دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

والثانية ـ يعني المبادئ التصديقية ـ هي التي يحرز بها ثبوت المحمولات في مسائل العلم لموضوعاتها ، وبتعبير آخر : بما أنّ مسائل العلم نظرية تحتاج إلى الواسطة في الإثبات ـ كنتائج المسائل الأصولية بالاضافة الى المسائل الفقهية ـ فتكون نتائج مسائل علم الأصول وسائط في إثبات المسائل الفقهية.

فإن أريد أنّ البحث في المقدمة من المبادئ التصديقية لعلم الفقه فهو صحيح ، كما هو الحال في جميع المسائل الأصولية ، وإن أريد من المبادئ الأحكام المبادئ التصوّرية لعلم الفقه ، أو معنى آخر مستقلّا عنهما ، فلا يمكن المساعدة عليه ، بل لا نتصوّر للمبادئ الاحكام معنى في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية.

نعم ، بناء على ما اشتهر بينهم ، والتزم به الماتن قدس‌سره ، من أنّ مسائل العلوم تكون بمفاد كان الناقصة ، حيث يبحث في مسائل العلم عن العوارض الذاتية لموضوع العلم المنطبق على موضوعات مسائله ، انطباق الكلي على مصداقه والطبيعي على فرده ، يشكل جعل بحث الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمته من مسائل علم الأصول ، فإنّ الملازمة إن كانت بعينها حكم العقل فيكون البحث عن ثبوت الملازمة بحثا بمفاد كان التامّة ، حيث يبحث عن ثبوت موضوع علم الأصول الذي عدّ منه حكم العقل أو عن ثبوت مصداقه وإن كانت أمرا واقعيا يكشف عنه العقل ، فيمكن أن يتكلّف في المقام بأنّ البحث عنها بحث عن كشف العقل عن ذلك الأمر الواقعي ، ولكن المذكور في عنوان البحث الذي هو المعيار في دخول المسألة في مسائل العلم هو البحث عن أصل ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته.

وأمّا بناء على ما ذكرنا ـ من أنّ المعيار في كون مسألة من مسائل العلم هو ترتّب الغرض منه عليها ، سواء كان البحث فيها بمفاد كان التامّة أو الناقصة ـ فلا كلام في

٤٤١

بانتفاء الدلالات الثلاث ، مضافا إلى أنّه ذكرها في مباحث الألفاظ ، ضرورة أنّه إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ثبوتا محل الاشكال ، فلا مجال لتحرير النزاع في الإثبات والدلالة عليها بإحدى الدلالات الثلاث ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

كون البحث في المقام بحثا عن مسألة أصولية ، وقد تقدّم ترتّب استنباط الحكم الشرعي على نتيجة المسألة في قياس استثنائي.

ومنه ظهر أنّ المسألة ليست من مباحث الألفاظ من علم الأصول ، كدلالة صيغة الأمر أو مادّته على الوجوب أو الفور أو المرة ، بل المسألة عقلية وأنّ الكلام في ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته بمعنى أنّ العقل هل يرى إمكان تفكيك المولى وجوب الشيء عن وجوب مقدّمته أو لا؟ فلا تكون المسألة من مباحث الألفاظ ، كما يظهر من كلام صاحب المعالم قدس‌سره ، حيث استدلّ على نفي الملازمة بانتفاء الدلالات الثلاث ، وذكرها في مباحث الألفاظ.

وبالجملة ، فالمهمّ في المقام هو البحث عن الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته فإنّ ثبوتها موجب للعلم بوجوب مثل الوضوء عند وجوب الصلاة على ما مرّ ، وأمّا الدلالة اللفظية فلا يترتّب على انتفائها عدم وجوب الوضوء عند وجوب الصلاة ؛ لإمكان ثبوت الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمته من غير دلالة لفظية لخطاب الأمر بذي المقدّمة على وجوب مقدّمته ، بل للملازمة ، ومعها تكون المقدّمة واجبة بوجوب ذيها. ولو كان ثبوت الملازمة بين الإيجابين محلّ مناقشة ، فاللازم هو البحث عنها لترتّب المطلوب من المسألة الأصولية عليها ، لا البحث عن ثبوت الدلالة اللفظية للأمر بذي المقدّمة أو عدمها ، بل عدم دلالة الأمر بشيء على وجوب مقدّمته بالدلالة اللفظية أمر واضح لا ينبغي البحث عنه.

٤٤٢

الأمر الثّاني : إنّه ربّما تقسم المقدمة إلى تقسيمات :

منها : تقسيمها إلى داخلية [١] وهي الأجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها ، والخارجية وهي الأمور الخارجة عن ماهيته ممّا لا يكاد يوجد بدونه.

وربّما يشكل في كون الأجزاء مقدمة له وسابقة عليه ، بأن المركب ليس إلا نفس الأجزاء بأسرها.

______________________________________________________

المقدمة الداخلية والخارجية :

[١] المراد بالمقدّمة الداخلية هي الداخلة في متعلّق الوجوب النفسي ، كأجزاء المركّب المتعلّق به الوجوب. والخارجية هي الخارجة عن ذلك المتعلّق ، كالشرائط. ويقع الكلام في هذا الأمر من جهتين :

الأولى : هل أجزاء المركّب مقدّمة له ، أو أنّ الجزء بالإضافة إلى كلّه لا يتّصف بالمقدّمة؟

والثانية : أنّه على تقدير كون الجزء مقدّمة للكلّ ، فهل يتعلّق به الوجوب الغيري ، بناء على الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، أو أنّ المقدّمة الداخلية لا يتعلّق بها الوجوب الغيري ، حتّى بناء على الملازمة؟

وقد تعرّض قدس‌سره لما قيل في الجهة الأولى من منع كون الجزء مقدّمة للكلّ ، بأنّ كون شيء مقدّمة والآخر ذا المقدّمة مقتضاه الاثنينيّة والتعدّد بينهما ، حيث تكون المقدمة سابقة في التحقّق على ذيها والحال أنّ الكلّ بحسب الخارج عين الإجزاء فلا اثنينية بينهما.

وأجاب عن ذلك بأنّه لا يعتبر في التعدّد بينهما التعدد الخارجي بأن يكون للمقدّمة وجود ولذيها وجود آخر ، بل يكفي التعدّد الاعتباري ، وهذا التعدّد متحقّق

٤٤٣

والحل : إن المقدمة هي نفس الأجزاء بالأسر ، وذو المقدمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع ، فيحصل المغايرة بينهما ، وبذلك ظهر أنّه لا بدّ في اعتبار الجزئية أخذ الشيء بلا شرط ، كما لا بد في اعتبار الكلية من اعتبار اشتراط الاجتماع.

وكون الأجزاء الخارجية كالهيولى والصورة ، هي الماهية المأخوذة بشرط لا ينافي ذلك ، فإنّه إنّما يكون في مقام الفرق بين نفس الأجزاء الخارجية والتحليلية ، من الجنس والفصل ، وأن الماهية إذا أخذت بشرط لا تكون هيولى أو صورة ، وإذا أخذت لا بشرط تكون جنسا أو فصلا ، لا بالإضافة إلى المركب ، فافهم.

______________________________________________________

بين الجزء والكلّ ، حيث إنّ الكلّ هو الجزء بشرط سائر الأجزاء ، والمقدّمة هي الأجزاء لا بشرط ، وبما أنّه قد يتوهّم أنّ هذا الفرق بين الكلّ والجزء ينافي ما ذكر في المعقول من أنّ جزء الطبيعي مع اعتباره «لا بشرط» يكون جزءا تحليليّا ، كالجنس والفصل ، ومع اعتباره «بشرط لا» يكون جزءا خارجيا ، كالهيولى والصورة ، تعرّض قدس‌سره لدفع هذا الوهم بما حاصله :

أنّ ما ذكر في المعقول من اعتبار الجزء الخارجى «بشرط لا» إنّما هو في مقام التفرقة بينه وبين الجزء التحليلي للماهية كالجنس والفصل ، وما ذكرناه من أنّ الجزء الخارجي «لا بشرط» هو في مقام التفرقة بينه وبين الكلّ ، حيث إنّ الجزء بالإضافة إلى كلّه يكون «لا بشرط» ومع اختلاف الإضافة لا يكون في البين تناف ، وقد تقدّم في بحث المشتقّ بيان المراد من قولهم «لا بشرط» و «بشرط لا» وأنّ مرادهم من «لا بشرط» و «بشرط لا» هناك بالإضافة إلى الحمل ، والمراد هنا بشرط سائر الأجزاء لا بشرط يكون جزءا بالإضافة إلى الاجتماع.

أضف إلى ذلك أنّ الكلام في المقام في المركّبات الاعتبارية لا الحقيقية لينافي ما ذكروه في التفرقة بين الجنس والفصل وبين الهيولى والصورة «بلا شرط»

٤٤٤

ثمّ لا يخفى أنّه ينبغي خروج الأجزاء عن محلّ النزاع [١] ، كما صرّح به بعض وذلك لما عرفت من كون الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتا ، وإنّما كانت المغايرة بينهما اعتبارا ، فتكون واجبة بعين وجوبه ، ومبعوثا إليها بنفس الأمر الباعث إليه ، فلا تكاد تكون واجبة بوجوب آخر ، لامتناع اجتماع المثلين ، ولو قيل بكفاية تعدد

______________________________________________________

و «بشرط لا». ولعلّه يشير إلى ذلك بقوله «فافهم».

[١] ذكر قدس‌سره أنّ الجزء وإن كان مقدّمة للكلّ إلّا أنّه ينبغي خروجه عن محلّ الخلاف في بحث الملازمة بين وجوب فعل ووجوب مقدّمته ، حيث إنّه لا يتعلّق به الوجوب الغيري ولو على الملازمة ، لما تقدّم من أنّ الأجزاء عين الكلّ ذاتا ، والاختلاف بينها وبين الكلّ بالاعتبار ، فيكون الوجوب النفسي المتعلّق بالكلّ متعلّقا بنفس الأجزاء ، فلا تكون واجبة بوجوب آخر ؛ لامتناع اجتماع المثلين ، حتّى على بناء جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد بعنوانين.

وذلك لأنّ الجهة المصحّحة للاجتماع ـ كما سيأتي ـ هي الجهة التقييدية ، فمع تعدّدها ـ بأن يكون في فعل جهتان ـ جاز أن يتعلّق به الأمر من جهة ، والنهي من جهة أخرى ، وليس عنوان المقدّمة عنوانا تقييديا ؛ لأنّ الوجوب الغيري لا يتعلّق به ، حيث إنّ ذا المقدّمة لا يتوقّف على تحقّق عنوان المقدّمة ، بل على ما يكون بالحمل الشائع مقدّمة ، كالوضوء والغسل وتحصيل الساتر بالاضافة إلى الصلاة. وبما أنّ الجزء يتعلّق به الوجوب النفسى في ضمن تعلّقه بالكل ، لسبقه على الوجوب الغيري ، فلا يمكن أن يتعلّق به الوجوب الغيري للزوم اجتماع المثلين ، نعم عنوان المقدّمة جهة تعليلية ، يعني انطباق عنوان المقدّمة على شيء يوجب تعلّق الأمر الغيري به لو لا المحذور.

وبالجملة وحدة تعلّق الأمر النفسي والغيري مانعة عن تعلّق الوجوبين بالجزء ،

٤٤٥

الجهة ، وجواز اجتماع الأمر والنّهي معه ، لعدم تعددها هاهنا ، لأنّ الواجب بالوجوب الغيري ، لو كان إنّما هو نفس الأجزاء ، لا عنوان مقدميتها والتوسل بها إلى المركب المأمور به ، ضرورة أن الواجب بهذا الوجوب ما كان بالحمل الشائع مقدمة ، لأنّه المتوقف عليه ، لا عنوانها ، نعم يكون هذا العنوان علة لترشح الوجوب على المعنون.

______________________________________________________

وبما أنّ الأمر النفسي سابق في المرتبة على الوجوب الغيري ، يتعلّق به الأمر النفسي فقط دون الغيري حتّى مع ثبوت ملاك الأمر الغيري أيضا فيه.

أقول : محصّل كلامه في المقام أنّ المقدّمة للكلّ نفس الأجزاء ، ولكن لم يلاحظ فيها وصف اجتماعها لا أنّه لا يكون لها اجتماع ، وذو المقدّمة هو الكلّ ، يعني الأجزاء بلحاظ اجتماعها ، وعبّر عن فرض عدم لحاظ الاجتماع بلا بشرط ، وعن لحاظ الاجتماع بشرط شيء ، وعليه فيكون للكلّ المتألّف من عشرة أجزاء ، عشر مقدّمات داخلية ؛ لتوقّف الكلّ على كلّ منها ، ولكن مع ذلك لا يتعلّق بها الوجوب الغيري ؛ للزوم اجتماع المثلين من تعلّقه بها.

لكن الصحيح أنّ الأجزاء لا تكون مقدّمة لحصول الكلّ ، بل الأجزاء عين الكلّ خارجا ، والمقدّمة تقتضي الاثنينية الخارجية ؛ وذلك لأنّ الإنسان إذا أراد فعلا وتوقّف حصول ذلك الفعل على أمر آخر في الخارج تتولّد من إرادته لذلك الفعل إرادة أخرى تتعلّق بذلك الأمر ، فيأتي به بداعوية الإرادة المتولدة من إرادته لذلك الفعل ، فتكون إرادة الفعل أصلا ومنشأ للإرادة المتعلّقة بذلك الأمر ، وبناء على الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته ، حيث إنّ الفعل يتوقّف حصوله خارجا على أمر آخر ، تكون الإرادة الطلبية من المولى المتعلّقة بفعل ، منشأ لإرادته الطلبية الأخرى المتعلّقة بذلك الأمر الموقوف عليه ، وهذا التوقّف الخارجي الموجب

٤٤٦

فانقدح بذلك فساد توهم اتصاف كلّ جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسي والغيري ، باعتبارين ، فباعتبار كونه في ضمن الكل واجب نفسي ، وباعتبار كونه ممّا يتوسل به إلى الكل واجب غيري ، اللهمّ إلا أن يريد أن فيه ملاك الوجوبين ، وإن كان واجبا بوجوب واحد نفسي لسبقه ، فتأمل.

______________________________________________________

لحصول إرادة أخرى من إرادة الفعل ، هو الموجب لتعدّد طلب المولى ، فهناك طلبان ؛ أحدهما بالأصالة والآخر بالتبعية ، ومن الظاهر أنّ موارد الكلّ والجزء لا تكون من هذا القبيل ؛ إذ من يريد الإتيان بالكلّ يأتي بالأجزاء بنفس تلك الإرادة المتعلّقة بالكلّ ، حيث إنّ الكلّ نفس تلك الأجزاء ، فيكون الحال في الطلب المولوي المتعلّق بالكلّ أيضا كذلك ، حيث لا يكون في البين موجب لتولّد طلب آخر يتعلق بالأجزاء ، فإنّ الأجزاء عين الكلّ ، ولا يؤتى بها إلّا بإرادة الكلّ لا بإرادة أخرى ، وإن شئت قلت : تكون الإرادة بالإضافة إلى كلّ جزء ضمنية لا غيرية ، فيكون طلبها أيضا ضمنيا ، فما ذكره قدس‌سره من حصول ملاك الوجوب الغيري في الأجزاء أيضا ، لكون الجزء مقدّمة لحصول الكلّ ، لا يمكن المساعدة عليه بوجه.

والعجب أنّه قدس‌سره أنكر على من زعم أنّ الإتيان بالفرد مقدّمة للإتيان بالطبيعي ، وذكر أنّ الطبيعي عين الفرد ولا معنى للمقدّمية ، مع أنّ الاختلاف بين الطبيعي وفرده اعتبارا أوضح من اختلاف الأجزاء مع الكلّ ؛ لصدق الطبيعي على غير المأتي به ، بخلاف الكلّ فإنّه لا يكون إلّا عين الأجزاء ولا يصدق على غيرها ، وكما أنّ الموجد للفرد يأتي به بنفس الإرادة المتعلّق منه بالإتيان بالطبيعي ، كذلك الحال بالإضافة إلى الآتي بالمركّب.

ولو أغمض عن ذلك وبني على أنّ الجزء مقدّمة للكلّ وفيه ملاك الوجوب الغيري أيضا وأنّه لا يمكن اجتماع المثلين ، فلم لا يلتزم بتعلّق وجوب واحد مؤكّد ،

٤٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

نظير سائر الموارد التي يكون في الفعل ملاكين لوجوبين ، فاجتماع الوجوبين بالمعنى الذي ذكره غير لازم ، وبمعنى التأكّد لا محذور فيه ، بل هو واقع كثيرا ، كما إذا نذر المكلّف الإتيان بفريضته اليومية ، فإنّ مع النذر يتأكّد وجوبها لا محالة.

وما قيل من أنّ التأكّد مع اختلاف الرتبة لا يمكن ، فهو كما ترى ، إذ اختلاف ملاك الحكمين في الزمان ـ بمعنى عدم إمكان اجتماعهما ـ ينافي التأكّد ، وأمّا اختلافهما في الرتبة فلا يمنع التأكّد.

أضف إلى ذلك أنّ الإيجاب وغيره من الأحكام أمر اعتباري لا يجري فيه مسألة اجتماع المثلين أو الضدّين ، ولا يكون من العرض بالإضافة إلى متعلّقه وموضوعه ، بل إن كان عرضا فهو من فعل المولى ، وإنّما لا يمكن اعتبار حكمين على متعلّق واحد باعتبار تنافي ملاكهما ، حيث إنّ الحكم يحتاج إلى ملاك غالب أو خالص في متعلّقه أو من ناحية الغرض من جعلهما ؛ ولذا لا يمكن ثبوت حكمين متضادّين في متعلّق واحد يكون تضادّهما من حيث الملاك والغرض ، وأمّا إذا لم يكن في ناحية الملاكين تناف ، ولا في ناحية الغرض تضاد ، فلا مانع من اعتبارهما كما في مسألة نذر الفريضة.

ثمّ إنّه قد يقال إنّه يترتب على تعلّق الوجوب الغيري بالجزء ـ كتعلّقه بسائر المقدّمات ـ انحلال العلم الإجمالي بالتكليف عند دوران أمر الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، كما إذا دار أمر الصلاة بين كون أجزائها تسعة أو عشرة ، فإنّه على القول بتعلّق الوجوب الغيري بالأجزاء ينحّل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب التسع ، إمّا نفسيّا أو غيريّا ، كما هو ظاهر كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره في ذلك

٤٤٨

هذا كله في المقدمة الداخلية ، وأمّا المقدمة الخارجية ، فهي ما كان خارجا عن المأمور به ، وكان له دخل في تحققه ، لا يكاد يتحقق بدونه ، وقد ذكر لها أقسام ، وأطيل الكلام في تحديدها [١] بالنقض والإبرام ، إلّا أنّه غير مهم في المقام.

ومنها : تقسيمها إلى العقلية والشرعية والعادية :

فالعقلية هي ما استحيل واقعا وجود ذي المقدمة بدونه.

والشرعية على ما قيل : ما استحيل وجوده بدونه شرعا ، ولكنه لا يخفى

______________________________________________________

البحث ويكون وجوب الزائد مشكوكا.

ولكن لا يخفى أنّ الأجزاء متعلّقة للوجوب الضمني لا محالة ، فيكون تعلّق الوجوب بالأقلّ محرزا ؛ إذ هي إمّا نفس متعلّق الوجوب النفسي إذا كان الواجب هو الأقلّ ، أو نفس متعلّق الوجوب الضمني إذا كان الواجب هو الأكثر ، ولو كان هذا المقدار من المعلومية موجبا لانحلال العلم لما كان حاجة إلى ثبوت الأمر الغيري بها ، وإن لم يكن كافيا فلا يفيد في الانحلال الالتزام بتعلّق الوجوب الغيري بالأجزاء ؛ لما ذكروا من أنّ الوجوب الضمني أو الغيري يكون فعليته بفعلية الوجوب المتعلّق بالواجب النفسي لو كان ذلك هو الأكثر ، ولو كان فعلية الوجوب المتعلّق بالأقلّ موجبا لعدم فعلية الوجوب النفسي إذا كان متعلّقا بالأكثر لزم الخلف.

مع أنّه يلزم من الانحلال المزبور عدم الانحلال ، وذلك فإنّ فعلية وجوب الأقلّ على كلّ تقدير يستلزم عدم فعلية الوجوب النفسي لو كان متعلّقا بالأكثر ، وعدم فعليته يوجب أن لا يكون وجوب الأقل فعليّا على كلّ تقدير المستلزم لعدم الانحلال ، وما يلزم من وجوده عدمه محال.

[١] قد ذكر في أقسام المقدّمة الخارجية السبب والمقتضي والشرط وعدم المانع ، وأطيل الكلام في تعريف كلّ منها ، كما في القوانين وغيرها ، إلّا أنّه لا يترتّب

٤٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

المهمّ ـ وهو ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته ـ على تحقيق الفرق بين السبب والشرط والمانع.

المقدّمة العقلية والشرعية والعاديّة :

ومن تقسيمات المقدّمة ، تقسيمها إلى شرعية وعقلية وعادية.

أمّا المقدّمة الشرعية فهي ما يتوقّف الواجب على أمر لكون التقيّد به مأخوذا في الواجب النفسي ، كالطهارة بالإضافة إلى الصلاة ، فإنّ الطهارة بنفسها وإن لم تؤخذ في متعلّق الأمر بالصلاة إلّا أنّ تقيّد الصلاة بها داخل في تعلّق الأمر ، وتكون نفس الطهارة مقدّمة خارجية شرعية لتوقّف الصلاة المأمور بها عليها شرعا ، ولكن لا يخفى أنّه بعد فرض أخذ التقيّد بالطهارة في متعلّق الأمر بالصلاة يكون توقّف الصلاة المأمور بها عليها عقليا لانتفاء المشروط والمقيّد بانتفاء شرطه وقيده عقلا.

وأمّا المقدّمة العقلية فهي ما يتوقّف الواجب النفسي على أمر من غير أن يكون مأخوذا فيه لا بنفسه ولا بتقيّده ، كتوقّف الحجّ من النائي على السفر ، ويطلق على السفر المقدّمة الخارجية العقلية.

وأمّا المقدّمة العاديّة فإن أريد بها ما لا يتوقّف الواجب عليها عقلا ، بأن أمكن الإتيان بالواجب فعلا بدونها ، ولكن قد جرت العادة على الإتيان بها قبل الواجب ، كالأكل والشرب قبل الفجر بالإضافة إلى صوم الغد ، فلا وجه لإدخالها في محلّ الكلام في المقام ، فإنّه لا يتعلّق به الوجوب المولوي حتّى بناء على القول بالملازمة ؛ لعدم كونها ممّا يتوقّف عليه الواجب.

وإن أريد منها ما لا يكون الإتيان بالواجب بدونها ممتنعا ذاتا ، ولكنّ الواجب

٤٥٠

رجوع الشرعية إلى العقلية ، ضرورة أنّه لا يكاد يكون مستحيلا ذلك شرعا ، إلّا إذا أخذ فيه شرطا وقيدا ، واستحالة المشروط والمقيد بدون شرطه وقيده ، يكون عقليا.

وأمّا العادية ، فإن كانت بمعنى أن يكون التوقف عليها بحسب العادة ، بحيث يمكن تحقق ذيها بدونها ، إلّا أنّ العادة جرت على الاتيان به بواسطتها ، فهي وإن كانت غير راجعة إلى العقلية ، إلّا أنّه لا ينبغي توهم دخولها في محل النزاع ، وإن كانت بمعنى أن التوقف عليها وإن كان فعلا واقعيا ، كنصب السلم ونحوه للصعود على السطح ، إلّا أنّه لأجل عدم التمكن من الطيران الممكن عقلا فهي أيضا راجعة إلى العقلية ، ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلا لغير الطائر فعلا ، وإن كان طيرانه ممكنا ذاتا ، فافهم.

______________________________________________________

موقوف عليها فعلا ، كنصب السلّم للصعود على السطح لغير المتمكّن من الطيران ، وهو الإنسان الموجود المكلّف بالفعل ، فهذا القسم داخل في المقدّمة العقلية لامتناع تحقّق الصعود أو الكون على السطح للإنسان فعلا بدون نصب السلّم ، ولا فرق بين الكون على السطح الموقوف على نصب السلّم وبين المشي إلى الحجّ من النائي.

وبالجملة تنحصر مقدّمة الواجب بالعقلية ، غاية الأمر كون شيء مقدّمة عقلية له تارة ينشأ من تقيّد الواجب النفسي بذلك الشيء ، كما في توقف الصلاة المأمور بها على الطهارة ، وأخرى من توقّف الواجب النفسي على ذلك الشيء خارجا من غير أن يؤخذ في الواجب تقيّده به ، كالحجّ بالاضافة إلى سفر النائي.

٤٥١

ومنها : تقسيمها إلى مقدمة الوجود ، ومقدمة الصحة ، ومقدمة الوجوب ، ومقدمة العلم [١].

لا يخفى رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود ، ولو على القول بكون الأسامي موضوعة للأعم ، ضرورة أنّ الكلام في مقدمة الواجب ، لا في مقدمة المسمى بأحدها ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

المقدّمة الوجودية والعلمية و.. :

[١] لا يخفى أنّ مقدّمة الصحّة ترجع إلى مقدّمة الوجود ، ولو على القول بأن أسامي العبادات موضوعة للأعمّ ، فإنّ الكلام في المقام في مقدمات الواجب لا في مقدّمات المسمّى بأحد تلك الألفاظ.

وإذا كان التقيّد بالطهارة مأخوذا في متعلّق الوجوب النفسي ، تكون الطهارة بنفسها من مقدّمات وجود الصلاة المأمور بها كما مرّ ، وهذا الكلام بناء على ما ذكرنا في بحث التعبدي والتوصلي من إمكان أخذ قصد التقرّب في متعلّق الأمر بالصلاة ـ مثلا ـ صحيح ، فإنّه عليه تنحصر مقدّمة الواجب بمقدّمة الوجود.

وأمّا بناء على ما سلكه الماتن قدس‌سره وغيره من امتناع أخذ قصد التقرّب في متعلّق الأمر بها تكون مقدّمة الصحّة غير مقدّمة الوجود لا محالة ، ويتعيّن تقسيم المقدّمة إلى مقدّمة الوجود وإلى مقدّمة الصحّة ، حيث يمكن للقائل بالملازمة نفي الملازمة بين وجوب شيء ومقدّمة صحّته والالتزام بها في خصوص مقدّمة الوجود كما عليه الماتن قدس‌سره أيضا ، فلا وجه لاعتراضه على التقسيم المزبور. نعم ما ذكر في كلماتهم مثالا لمقدّمة الصحّة من الشرائط محلّ نظر ، بل منع.

وعلى كلّ حال ، فمقدّمة الوجوب خارج عن مورد الكلام في المقام ، فإنّه

٤٥٢

ولا إشكال في خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع ، وبداهة عدم اتصافها بالوجوب من قبل الوجوب المشروط بها ، وكذلك المقدمة العلمية ، وإن استقل العقل بوجوبها ، إلّا أنّه من باب وجوب الإطاعة إرشادا ليؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجز ، لا مولويا من باب الملازمة ، وترشح الوجوب عليها من قبل وجوب ذي المقدمة.

______________________________________________________

لا يمكن أن يتعلّق الوجوب الغيري بتلك المقدّمة ، حيث لا وجوب للواجب النفسي إلّا على تقدير حصولها ، وتعلّق الوجوب بها بعد حصولها من طلب الحاصل.

وكذلك مقدّمة العلم بحصول الواجب ، فإنّ لزوم مقدّمة العلم لا يبتني على الملازمة بين وجوب شيء وجوب مقدّمته ، حيث إنّ اللزوم في مقدّمة العلم عقلي لا شرعي ، وملاك اللزوم العقلي فيها غير ملاك الوجوب الشرعي الغيري لمقدّمة الوجود ، فإنّ المقدّمة العلمية لا تكون مقدّمة لوجود الواجب ضرورة أنّ الصلاة إلى القبلة ـ مثلا ـ لا تتوقّف على الإتيان بها إلى جهتين في مورد اشتباه القبلة فيها ، بل إحراز الإتيان بالصلاة إلى القبلة موقوف على تكرارها بالإتيان إليهما ، وتحصيل العلم بالإتيان بالمأمور به لازم عقلا ؛ للأمن من العقاب ، فيكون أمر الشارع به كأمره بالإطاعة لمجرّد الإرشاد إلى ما يستقلّ به العقل في مقام الامتثال من لزوم إحراز سقوط التكليف والفرار من العقاب المحتمل ، بخلاف الوجوب الشرعي لمقدّمة وجود الواجب ، فإنّه منبعث من وجوب الواجب النفسي على ما تقدّم ، وملاكه المقدمية في الوجود والتحقّق ، كما لا يخفى.

٤٥٣

ومنها : تقسيمها إلى المتقدّم ، والمقارن ، والمتأخر ، بحسب الوجود بالإضافة إلى ذي المقدمة [١] ، وحيث إنّها كانت من أجزاء العلة ، ولا بد من تقدمها بجميع أجزائها على المعلول أشكل الأمر في المقدمة المتأخرة ، كالأغسال الليلية المعتبرة في صحة صوم المستحاضة عند بعض ، والإجازة في صحة العقد على الكشف

______________________________________________________

المقدّمة المتقدّمة والمقارنة والمتأخرة :

[١] قد ذكروا في تقسيمات المقدّمة تقسيمها إلى المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة ، وهذا التقسيم بلحاظ زمان حصول المقدّمة بالإضافة إلى زمان حصول ذيها ، وبما أنّه لا ينبغي التأمّل في أنّه لا يحصل المعلول إلّا بحصول علته بتمام أجزائها ، ضرورة أنّ المؤثر في المعلول علّته ، ففرض شيء من أجزاء العلة ، وفرض حصول المعلول قبله ، غير ممكن ، حيث إنّه لو لم يكن ذلك الشيء مؤثّرا ودخيلا في حصول المعلول لزم الخلف ، وإن كان مؤثرا أو دخيلا لزم تأثير المعدوم في حصول الشيء.

الشرط المتأخّر :

وعلى ذلك ، فقد أشكل الأمر في موارد قد ثبت فيها من الشرع كون شيء شرطا للمأمور به أو التكليف أو الوضع ، مع أنّه متأخّر في الوجود عن زمان وجود المأمور به ، أو التكليف ، أو الوضع ، كالأغسال الليليّة المعتبرة عند بعض في صحّة صوم المستحاضة ، فإنّ الصوم يتحقّق في اليوم وينتهي بدخول الليل مع أنّ شرطه ـ وهو الغسل ـ يكون في الليل بعد انقضاء اليوم.

ومنها كون الإجازة شرطا في العقد الفضولي بنحو الكشف ، فإنّ الملكية تحصل من حين العقد ، مع أنّ شرط حصولها وهو الإجازة توجد بعد حين ، وكالوضوء من ماء قد وقف على الوضوء للصلاة في المسجد ، فإنّ جواز الوضوء منه

٤٥٤

كذلك ، بل في الشرط أو المقتضي المتقدم على المشروط زمانا المتصرّم حينه ، كالعقد في الوصية والصرف والسلم ، بل في كلّ عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه ، لتصرّمها حين تأثيره ، مع ضرورة اعتبار مقارنتها معه زمانا ، فليس إشكال انخرام القاعدة العقلية مختصا بالشرط المتأخر في الشرعيات ـ كما اشتهر في الألسنة ـ بل يعمّ الشرط والمقتضي المتقدّمين المتصرّمين حين الأثر.

______________________________________________________

يحصل من قبل مع أنّ شرط الجواز ـ وهو الصلاة في المسجد ـ يحصل بعد ذلك.

والمذكور في الكلمات وإن كان التعرّض للإشكال في الشرط المتأخّر إلّا أنّ الماتن قدس‌سره قد أجراه في المقتضي أو الشرط المتقدّم أيضا ، فإنّ ملاك الاستحالة المزعومة في المتقدّم والمتأخّر أمر واحد ، وهو تحقّق الشيء مع عدم ما يتوقّف عليه.

وليس المراد أنّه لو كان الشيء من أجزاء العلّة فلا يمكن تحقّقه قبل وجود المعلول بزمان ، بل المراد أنّه لا بدّ في تأثيره ودخله من بقائه إلى زمان تحقّق سائر أجزاء العلّة ، إلّا إذا كان السابق من قبيل المعد ، بأن يكون السابق مقدّمة للاحق ، كالصعود على السطح بالسلّم ، فإنّ التدرّج في السلّم للكون على السطح لأجل أنّ الصعود على الدرج الأوّل مقدّمة للكون على الدرج الثاني ، والصعود من الثاني مقدّمة للكون على الدرج الثالث وهكذا ، والتدريجية في مثل ذلك لا بأس بها ، بل لا بدّ منها لامتناع الطفرة.

والمراد من تقدّم العلّة على المعلول بجميع أجزائها هو التقدّم رتبة المصحّح لدخول الفاء على المعلول ، بأن يقال : (وجدت فوجد) لا التقدّم بحسب الزمان ، وإلّا تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

٤٥٥

والتحقيق في رفع هذا الاشكال أن يقال [١] : إنّ الموارد التي توهم انخرام القاعدة فيها ، لا يخلو إما يكون المتقدم أو المتأخر شرطا للتكليف ، أو الوضع ، أو المأمور به.

______________________________________________________

[١] قد قسّم قدس‌سره موارد توهّم انخرام القاعدة العقلية إلى قسمين ؛ الأوّل : أن يكون المتقدّم أو المتأخّر شرطا للتكليف أو الوضع ، يعني الحكم الوضعي ، والثاني : ما يكون المتقدّم والمتأخّر شرطا في متعلّق التكليف.

الأول ؛ شرط الحكم :

وحاصل ما ذكره في دفع الإشكال في القسم الأوّل هو أنّ الدخيل في ثبوت التكليف أو الوضع لحاظ ما يسمّى شرطا لا تحقّقه الخارجي ، ليقال بأنّ المتأخّر أو المتقدّم لا يؤثّر ولحاظهما كلحاظ الشرط المقارن مقارن لجعل التكليف ، أو اعتبار الوضع وانتزاعه.

وبتعبير آخر : بما أنّ الحكم فعل اختياري للحاكم يكون صدوره عنه موقوفا على انقداح الداعي في نفسه إلى جعله ، وليس الداعي له إليه ما يطلق عليه الشرط بوجوده الخارجي ، بل بوجوده اللحاظي ، ويكون لحاظه مقارنا لجعل الحكم ، سواء كان وجوده الخارجي متقدّما على الحكم أو متأخّرا أو مقارنا ، بلا فرق في ذلك بين الحكم التكليفي والوضعي.

وناقش في هذا الدفع المحقّق النائيني قدس‌سره وبنى على امتناع الشرط المتأخّر للتكليف أو الوضع.

وحاصل مناقشته : أنّ جعل الحكم على نحوين :

النحو الأوّل : أن يجعله على وجه الإطلاق بمفاد القضية الخارجية ، كما إذا

٤٥٦

أمّا الأوّل : فكون أحدهما شرطا له ، ليس إلا أن للحاظه دخلا في تكليف الآمر ، كالشرط المقارن بعينه ، فكما أن اشتراطه بما يقارنه ليس إلّا أنّ لتصوره دخلا في أمره ، بحيث لولاه لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر ، كذلك المتقدم أو المتأخر.

______________________________________________________

أحرز المولى الصلاح في كون عبده خارج البلد في زمان خاصّ لاستقبال ولده من سفره ، فيأمره بالذهاب إلى خارج البلد في ذلك الزمان من غير تعليق واشتراط ، فيكون الحكم في هذه الصورة فعليا حتّى لو فرض عدم قدوم ولده من سفره في ذلك الزمان كما إذا كان اعتقاد المولى بقدومه مخطئا ، لأنّ فعلية الحكم في هذا النحو من الجعل لا تكون مسبّبة عن تحقّق قدوم ولده خارجا ، بل يكون اعتقاده ولحاظه داعيا للمولى إلى طلبه وحكمه.

وبالجملة الدخيل في هذا النحو من الطلب هو اللحاظ والاعتقاد بحصول الشيء ، وهذا حاصل مقارنا للجعل والطلب ، ولا عبرة بحصول نفس الملحوظ في المستقبل ، فلا مجال لتوهّم انخرام القاعدة العقلية في نظائره.

وأمّا النحو الثاني : فهو أن يجعل الحكم بمفاد القضية الحقيقية معلّقا على حصول شرط ، كالمثال فيما إذا كان حكمه بالكون في خارج البلد معلّقا على مجيء الولد في ذلك الزمان ، بأن كان الجعل بمفاد القضية الحقيقية ، وفي هذا الفرض تكون فعلية الحكم دائرة مدار تحقّق الشرط خارجا ، ولو أحرز العبد قدوم الولد في ذلك الزمان لزم عليه الكون خارج البلد ، ويكون قدومه كاشفا عن فعلية الحكم من الأوّل ، والشرط المتأخّر بهذا المعنى غير ممكن ؛ لأنّ الدخيل في فعلية الحكم وجود الشرط وتحقّقه خارجا ، وكيف يثبت الحكم ويكون فعليا في زمان مع عدم حصول شرطه فيه؟

٤٥٧

وبالجملة : حيث كان الأمر من الأفعال الاختيارية ، كان من مبادئه بما هو كذلك تصوّر الشيء بأطرافه ، ليرغب في طلبه والأمر به ، بحيث لولاه لما رغب فيه ولما أراده واختاره ، فيسمى كلّ واحد من هذه الأطراف التي لتصورها دخل في حصول الرغبة فيه وإرادته شرطا ، لأجل دخل لحاظه في حصوله ، كان مقارنا له أو لم يكن كذلك ، متقدما أو متأخرا ، فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطا ، كان

______________________________________________________

وبتعبير آخر : الإشكال في المجعول بنحو القضية الحقيقية وشرائط فعلية الحكم لا في شرائط جعله ، وإلّا فشرط الجعل ـ ومنه كون الفعل الذي يعتبره واجبا ذا مصلحة ـ يكون أيضا باللحاظ واعتقاد المولى ولو بنحو الخطأ ، فما ذكره في الكفاية خلط بين شرائط الجعل وشرط فعلية المجعول (١).

أقول : لا يخفى ما فيه ، فإنّ فعلية الحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية تابعة لكيفية الجعل ، ولكن الشرط بوجوده الخارجي ـ كقدوم الولد في المثال ـ غير مؤثّر في فعلية الحكم ؛ إذ فعلية الحكم كانت على تقدير حصول الشرط في المستقبل لكون الجعل بهذا النحو وعدم فعليته على تقدير عدم حصوله إنّما هو لعدم الجعل على تقدير العدم في الحال.

وبالجملة لا مانع من لحاظ المولى عند الجعل أمرا متقدّما أو متأخرا أو مقارنا لحكمه وجعل الحكم على تقدير حصول ذلك الأمر بمعنى أن تكون فعليّة الحكم تابعة لحصول الشرط المزبور على النحو الذي لاحظه ، ولو كان الوجوب المعتبر من أوّل اليوم على تقدير حصول ذلك الأمر في آخره إلّا أنّ الشرط لا يكون مؤثّرا في فعلية الحكم ليقال بأنّ المعدوم لا يؤثّر ، بل كما ذكرنا فعلية الحكم على تقديره

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ٢٢٤.

٤٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

تخضع للجعل على ذلك التقدير ، وعدم جعله على تقدير آخر.

وممّا ذكرنا يظهر الحال في الوضع وأنّه لا مانع من اعتبار الملكية ـ مثلا ـ في العقد الفضولي من حين حصول العقد على تقدير إجازة المالك ولو بعد حين بنحو القضية الحقيقية. وما يقال من أنّ الحكم لا يتقدّم على موضوعه ، وشرائط الحكم كلّها راجعة إلى قيود الموضوع ، غير سديد ، فإنّ الحكم لا يكون معلولا ولا عرضا لموضوعه فيما كان أمرا إنشائيا ، كما هو الفرض في المقام ، ولا بأس بتقدّمه على الموضوع زمانا مع كون اعتباره وجعله على هذا النحو.

نعم ، ظاهر خطاب الحكم فيما إذا لم يقترن بقرينة داخلية أو خارجية اتّحاد زمان الحكم والموضوع في الفعلية فيحتاج رفع اليد عن هذا الظهور إلى قرينة خاصة ؛ ولذا التزمنا في العقد الفضولي بالكشف الحكمي حيث إنّ ظاهر الأدلّة أن إمضاء المعاملة مقارن لحصول استنادها إلى المالك ورضا من يعتبر رضاه بها.

والمتحصّل أنّه لا فرق في الحكم المجعول بنحو القضية الخارجية والحقيقية من جهة توقّف الفعلية فيهما على ثبوت الجعل ، وإنّما الفرق بينهما في أنّ فعلية المجعول بنحو القضية الخارجية بنفس الجعل فقط ، وفي المجعول بنحو القضية الحقيقة بحصول ما علّق الحكم عليه خارجا على النحو الذي اعتبره في الجعل.

وممّا يترتب على ذلك أنّ شخصا لو اعتقد في جماعة أنّهم أصدقائه وأذن لهم في دخول داره بأن قال : (ادخلوا داري) أو : (فليدخل كل منكم داري) فيجوز لكلّ منهم الدخول ولو لم يكن في الواقع من أصدقائه ، بخلاف ما إذا قال : (فليدخل داري منكم من كان صديقا لي) فإنّه لا يجوز الدخول إلّا لمن كان صديقا له.

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه ليس المراد بالحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية هي

٤٥٩

فيهما كذلك ، فلا إشكال ، وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقا ولو كان مقارنا ، فإن دخل شيء في الحكم به وصحة انتزاعه لدى الحاكم به ، ليس إلا ما كان بلحاظه يصح انتزاعه ، وبدونه لا يكاد يصح اختراعه عنده ، فيكون دخل كل من المقارن وغيره بتصوره ولحاظه وهو مقارن ، فأين انخرام القاعدة العقلية في غير المقارن؟ فتأمل تعرف.

______________________________________________________

كلية الحكم وبالمجعول بنحو القضية الخارجية القضية الشخصية بأن يوجه التكليف بفعل إلى شخص معيّن ، فإنّه يمكن أن تكون القضية الشخصية حقيقية من جهة قيد التكليف كما مثّلنا.

والمعيار في كون القضية حقيقية عدم جعل الحكم بنحو الإطلاق ، بل على تقدير تحقّق أمر أو أمور سواء كان الحكم كلّيا أو شخصيا ، بخلاف القضية الخارجية من جميع الجهات فإنّه لا تقييد ولا تعليق فيها بجهة من جهات الحكم ، فكلّ جهة فرضها المولى وجعل الحكم مقيدا بها ، تكون فعلية المجعول على تقدير فعلية ذلك الأمر سواء كان الحكم شخصيا أو كليّا.

لا يقال : كلّ ما هو شرط الحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية أو كلّ ما أحرزه المولى من الأمر المتأخّر بكونه شرطا في حكمه بنحو القضية الخارجية إمّا أن يكون لوجود المتأخّر دخالة في صلاح الحكم المجعول أو لا ، بأن يكون للحاظ ذلك الأمر المتأخّر تمام الدخل في صلاح الحكم تكليفا أو وضعا دون وجوده ولا أظنّ أن يلتزم أحد به ؛ ولذا لو أخطأ المولى وجعل الحكم بنحو القضية الخارجية باعتقاد حصول ذلك المتأخّر ولم يحصل ، لم يكن لحكمه أيّ صلاح ، وإذا كان الدخيل في صلاحه وجود ذلك الأمر المتأخّر فكيف يكون في حكمه صلاح مع أنّ ذلك المتأخّر لم يحصل ، فيعود محذور تأثير المعدوم في الموجود.

٤٦٠