دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

وبالجملة : ليس المعنى في كلمة (من) ولفظ الابتداء ـ مثلا ـ إلّا الابتداء ، فكما لا يعتبر في معناه لحاظه في نفسه ومستقلا ، كذلك لا يعتبر في معناها لحاظه في غيرها وآلة ، وكما لا يكون لحاظه فيه موجبا لجزئيته ، فليكن كذلك فيها.

إن قلت : على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى ، ولزم كون مثل كلمة (من) ولفظ الابتداء مترادفين ، صحّ استعمال كل منهما في موضع الآخر ، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها ، وهو باطل بالضرورة ، كما هو واضح.

قلت : الفرق بينهما إنّما هو في اختصاص كلّ منهما بوضع [١] ، حيث إنّه

______________________________________________________

الثالث : ما أشار إليه بقوله : «مع أنّه ليس لحاظ المعنى ... إلخ» يعني ليس اللّحاظ الآلي في استعمالات الحروف إلّا نظير اللّحاظ الاستقلالي في استعمال الأسماء ، وكما أنّ اللحاظ الاستقلالي غير مأخوذ في معانيها في الوضع والاستعمال كذلك اللحاظ الآلي في استعمالات الحروف ووضعها.

ثمّ إنّ قوله قدس‌سره : «لامتناع صدق الكلّي العقلي عليها ، أي الخارجيات» ليس كما ينبغي ، فإنّ معنى الحرف بناء على تقيّده باللحاظ الآلي وإن كان كالكلّي العقلي من حيث حكايته عن كثير من الخارجيّات إلّا أنّه ليس من الكلي العقلي المصطلح عليه ، والصحيح أن يقال : لامتناع صدقه نظير امتناع صدق الكلّي العقليّ على الخارجيّات.

[١] وبتعبير آخر معنى لفظي «من وابتداء» وإن كان أمرا واحدا يتعلّق به اللحاظ الآلي تارة ، والاستقلالي أخرى ، وشيء من اللحاظين غير مأخوذ في ناحية الموضوع له والمستعمل فيه إلّا أنّ الوضع في الحروف مقيّد بتعلّق اللّحاظ الآلي بمعانيها عند الاستعمال ، وفي الأسماء بتعلّق اللّحاظ الاستقلالي بها كذلك ،

٤١

وضع الإسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه ، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك ، بل بما هو حالة لغيره ، كما مرّت الإشارة إليه غير مرّة ، فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع ، يكون موجبا لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر ، وإن اتّفقا فيما له الوضع ، وقد عرفت ـ بما لا مزيد عليه ـ أنّ نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصياته ومقوماته.

______________________________________________________

واختلافهما بحسب الوضع واختلاف شرط الوضع في كلّ منهما يوجب عدم صحّة استعمال أحدهما في موضع الآخر ، وليس المراد بالتقيد وشرط الوضع ما يرادف معنى الشرط في المعاملات ، أعني الالتزام بشيء في ضمن معاملة ، ليقال إنّ اتّباع شروط الوضع والعمل بها غير لازم ، كما لو فرضنا أنّ الواضع اشترط دفع درهم على من استعمل هذا اللفظ في هذا المعنى ، بل المراد بالشرط هو ما في لسان علماء الأدب من أنّ وضع الحرف لذلك المعنى معلّق على لحاظه آليا وفي الإسم على لحاظه استقلالا.

أقول : غاية ذلك عدم صحة استعمال الحرف في موضع الإسم حقيقة ؛ لكونه بغير الوضع ، وأمّا عدم صحته أصلا ولو بنحو المجاز ، فلا موجب له ، مع أنّ استعمال أحدهما موضع الآخر يعدّ غلطا ، وهذا كاشف عن اختلاف المعنى في الحرف والإسم ذاتا ، وأنّ معنى الأوّل غير الآخر ، لا أنّهما يختلفان باللّحاظ أو بتقيد الوضع مع اتحاد المعنى ، فيبقى الكلام في ذلك الاختلاف.

وعن المحقق الاصفهاني قدس‌سره أنّ الحرف موضوع للوجود الرابط الذي ذكره بعض الفلاسفة ، في مقابل وجود الجوهر والعرض (الذي يعبّر عنه بالوجود الرابطيّ). وحاصل ما ذكره قدس‌سره في المقام : أنّ الألفاظ الموضوعة للجواهر والأعراض ـ وهي الأسماء ـ تكون معانيها من قبيل الماهيّات ، سواء كانت متأصّلة (أي منتزعة

٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

من نفس وجوداتها) ، أو من الاعتبارات (أي المنتزعة من الشيء باعتبار أمر آخر) ، ولا يكون الوجود الخارجي أو الذهني مأخوذا في معاني الأسماء أصلا ، بل تتّصف معانيها بالوجود والعدم ، وفي مقابل هذه الماهيّات من الجواهر والأعراض والانتزاعيّات وجود آخر ضعيف ودقيق في الغاية زائدا على وجود الجوهر والعرض ، يظهر بالبرهان على ما استدلّوا عليه فإنّه ربّما يعلم بوجود كلّ من الجوهر (كوجود الإنسان) والعرض (كحصول الحركة) ، ولكن يشكّ في قيام الحركة بالإنسان أو بغيره ، وهذا دليل واضح على أنّ الحصّة الخاصّة من الحركة القائمة بالإنسان لها نحو وجود ، نعبّر عنه بالوجود الرابط زائدا على أصل الحركة ، ووجود الإنسان لقضاء تعلّق الشك به وتعلّق الجزم بالأخيرين وهذا الوجود الرابط لضعفه وخفائه لا يكون له ماهيّة ، ليكون وضع اللّفظ لها ، بل الحروف موضوعة لنفس الوجودات الروابط ، وتلاحظ هذه الوجودات في مقام الوضع ، وعند الاستعمال بنحو الإشارة إليها ، فتكون معاني الحروف مباينة ذاتا لمعاني الأسماء ؛ لأنّ الأسماء توضع للصور الذهنيّة المنطبقة على الخارج ويكون الوجود الخارجي كالوجود الذهني ، خارجا عن الموضوع له والمستعمل فيه فيها ، بأن يكون الموضوع له والمستعمل فيه نفس الماهيّات بخلاف الحروف ، فإنّها موضوعة لما هو رابط خارجا ، لا عنوان الرابط ، فإنّه معنى اسمي ويلزم على ذلك أن يكون الوضع في الحروف عامّا والموضوع له خاصّا (١).

أقول : يناقش فيما ذكره قدس‌سره :

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٥١.

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

أولا : بأنّه لا سبيل إلى الجزم بأنّ في الخارج وجودا آخر غير وجود العرض والجوهر يسمّى بالوجود الرابط ، والدليل عليل ، إذ تعدّد متعلقي اليقين والشك ، لا يلزم أن يكون بتعدّد الوجود ، بل يكفي فيه تعدّد الاعتبار والجهة مع الاتحاد خارجا ، فإنّه ربّما يعلم حصول الطبيعي ويشكّ في أفراده ، ومن الظاهر أنّ الطبيعي عين أفراده خارجا ولا وجود له غير وجودها ، وعلى ذلك لو علم بوجود الإنسان خارجا ووجود الحركة يكون الشكّ في إضافة ما تقوم به الحركة من كونه معنونا بعنوان الإنسان أو غيره.

وثانيا : إنّ الوجود الرّابط ـ على فرض تسليمه ـ لا يكون الموضوع له في الحروف ، فإنّ الحروف تستعمل في موارد لا يكون فيها ذلك الوجود قطعا ، كما يقال «الوجود للإنسان ممكن» و «لشريك الباري ممتنع» و «لذات الحق (جل وعلا) واجب» مع أنّه لا رابط في شيء منها بالمعنى المتقدّم أصلا.

وثالثا : يلزم ـ على ما ذكر ـ أن لا يكون قول المخبر : (لزيد علم ، ولعمرو خوف ، ولبكر شجاعة) كذبا ، فيما إذا لم يكن لهم شيء ممّا ذكر ، فإنّه في الفرض لا يكون للكلام مستعمل فيه بالإضافة إلى الحرف ليقال إنّ مدلوله غير مطابق للواقع كما هو الفرض من عدم الرابط ، المدّعى كون اللّام مستعملة فيه ، ويتّضح ذلك أكثر بملاحظة الحروف المستعملة في النفي وفي الجواب والاستفهام والنداء والتعجّب ، إلى غير ذلك ، مما لا يعقل فرض الوجود الرابط فيها.

وللمحقق النائيني قدس‌سره في اختلاف معنى الإسم والحرف كلام ، ملخّصه : أنّ المعنى في الأوّل إخطاريّ ، وفي الثاني إيجادي ، سواء كان معنى الحرف نسبيّا أو

٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

غير نسبيّ ، فالثاني كحروف النداء والتشبيه والجواب ونحوها ، ممّا يتحقّق باستعمالها فرد من النداء والتشبيه والجواب أو غيرها ، بخلاف الأوّل ـ يعني الحروف النسبيّة ـ فإنّه يتحقّق باستعمالها فرد من النسبة والربط بين أجزاء الكلام بحسب معانيها.

وتوضيح ذلك : أنّ الأسماء ـ سواء كانت معانيها من الجواهر خارجا أو من الأعراض ـ موضوعة لنفس المعاني التي تتّصف بالوجود الخارجيّ أو الذهنيّ تارة ، وبالعدم أخرى ، وهذه المعاني كلّها مستقلّة ذاتا ، بمعنى أنّه يخطر عند سماع ألفاظها ومعانيها في الأذهان ولو لم يكن سماعها في ضمن تركيب كلاميّ ، وهذا بخلاف الحروف ، فإنّه ليس لها معان استقلاليّة وإخطارية ، بحيث تخطر إلى الذهن عند سماعها منفردة عن التركيب الكلامي.

ثمّ لا يخفى أنّ العرض لمّا كان لا يرتبط مفهومه ومعناه ـ بما هو مفهوم ومعنى ـ بمعنى المعروض ومفهومه كذلك ، بل كان العرض خارجا ، مرتبط بمعروضه الخارجي وملابساته من الزمان والمكان والآلة والمفعول وغير ذلك من الملابسات ، فدعت الحاجة إلى إيجاد الربط بين معنى اللفظ الدال على العرض ومعنى اللّفظ الدال على المعروض ، وكذا سائر الملابسات في مقام المعاني ليقوم الربط بين المداليل في الكلام بحيث يعدّ نسبة الربط فيه إلى النسبة الخارجية مثل الظل إلى ذي الظلّ.

وليس المراد أنّ النسبة الخارجيّة محقّقة للنسبة الكلامية ، نظير فرد الإنسان خارجا ، حيث إنّه يكون تحققا لطبيعيّ الإنسان ، بل المراد أنّ قيام الحركة مثلا بالإنسان كاف في ارتباطها به خارجا ولكن معنى لفظ الحركة غير مرتبط بمعنى الإنسان ، فوضعت الحروف لإيجاد الربط بينها في مقام التكلّم ، ثمّ إنّه ربّما يكون

٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا الارتباط الكلاميّ متّفقا مع الإضافة الخارجية ، توافق الظلّ وذيه ، فيكون الكلام صادقا ، وربّما لا يوافقها ، فيكون كاذبا ، فالمستعمل فيه في الحروف إيجادي ، لكن لا كالإيجاد في إنشاء البيع والطلب ، بأن يوجد البيع والطلب خارجا وفي عالم الاعتبار ، بل الإيجاد في الحروف بمعنى تحقيق الربط بين مدلول أجزاء الكلام.

نعم في الحروف غير النسبيّة يكون الموجود فردا خارجيا من النداء والتشبيه والجواب وغير ذلك (١).

أقول : يرد عليه قدس‌سره أنّ دعواه بأنّ المعاني الاسمية لا يمكن لحاظها مرتبطة بنحو ارتباط بعضها ببعض إلّا بالتكلّم بالحروف ، لا يمكن الالتزام بها ، حيث يمكن للإنسان لحاظ شيئين مرتبطين خارجا بما هما عليه من الارتباط ، فكما أنّ اللّفظ الموضوع لكلّ منهما يحكي عنهما خارجا بصورتهما المرآتيّة ، كذلك الحرف بصورته المتدلّية في معناهما ، يحكي عمّا هما عليه من الارتباط خارجا ، فيمكن وضع لفظ للصورة المتدلّية في صورتي الشيئين المرتبطين خارجا ، ويكون اللفظ بحكايته عن تلك الصورة المتدلّية (الحاكية عن الخارج) موجبا لحصول الارتباط بين معنى كلّ من الاسمين.

وبتعبير آخر : يكون الفرق بين معاني الأسماء والحروف أنّ معاني الأسماء إخطارية ، بمعنى أنّه ينسبق منها معانيها إلى الأذهان ولو عند التلفّظ بكلّ منها منفردا ، بخلاف الحروف فإنّه لا ينسبق منها المعاني إلّا إذا تلفّظ بها في ضمن تركيب كلامي ومع التلفظ بمدخولها وهذا معنى كون معاني الحروف غير إخطاريّة.

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ١٦.

٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وممّا ذكر ظهر أنّه لا مقابلة بين إخطاريّة معنى اللّفظ وبين كونه إيجاديا حتّى يكون نفي الأول مستلزما لإثبات الثاني.

ثمّ إنّه قدس‌سره ذكر أنّ معاني الحروف تكون آليّة ومغفولا عنها ، بخلاف الأسماء.

فهذا لا يمكن المساعدة عليه أيضا ، فإنّه إن كان المراد بالآليّة عدم كون تفهيمها هو المقصود الأصلي للمتكلم ، فمن الظاهر أنّه كثيرا ما يكون الغرض الأصلي من التكلّم تفهيم الارتباط بين شيئين خارجا ، لعلم السامع بحصول كلّ منهما وعدم علمه بالارتباط الخاصّ بينهما ، وإن كان المراد أنّ نظر المتكلّم إلى صورها المتدلّية في غيرها نظر مرآتي ، فهذا النظر المرآتي حاصل في معاني الأسماء وغيرها ، حيث إنّ المتكلّم عند التكلّم ينظر بالمعاني التي هي في حقيقتها صور للأشياء إلى نفس الأشياء في مواطنها.

إذن فالحقّ في المقام والذي يقتضيه التأمّل في معاني الحروف هو أنّها موضوعة لإفادة خصوصيّة في مدلول مدخولاتها بحسب الوعاء المناسب لتلك المدخولات ، فمثلا لفظة «في» موضوعة لتدخل على الإسم وتدلّ على أنّ مدخولها متّصف بكونه ظرفا بحسب الخارج.

وليس المراد أنّ لفظة «في» ترادف لفظ «الظرف» ليكون معنى «في» ظرفا بالحمل الأوّلي أو بالحمل الشائع ، بل المراد أنّ معنى لفظ «ظرف» معنى اسمي وأنّ لفظة «في» وضعت لتكون بعد دخولها على الإسم دالّة على أنّ ذلك المدخول موصوف خارجا بكونه ظرفا لشيء يذكر في الكلام أو ذكر سابقا ، كما أنّ «كاف التشبيه» موضوعة لتكون دالّة على أنّ المعنيّ بذلك الإسم خارجا مشبّه به ، ولفظة «من» وضعت لتكون دالّة على أنّ مدلول ذلك الإسم خارجا معنون بعنوان المبدأ ،

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وكلمة «نعم» موضوعة لتدخل على الجملة ولتدلّ على أنّ مضمونها هو الجواب ولفظة «لا» موضوعة لتدخل عليها فتدل على انتفاء مضمون تلك الجملة بحسب الخارج وهكذا وهكذا ، كما هو الحال في الاعراب والهيئات الداخلة على الأسماء والجمل.

وبتعبير آخر : كما أنّ حالات الإعراب موضوعة لتدلّ على أنّ معنى مدخولها بحسب الخارج متّصف بكونه مصداقا للفاعل أو المفعول أو غيرهما ، كذلك الحروف موضوعة لتكون بدخولها على الإسم أو غيره دالّة على خصوصيّة مدخولها بحسب الخارج ، فمثلا إذا قيل : (الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في غيره) يكون لفظ «في» دالّا على أنّ المسجد متّصف بكونه ظرفا فتكون الهيئة الكلامية دالّة على أنّ الصلاة المفروض كون المسجد ظرفا لها محكومة بما ذكر ، وعليه فلفظة «في» لم توضع لتقييد معنى الصلاة وتضييقها بالظرف.

نعم بما أنّها موضوعة للدلالة على كون مدخولها ظرفا ، تكون الصلاة المفروض لها الظرف الخاصّ أخصّ من طبيعيّ الصلاة ، وأمّا إذا لم يكن في البين شيء قابل للتضييق لم يحصل ذلك التقييد كما في قولنا (زيد كالأسد) أو (في الدار) إلى غير ذلك.

والحاصل ؛ أنّ الفرق بين الحروف والأسماء في أنّ الأسماء موضوعة للعناوين (ولذا تكون معانيها إخطاريّة بالمعنى المتقدّم) بخلاف الحروف ، فإنّها موضوعة لتدل على اتّصاف مدخولاتها بالعناوين بحسب الوعاء المناسب لتلك المدخولات (ولذا تكون معانيها في مداليل مدخولاتها).

ومما ذكر يظهر ضعف القول بأنّ الحروف موضوعة لتضييق معاني الأسماء

٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وتقييدها (١). فإنّ التقييد والتضييق وإن كان يحصل في المورد القابل له عند استعمال الحروف في معانيها إلّا أنّه لم يكن بموضوع لها ، بل التضييق والتقييد لازم للمعاني الحرفية في المورد القابل.

لا يقال : ما الفرق بين لفظ «زيد» الحاكي عن مصداق خاصّ للإنسان ، وبين لفظة «في» الحاكية عن مصداق الظرف ، فلو كان مجرّد الحكاية عن مصداق عنوان موجبا لكونه حرفا ، لزم كون معنى لفظ «زيد» أيضا حرفيا.

فإنّه يقال : معنى لفظ «زيد» إخطاري يحكي عن نفس المصداق ولو بعنوان مشير إليه ولا يحكي عن جهة كونه مصداقا لعنوان الإنسان ، بل الحاكي عن هذه الجهة الهيئة التركيبية في قولنا «زيد إنسان» ، وهذا بخلاف لفظة «في» حيث إنّ معناها لا يكون إخطاريا ، ولفظة «في» لا تحكي عن نفس مصداق عنوان الظرف ، بل الحاكي عن نفس المصداق مدخولها ، وهو لفظ الدار ، فيكون مدلول لفظة «في» اتّصاف مدخولها بكونه ظرفا. وبما ذكرناه من معنى الحروف تبيّن صحّة تعريف الحرف بأنّه : ما دلّ على معنى في غيره ، على أن يكون المراد بالغير مدخوله كما ذكرنا ذلك في ناحية وضع الإعراب.

كما تبيّن أيضا أنّ ما اشتهر من عدم المعنى للإعراب ، غير صحيح على إطلاقه ، فإنّ الإعراب وإن لم يكن له معنى إخطاريّ إلّا أنّه إذا دخل على المعرب دلّ على خصوصية في معناه بحسب الوعاء المناسب له ، فما قيل من أنّ الحروف لو كانت كالاعراب في عدم المعنى ، لزم أن يكون معنى مفردات الكلام مساويا لمعنى

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه : ١ / ٧٥.

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الكلام ، بأن يكون معنى «زيد» «دار» مساويا لمعنى «زيد في الدار» غير صحيح ؛ إذ هو يبتني على أن يكون الإعراب لا معنى له ، وقد عرفت خلافه.

لا يقال : ما الفرق بين معاني أسماء الأعراض ومعاني الحروف ، فكما أنّ العرض يكون خصوصية بحسب الخارج لمعروضه ، كذلك معاني الحروف.

فإنّه يقال : إنّ أسماء الأعراض تحكي عن نفس الخصوصية بنحو الإخطار ، ولو لم تكن في ضمن تركيب كلامي ، غاية الأمر تكون وجوداتها قائمة بالمعروض ، وكون وجوداتها كذلك بإدراك العقل لا بدلالة اللفظ ، بخلاف الحروف فإنّه ليس لها معان إخطارية ، بل حيث تدخل على الأسماء تكون دالّة على أنّ مدخولاتها متّصفة بالعناوين الاسميّة في الوعاء المناسب لها ، ويعبّر عن تلك العناوين الاسمية بالأعراض والخصوصيّات.

وقد انقدح ممّا تقدّم أنّ معاني الحروف لا تتّصف بالكلّية والجزئية ؛ لكونها متدلّيات بمعاني مدخولاتها ، فإن كان مدخول الحروف كلّيا أو مما يصدق على الكلّ والأبعاض ، كانت معاني الحروف الداخلة عليه كذلك ، فيكون معناها قابلا للتقييد بتبع تقييد المدخول ، وإن كان مدخولها جزئيّا كان معنى الحرف الداخل عليه قابلا للتعيين بحسب ما يقبله ذلك الجزئيّ من التعيين بحسب الحال والزمان.

وبتعبير آخر : الأزمنة التي توجد فيها الدار المزبورة كحالاتها متعددة فيمكن تقييدها ببعضها ، والحرف الداخل على كلمة الدار يقبل هذا النحو من التقييد ، وإن لم يكن مدخول الحرف قابلا حتّى لهذا النحو من التقييد ، لم يك معنى الحرف قابلا للتقييد أصلا ، كما في أوّل ساعة من يوم الجمعة من الشهر الفلاني من السنة الفلانية ، فإذا قيل : (مات زيد في أوّل ساعة من ذلك اليوم) فلا يكون المعنى الحرفي قابلا

٥٠

ثمّ لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء أيضا كذلك [١] ، فيكون الخبر موضوعا ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه ، والإنشاء ليستعمل في قصد تحقّقه وثبوته ، وإن اتّفقا فيما استعملا فيه ، فتأمّل.

______________________________________________________

للتقييد. هذا كلّه في تقييد معاني الحروف ، وأمّا تقييد معاني الهيئات فيأتي الكلام فيها في بحث الواجب المطلق والمشروط إن شاء الله تعالى.

الخبر والإنشاء :

[١] يعني كما أنّ الفرق بين الإسم والحرف لم يكن إلّا في ناحية الوضع مع كون الموضوع له والمستعمل فيه واحدا فيهما ، فلا يبعد أن يكون الفرق بين الجملة الخبرية والجملة الإنشائيّة كذلك ، بأن يكون الموضوع له والمستعمل فيه فيهما واحدا ، غاية الأمر الوضع في الجملة الإنشائيّة مشروط بإرادة المعنى بنحو خاصّ ، وفي الجملة الخبرية بإرادته بنحو آخر.

توضيح ذلك أنّ ثبوت النسبة في موطنها وانتفائها فيه على اختلاف أنحائها لها صور عند النفس ، ولو كانت تلك الصور متدلّية في طرفيها ، مثلا نسبة المحمول إلى الموضوع واقعها اتّحادهما وجودا بنحو خاصّ ، أو مفهوما أيضا ، ونسبة المبدأ إلى الفاعل عبارة عن قيام المبدأ به صدورا أو حلولا أو غيرهما ، والصور في جميع ذلك هي الموضوع لها في الهيئات وتلك الصور وإن كان لها وجودات في أفق النفس إلّا أنّ الهيئات لم توضع لتلك الوجودات بل وضعت لذواتها ، وإذا خاطب المتكلم شخصا بقوله : (أطلب منك ضرب زيد) بنحو الإخبار ، أو (طلبت ضربه منك) ، وقال الآخر لمخاطبه : (اضرب زيدا) إنشاء ، فالكلامان مترادفان في المعني ، وإنما يختلفان في نحو إرادة ذلك المعنى ، فإنّه في الإخبار يقصد المتكلم الحكاية عن ثبوت المضمون

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

في موطنه ، وفي الإنشاء يقصد أن يثبت ذلك المضمون ويتحقّق في موطنه.

ومما ذكرنا يظهر أنّ في عبارته قدس‌سره حيث قال : «في حكاية ثبوت معناه» و «في قصد تحقّقه» تسامحا ، فإنّ المناسب تبديل لفظة «في» باللّام ؛ لأنّ الحكاية أو التحقّق غاية للاستعمال في الإخبار والإنشاء كما هو المدّعى ، لا أنّهما داخلان في الموضوع له أو المستعمل فيه.

وبتعبير آخر : الفرق بين مثل قول المولى لعبده (أطلب خروجك إلى السفر) بنحو الإخبار ، وبين قوله لعبده الآخر : (أخرج إلى السفر) إنشاء ، بعد اشتراكهما في أنّ مدلول كلّ منهما ثبوت طلب الخروج من المولى ، هو أنّ الشرط في وضع هيئة فعل المضارع كون الداعي للمستعمل من نقل ثبوت الطلب إلى ذهن المخاطب ، حكاية ثبوته ، بينما الشرط في وضع صيغة افعل كون الداعي إرادة ثبوت الطلب بذلك الاستعمال.

وقد ظهر مما ذكرنا أنّه لا فرق عند الماتن قدس‌سره بين قول القائل : (بعت داري بكذا) إخبارا ، وبين قوله : (بعت داري بكذا) إنشاء ، إذ الهيئة فيهما قد استعملت في معنى واحد ، وهو ثبوت بيع الدار ، وكذا قوله : (اضرب زيدا) إنشاء ، و (أطلب منك ضرب زيد) إخبارا ، فإنّهما قد استعملا في ثبوت الطلب والبيع ، وإنّما الاختلاف في أنّ إنشاء البيع بقوله : (بعت داري) استعمال بغير الوضع وإنشاء الطلب في (اضرب زيدا) استعمال بالوضع. نعم ربّما لا يكون ثبوت الشيء أو ثبوته لشيء آخر قابلا للإنشاء ، نحو : زيد أسود اللون ، وهذا لا يوجب أن لا يكون المستعمل فيه ثبوت سواد اللون لزيد ، بل المستعمل فيه ذاك ، فلا يكون قصد الحكاية داخلا في الموضوع له والمستعمل فيه.

٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وذكر المحقق الاصبهاني قدس‌سره أنّ الأمر في مثل قوله «بعت داري» من الصيغ المشتركة بين الإخبار والإنشاء هو كما ذكره قدس‌سره من أنّ المستعمل فيه للهيئة نسبة بيع الدار إلى المتكلّم ، وهذه النسبة تكون لقصد الحكاية تارة ، ولقصد الإنشاء أخرى. وأمّا في مثل قوله : (اضرب زيدا) وقوله : (أطلب منك ضرب زيد) ممّا لا اشتراك فيه بين الجملة الإنشائية والجملة الخبرية لفظا وهيئة ، فلا يتمّ ذلك ؛ لأنّ الأوّل موضوع للبعث الاعتباري لا بما هو هو ، بحيث يكون البعث ملحوظا بذاته ، بل بما هو نسبة بين المتكلّم والمادّة والمخاطب ، ولذا لا تكون لتلك النسبة واقعية لتطابقها أو لا تطابقها.

وبتعبير آخر : كما أنّه إذا حرّك شخص غيره نحو الفعل تحريكا خارجيا لا يكون ذلك التحريك الخارجي ملحوظا بذاته ، بل الملحوظ هو الفعل من المحرّك ، كذلك في التحريك والبعث الإنشائي الاعتباري ، يكون الملحوظ بالذات نفس المادّة من المخاطب ، كما في قوله : (اضرب زيدا) ، وأمّا إذا قال : (أبعثك نحو ضرب زيد) أو (أحرّكك نحو ضرب زيد) أو (أطلب منك ضرب زيد) إخبارا ، فليس الملحوظ بالذات ضرب زيد (بأن يكون البعث مفاد الهيئة وملحوظا لا بذاته) حتّى يقال لا فرق في المعنى بين الهيئة الإنشائيّة والإخباريّة ؛ لأنّ البعث معنى واحد ، والتفاوت باللّحاظ غير المقوّم للمستعمل فيه ، بل مضمون الهيئة ومدلولها في موارد الإخبار نسبة نفس البعث إلى المتكلّم بنسبة صدوريّة ، وكم فرق بين النسبة البعثيّة وبين نسبة البعث (١)؟

أقول : يرد على المصنّف قدس‌سره أنّه لو لم يك فرق في ناحية المستعمل فيه

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٦١.

٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

والموضوع له في قوله : (اضرب زيدا) إنشاء ، و (أطلب منك ضرب زيد) إخبارا ؛ لكان استعمال الأوّل في مورد الثاني صحيحا ، غاية الأمر لا يكون الاستعمال على طبق الوضع فيحتاج إلى القرينة ، كما تقدّم في استعمال الحروف في موضع الإسم. ويرد على ما ذكره المحقّق الأصفهاني قدس‌سره أنّ ما ذكره هو بيان للفرق بين الهيئة الداخلة على المادّة المضاف إليها الطلب ، كما في قوله : (اضرب زيدا) وبين الهيئة الداخلة على مادّة الطلب عند إرادة الحكاية عن نفس الطلب ، كقوله : (أطلب منك ضرب زيد) وأنّه يكون الطلب في الأوّل ملحوظا آليّا ، وفي الثاني ملحوظا استقلالا ، وهذا الفرق ممّا لا بدّ منه على مسلكهم ، حيث إنّ استعمال الهيئة في الأوّل في الطلب لا يزيد على استعمال الحروف ، بخلاف قوله : (أطلب منك ضرب زيد» فإنّ دلالته على الطلب بمادّته وبمدخول الهيئة ، ومعنى الطلب فيه لا بدّ أن يكون ملحوظا بذاته ، كالمعنى الاسمي في استعمال سائر الأسماء إلّا أنّ هذا ليس فرقا بين الإنشاء والإخبار ، فإنّه لو قصد من قوله (أطلب منك ضرب زيد) الإنشاء لكان بين مدلوله ومدلول قوله (اضرب زيدا) ذلك الفرق ، بمعنى أنّ المنتسب إلى المتكلّم في الثاني هو الضرب بنسبة طلبيّة وبعثيّة ، وفي الأوّل المنسوب إليه طلب الضرب بنسبة قياميّة ، وليس هذا محل الكلام وإنّما الكلام في المائز بين الإنشاء والإخبار وأنّ ذلك الميز داخل في المستعمل فيه والموضوع له ، أو أنّه أمر خارج عنهما وأنّه شرط للوضع في كلّ من الجملة الإنشائيّة والخبريّة.

ويشهد لما ذكرنا أنّه لو أراد من قوله (أطلب منك ضرب زيد) الإنشاء تارة والإخبار أخرى ، لما كان بينهما فرق في كون الطلب المتعلّق بضرب زيد ملحوظا بذاته ، كما لا يخفى.

٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وذكر سيدنا الأستاذ قدس‌سره أنّ الجملة الخبريّة لا يمكن وضع هيئتها للنسبة الخارجيّة ـ أي وضعها لثبوت شيء لشيء خارجا ـ فإنّه ربّما لا تكون في الخارج نسبة كما في (الإنسان موجود) أو (شريك الباري ممتنع) أو (الإنسان ممكن) والالتزام باستعمال الهيئة في مثل هذه الموارد بالعناية خلاف الوجدان ، مع أنّه لا معنى لدلالة الهيئة على النسبة الخارجيّة فإنّها لا تفيد الظن بالثبوت الخارجي ، فضلا عن العلم به ، ولا معنى لدلالة الهيئة على النسبة الخارجيّة ، غير كونها كاشفة عنها علما أو ظنا ، كما لا معنى لوضعها للنسبة الكلامية بأن توجد النسبة بين أجزاء الكلام ـ نظير ما تقدّم في الحروف من أنّها موضوعة لإيجاد الربط بين المعاني الاسميّة ـ.

نعم الجملة الاسميّة يوجب سماعها انتقال الذهن إلى ثبوت المحمول للموضوع بنحو التصوّر ، ولكنّ ذلك المتصوّر لا يمكن أن يكون مستفادا من الهيئة ومدلولا لها ، فإنّها من قبيل التصوّر ، ومفاد الهيئة في الجملة الخبريّة تصديقي. فالصحيح أنّ الهيئة في الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن الثبوت الواقعي ، أي ثبوت شيء لشيء ، ويعبّر عن ذلك بثبوت المحمول للموضوع أو ثبوت شيء في موطنه من ذهن أو خارج.

وبتعبير آخر : تكون الهيئة بحسب وضعها كاشفة عن قصد المتكلّم الإعلام بالثبوت الواقعي ، حيث إنّ الوضع في الألفاظ ـ كما تقدم ـ بمعنى التعهّد والالتزام ، والتعهّد من شخص إنّما يتعلّق بفعل نفسه وعلم الغير بثبوت شيء لشيء ، أو ظنّه به خارج عن اختيار المتكلّم ، فلا يتعلّق به التعهّد ، والذي هو فعل اختياري له ، هو قصد الحكاية عن ثبوت شيء لشيء أو نفس ثبوته أو لا ثبوته ، وعلى ذلك فلا يكون الصدق والكذب من أوصاف نفس مدلول الجملة الخبريّة ، بل من أوصاف متعلّق

٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

المدلول ، (يعني الحكاية). هذا بالإضافة إلى الجملة الاسميّة المستعملة في مقام الإخبار ، وأمّا إذا كانت فعليّة فهيئتها أيضا تدلّ على قصد الحكاية عن تحقّق المبدأ بنحو المضي أو الترقّب (١).

أمّا الإنشاء فهو عبارة عن إبراز اعتباره فيما يكون ثبوت الشيء بذلك الاعتبار ، والاعتبار وإن كان أمرا نفسانيّا إلّا أنّه غير قصد الحكاية.

وما اشتهر من أنّ الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى خارجا باستعمال اللفظ ، لا يمكن المساعدة عليه ؛ وذلك لأنّه إن أريد من المعنى في إنشاء البيع مثلا الملكيّة التي يعتبرها المتكلّم ، فلا يكون إيجادها باللفظ ، بل وجودها بالاعتبار القائم بالنفس ولا يحتاج إلى اللفظ ، بل اللّفظ مبرز لذلك الاعتبار ، وإن أريد الملكيّة العقلائيّة أو الشرعيّة ـ يعني إمضاء العقلاء أو الشارع لتلك الملكيّة ـ فمن الظاهر أنّ إمضاء العقلاء أو الشارع لا يكون من فعل المستعمل ليوجده باللفظ أو بغيره ، بل هو فعل العقلاء والشارع ، فيكون حكما مترتبا على الإنشاء أو المنشأ لا موجودا بفعل المستعمل للجملة الإنشائيّة (٢).

أقول : أوّلا : إنّه قد اعترف (نوّر الله مضجعه الشريف وجزاه عن العلم وأهله خيرا) بأنّ سماع الجملة الخبريّة الاسميّة يوجب انتقال الذهن إلى ثبوت المحمول للموضوع ، وكذا ثبوت الشيء لشيء أو وقوعه منه ، فيما كانت الجملة الخبرية فعليّة ، مثل ضربت أو قمت ، وحينئذ نقول : ما الموجب لهذا الانسباق؟ هل هو إلّا الوضع ، فلو كانت الهيئة موضوعة لقصد الحكاية عن النسبة الخارجيّة لكان الذهن ينتقل إلى

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه : ١ / ٨٥.

(٢) محاضرات في أصول الفقه : ١ / ٨٨.

٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

قصد الحكاية عنها ، لا إلى نفس صورة الثبوت الخارجي أو لا ثبوته ، مع أنّه لا يحرز قصد الحكاية إلّا إذا أحرز أنّ المتكلّم شاعر يريد بكلامه تفهيم المعنى ، فليست الهيئة موضوعة لقصد الحكاية كما أنّها ليست موضوعة للثبوت الخارجي ـ أي نفس النسبة الخارجيّة ـ ليلزم أن لا يكون في مورد كذب المتكلّم استعمال أصلا. بل الموضوع له والمستعمل فيه للهيئة هي صورة النسبة الخارجيّة.

ولكن هذه الصورة ليس لها استقلال بل متدلية في أطرافها وخصوصية لها على نسق ما ذكرنا في معاني الحروف ، وقد أغمض في وضع الهيئات عن كون تلك الصورة في أفق النفس ، كما هو الحال في وضع الأسماء وغيرها ، ومعنى دلالة الهيئة على تلك النسبة انتقال تلك الصورة إلى ذهن سامع الهيئة في ضمن سماع أسامي الأطراف والمواد ، فإن كان غرض المتكلّم من إحضار تلك الصورة (التي تلاحظ مرآة للخارج) إرادة تفهيم فعليّة ذي الصورة مع قطع النظر عن الاستعمال المزبور كان ذلك إخبارا وإن كان غرضه حصول ذي الصورة بذلك الاستعمال والاحضار كان إنشاء.

وثانيا : إنّ ما ذكره قدس‌سره من أنّ الجملة الخبرية مفادها التصديق ، وتلك الصورة من قبيل التصور لا التصديق.

ففيه : أنّ الاعتقاد بثبوت شيء لشيء خارجا تصديق بالاصطلاح المنطقي ، وغير داخل في مدلول الجملة الخبرية بوجه ، والتصديق في مدلول الجملة الخبرية هو التصديق باصطلاح علماء الأدب ، وهو الدلالة على النسبة التي يصحّ سكوت المتكلّم عليها ، وهذا حاصل في استعمال الجملة الخبرية لا محالة فهو تصديق بالاصطلاح الأدبي ، وإن كان تصورا بالاصطلاح المنطقي.

٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وثالثا : إنّ ما ذكره قدس‌سره من أنّ الأمور الإنشائيّة يكون حصولها بالاعتبار القائم بالنفس ولا يحتاج إلى اللّفظ ، بل اللّفظ مبرز لذلك الاعتبار ، لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ الإنشائيّات وإن كان اعتبارها بالنفس ، إلّا أنّها أمور إبرازيّة أيضا ، فما لم يكن في البين إبراز لا يحصل ذلك الأمر الاعتباري حتّى في اعتبار المعتبر ، فلو اعتبر الدائن براءة ذمّة المديون ، ولكن لم يبرز أصلا ، لم يكن إبراء بوجه ، حتّى بنظره قدس‌سره ، فلو سألناه عن إبرائه ذمّة زيد ـ مثلا ـ فلا يصحّ له أن يقول إخبارا (إنّه بريء الذمّة) ويصحّ أن يقول : (إنّه بريء الذمّة) إنشاء ، فإبراء الذمّة لم يحصل حتّى بنظر المعتبر قبل الإبراز ، فكيف يعتبره موجودا قبل الإبراز؟

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ قول المخبر (بعت داري بكذا) في مقام الإخبار ، وقول منشئ البيع في مقام إنشائه (بعت داري بكذا) لا يختلفان في المستعمل فيه ، بل المستعمل فيه في كلا المقامين هو صورة وقوع البيع خارجا ، ولكنّ الغرض من إلقاء تلك الصورة إلى ذهن المخاطب يختلف ، ففي مقام الإخبار يكون غرضه أن يفهم السامع الوقوع الخارجي ، مع قطع النّظر عن هذا الاستعمال ، سواء كان السامع بعد التفاته إلى وقوعه بصورته جازما به أو ظانّا أو شاكّا أو حتّى جازما بالعدم ؛ ولذا يصحّ أن ينسب إلى المتكلّم أنّك ذكرت لنا وقوع البيع ، كما يصحّ للمتكلّم أن يقول :

ذكرت لكم وقوع البيع ، وفي مقام الإنشاء يكون غرضه من إحضار صورة وقوع البيع هو أن يتحقّق ذو الصورة خارجا بذلك الإحضار بالتكلّم أو بغيره ، فلو باع الوكيل متاعا وحين إنشاء الوكيل البيع قال المالك لشخص آخر : (بعت مالي) إخبارا ببيع وكيله ، لم يكن قول المالك إنشاء ، بل هو إخبار ، يخالف قول وكيله لمشتري المتاع : (بعت) فإنّه إنشاء.

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة الإنشاء هو إحضار صورة وقوع الشيء بالتكلّم أو بغيره ، لغرض تحقّق ذي الصورة خارجا بالاعتبار ، سواء كان إحضار تلك الصورة بنحو المعنى الحرفي أو بنحو المعنى الاسمي ، فقوله للمخاطب : (اضرب زيدا) وقوله : (أطلب منك ضرب زيد) إنشاء كلاهما إحضار لصورة البعث المتعلّق بضرب المخاطب إلّا أنّه في الأوّل بنحو المعنى الحرفي ، وفي الثاني بنحو المعنى الاسمي ، وبكل منهما يحصل البعث خارجا ولو بالاعتبار.

نعم مقتضى ما تقدّم هو أنّ الإنشائية والإخبارية إنّما تنشئان من الغرض من نقل صورة وقوع الشيء خارجا إلى ذهن السامع ، لا أنّ الهيئة في الجملات لا دلالة لها على تعيين الغرض من الإحضار بالوضع ، فإنّ هذا أمر لا يمكن إنكاره ، فهيئة (اضرب) وإن كانت توجب انتقال صورة بعث المخاطب نحو الضرب ولو بنحو المعنى الحرفي ، إلّا أنّها تدلّ أيضا على تعيين الغرض وهو إيجاد الطلب خارجا.

كما أنّ الجملة الخبرية بهيئتها تدلّ على أنّ الغرض من الإحضار حكاية حصول ذي الصورة ، ولذا تكون إرادة الإنشاء من الجملة الخبرية محتاجة إلى القرينة ولكن لا يصحّ إرادة الإخبار من الهيئة الموضوعة للإنشاء فلا يصحّ قوله للمخاطب (بع المال) إخبارا بالبيع ؛ لأنّ الكلام الدالّ على طلب البيع من المخاطب لا يناسب إخباره به ، فإنّ الطلب منه يستلزم عدم حصول البيع فعلا ، والإخبار والحكاية يتوقّف على الفراغ عن حصوله ، فالإخبار بوقوع شيء بالجملة الإنشائيّة يشبه طلب الحاصل الركيك ، بخلاف استعمال الجملة الإخبارية لغرض إنشاء طلبه ، فإنّ التعبير عن طلب شيء بوقوعه ولو مستقبلا يناسب شدّة الطلب والشوق والوثوق بالفاعل ، وهذه مناسبة توجب حسن استعمال الجملة الخبرية في مقام الإنشاء.

٥٩

ثمّ إنّه قد انقدح ممّا حققناه ، أنّه يمكن أن يقال : إنّ المستعمل فيه في مثل أسماء الإشارة [١] والضّمائر أيضا عامّ ، وأنّ تشخّصه إنّما نشأ من قبل طور استعمالها ، حيث إن أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها ، وكذا بعض الضّمائر ، وبعضها ليخاطب به المعنى ، والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخص كما لا يخفى ، فدعوى أنّ المستعمل فيه في مثل (هذا) أو (هو) أو (إياك) إنّما هو

______________________________________________________

الوضع في أسماء الإشارة :

[١] ظاهر كلامه قدس‌سره أنّ الموضوع له والمستعمل فيه في أسماء الإشارة والضمائر وسائر الأسماء المبهمة كالموصولات ، هو معنى عامّ كالمفرد المذكر ، بأن يكون لفظ (هذا) مرادفا للفظ المفرد الموصوف بالتذكير ، غاية الأمر الاختلاف بينهما بالوضع حيث أنّ لفظ (هذا) موضوع لذلك المعنى العامّ على أن يشار إليه عند استعماله فيه بالإشارة الخارجيّة ، كما أنّ الضمير الغائب كلفظ (هو) موضوع له بشرط أن يشار إليه بالإشارة المعنويّة ، ولم يؤخذ في ناحية الموضوع له والمستعمل فيه قيد ، وإنّما أخذ في ناحية نفس الوضع ، كما تقدم في معاني الحروف ، وعلى ذلك فضمير المخاطب مثلا يكون لنفس ذلك المعنى العامّ يعني الفرد الموصوف بالتذكير ، ويكون وضعه له مشروطا بالتخاطب معه عند استعماله في ذلك المعنى.

وبالجملة دعوى أنّ الموضوع له والمستعمل فيه في الأسماء المزبورة كالوضع فيها عامّ وإنّما الخصوصية والتشخّص ناشئة من الإشارة والتخاطب ، حيث أنّ الإشارة لا تكون إلّا إلى الشخص ، والخطاب لا يكون إلّا مع الشخص ، غير بعيدة.

أقول : لا ينبغي التأمّل في أنّ لفظ (هذا) لا يكون مرادفا للمفرد المذكر المشار إليه أو معنى لفظ المفرد المذكر عند الإشارة إليه ، نعم لو قيل : إنّ (هذا) اسم لما يصحّ إطلاق عنوان المفرد المذكّر عليه عند الإشارة إليه ، صحّ ، سواء كان ما يطلق

٦٠