دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

المتعلّق على نحو العبادة وقصد التقرب بالعمل ، وحيث إنّ سقوط التكليف تابع لحصول الملاك وتأمين الغرض فلا يسقط التكليف في التعبديات بمجرد الإتيان بنفس متعلّق الوجوب ، وعلى ذلك فإن تعلّق التكليف في خطابه بفعل وكان المولى في مقام بيان متعلّق التكليف في مقام الثبوت ، فلا يمكن التشبّث بإطلاق ذلك المتعلّق في مقام الإثبات (يعني الخطاب) وإثبات أنّ الوجوب ثبوتا توصلي ، لما تقدّم من عدم الفرق في مقام الثبوت بين متعلّق التكليف في التوصليات والتعبديات ، وأنّ المتعلّق على كلا التقديرين نفس الفعل ، والمفروض أنّ الخطاب يكون كاشفا عن التكليف ومتعلقه وموضوعه في مقام الثبوت.

هذا كلّه ـ كما ذكرنا ـ مبني على عدم إمكان أخذ قصد التقرب في متعلّق التكليف ولو بجعل وجوبين على ما سلكه وأمّا بناء على إمكان أخذ قصد التقرب في متعلّق التكليف وأنّ الواجب التعبدي والتوصلي يفترقان ثبوتا في ناحية متعلّق الوجوب فيؤخذ قصد التقرب في متعلّق الوجوب الواقعي جزءا أو وصفا بنحو التخلية عن الدواعي النفسانية كما ذكرناه أخيرا ، فلا مانع عن التمسّك بإطلاق المتعلّق في مقام الإثبات ، وكشف أنّ الواجب ثبوتا توصلي بمقتضى تطابق مقام الإثبات مع الثبوت ، فيكون الإطلاق المتمسّك به إطلاقا في ناحية المتعلّق بخلاف ما إذا بنينا على تعين أخذ قصد التقرب في المتعلّق بالأمر المولوي الثاني كما التزم به المحقّق النائيني قدس‌سره فلا يمكن التمسّك بإطلاق المتعلّق وإنّما جواز التمسك بإطلاق الوجوب المتعلّق بذات الفعل في الأمر الأوّل ، حيث إنّ عدم تعقّبه بالأمر الثاني المتعلّق بالإتيان بالأوّل بنحو التعبّد يقتضي التوصلية ، نظير عدم تعقب الترخيص في الترك للطلب فكما أن الإطلاق المستفاد من صيغة الأمر أو غيرها يقتضي كون

٣٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

الطلب وجوبيا ، كذلك إطلاق الوجوب المتعلّق بذات الفعل وعدم تعقّبه بالوجوب الثاني يقتضي التوصلية ، فلا يحتاج في إثبات التوصلية إلى إحراز الإطلاق المقامي ، ليقال إنّ إحراز الإطلاق المقامي بالإضافة إلى قصد التقرب غير ممكن ؛ لأنّ احتمال التعبدية في الواجبات الشرعية ليس ممّا يغفل عنه العامة حتّى يحتاج إلى التنبيه ، كما سيأتي ذلك في اعتبار قصد الوجه والتمييز في التعليقة اللاحقة.

وبالجملة فإن أحرز في مورد أنّ الشارع في مقام بيان تمام ما له الدخل في متعلّق التكليف جزءا أو شرطا أو مانعا فلا يصحّ للمصنّف قدس‌سره التمسك بهذا الاطلاق المقامي ، حيث إنّ قصد التقرّب ليس ممّا يمكن أخذه في متعلّق التكليف ، بخلاف ما إذا بنينا على إمكان أخذه في متعلّق التكليف ولو بأمرين ، فإنّه يجوز التمسك بهذا الاطلاق المقامي ؛ لأنّ قصد التقرب مثل سائر الأجزاء والشروط.

نعم إذا كان الشارع في مقام بيان تمام ما له الدخل في حصول غرضه لا تكليفه ومع ذلك سكت فيه عن بيان اعتبار قصد التقرب يستكشف من هذا الاطلاق المقامي التوصلية حتّى بناء على مسلك الماتن قدس‌سره.

وإذا فرض عدم الإطلاق اللفظي وعدم الاطلاق المقامي ووصلت النوبة إلى الأصل العملي يكون مقتضى أدلّة البراءة الشرعية عدم جزئية قصد التقرب وعدم شرطيته بناء على إمكان أخذ قصد التقرب في متعلّق الأمر ولو بأمرين ، حيث إنّ تعلّق الأمر بقصد التقرّب أو ثبوت الأمر الثاني مما لا يعلمون ، فهو مرفوع كالرفع في سائر الأجزاء والشرائط ، ومعها لا تصل النوبة إلى قاعدة الاشتغال كما هو مقرر في بحث دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

٣٤٢

فانقدح بذلك أنّه لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة بمادتها ، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه مما هو ناشئ من قبل الآمر ، من إطلاق المادة في العبادة [١] لو شك في اعتباره فيها ، نعم إذا كان الأمر في مقام بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه ، وإن لم يكن له دخل في متعلّق أمره ، ومعه سكت في المقام ، ولم ينصب دلالة على دخل قصد الامتثال في حصوله ، كان هذا قرينة على عدم دخله في غرضه ، وإلّا لكان سكوته نقضا له وخلاف الحكمة ، فلا بدّ عند الشك وعدم إحراز هذا المقام ، من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل ويستقل به العقل.

______________________________________________________

نعم بناء على ما اختاره الماتن قدس‌سره لا يكون المورد إلّا من موارد قاعدة الاشتغال ؛ لأنّ لزوم قصد التقرب ليس مجعولا شرعيا حتّى تجري البراءة في ناحيته لمكان الجهل بذلك المجعول الشرعي ، بل يكون عقليا ، والمفروض استقلال العقل بلزوم الطاعة بنحو يحصل الغرض ويسقط التكليف المتعلّق بالفعل ، كما لا يخفى.

قصد الوجه والتمييز :

[١] ما ذكره قدس‌سره في ناحية عدم إمكان أخذ قصد التقرب في متعلّق الأمر أجراه في ناحية أخذ قصد الوجه والتمييز أيضا والتزم بأنّ كلّ قصد ناش من قبل الأمر بفعل ، لا يمكن أخذه في متعلّق ذلك الأمر لعين ما تقدّم في وجه امتناع أخذ قصد التقرب ، وعليه فلو شكّ عند الأمر بفعل في لزوم قصد الوجه والتمييز في حصول الغرض وسقوط التكليف به ، فالعقل يستقل بالرعاية حتّى يحرز سقوط التكليف وحصول الغرض ، إلّا أنّ الإطلاق المقامي المشار إليه في التعليقة السابقة بالإضافة إلى قصد الوجه والتمييز ثابت ، حيث إنّ احتمال دخلهما في سقوط التكليف وحصول الغرض ممّا يغفل عنه عامة الناس ، ولو كان شيء منهما أو كلاهما دخيلا في غرض الشارع في العبادات لتعرّض إلى اعتبارهما في المتعلّق ولو في بعض

٣٤٣

فاعلم : أنّه لا مجال ـ هاهنا ـ إلّا لأصالة الاشتغال ، ولو قيل بأصالة البراءة فيما إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، وذلك لان الشك هاهنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها ، فلا يكون العقاب ـ مع الشك وعدم إحراز الخروج ـ عقابا بلا بيان ، والمؤاخذة عليه بلا برهان ،

______________________________________________________

الخطابات ، مع أنّه لم يرد التعرّض لهما في شيء منها ، ومن ذلك يعلم عدم دخلهما وإلّا كان سكوت الشارع والتعويل على حكم العقل فيها من نقض الغرض.

أقول : أخذ قصد التمييز في موارد الشبهات الموضوعية في متعلّق التكليف لا محذور فيه بأن يأمر الشارع بالصلاة إلى جهة يعلم عند الإتيان بأنّها القبلة ، أو يأمر بصلاة يعلم أنّها مع الطهارة ونحو ذلك ، فلا يرد فيه شيء من محذور أخذ قصد التقرب. وكذا الحال في قصد الوجه والتمييز إذا أريد بهما توصيف العمل بالوجوب والندب عند الإتيان.

نعم إذا أريد من قصد الوجه الإتيان بالعمل بداعوية وجوبه أو ندبه ومن قصد التمييز كون وجوبه داعيا إلى الإتيان به لا احتمال وجوبه ، لجرى فيها ما تقدّم في قصد التقرب.

في التعبدي بمعنى عدم سقوط التكليف بفعل الغير :

ثمّ إنّه يبقى الكلام في كون الواجب تعبديا أو توصليا بالمعنى الآخر كما أشرنا إليه في أوّل البحث ، وهو أنّ التكليف المتوجّه إلى المكلف إن كان يسقط بفعل الغير يكون التكليف توصليا ، وإن لم يسقط يكون تعبديا ، وكذا إن كان يسقط بالإتيان بالفرد غير الاختياري أو حتّى بالفرد المحرّم يكون توصليا ، ومع عدم سقوطه كذلك يكون تعبديّا ، فالكلام يقع في مقامات ثلاثة :

٣٤٤

ضرورة أنّه بالعلم بالتكليف تصح المؤاخذة على المخالفة ، وعدم الخروج عن العهدة ، لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة ، وهكذا الحال في كل ما شك دخله في الطاعة ، والخروج به عن العهدة ، مما لا يمكن اعتباره في المأمور

______________________________________________________

المقام الأوّل : ما إذا شك في سقوط التكليف بفعل الغير ، فنقول : مقتضى إطلاق إيجاب فعل على مكلّف ، هو مباشرته في الإتيان به ، حيث إنّ مقتضى إطلاق الوجوب ثبوته حتّى على تقدير إتيان الغير به أيضا ، كما يأتي في بيان أنّ إطلاق الوجوب يقتضي كونه عينيا لا كفائيا ، ثمّ لو لم يكن في البين إطلاق ووصلت النوبة إلى الأصل العملي ، فإن كان إتيان الغير بالفعل قبل توجّه التكليف إلى المكلف فالمرجع هي البراءة عن التكليف به ، إلّا إذا كان في البين أصل محرز لبقاء موضوع التكليف ، كما إذا كان الولد الأكبر حين فوت أبيه صغيرا ، أو قد قضى ما على أبيه صغير آخر وبعد البلوغ شكّ في إجزاء فعل ذلك الصبي أو بقاء ما كان على أبيه على عهدته ، ففي مثل ذلك لا بأس باستصحاب بقاء ما كان على أبيه ، ويثبت وجوب القضاء عليه فيكون مقتضاه التعبدية ، وكذا فيما كان توجه التكليف بالفعل إليه قبل فعل الغير ، ولا يخفى أنّ هذا كله فيما كان الفعل بحيث لا يستند عرفا إلّا إلى المباشر.

وأمّا إذا كان بحيث يستند إلى المباشر وغير المباشر مع تسبيبه ، كما إذا شكّ في أنّ التقصير أو الذبح الواجب في الحج يعمّ ما كان بالتسبيب أو يعتبر فيه المباشرة ، فقد يقال : إنّ مثل ذلك يدخل في دوران التكليف بين التعيين والتخيير ، ويكون مقتضى الأصل التخيير ، حيث إنّ ما دلّ على البراءة من حديث الرفع ينفي خصوصية التعيين.

ويورد عليه بأنّ التكليف لا يكاد يتعلّق بفعل الغير ، حيث إنّ فعل الغير خارج عن قدرة المكلّف واختياره ، وإذا لم يمكن تعلّق التكليف بفعل الغير ، فلا يتعلّق

٣٤٥

به كالوجه والتمييز.

نعم : يمكن أن يقال : إنّ كل ما ربما يحتمل بدوا دخله في الامتثال ، أمرا كان ممّا يغفل عنه غالبا العامة ، كان على الآمر بيانه ، ونصب قرينة على دخله واقعا ،

______________________________________________________

بالجامع بين فعل نفسه وفعل الغير.

نعم يمكن تعلّقه بالجامع بين فعليه من المباشرة أو نفس التسبيب ، إلّا أنّ لازم ذلك سقوط التكليف بنفس التسبيب ، وعلى ذلك فمرجع الشك في كفاية صدور الفعل تسبيبا إلى الشك في اشتراط التكليف بعدم حصوله من الغير أيضا ، ومقتضى الاستصحاب بقاء التكليف وعدم سقوطه بفعل الآخر ، بل لو أغمض النظر عن الاستصحاب لكون الشبهة حكمية وقلنا بعدم جريانه في تلك الشبهة ، يتعيّن الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ولا مجرى لأدلّة البراءة الشرعية في مثل المقام ، فإنّه لا مجال لدعوى أنّ ثبوت التكليف بعد صدور الفعل عن الآخر تسبيبا في هذا الفرض وبغير تسبيب في الفرض السابق ، غير محرز ، ومقتضى حديث الرفع عدم وضعه.

والوجه في عدم المجال انصراف حديث الرفع إلى الجهل بثبوت التكليف فلا يجري في موارد الشكّ في سقوطه بعد حدوثه ، نظير انصرافه عن موارد الجهل بالتكليف للشكّ في القدرة على المتعلّق.

والحاصل أنّ كلّ ما تقدّم في الشكّ في سقوط التكليف بفعل الغير مع عدم استناده إلى المكلف بتسبيبه يجري في الشكّ في سقوطه بفعل الغير مع استناده إليه بالتسبيب.

أقول : الصحيح التفرقة بين ما إذا كان فعل الغير لا يستند إلى المكلف ولو مع تسبيبه ، كما إذا استأجر الولد الأكبر لقضاء ما على أبيه من الصيام ، فإنّ فعل الأجير لا يستند إلى المستأجر فلا يقال صام الولد عن أبيه ، وبين ما إذا استند الفعل الصادر

٣٤٦

وإلّا لأخل بما هو همّه وغرضه ، أمّا إذا لم ينصب دلالة على دخله ، كشف عن عدم دخله ، وبذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه والتمييز في الطاعة بالعبادة ، حيث ليس منهما عين ولا أثر في الأخبار والآثار ، وكانا مما يغفل عنه العامة ، وإن احتمل اعتباره بعض الخاصة ، فتدبر جيّدا.

______________________________________________________

عن الغير إليه مع التسبيب ، ففي موارد عدم الاستناد يكون سقوط التكليف بفعل الغير باشتراط بقاء التكليف بعدم حصوله لا محالة ، ومع إطلاق التكليف في خطابه وعدم ثبوت القرينة على الاشتراط يحكم بتعبّديته.

ولو وصلت النوبة إلى الاصل العملي فلا بدّ من التفصيل ـ كما تقدّم ـ بين تحقّق فعل الغير قبل توجه التكليف إليه ، فيرجع إلى البراءة ، وبين ما إذا كان فعله بعد توجّه التكليف إليه ، فيرجع إلى الاستصحاب في ناحية بقاء التكليف ، ومع الغمض عن الاستصحاب لكون الشبهة حكمية ، يرجع إلى أصالة الاشتغال ، بناء على أنّ أصالة البراءة لا تجري في موارد الشكّ في سقوط التكليف ، وأمّا في موارد استناد فعل الغير إلى المكلف بالتسبيب ، فلا بأس مع الخطاب بالتمسّك بإطلاق المتعلّق فيه ، فيحكم بكفاية تحقّق الفعل ولو تسبيبا. وبتعبير آخر : مقتضى الاطلاق في الأمر بالتقصير أو الحلق ونحوهما التوصيلة في وجوبهما.

ودعوى ـ أنّ الإطلاق لا يعمّ الفعل التسبيبي لأنّه من فعل الغير وفعل الغير خارج عن قدرة المكلّف واختياره فلا يمكن تعلّق التكليف به ، ولو كان فعل الغير مجزيا لكان عدم حصوله شرطا في بقاء التكليف لا محالة ، كما في الفرض الأوّل ، وإطلاق التكليف يدفع هذا الشرط ـ لا يمكن المساعدة عليها ؛ لأنّ المكلّف به في الحقيقة في موارد الاستناد إلى الشخص ولو بالتسبيب ، إيجاد استناد الفعل إلى نفسه ، وهذا الإيجاد يكون بالفعل مباشرة وبالتسبيب في فرض خصوص الفعل عن

٣٤٧

ثمّ إنّه لا أظنك أن تتوهم وتقول : إنّ أدلّة البراءة الشرعية مقتضية لعدم الاعتبار ، وإن كان قضية الاشتغال عقلا هو الاعتبار ، لوضوح أنّه لا بدّ في عمومها من شيء قابل للرفع والوضع شرعا ، وليس هاهنا ، فإن دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي ، بل واقعي. ودخل الجزء والشرط فيه وإن كان كذلك ، إلّا أنّهما قابلان للوضع والرفع شرعا ، فبدليل الرفع ـ ولو كان أصلا ـ يكشف أنّه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك ، يجب الخروج عن عهدته عقلا ، بخلاف المقام ، فإنّه علم بثبوت الأمر الفعلي ، كما عرفت ، فافهم.

______________________________________________________

الآخر ، نظير نذر بيع متاعه ، فإنّ متعلّق النذر يحصل بالمباشرة في بيعه أو بالتسبيب ، ولا يكون مقتضى وجوب الوفاء بنذره فيما إذا قال : (لله علي أن أبيع متاعي هذا) بيعه بالمباشرة ولا تخييره بين بيعه بالمباشرة أو أمر الغير ببيعه ولو مع عدم حصول البيع.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه مع عدم الإطلاق ووصول النوبة إلى الأصل العملي يكون المورد من موارد دوران متعلّق الوجوب بين كونه خصوص الفعل مباشرة أو إيجاد الاستناد في تحقّقه إلى نفسه الحاصل بالفعل مباشرة أو بالتسبيب ، ومقتضى أصالة البراءة عن تعين المباشرة الاكتفاء بالتسبيب ؛ لأنّ الرفع في ناحية تعلّق التكليف بالاستناد إليه في تحقّقه خلاف الامتنان ، حيث إنّ في هذا التعلّق توسعة على المكلّف.

في التعبدي بمعنى سقوط التكليف بالفرد غير العمدي :

المقام الثاني : ما إذا شك في سقوط التكليف بالفرد غير العمدي ، أي ما يكون تحقّقه مع الغفلة وعدم الالتفات ، فقد يقال بعدم السقوط لانصراف الأفعال إلى

٣٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

صورة التعمّد والاختيار ، وتكون دعوى الانصراف في ناحية المواد تارة وفي ناحية الهيئات أخرى.

وناقش المحقّق النائينى قدس‌سره في دعوى الانصراف سواء كانت في ناحية موادّها أو هيئاتها بأنّ معنى المادة هو الطبيعي الذي يكون صدقه على تمام افراده بالتواطئ ، والهيئات دالّة على انتساب المواد إلى الذوات وقيامها بها ، ويشترك في ذلك الانتساب التعمدي وغيره ، ولذا ذكر الفقهاء الضمان في إتلاف مال الغير غفلة وبلا التفات أخذا بعموم قاعدة «من أتلف» ، وذكروا عدم حكومة حديث الرفع على ما بيّن في محلّه ، ولم ينكر ذلك أحد منهم ، بدعوى انصراف الاتلاف إلى صورة التعمّد ، نعم العناوين القصدية التي لا تتحقّق إلّا بالاعتبار والإنشاء تتوقّف على قصدها ، لا لانصراف الفعل إلى التعمّد ، بل لعدم الفعل مع عدم القصد ، حيث إنّ الإنشاء والاعتبار مقوّمهما القصد.

هذا بالإضافة إلى الاختيار بمعنى التعمّد والالتفات ، وأمّا الاختيار المقابل للجبر والقهر فلا يبعد دعوى انصراف الفعل إليه كما ذكر الشيخ قدس‌سره في بحث خيار المجلس بأنّ تفريق المتبايعين بالقهر والجبر لا يوجب سقوط الخيار لانصراف الافتراق المأخوذ غاية له في الروايات إلى ما كان بالاختيار.

ثمّ إنّه قدس‌سره قد ذكر وجهين للانصراف في خصوص صيغة الأمر وما بمعناها بالإضافة إلى التعمّد بمعنى الالتفات وبالإضافة إلى الاختيار بالمعنى المقابل للقهر والجبر.

الأوّل : اعتبار الحسن الفاعلي في تعلّق الأمر والطلب بالمادة ، ومن الظاهر أنّ

٣٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الحسن الفاعلي لا يكون من دون القصد والالتفات ، وبتعبير آخر : تعلّق الطلب بالمادة قرينة على كون متعلّقه خصوص الحصة الاختيارية ، ومقتضى مذهب أهل الحقّ عدم تعلّق أمر الشارع إلّا بما فيه صلاح العباد ، وكون الفعل كذلك يوجب استحقاق فاعله المدح مع القصد والالتفات لا مطلقا.

وبالجملة الحسن الفعلي تابع للملاك في الفعل ولا يتوقف على الإرادة والاختيار ، ولكنّ الحسن الفاعلي لا يكون إلّا مع العمد والالتفات.

الثاني : أنّ مفاد الهيئة في صيغة الأمر وما بمعناها هو البعث والتحريك ، وهذا البعث والتحريك لا يكون إلّا نحو الفعل الإرادي.

وعليه فسقوط التكليف بالفرد غير الاختياري يكون من جهة عدم تقييد الوجوب والطلب بحصول الواجب عن التفات ، لا لشمول الطلب له أيضا ، وإذا كان الأمر كذلك فإطلاق الوجوب وعدم ورود القيد عليه مع كونه في مقام البيان ، مقتضاه التعبدية وعدم إجزاء الفرد غير العمدي والاختياري ، بل الأمر كذلك حتّى لو وصلت النوبة إلى الأصل العملي فإنّ استصحاب بقاء الموضوع أو الحكم ولا أقلّ من قاعدة الاشتغال ، مقتضاه بقاء التكليف ولزوم إحراز سقوط التكليف (١).

وفيه : أمّا الوجه الأوّل ، فالحقّ أنّه لا موجب لاعتبار الحسن الفاعلي في كون فرد مصداقا لمتعلّق التكليف ، فإنّه لو كان فيه الملاك الموجود في سائر الأفراد لعمّه الطبيعي المطلوب صرف وجوده ، نعم إذا كان الطبيعي عنوانا قصديا فلا يكون ما هو بغير العمد والقصد فردا للطبيعي ، كما أنّه لو كان الواجب تعبديا لا يسقط إلّا مع

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ١٠٠.

٣٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الإتيان بقصد امتثال الأمر ، فلا يكون المغفول عنه وغير المقصود فردا أو واقعا بنحو العبادة ، وهذا خارج عن محلّ الكلام على أنّ الحسن الفاعلي لا يتحقّق بمجرد التعمّد والالتفات ، بل لا بدّ من حصول الفعل بقصد التقرّب ، وهذا يوجب أن تكون جميع الواجبات تعبدية.

وأمّا الوجه الثاني ، وهو تعلّق البعث والتحريك بخصوص الحصّة المقدورة وعدم إمكان تعلّقهما بالطبيعي بجميع وجوداته مع فرض خروج بعضها عن الاختيار ، فيرد عليه :

أوّلا : إنّه ينافي ما ذكره قدس‌سره في بحث الضد (١) من جواز التمسّك بإطلاق الطبيعي المتعلّق به التكليف لإثبات الملاك في فرده غير المقدور والمزاحم ، حيث إنّه بعد فرض كون متعلّق التكليف في نفسه الحصة المقدورة كيف يمكن التمسّك بإطلاقه.

وثانيا : أنّ الإطلاق في المتعلّق هو رفض القيود عنه ، فيمكن تعلّق التكليف بطلب صرف الوجود من الطبيعي الملغى عنه القيود وخصوصيتها ، فيما كان فرد منه مقدورا ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الترخيص كالبعث والطلب لا يتعلق بالحصة الخارجة عن الاختيار أو المغفول عنها ، وعليه فلا يتمّ الإطلاق في ناحية المتعلّق بالإضافة إليها ، فإنّ وجود الملاك في كلّ فرد من الطبيعي يستفاد من الترخيص في التطبيق عليه ، الملازم لإطلاق المتعلّق ، ومع احتمال اختصاص الملاك بفرده الاختياري يحتمل اكتفاء الآمر في بيان ذلك باعتماده على التكليف بالطبيعي ، حيث لا يعمّ معه الترخيص في تطبيقه إلّا أفراده المقدورة وغير المغفول عنها.

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ٢٦٩.

٣٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

وممّا ذكرنا يظهر ضعف ما عن سيّدنا الأستاذ قدس‌سره في المقام من أنّ معنى صيغة افعل ليس البعث والطلب ، بل معناها اعتبار المبدأ على عهدة المكلف والاعتبار على العهدة لا يوجب تقييدا في المعتبر ، بأن يكون ما على ذمته الحصة المقدورة ، ليقال إنّ إجزاء غير المقدورة يحتاج إلى التقييد في التكليف ، ومع عدم ثبوته يكون مقتضى إطلاق البعث والإيجاب عدم الإجزاء ، ومع وصول النوبة إلى الأصل العملي يكون مقتضى استصحاب التكليف أو قاعدة الاشتغال لزوم رعاية احتمال بقاء التكليف.

وبالجملة إذا كان ما على العهدة نفس الطبيعي بلا تقييد ، يستقل العقل بإفراغها ولو مع تمكّنه من فرد ، ولا مجال لدعوى أنّ تحريك المولى يتعلّق بما يقدر العبد على التحرّك نحوه ، لما ذكر من عدم كون مفاد صيغة الأمر تحريكا وبعثا.

لا يقال : ما فائدة اعتبار الطبيعي على العهدة دون الحصة المقدورة؟

فإنّه يقال : فائدة ذلك الإعلام بوجود الملاك في الطبيعي كيفما تحقّق ، وعلى ذلك فيكون مقتضى الأصل العملي أيضا عند حصول الفرد غير الاختياري البراءة عن التكليف (١).

أقول : لازم هذا الكلام الالتزام بالإجزاء حتّى فيما إذا كان الطبيعي يحصل بفعل الغير ، فإنّ المادة موضوعة لنفس الطبيعي ، وهيئة افعل دالّة على كون ذلك الطبيعي على عهدته ، فعليه الإتيان به مباشرة أو تسبيبا.

هذا مضافا إلى أنّه قدس‌سره قد التزم بأنّ إطلاق متعلّق التكليف يستتبع شمول

__________________

(١) المحاضرات : ٢ / ١٤٩.

٣٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الترخيص في التطبيق لجميع أفراد الطبيعة ، ولكن لو كان الأمر كما ذهب إليه قدس‌سره أي عدم إيجاب اعتبار الفعل على الذمة للتقييد في المتعلّق. لما كان إطلاق المتعلّق مستلزما للإطلاق الشمولي في التطبيق بحيث يشمل جميع الأفراد حتّى غير المقدورة ، إذ اعتبار الفعل على الذمّة وإن كان لا يوجب تقييد المتعلّق إلا أنّ الترخيص في التطبيق يقيّد لا محالة ، وعليه فإطلاق المتعلّق لم يكن كاشفا عن إطلاق الترخيص في التطبيق.

وقد تقدّم أنّ المتفاهم العرفي من هيئة صيغة الأمر هو الطلب المعبّر عنه ب (فرمان) في اللغة الفارسية ، والاعتبار في الذمة إذا كان بداعي الطلب يكون كناية عن الطلب ، وإذا كان بداع آخر كما في موارد المعاملات والاجارة ، فهذا شيء آخر لا يرتبط بالأمر والتكليف ، كما لا يخفى.

في التعبدي بمعنى عدم سقوط التكليف بالفرد المحرّم :

وأمّا المقام الثالث : وهو سقوط التكليف بالفرد المحرّم ، فلا ينبغي التأمّل في أنّ حرمة فرد توجب تقييد متعلّق التكليف بغيره ، فالحكم بسقوط التكليف مع الإتيان به يحتاج إلى إحراز اشتماله على ملاك سائر الأفراد ، إذ مع خروجه عن خطاب الأمر بالتقييد ـ لمنافاة حرمته مع الترخيص في التطبيق ـ لا يكون في البين كاشفا عن الملاك فيه ، ومقتضى إطلاق الأمر بالطبيعي المقيد بغيره لزوم الإتيان بغيره حتّى لو وصلت النوبة إلى الأصل العملي ، فمقتضى قاعدة الاشتغال على ما هو المعروف عندهم لزوم إحراز سقوط التكليف.

وإن قيل بأنّ حرمة فرد لا يوجب تقييد متعلّق التكليف بغيره ، وأنّه يجوز

٣٥٣

المبحث السادس : قضية إطلاق الصيغة ، كون الوجوب نفسيا تعيّنيا عينيا [١] ، لكون كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقييد الوجوب وتضيق دائرته ، فإذا كان في مقام البيان ، ولم ينصب قرينة عليه ، فالحكمة تقتضي كونه مطلقا ، وجب هناك شيء آخر أو لا ، أتى بشيء آخر أو لا ، أتى به آخر أو لا ، كما هو واضح لا يخفى.

______________________________________________________

اجتماع الأمر والنهي ، يكون الإتيان بالفرد المحرم كالإتيان بسائر الأفراد في سقوط التكليف به. نعم إذا كان المتعلّق مما يعتبر الإتيان به على نحو العبادة ، فربّما يحكم بفساده لعدم حصول قصد التقرّب مع حرمة الفرد ووقوعه مبغوضا ، بخلاف موارد سقوط النهي ، أو كونه معذورا لجهة ، فيحكم بصحّته عبادة.

ثمّ لا يخفى أنّه لا وجه لتقييد خطاب الأمر بخطاب النهي إذا كان الأمر إرشاديا ، كما في الأمر بغسل الثوب ، فإنّه إرشاد إلى كون طهارته بالغسل ، فيعمّ الغسل بالماء المباح والمغصوب ، ولا ينافيه النهي عن الغصب.

مقتضى إطلاق صيغة الأمر :

[١] الظاهر أنّ مراده قدس‌سره من الإطلاق ، إطلاق نفس الدال على الوجوب وهو هيئة افعل حيث إنّ الوجوب مستفاد منها ، وذكر قدس‌سره أنّ للوجوب في كلّ واحد ممّا يقابلها تقيّد وتضييق لدائرته ، وكأنّه في مقابل الأوّل يتقيّد بفعلية وجوب فعل آخر ، وفي مقابل الثاني بترك الفعل الآخر ، وفي مقابل الثالث بما إذا لم يأت به شخص آخر ، فإذا كان الآمر بصدد البيان ولم يذكر دالّا على ذلك التقييد والتضييق يكون مقتضى الاطلاق كونه نفسيا تعيينيّا عينيا.

أقول : لا يكون في موارد الوجوب التخييري وجوب الفعل مقيدا بترك فعل آخر ، حيث إنّ لازم هذا التقييد فعليّة الوجوبين مع ترك متعلّقها بأن يعاقب المكلّف بعقابين لتركه كلّا من الفعلين.

٣٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

مع أنّ الغرض الملزم إذا كان حاصلا بأحد الفعلين ، فلا موجب لتعدّد الأمر والوجوب ، بل يصحّ الأمر بالجامع بينهما ، ولو كان ذلك الجامع أمرا انتزاعيا اعتباريا.

وعلى ذلك يكون إثبات كون الوجوب تعيينيا بإطلاق متعلّقه بمعنى عدم ذكر العدل له فإنّه لو كان تخييريا لذكر في الخطاب تقيّد متعلّقه بفعل آخر ، بعطفه عليه بلفظة «أو» ليكون كاشفا عن تعلّقه ثبوتا بالجامع بينهما.

نعم ، لا مانع في الواجب الكفائي من تقيد مدلول الهيئة بما إذا لم يتحقّق طبيعي الفعل من الآخرين ، وأنّ كلّ واحد ممن اعتبر الوجوب في حقّه يستحقّ العقاب فيما إذا تركوا الفعل.

وإذا كان المتكلّم في مقام البيان ولم يذكر في خطابه تقييد للأمر بذلك ، يكون مقتضاه كون الوجوب عينيّا.

وأمّا الوجوب النفسي ، فإنّ ظاهر الأمر بفعل هو كونه بداع البعث لا الإرشاد إلى دخله في متعلّق تكليف آخر شرطا أو شطرا ، وهذا الظهور ناش من عدم تقيّد الأمر بإرادة الإتيان بمتعلّق تكليف آخر ، كما في آية الوضوء ، وعلى ذلك فالصحيح أن يقال : إنّ إطلاق الأمر بفعل وعدم تقييده بإرادة الإتيان بمتعلّق تكليف آخر ، مقتضاه كون وجوبه نفسيا.

وكذا عدم تقيد وجوب فعل بما إذا وجب فعل آخر ، فإنّ إثبات الوجوب الغيري بتقييد الأمر بفعل ، بما إذا وجب فعل آخر وإن كان غير صحيح ؛ لإمكان كونهما نفسيين في وقت واحد ، كالأمر بالإقامة عند وجوب الصلاة ، إلّا أنّ عدم التقييد كذلك كاشف عن كون وجوب الفعل نفسيا.

٣٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وبتعبير آخر : لا يكفي في إثبات الغيرية مجرد تقييد وجوب الفعل بما إذا وجب الآخر ، حيث إنّ الوجوب الغيري إضافة إلى تقيّده بما إذا وجب الفعل الآخر ، لا بدّ أن يكون متعلّقه مأخوذا في ذلك الفعل الآخر فيكون شرطا له ، أو يكون الفعل الآخر ممّا يتوقّف عليه خارجا فيكون مقدمة له ، ولذا يكون وجوبه غيريّا ، فمجرّد التقييد كذلك لا يكفي لإثبات الغيريّة ، إلّا أنّ عدم التقييد كذلك يكشف عن نفسية الوجوب.

ولا يخفى أنّه يمكن إثبات كون وجوب الفعل نفسيا بإطلاق متعلّق الوجوب الآخر ، فإنّ مقتضى إطلاقه عدم أخذ المشكوك في نفسيّة وجوبه في ذلك المتعلّق ، فيكون وجوب المشكوك نفسيا ، لجواز إثبات اللوازم بالأصول اللفظية.

وقال المحقّق الأصفهاني قدس‌سره في ذيل كلام المصنف قدس‌سره : لا يخفى أنّ لكلّ من الوجوب النفسي والغيري قيدا ، ضرورة خروج الوجوب عن الإهمال بالقيد ، ولكن القيد في الوجوب النفسي وما يماثله لا يخرج عن طبيعة الطلب عرفا.

ثمّ قال : التحقيق أنّ لكلّ من الوجوبين قيدا ، ولكن القيد في الوجوب الغيري أمر وجودي وهو نشوء وجوب فعل وانبعاثه عن وجوب فعل آخر ، والوجوب النفسي قيده عدمي ، وهو عدم انبعاث وجوبه عن وجوب فعل آخر ، لا أنّ للوجوب النفسى قيدا وجوديا هو أنّه يجب ، وجب هناك شيء آخر أم لا ، كما هو ظاهر المصنّف قدس‌سره ضرورة أنّ مجرد اقتران وجوب شيء بوجوب شيء آخر لا يوجب كون وجوبه غيريا ، بل الوجوب الغيري نشوء وجوب فعل عن وجوب فعل آخر ، وإذا ثبت بمقدّمات الحكمة عدم بيان هذا القيد الوجودي يثبت النفسية في وجوبه ؛ لكون القيد فيه عدميا وليس مقتضى الإطلاق ثبوت وجوب ، سواء كان ناشئا عن وجوب فعل آخر أم لا ، فإنّ إطلاق الوجوب بهذا المعنى غير معقول. وكذا الحال في

٣٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الوجوب التعييني والتخييري فإنّ التخييري هو الوجوب المشوب بجواز ترك الفعل إلى بدل ، والتعييني هو الوجوب الذي لا يكون كذلك ، لا الوجوب المقترن بجواز الترك وعدمه.

ثمّ قال : وتوهّم أنّ الحكمة لا تقتضي كون الوجوب تعيينيا لا تخييريّا ، حيث لا يلزم من عدم بيان فرد آخر من الوجوب نقض الغرض فاسد ، فإنّ الغرض بيان نحو وجوب الفعل وكيفية وجوبه وعدم ذكر القيد يكون نقضا لهذا الغرض ، وليس المراد من الغرض ، الغرض الباعث إلى التكليف ، مع أنّه يلزم نقض هذا الغرض أيضا فيما إذا تعذّر ما اكتفى ببيان التكليف به (١).

وذكر بعض الأعاظم أنّ الأمر بالشيء يحمل على كون وجوبه نفسيا تعيينيا عينيّا ، إلّا أنّ هذا الحمل لمجرد بناء العقلاء واستمرار سيرتهم على ذلك من غير أن يدخل في الدلالة اللفظية ـ وضعيّة كانت أو انصرافية أو كشف العقلاء عن الإطلاق ـ فإنّ أمر المولى وبعثه بفعل تمام الموضوع لاحتجاجه على العبد ولا يجوز له التقاعد عن موافقة مطلق بعثه ، سواء كان باحتمال إرادة الندب أو العدول إلى الفعل الآخر باحتمال التخيير أو الترك مع إتيان شخص آخر بالفعل ، لاحتمال الكفائية أو عدم الإتيان به عند عدم التكليف بالفعل الآخر ، لاحتمال الغيرية ، فإنّ على ذلك سيرتهم وبنائهم وإن لم يتبيّن لنا وجه هذا البناء ، وليس لأمر راجع على دلالة اللفظ ؛ ولذا يجري في الموارد التي يكون فيها البعث بنحو الإشارة أيضا (٢).

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٣٥٣.

(٢) تهذيب الأصول : ١ / ١٢٧.

٣٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أمّا ما ذكر في الكفاية من استفادة الوجوب النفسي والتعييني والعيني من إطلاق الهيئة ، فلا يمكن المساعدة عليه ، كما لا يمكن المساعدة على ما ذكره المحقّق الاصفهاني قدس‌سره في تعليقته من أنّ القيد في كلّ من النفسي والتعييني والعيني عدمي ، بخلاف الغيري والتخييري والكفائي فإنّ قيدها وجودي فيكفي في بيان النفسية عدم بيان قيد الغيري ، وكذا الحال في التعييني والعيني ، أمّا الأوّل فلأنّه على القول بوضع الهيئة لمطلق الطلب يكون نتيجة الإطلاق هو مطلق البعث المشترك بين النفسي والغيري حيث إنّ ميزان الإطلاق هو أن يكون ما يؤخذ في الخطاب ويراد بيانه تمام الموضوع للحكم ولا بدّ أن يكون في المقام هو الجامع ، ولكن الإطلاق كذلك مع كونه خلاف الغرض حيث إنّ المزبور استفادة الوجوب النفسي لا الجامع ممتنع ، لأنّ الحروف وما يشابهها ومنها صيغة افعل لا يتصوّر الجامع الحقيقي بين معانيها.

والحاصل يلزم أن يكون لكلّ من الوجوب النفسي والغيري قيد ، إمّا وجودي أو عدمي ضرورة صحّة تقسيم الوجوب إليها ، ويلزم أن يكون لذلك القيد دالّ آخر.

وأمّا ما ذكره المحقّق الاصفهاني قدس‌سره من أنّ النفسية في الوجوب عبارة عن عدم الوجوب للغير ، فهذا بيّن البطلان ، فإنّه إن كان المراد عدم الوجوب للغير بنحو السالبة المحصلة الصادقة مع انتفاء الوجوب ـ كما هو ظاهر كلامه ـ فهو كما ترى.

وإن كان المراد العدم بنحو السالبة بانتفاء المحمول أو السلب العدولي ، فيحتاج بيان كون الوجوب لا لغيره ، إلى بيان ودالّ آخر زائدا على الدالّ على أصل وجوبه ، على أنّ الوجوب لنفسه هو الوجوب لذاته وتفسيره بلا لغيره ، تفسير بلازمه.

٣٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ودعوى أنّ أحد القسمين أي الوجوب النفسي عين المقسم في نظر العرف ، كما هو ظاهر قوله «بأن الوجوب النفسي وما يماثله لا يخرج عن طبيعة الطلب عرفا وإن كان غيره في نظر العقل» ، لا تخرج عن صرف الادعاء ، بل الوجدان على خلافها. فإنّه يصحّ عرفا تقسيم الطلب إلى النفسي والغيري من غير أن يلزم بنظرهم محذور تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره ، فكلّ من الوجوب النفسي والغيري بنظرهم نفس الطبيعة مع قيد زائد وجودي أو عدمي.

أقول : يظهر ما في كلام المحقّق وبعض الأعاظم قدس‌سرهما ممّا ذكرناه في ذيل كلام الماتن قدس‌سره ، فإنّه ليس الكلام في المقام في الفارق الثبوتي بين الوجوب النفسي والوجوب الغيري ليقال إنّ لكلّ منهما خصوصية وقيدا زائدا على أصل الطلب وأنّ الطلب في الأوّل ينشأ عمّا في متعلّقه من الملاك والغرض ، بخلاف الغيري فإنّ ملاك الطلب فيه ترشحي عن الملاك والغرض في الفعل الآخر.

وقد ذكر الماتن قدس‌سره ذلك في بحث الواجب النفسي والغيري ، بل الكلام في مقام الإثبات وأنّ بيان كون الوجوب في الواقع نفسيا يكفي فيه عدم ذكر ما يدلّ على أنّ طلب الفعل غيري فيما إذا كان المولى في مقام بيان كيفية الوجوب ونحوه ، وأنّ بيان كون الطلب المتعلّق بالفعل غيري يكون بتقييد الطلب بما إذا أراد الإتيان بفعل آخر كما في آية الوضوء ، أو بما إذا كان طلب الفعل الآخر فعلي ، وإذا لم يذكره وكان في مقام بيان كيفية الوجوب بأن تعلّق الطلب في الخطاب بالفعل يكون الإطلاق أي عدم ذكر ما يدلّ على قيد الوجوب الغيري دليلا على أنّ الوجوب نفسي ؛ لأنّ كون الوجوب مهملا ثبوتا غير ممكن من المولى الملتفت ، كما أنّ ثبوت كلا الوجوبين خلاف الفرض ، حتّى لو فرض تحمّل فعل واحد لوجوبين أحدهما نفسي والآخر غيري.

٣٥٩

المبحث السابع : إنه اختلف القائلون بظهور صيغة الأمر في الوجوب وضعا أو إطلاقا فيما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهمه [١] على أقوال : نسب إلى المشهور ظهورها في الإباحة. وإلى بعض العامة ظهورها في الوجوب ، وإلى بعض تبعيته لما قبل النهي ، إن علّق الأمر بزوال علّة النهي ، إلى غير ذلك.

والتحقيق : إنّه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال ، فإنّه قلّ مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب ، أو الإباحة ، أو التبعية ، ومع فرض التجريد عنها ، لم

______________________________________________________

وعليه إذا أحرز عدم الوجوب الغيري ثبوتا تعيّن كونه نفسيا ، والوجه في إحراز عدم كونه ثبوتا غيريا عدم بيان القيد اللازم في الدلالة على كونه غيريّا ، كما هو الفرض في المقام ، وهذا معنى قولنا عدم الدلالة على كون الوجوب غيريّا في مقام بيان كيفية الوجوب دليل على نفسيته ، ويعبّر عن عدم الدالّ على غيريّة الوجوب في مقام بيان كيفية الوجوب بالإطلاق ، وهذا غير الإطلاق في موضوع الحكم المقتضي لتسريته إلى جميع أفراده كما في قوله سبحانه : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وقوله سبحانه : (وَحَرَّمَ الرِّبا الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) إلى غير ذلك ، ممّا يحتاج إرادة بعض الأفراد إلى قرينة دالّة على خصوصية الأفراد المقصودة ثبوتا.

ونظير الإطلاق في المقام ، ما تقدّم في دلالة صيغة الأمر على كون الطلب وجوبيا بالإطلاق ، وهذا الإطلاق داخل في الدلالة اللفظية ، حيث إنّه مدلول لعدم ذكر القيد الدالّ على الحكم الآخر كما تقدّم ، مع احتياجه في مقام البيان إلى ذكره لو كان هو المراد.

مدلول صيغة الأمر بعد الحظر :

[١] قد يقال : إن ورود صيغة الأمر بعد الحظر أو في مقام توهّم الحظر يوجب ظهورها في الترخيص والإذن ، وقد ينسب ذلك إلى المشهور.

٣٦٠