلاة. وثبت كونه على وضوء يجوز مع عدم الحدث بعدها الدخول في صلاة اخرى وأيضا يمكن أن يقال : إن وجه تقديم قاعدتي التجاوز والفراغ بل وقاعدة اليد ما ورد في إجراء تلك القواعد في الروايات في موارد كون الاستصحاب على خلافها كما في صحيحة زرارة الواردة في قاعدة التجاوز حيث حكم الإمام عليه بحصول الجزء السابق من الصلاة إذا شك بعد الدخول في الجزء اللاحق ، وكما حكم بتمام الوضوء بعد الفراغ في مورد الشك في وقوع الخلل فيه ، ومع هذا كيف يمكن دعوى الإجماع التعبدي؟

وذكر النائيني قدس‌سره أنه لا يجري الاستصحاب في موارد قاعدتي التجاوز والفراغ سواء قيل بأنهما من الأمارة أم لا فإنهما لو كانتا من الأمارة من جهة أن إرادة المكلف الإتيان بالمركب أو المشروط كافية في الإتيان بهما بتمام الأجزاء والشرائط على حسب الترتيب المقرر لهما ولا يحتاج إلى إرادة كل جزء مستقلا بل ما دامت الإرادة الأولية موجودة يعمل على طبقها والتخلف عن ذلك يكون بالغفلة في الأثناء اتفاقا ، والشارع اعتبر هذه الغلبة كما يشير إلى ذلك ما في بعض أخبار القاعدتين «حين يتوضأ أذكر منه حين ما يشك» (١) فعلى ذلك لا مجال مع اعتبار الغلبة بالأصل العملي وإن قيل بأن القاعدتين أيضا من الأصول العملية في الموضوعات فيمكن الالتزام بحكومة دليل اعتبارهما على الاستصحاب فإن الشك في بقاء الحالة السابقة

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٣٢ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ناش عن احتمال عدم حصول الرافع لتلك الحالة السابقة ، ومفاد القاعدتين حدوث الرافع لها فينتفي الشك والاحتمال في ناحية البقاء والرافع لا عدم السابق هو الوجود. وفيه : أنه لا دلالة لقوله عليه‌السلام «حين يتوضأ أذكر منه» إلّا على التعبد بالذكر حال العمل كناية عن التعبد بحصول العمل بتمامه ؛ لأن ترك البعض عمدا خلاف المفروض في القاعدتين فيكون الترك في أثنائه للغفلة فالتعبد بعدم الغفلة كناية عن حصول تمام العمل لا يقتضي جعل الغلبة معتبرة مع أن القاعدتين تجريان فيما إذا شك المكلف بعد التجاوز والفراغ وإن كانت الغفلة له أثناء العمل أمرا عاديا. نعم ، مع علمه بالغفلة في مورد أثناء العمل يشكل جريان قاعدة الفراغ في ذلك العمل.

وأما ما ذكر قدس‌سره من حكومة القاعدتين على الاستصحاب في موارد جريانهما ؛ لأن احتمال بقاء العدم وهي الحالة السابقة ناش عن احتمال عدم حدوث رافعه فإن الوجود هو قالع العدم فإذا ورد التعبد بالحصول ينتفي احتمال بقاء العدم فلا يخفى ما فيه ؛ لأن احتمال بقاء الشيء على عدمه واحتمال وجوده في عرض واحد وكما أن التعبد بالوجود يرفع احتمال بقاء العدم كذلك التعبد ببقاء العدم يرفع احتمال الوجود والعمدة في نفي الحكومة ما ذكرنا لا ما يقال.

وأما الإشكال على الحكومة بأن الحكومة على ما إذا كان الخطاب الحاكم ناظرا إلى خطاب المحكوم بحيث لو لم يكن خطاب المحكوم كان خطاب الحاكم لغوا كقوله عليه‌السلام : لا شك لمن كثر شكه ، فإنه لو لم يكن خطاب : «إذا شككت فابن على الأكثر» (١) كان الخطاب المذكور لغوا وليس المقام كذلك فإنه لو لم يكن خطاب

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣١٨ ، الباب ٨ من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث ٣.

٨

.................................................................................................

______________________________________________________

لاعتبار الاستصحاب كان اعتبار قاعدتي الفراغ والتجاوز صحيحا وخطابهما لم يكن لغوا فلا يمكن المساعدة عليه ؛ فإن ما ذكر غير معتبر في الحكومة ولذا يكون خطاب اعتبار البيّنة وخبر الثقة حاكما على خطاب اعتبار الاستصحاب ولو لم يكن دليل على اعتبار الاستصحاب لم يكن اعتبارهما لغوا بل الحال كذلك بالإضافة إلى خطاب «لا شك لكثير الشك» (١) فإنه لو لم يكن خطاب «إذا شككت فابن على الأكثر» لم يكن خطاب نفي الشك عن كثير الشك لغوا ، بل كان واردا على أصالة الاشتغال التي يستقل بها العقل ، وما ذكرنا في وجه تقديم الأمارة على الاستصحاب من تقريب الحكومة لا يجري في المقام لأخذ الشك في كلا الخطابين.

ثمّ إن الماتن قدس‌سره التزم بتقديم الاستصحاب في موارد جريانه على القرعة وأن ما ورد من : أن القرعة في كل مجهول (٢) ، يكون مخصصا بخطابات النهي عن نقض اليقين بالشك فيكون الموضوع في الاستصحاب المجهول الخاص أي المعلوم حالته السابقة بخلاف الموضوع للقرعة فإنه مطلق المجهول ، ودفع ما يقال في المقام من أن النسبة بين دليل اعتبار القرعة والاستصحاب العموم من وجه لعدم جريان القرعة في الشبهات الحكمية باتفاق الكلمة بخلاف اعتبار الاستصحاب فإنه يعم الشبهة الحكمية أيضا فتكون الشبهة الموضوعية التي لا حالة سابقة لها مورد القرعة دون الاستصحاب ، وموارد الحالة السابقة في الشبهات الحكمية مورد للاستصحاب لا القرعة فالشبهة الموضوعية التي لها حالة سابقا مورد اجتماع الخطابين فلا وجه

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٢٩ ، الباب ١٦ من أبواب الخلل في الصلاة.

(٢) التهذيب ٦ : ٢٠٧ ، الباب ٩٠ ، الحديث ٢٤. وفيه : «كل مجهول ففيه القرعة».

٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لجعل خطابات الاستصحاب أخص مطلقا ووجه الدفع أنه يأتي في بحث انقلاب النسبة أن النسبة بين الخطابين تلاحظ قبل ملاحظة تخصيص أحدهما بمخصص آخر.

وبتعبير آخر : يعتبر في ملاحظة النسبة الظهور الاستعمالي بين الخطابين وتخصيص قاعدة القرعة بالشبهات الحكمية لا يوجب خروج خطابي الاستصحاب والقرعة عن نسبة العموم والخصوص إلى العموم من وجه.

وأضاف إلى ذلك بأن العموم في قاعدة القرعة موهون لعدم جريانها في جلّ من الشبهات الموضوعية حتى التي لا تكون فيها حالة سابقة محرزة ؛ ولذا يقال : إنه لا يعمل بها إلّا في مورد قام دليل خاص فيه أو عمل المشهور فيه بقاعدة القرعة حيث إن عملهم بها فيه كاشف عن أن القرينة الخاصة التي كانت في خطابات القرعة لم تكن مخرجة ذلك المورد عن أدلتها وهذا بخلاف أدلة الاستصحاب فإن قوة دليله لقلة التخصيص الوارد عليه توجب تقديمها على أدلتها حتى مع كون النسبة بينهما العموم من وجه.

قاعدة الفراغ

ثمّ إنه لا بأس بالتعرض لكل من تلك القواعد وإن كانت خارجة عن مباحث علم الاصول فإنها قواعد فقهية يكون نتيجة تطبيقها على صغرياتها إحراز حكم طريقي جزئي كما هو شأن القواعد الفقهية في جلها حيث يستفاد منها بعد ضمها إلى صغرياتها حكم جزئي سواء كان ذلك الحكم نفسيا أو طريقيا تكليفيا أو وضعيا فنقول أصالة الصحة فيما إذا شك بعد الفراغ من العمل في صحته المعبر عنها بقاعدة الفراغ يستفاد اعتبارها من بعض الروايات حيث إن الروايات بعضها وإن كانت واردة في

١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

خصوص الشك في الطهارة والصلاة ولا يستفاد منها إلّا حكم الشك في الصحة بعد الفراغ منهما إلّا أن بعضها الآخر يستظهر منه القاعدة الكلية :

ـ كموثقة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «كلّما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» (١) فإن ظاهرها مضي نفس الشيء والشك فيه بعد مضيه لا مضي محله ينطبق على قاعدة الفراغ.

ـ وحسنة بكير بن أعين أو صحيحته قال : قلت له : الرجل شك بعد ما يتوضأ قال : «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» (٢) حيث يستفاد منها أن الحكم بعدم الاعتناء لكون المتوضئ حين توضئه أذكر وهذا يجري في حق كل مكلف يشك في عمله بعد الفراغ منه.

ـ وصحيحة محمد بن مسلم المروية في آخر السرائر عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : «إن شك الرجل بعد ما صلى فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا وكان يقينه حين انصرف أنه كان قد أتم لم يعد الصلاة وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك» (٣) والتقريب كما في السابقة عليها والمناقشة في الأخيرة بأنه عند الانصراف الظاهر في الإتيان بالتسليمة كان على يقين من تمام صلاته ثمّ شك في تمامها فتدل الصحيحة على اعتبار قاعدة اليقين في الفرض حيث إن ظاهرها أنه كان قريبا إلى الحق حال الانصراف المفروض فيه اليقين بتمام صلاته ، وهذا غير كونه أقرب إلى الحق حين صلاته ففرق بين السابقة وبين الأخيرة أضف إلى ذلك أنه يحتمل أن

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

(٢) الوسائل ١ : ٣٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٣) الوسائل ٥ : ٣٤٣ ، الباب ٢٧ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

١١

.................................................................................................

______________________________________________________

يكون مفاد الجواب هو الحكم عليه بإتيان الركعة الرابعة حيث إنها متعلق شكه بعد تجاوز محلها لا يمكن المساعدة عليها ؛ لأن قوله عليه‌السلام «وكان حين انصرف أقرب إلى الحق بعد ذلك» ظاهره عند الانصراف والفراغ وأنه عندهما كان أقرب إلى الحق يعني الإتيان بالعمل التام وهذا المفاد هو الحكم بتحقق العمل التام الصحيح لا التعبد بتحقق الركعة الأخيرة عند ما شك وإن كان الحكم بالثاني يلازم الحكم بتحقق التام الصحيح.

وأما حسنة بكير بن أعين فهي مضمرة واعتبارها مبني على الوثوق بأن المسئول كان الإمام عليه‌السلام كما لا يبعد فإنه لم يوجد مورد أن يسأل هو عن شيء غير الإمام عليه‌السلام ويروي جوابه ليقال أن مرويه في المقام من ذلك القبيل. وربما يستدل على قاعدة الفراغ بصحيحة عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشيء ، إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» (١) ولكن لا يستفاد منها إلّا اعتبار قاعدة الفراغ في الوضوء ، وأما في غيره فلا وذلك فإن المراد من الضمير في قوله عليه‌السلام : «دخلت في غيره» الوضوء ، وكذا في قوله «لم تجزه» بقرينة عدم اعتبار قاعدة التجاوز في الوضوء قبل الفراغ منه.

وعلى الجملة : كل عمل يتصف بالصحة تارة ، واخرى بالفساد ففيما فرغ المكلف منه وكان مريدا الإتيان به على الوجه التام والصحيح وشك في أنه وقع فيه خلل حاله للغفلة أم لا يحكم بوقوعه صحيحا ما لم يحرز الخلاف بلا فرق بين

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٣٠ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

العبادات وغيرها من المعاملات بالمعنى الأخص من العقود والإيقاعات بل المعاملات بالمعنى الأعم من الأعمال التي توصف بالصحة والتمام تارة وبالفساد اخرى ، وأما قاعدة التجاوز فهل هي مختصة بباب الصلاة أو أنها تعم جميع الأعمال المركبة التي لها أجزاء مترتبة فتجري فيما إذا تجاوز المكلف محل جزء من أجزائه ودخل في الجزء المترتب عليه وشك في أنه أتى بالجزء السابق في محله أم لا يبني على الإتيان ، وكذا في كل عملين تكون صحة اللاحق منوطة بسبق السابق وإذا اشتغل باللاحق مع فوت محل السابق كما في عمرة التمتع بالإضافة إلى حجه فإنه إذا دخل في أفعال حج التمتع وشك في أنه أتى بالعمرة قبله فيحكم بالإتيان بها قبله ، وكما في أذان الصلاة وإقامتها على ما يأتي ، ويقال قبل التكلم في عموم قاعدة التجاوز وعدم عمومها لا بد من التكلم في أمر وهو أن القاعدتين مرجعهما إلى أمر واحد أو أن كلا منهما قاعدة مستقلة ولا ترجعان إلى قاعدة واحدة فإنه لو قيل برجوعهما إلى أمر واحد يكفي العموم في أدلة قاعدة الفراغ وأما بناء على عدم رجوع إحداهما إلى الاخرى فلا بد في عموم قاعدة التجاوز كقاعدة الفراغ من ملاحظة أدلتها ، وقد ذكر الشيخ قدس‌سره في الرسالة بأن مرجع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز ، قال في الأمر السادس : إن الشك في صحة المأتي به حكمه حكم الشك في الإتيان بما هو هو لأنها بعينه الشك في وجود التام والمتعبد به في الروايات أنه إذا تجاوز المكلف الموضع المقرر للإتيان بالشيء وشك بعد ذلك في الإتيان به في ذلك الموضع لا يعتني بشكه سواء كان المشكوك أصل وجوده أو وجوده التام فلا يكون في البين قاعدتان ليقع البحث في اختصاص قاعدة التجاوز بباب الصلاة أو أنها تعم كل الأبواب.

١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وناقش المحقق النائيني قدس‌سره في إرجاعهما إلى قاعدة واحدة بأن المتعبد به في قاعدة التجاوز وجود الشيء أو العلم بوجوده عند الشك فيه بعد تجاوز محله على ما هو التعبد بمفاد كان التامة ، وفي قاعدة الفراغ صحة الموجود أو العلم بصحته بعد الفراغ عن إحراز أصل وجوده على ما هو مفاد كان الناقصة والجمع بين التعبدين غير ممكن لعدم إمكان الجمع في لحاظ واحد الشيء مفروض الوجود وفي نفس ذلك لحاظه غير مفروض الوجود ، وما ذكر الشيخ قدس‌سره من أن الشك في الصحة يرجع إلى الشك في وجود الصحيح بمفاد كان التامة لا يمكن المساعدة عليه فإنه ليس المطلوب في موارد قاعدة الفراغ إثبات وجود الصحيح الذي مفاد كان التامة وإنما المطلوب إحراز صحة الموجود الذي مفاد كان الناقصة ، وإثبات صحة الموجود خارجا بإثبات وجود الصحيح من الأصل المثبت نظير ما تقدم في الاستصحاب من أن الاستصحاب في وجود الماء الكر في مكان لا يثبت أن الماء الموجود فيه فعلا كرّ.

لا يقال : لا حاجة إلى إثبات صحة الموجود بمفاد كان الناقصة في موارد قاعدة الفراغ بل يكفي إحراز حصول الفعل التام بمفاد كان التامة فإن التكليف في باب الصلاة مثلا قد تعلق بما أوله التكبير وآخره التسليم الواجد للقيود والمطلوب صرف وجود هذا التام ، وبالتعبد بصرف وجوده يتم إحراز الامتثال حيث يرتفع الموضوع لقاعدة الاشتغال.

فإنه يقال : نعم يكفي ذلك في العبادات ومتعلقات التكاليف حيث إن المطلوب فيها حصول الشيء بنحو صرف الوجود ، ولكن لا يتم في المعاملات ؛ لأن الأثر المطلوب فيها وهو الحكم الوضعي يترتب على وجوداتها الانحلالية مثلا النقل والانتقال يترتب على ما يوجد من شخص البيع ولو شك في صحته وفساده فلا تثبت

١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

صحته بأصالة الوجود الصحيح من طبيعي البيع بمفاد كان التامة بل لا بد من إثبات صحة ما وقع في الخارج.

وقد يجاب عما ذكره كما عن بعض الفحول (طاب ثراه) بأنه يكفي في المعاملات أيضا التعبد بحصول المعاملة التامة بين المالين فإن التعبد بحصول طبيعي البيع التام بين المالين الخارجيين المفروضين كاف في الحكم بالانتقال فيهما كما في فرض أن الكتاب الموجود خارجا ملك لزيد والدرهم الموجود كذلك خارجا لعمرو ، ويكفي في حصول النقل والانتقال شرعا الحكم بحصول البيع التام المتعلق بهما ، ولا حاجة إلى إثبات مفاد (كان) الناقصة ، وكذا الحال فيما كان المبيع على ذمة زيد أو كان الثمن على عهدة عمرو.

وأيضا فما ذكر من أن الجمع بين مفاد (كان) التامة و (كان) الناقصة في التعبد بتشريع قاعدة واحدة غير ممكن ضعيف فإن معنى الإطلاق هو رفض القيود لا الجمع بينهما وإذا كان معنى الإطلاق رفضها فيمكن أن يجعل الشك فيما مضى بلا فرق بين كون المضي موضعا أو وجودا لاغيا من غير خصوصية لتعلق الشك بالوجود أو صحته.

وذكر في آخر كلامه أنه يمكن إرجاع القاعدتين إلى قاعدة واحدة بلا محذور فإن الشك في الصحة إنما يكون مسببا عن الشك في وجود الجزء أو الشرط ومع التعبد بحصول الجزء أو الشرط حال العمل تثبت الصحة فيكون مفاد الروايات التعبد بوجود الشيء بعد مضي محله.

نعم ، يبقى في البين ظهور بعض الروايات في التعبد بالصحة كقوله عليه‌السلام كل ما

١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو (١) فإنه ظاهر في تحقق نفس الصلاة والطهارة في الحكم بعدم الاعتناء بالشك فيهما فيكون مفاده قاعدة الفراغ وظهور بعضها الآخر في التعبد بأصل الوجود عند الشك فيه بعد تجاوز موضعه كما يأتي ، أقول : قد تقدم ثبوت العموم بالإضافة إلى قاعدة الفراغ ولا بد من التكلم في أن عموم قاعدة الفراغ يغني في جميع موارد قاعدة التجاوز أو أن عمومها لا يغني ، ومع عدم الإغناء لا بد من التصدي لإثبات قاعدة التجاوز ومجرد إمكان الجمع بينهما في خطاب واحد يكون ظاهره اعتبار قاعدة الفراغ فنظر لما في صحيحة محمد بن مسلم حيث إن ظاهرها مضي نفس العمل لا محله مع إغناء قاعدة الفراغ عن قاعدة التجاوز في كثير من الموارد غير كاف. نعم ، لو ثبت العموم في قاعدة التجاوز أمكن أن يقال باغنائها عن قاعدة الفراغ لما تقدم من الوجه الأخير ، ولكن هذا النحو من الإغناء يبتنى على القول بأن مضي نفس العمل من قبيل مضي محل شرط ذلك العمل وأما النحو الذي ذكره الشيخ قدس‌سره من أنّ المتعبد به هو الوجود الصحيح فلا يغني فإن موضوع الوجود الصحيح ومحله لا يمضى إلّا بخروج الوقت المضروب للعمل ، وأما ما لا وقت له فلا يمضي محله أصلا كما إذا شك قبل الزفاف في عقد النكاح الذي أوقعه وأنه أوقعه باللغة العربية مثلا أو بغيرها حيث إن العقد الصحيح لم يتجاوز محله فإن النكاح الصحيح لا محل له شرعا بأن يقع قبل الزفاف بل الوطء يعتبر في جواز وقوعه بعد العقد.

ولا يخفى أنه يكفي في تشريع القاعدتين عدم لغوية اعتبارهما معا وإن كان

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

اعتبار أحدهما يغني عن الاخرى في كثير من الموارد أو غالبها فدعوى أن اعتبار كل من القاعدتين مع عموم كل منهما لغو لا يمكن المساعدة عليها.

فإنه قد يكون لإحدى القاعدتين معارض دون الاخرى كما إذا قام المصلي إلى الركعة وعلم إجمالا بأنه ترك سجدتين أما من الركعة التي قام عنها أو في ركعة من صلاته السابقة فإن قاعدة التجاوز في كل من الصلاتين معارضة بقاعدة التجاوز في الاخرى ، وأما قاعدة الفراغ فتجري في الصلاة السابقة بلا معارض ؛ لأنها لا تجري في الصلاة التي بيده لعدم إحراز الفراغ من الركعة السابقة لاحتمال بقاء السجدتين منها.

وذكر النائيني قدس‌سره محذورا آخر في إرجاع القاعدتين إلى قاعدة واحدة وهو أنه إذا تكفل خطاب واحد لاعتبارهما يلزم التنافي في مدلول ذلك الخطاب ؛ لأن مقتضى قاعدة التجاوز عدم الاعتناء باحتمال ترك الركوع فيما إذا شك فيه بعد الدخول في السجود ؛ لأن الشك في الركوع بعد تجاوز محله حيث إن محله قبل السجود ، ومقتضى قاعدة الفراغ الاعتناء بالشك فيه ؛ لأن الشك في صحة الركعة أو الصلاة قبل الفراغ منهما فيعمه قوله عليه‌السلام «إنما الشك في شيء لم تجزه» (١) ولو كان خطاب واحد كان مفاده الاعتناء بالشك في الركوع في الفرض وعدم الاعتناء به فهذا هو التنافي في مدلوله بخلاف ما إذا قلنا بأن كلا منهما قاعدة مستقلة استفيدت من خطاب مستقل فإنه في الفرض تقدم قاعدة التجاوز على مفهوم قاعدة الفراغ ؛ لأنه لو لم يقدم خطاب قاعدة التجاوز على مفهوم قاعدة الفراغ لم يبق لقاعدة التجاوز مورد ؛ لأنها مضروبة للشك في أثناء عمل يشك في أثنائه في الإتيان بجزئه. أقول : لو كان في

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٣٠ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

البين الخطاب الواحد لم يقع بينهما تناف في مثل الفرض حيث يكون المفروض كوجود الموضوع للاستصحاب في كل من الشك السببي والمسببي وكما لا تحصل منافاة في خطاب الاستصحاب ؛ لأنه بشموله ناحية السبب يرتفع الشك في ناحية المسبب ففي الفرض أيضا بالتعبد بحصول الركوع قبل السجود لا يكون شك في الصلاة قبل الفراغ منها بل يحرز صحتها وحصول الركوع فيها قبل السجود قبل الفراغ منها ، ولعله قدس‌سره أشار إلى ما ذكرنا في آخر بيان هذا الوجه بالأمر بالتأمل.

وذكر قدس‌سره وجها آخر أيضا في امتناع تكفل خطاب واحد لكل من قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ وقال إن مورد قاعدة التجاوز يكون التعبد بالجزء بعد الدخول في جزء آخر كما إذا شك في حصول جزء من أجزاء العمل بعد دخوله في الجزء الآخر فلا بد في قاعدة التجاوز النظر إلى كل جزء نظرا استقلاليا بخلاف قاعدة الفراغ ففيها يكون النظر الاستقلالي إلى الكل بحيث يلاحظ الكل شيئا واحدا وإذا شك في صحته بعد الفراغ منه يبنى على صحته ولو شمل خطاب واحد لكل من القاعدتين يلزم أن يكون اللحاظ في الجزء نظرا تبعيا واستقلاليا بلحاظ واحد وفيه أنه كما تجري قاعدة الفراغ في الكل تجري في الجزء أيضا مثلا إذا شك بعد الفراغ من الصلاة في الطهارة حالها يحكم بقاعدة الفراغ بصحتها ، وكذا إذا شك بعد الركوع في أنه كان حال الاستقرار أو بلا استقرار يحكم بصحتها وبتعبير آخر الشك في شرط يعتبر في نفس الصلاة بعد الفراغ منها مورد لقاعدة الفراغ دون الشك في ذلك الشرط في أثنائها مثلا إذا شك في أثناء الصلاة في طهارته فلا تصحح الصلاة بقاعدة الفراغ ؛ لأن الطهارة معتبرة حتى في الأجزاء الباقية التي لم يفرغ منها بخلاف الشك أثناء الصلاة في أنه كان عند ما ركع استقرار أم لا فإنه يحكم بقاعدة الفراغ صحة ركوعه فقاعدة الفراغ تعم الشك في

١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

صحة الجزء وصحة الكل فكيف اجتمع في التعبد الواحد بين الجزء والكل؟ وإذا كان الجواب أنه إنما لا يمكن الجمع بين النظر الاستقلالي والتبعي في شيء واحد في لحاظ واحد تفصيلا ، وأما لحاظها بعنوان عام إجمالي يندرج فيه الكل والجزء فلا بأس به كقولهم : إن الممكن لا يوجد بلا علة هذه القاعدة كما تعم الجزء تعم الكل أيضا حيث إن الحكم بلحاظ عنوان عام واحد وهو عنوان ممكن الوجود المنحل إلى الجزء والكل وغيرهما ممكن فالأمر في قاعدتي الفراغ والتجاوز أيضا كذلك حيث يلاحظ المشكوك بعنوان الشيء الذي مضى بنفسه أو بمحله وأن الشيء بعد مضيه لا يعتني به فيعم الشك في الركوع بعد الدخول في السجود ويعم الشك في الاستقرار حال الركوع بعد الفراغ منه ويعم الشك في الطهارة في الصلاة بعد الفراغ منها.

ودعوى أن المضي في قاعدة الفراغ يلاحظ بالإضافة إلى نفس العمل فيكون الإسناد حقيقيا وفي قاعدة التجاوز إسناده إلى نفس الشيء بالعناية أو الإضمار حيث إن الماضي محل الشيء وموضعه فتكون إرادة القاعدتين من مثل قوله عليه‌السلام : «إنما الشك في شيء لم تمضه» من استعمال اللفظ في معناه الحقيقي والعنائي أو من قبيل الإسناد الحقيقي والمجازي.

وفيه : أن الشك في موارد قاعدة الفراغ في الحقيقة في شيء تجاوز محله فإن اقتران الصلاة بالطهارة بعد الفراغ من أصل الصلاة تجاوز محله لا يمكن المساعدة عليه فإن في موارد قاعدة الفراغ يكون منشأ الشك في الصحة الشك في الجزء أو الشرط ومحل الجزء أو الشرط المشكوك ولو كان شرطا في المركب ينقضي بانقضاء العمل فإذا جرت القاعدة في الجزء أو الشرط المشكوكين تحرز صحة العمل على ما تقدم. نعم ، بين الشك في الجزء والشرط فرق فإنه إذا شك في الركوع بعد السجود ،

١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وجرت قاعدة التجاوز في الركوع يحرز بها تحقق الركوع قبل السجود وتصح الأجزاء الآتية أيضا ؛ لأن الركوع قبل السجود في الركعة الاولى كما هو شرط في صحة السجود شرط في الأجزاء الآتية أيضا وقد أحرز ذات الركوع بالقاعدة فتصح الأجزاء الآتية أيضا بخلاف ما إذا شك في أثناء الصلاة في وضوئه فإنه كما أن الوضوء شرط في الأجزاء السابقة كذلك شرط في الأجزاء اللاحقة ، وبالقاعدة لا تحرز نفس الوضوء بل مفاد (واو) الجمع ومحل (واو) الجمع لم تمض بالإضافة إلى الأجزاء اللاحقة.

وبتعبير آخر : لا يمكن إحراز نفس الوضوء بمفاد قاعدة التجاوز بجريانها في الصلاة حتى فيما إذا شك فيه بعد الفراغ من الصلاة فضلا عن أثنائها ؛ ولذا لا بد من الوضوء للصلاة الآتية وإنما يحرز بها مفاد (واو) الجمع بخلاف ما إذا شك في جزء العمل في أثناء العمل بعد تجاوز محله أو بعد العمل فإنه يحرز بها نفس ما يسمى جزءا ولذا يحكم بصحة الأجزاء الآتية وتمام العمل.

ثمّ إنه قد تقدم العموم في قاعدة الفراغ وإن كان بعض رواياتها قاصرة عن العموم ويكفي في العموم قوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «كلّما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو» (١) وربّما يستظهر العموم من قوله عليه‌السلام في موثقة بكير بن أعين قال : «قلت له : الرجل يشك بعد ما يتوضأ قال : هو حين ما يتوضأ أذكر» (٢) ووجه الاستظهار أن الحكم بعدم الاعتناء بالشك في صحة الوضوء بعد تمامه والفراغ منه لكونه أذكر حين التوضؤ ، ومن الظاهر أن الأذكرية حال

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

(٢) الوسائل ١ : ٣٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

٢٠