دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

على تقدير إعطاء الله وعدم إنهاء ما بذله ، فيصحّ أن يقول الله (سبحانه) : لا يصدر عنك فعل إلّا بمشيّتي ، وإذا لاحظت مثل هذه الأمور كما إذا أوجد شخص أمرا تكون تمام آلاته ومعدّاته بيد الغير وكانت بإعطائه ، تجد من نفسك أنّه يصحّ للغير أن يقول : أنا أوجدت الأمر وفعلك ذلك كان بمشيّتي ، فكذلك يصحّ أن يقال إنّ أفعال العباد تكون بمشيّة الله (عزوجل) ، وربما يضاف إلى صحّة الإسناد إلى الله (عزوجل) ملاحظة لطفه وتأييده وعنايته (سبحانه) إلى العبد.

في قاعدة «الشيء ما لم يجب لم يوجد» وموردها :

وأمّا الأمر الثاني إنّ ما بنى عليه الماتن قدس‌سره ـ تبعا لأهل المعقول من «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» (١) وأنّ فعل العبد ما لم يكن بالغا حدّ الوجوب لم يتحقّق خارجا ، بدعوى أنّ هذا لازم إمكان الشيء بلا فرق بين الأفعال وغيرها ، ولذلك التزموا بأنّ الإرادة بالمعنى الذي فسّروها به من الشوق المؤكّد علّة للفعل ، وذلك الشوق أيضا يوجد بمبادئه المترتّبة على حسن الذات وسعادتها أو خبثها وشقاوتها ، والسعادة والشقاوة من لوازم الذات لا تحتاج إلى علّة ؛ لأنّها توجد بالعلّة الموجدة لنفس الذات ـ فممّا لا يمكن المساعدة عليه ، إذ لو كان الأمر كما ذكره ، فكون أفعال العباد اختيارية لهم ، مجرد تسمية لا واقع لها ، ولا يكون في البين من حقيقة الاختيار شيء.

كما أنّ ما تقدّم منه قدس‌سره ، من تعلّق إرادة الله (عزوجل) التكوينية بالأفعال الصادرة عن العباد باختيارهم ، إن كان المراد منه أنّه على تقدير صدور الفعل عن العباد بإرادتهم ، فذلك الفعل متعلق إرادة الله (عزوجل) ، فهذا من قبيل إرادة ما هو

__________________

(١) الأسفار : ١ / ٢٢١ ، الفصل ١٥.

٣٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

الحاصل. وإن كان المراد أنّه لا محيص عن صدور الفعل المذكور ، فيكون مقتضى إرادة الله حصول مبادئ الإرادة للعبد ، وهو يقتضي لا بدّية صدور الفعل ، فهذا أيضا يساوي مسلك الجبر ؛ إذ مع حصول مبادئ الإرادة تكون إرادة العبد واجبة الوجود والمفروض أنّ إرادة العبد علّة تامّة لصدور الفعل عنه ، فأين الاختيار ، وكيف يصحّ التكليف ، وكيف يصحّ عقابه على مخالفة التكليف؟ مع أنّ العبد البائس المسكين لا يتمكّن من ترك المخالفة مع حصول مبادئ الإرادة بتبع شقاوة ذاته ، أو بإرادة الله (عزوجل) ، ومعه كيف يصحّ التوبيخ بمثل قوله سبحانه (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)(١).

مع أنّ للعبد المسكين أن يجيب بأنّي لا أتمكّن من الشكر لك ، فأنت الذي أوجدت مبادئ إرادة الكفر والطغيان في نفسي ، أو إنّ لي ذاتا لازمها الشقاوة المستتبعة لمبادئ الكفر والنفاق والطغيان ، ولا حيلة لي بغيرها ، فكيف يصح عقابه؟ وفي الصحيح عن يونس بن عبد الرحمن ، عن عدة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال له رجل : جعلت فداك أجبر الله العباد على المعاصي؟ فقال : الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ، ثمّ يعذبهم عليها ، فقال له : جعلت فداك ، ففوّض الله إلى العباد؟ فقال : لو فوّض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي ، فقال له : جعلت فداك ، فبينهما منزلة؟ قال فقال : نعم ، أوسع ما بين السماء والأرض (٢).

__________________

(١) سورة الملك : الآية ٢٣.

(٢) الأصول من الكافي : ١ / ١٥٩ باب الجبر والقدر ، الحديث ١١.

٣٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الملاك في اختيارية افعال العباد :

وبالجملة ما ذكروه من قاعدة «عدم إمكان حدوث شيء إلّا عن علّة تامّة» و «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» لا تجري في الأفعال الاختيارية ، حيث إنّ المعلول وجوده ترشحي ، أو انفعال بالخاصيّة ، بخلاف الفعل الاختياري ، فإنّ قدرة الفاعل على أمر لا تتحقّق إلّا إذا تساوى طرفاه من الفعل أو الترك بالإضافة إلى الفاعل ، فلو لم يكن الفاعل متمكّنا على كلّ من إيجاده وتركه قبل أن يصدر منه الفعل ، لما كان في البين قدرة ، بل كان جبر واضطرار ، حتّى بالإضافة إلى الواجب (جلّ علا) ، حيث إنّه بقدرته الذاتية يختار كون الشيء فيوجد ، بلا فرق بين تعلّق إرادته بالوجود عن طريق المقدمات الإعدادية أو بدونها.

والحاصل إمكان صدور الفعل عن الفاعل بالاختيار لا يحتاج إلى غير قدرته عليه ، نعم العاقل لا يصرف قدرته فيما لا يعنيه وما ليس له فيه صلاح ، بل يصرفها على أحد طرفي الشيء لغرض ، من غير أن يكون ترتّب الغرض على ذلك الطرف موجبا لسلب قدرته عن الطرف الآخر ، وبتعبير آخر : يكون ترتّب الغرض على أحد طرفي الشيء مرجّحا لذلك الطرف على الآخر ؛ ولذا يسمّى إعمال القدرة وصرفها في أحد طرفي الشيء اختيارا ؛ لأنّ الإنسان يأخذ بما فيه الخير ، وقد اعترف الماتن قدس‌سره في بحث التجرّي (١) ببعض ما ذكرناه ـ من كون اختيارية الفعل بالتمكّن من عدمه ـ حيث ذكر أنّ بعض مبادئ اختيار الفعل اختيارية ، لتمكّنه من عدمه بالتأمّل فيما يترتّب عليه ، فراجع.

__________________

(١) كفاية الأصول : ص ٢٦٠.

٣٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

إن قلت : أفلا يكون مقتضى التوحيد والاعتراف بوحدانية الخالق ، هو الالتزام بأنّ ما يحصل في الكون ـ ومنها أفعال العباد ـ مخلوقة لله (سبحانه) ، لئلّا يكون مؤثّرا في الوجود وخالقا للكون إلّا هو وإنّما يصحّ العقاب حينئذ على فعل العبد ، فلأجل أنّ الفعل في الحقيقة وإن كان بإرادة الله ، إلّا أنّ الله تعالى يريد فعل العبد ، إذا تعلّقت إرادة العبد به ، فيكون المؤثّر في ذلك إرادة الله ، والعبد أيضا أراد تحقيقه وإيجاده ، ولكن إرادته لا تؤثّر في الواقع شيئا ، ويعبّر عن إرادة العبد كذلك بالكسب ، فيكون العقاب على كسب العبد ، وإن شئت فلاحظ من أراد رفع حجر عن مكان ، باعتقاد أنّه متمكّن من رفعه ، ولكن عند تصدّيه للرفع يظهر عدم تمكّنه منه ، فيضع شخص آخر أقوى منه يده تحت ذلك الحجر ويرفعه ، فارتفاع الحجر عن مكانه يكون برفع هذا الشخص الثاني خاصّة ، ويستند الرفع إليه دون الأوّل ، إلّا أنّ سبب رفع الثاني للحجر هو تعلّق إرادة الأوّل برفعه ، ولأجله لا مانع من إسناد الرفع إلى المريد خاصّة.

قلت : إنّ ما ذكر لا في تصحيح العقاب يجدي ولا في التحفّظ على وحدة الخالق والمؤثّر في الكون ومنه أفعال العباد.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه لا يصحّ عند العقل أن يذمّ رافع الحجر حقيقة ، مريد الرفع خاصّة ويوبّخه على الرفع ؛ لأنّه لم يرفعه ، بل أراد رفعه فحسب ، فالتوبيخ والذمّ يرد على رافع الحجر حقيقة الذي هو الشخص الثاني. نعم يصحّ توبيخ الأوّل على إرادة الرفع لا على نفس الرفع ، وإذا فرض أنّ إرادته أيضا فعل مخلوق يكون المؤثّر فيه إرادة الله (سبحانه) فلا يصحّ عقابه ولا توبيخه على الإرادة المخلوقة ، وإن قيل بأنّ إرادة المريد ناشئة عن مباديها ، ومباديها ناشئة عن خبث السريرة والشقاوة الذاتيّة

٣٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

كما تقدّم في كلام الماتن قدس‌سره ثبت أيضا أنّه لا مصحّح للعقوبة على ارادته ولا على فعله.

وأمّا الثاني فيظهر جوابه ممّا أجبنا آنفا عن مقالة الفلاسفة في قاعدة «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» فراجع.

فتحصّل أنّ ما ذكره الفلاسفة من قاعدة «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» لا يجري في الفاعل بالاختيار ، فإنّه بعد لحاظ الشيء والتصديق بفائدته والميل إليه والجزم بعدم المانع ، يبقى الفاعل المختار قادرا على اختيار كلّ من الفعل والترك ، والمبادي لا تجعل الفعل من قبيل واجب الوجود ، بل إنّها مرجّحة لاختياره طرف الفعل ، حيث إنّ الفاعل الحكيم لا يختار الفعل إلّا مع الصلاح في شخصه أو المزية في الجامع بينه وبين فعل آخر ، كما إذا لم تكن مزيّة في خصوص أحد الفعلين بالإضافة إلى الآخر ، فإنّ قيام المزيّة في الجامع كاف في كون اختيار الفعل بالحكمة ، ويدلّك على ذلك أنّ الهارب يختار أحد الطريقين مع عدم المزية لأحدهما بالإضافة إلى الآخر.

وحكي عن الفخر الرازي (١) استدلاله على ذلك بأنّه لا مرجّح لحركة الشمس من المشرق إلى المغرب ، وقد طعن عليه صدر المتألّهين في شرحه على أصول الكافي (٢) ، ولم يأت في الردّ عليه إلّا بالطعن والشتم.

ولكن لا يخفى ما في المحكي ، حيث إنّ حركة الأرض حول نفسها ، أو حركتها

__________________

(١) المباحث المشرقية.

(٢) شرح أصول الكافي لصدر المتألهين.

٣٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

حول الشمس ، ليست من الأفعال الاختيارية لها ، فلا بدّ من خصوصية خارجية تقتضي تعين تلك الحركة. نعم خلق الشمس أو الأرض بتلك الخصوصية من فعل الله (سبحانه) ، ولا سبيل لنا إلى الجزم بأنّ الخلق بتلك الخصوصية كان لمرجّح في الجامع بين الخصوصيتين.

ونظير ما ذكره الفلاسفة بالإضافة إلى الأفعال ـ من دعوى اقتضاء التوحيد ونفي الشرك في الخلق ـ الالتزام بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله (سبحانه) تمسّكا ببعض الآيات :

مثل قوله (سبحانه) : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)(١).

وقوله (سبحانه) : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٢).

وقوله (سبحانه) : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٣).

وقوله (سبحانه) : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)(٤).

وقوله (سبحانه) : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)(٥) أي الخلق. إلى غير ذلك.

والجواب عنها : أنّ الآيات المذكورة ونحوها إذا لوحظت في مقابل مثل قوله (سبحانه) : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً

__________________

(١) سورة الصافات : الآية ٩٦.

(٢) سورة الإنسان : الآية ٣٠.

(٣) سورة الكهف : الآية ٢٣.

(٤) سورة يونس : الآية ١٠٠.

(٥) سورة الفرقان : الآية ٢.

٣٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

عَظِيماً)(١).

وقوله (سبحانه) : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)(٢).

وقوله (سبحانه) : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)(٣).

ومثل قوله (سبحانه) حكاية عن أهل النار : (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ)(٤) ونحوها ، يتّضح كمال الوضوح أنّ إسناد الأفعال إلى الله (سبحانه) في مثل الحسنات والأفعال الحسنة ، إنّما هو باعتبار أنّ القدرة على العمل والمعدات التي يتوقّف عليها العمل كلّها من الله (سبحانه) ، ولذا لن تجد موردا في كتاب الله (سبحانه) أو غيره أسند فيه العمل القبيح الصادر عن العبد إليه (تعالى) ؛ ولذا ذكرنا أنّ التوحيد لا يقتضي إسناد الظلم إلى الله (تعالى) بأن تكون إرادته المشار إليها في قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً)(٥) متعلّقة بأفعال العباد الاختيارية التي يتعلق بها التشريع ، بل تلك الإرادة تعلّقت بكونهم مختارين ، حيث إنّ الدنيا دار الفتنة والامتحان. وأمّا قولنا : أراد الله أن نصلّي ونصوم ، فمعناه أنّه سبحانه طلب منّا العمل وأمرنا أن نفعل.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه إذا لوحظ صحّة تكليف العباد وجواز

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٤٠.

(٢) سورة الكهف : الآية ٤٩.

(٣) سورة الإنسان : الآية ٣.

(٤) سورة الملك : الآية ٩ ـ ١١.

(٥) سورة يس : الآية ٨٢.

٣٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

مؤاخذتهم على ما ارتكبوا من المعاصي ، ولوحظت الآيات الواردة في أمر العاصين بالتوبة والاستغفار وأمر المؤمنين بالاستقامة في الدين ، ولوحظ ما ورد من الآيات من كون العاصين ظالمي أنفسهم ، تجد أنّ إسناد بعض الأفعال إلى الله (سبحانه) ليس بمعنى نفي اختيار العبد فيها ، بل بمعنى أنّ القدرة عليها بمشيّة الله وإرادته ، وربما يلقي (سبحانه) حبّ العمل والشوق إليه في أنفسهم ، فيكون ذلك تأييدا للعبد على الاستقامة ونيل الثواب ، بعد علمه (سبحانه) أنّ العبد يهمّ بالطاعة والاجتناب عن السيّئات ما أمكن.

ويظهر من ذلك بطلان توهّم علّيّة سوء السريرة ، أو حسنها لحصول المبادي التي من قبيل العلّة التامّة لحصول الإرادة ـ يعني الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات ـ ، وكذا بطلان توهّم أنّ اختيارية فعل العبد ينافي مسلك التوحيد الأفعالي ، والالتزام بالملك المطلق لله (سبحانه).

إبطال مسلك التفويض :

وأمّا مسلك التفويض المقابل للجبر ، فقد يقال إنّه مبني على مسلك استغناء الممكن في بقائه عن العلة.

ولكن لا يخفى سخافة هذا البناء والمبنى ، وذلك لأنّ بقاء الممكن بلا علّة ، كحدوثه بلا علة في الامتناع ، حيث إنّ اختلاف الأشياء الممكنة في البقاء والزوال ، واختلافها في طول البقاء وقصره ، يكون مستندا إلى أمر لا محالة ، ولو كان مجرّد العلّة لحدوث شيء كافيا في بقائه مع استواء البقاء والزوال بالإضافة إليه لأمكن تحققه كذلك في الآن الأوّل أيضا بعين وجه تحقّقه في الآن الثاني. وبالجملة فما في

٣٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الكون من الممكنات تحتاج في بقائها ، كحدوثها إلى الموجب.

وينبغى أن يبتنى مسلك التفويض على أمر آخر ، وهو أنّ الممكن وإن كان محتاجا في بقائه إلى العلّة ، إلّا أنّ حاجة الكائنات ومنها الإنسان إلى ذات الباري (عزوجل) من قبيل حاجة المنفعل والمصنوع إلى الفاعل والصانع ، فتكوين الإنسان وسائر الكائنات وإن حصل بإرادة الله (عزوجل) ومشيّته التي بها تكوّنت الأشياء وظهرت من ظلمات الماهيات إلى نور الوجود إلّا أنّ بقائها مستند إلى موجبات البقاء فيها من الخصوصيات والاستعدادات المكنونة في بعض الأشياء واستمداد بعضها من البعض الآخر نظير البناء ، فإنّه وإن احتاج في حدوثه إلى البنّاء ، ولكن بقائه مستند إلى القوة والاستعداد في الأجزاء المستعملة في البناء.

والله (سبحانه) خلق الأشياء وكوّنها بإرادته ومشيّته ، بما فيها من الخصوصيّات والاستعدادات ، ولكن تلك الخصوصيّات والاستعدادات الحادثة بعد حدوث المثل أو قبله تنتهي وتفنى ، وإذا انتهى بعض ما في الكون الظاهر لنا من الخصوصيّات والاستعدادات يظهر أنّ كلّ شيء منه فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، وعلى ذلك فالإنسان المخلوق في الكون والباقي منه الموجود بتوليد المثل يكون كلّ ما يفعله بإرادته واختياره من نفسه ، ولا يستند شيء منها إلى الخالق (سبحانه) لعدم استناده في البقاء إليه.

ولكن لا يخفى سخافة هذا الوجه أيضا ، فإنّ الكائنات في العالم لا تقاس بالبناء الحاصل من فعل البنّاء ، فإنّ خالق الكائنات حيّ قيّوم له ملك السموات والأرض ، إذا أراد شيئا يكون ، وإذا أراد عدمه فلا يكون ، بلا فرق في ذلك بين الأشياء الحاصلة بالعلل المادية أو من أفعال الإنسان أو غيره.

٣٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وليس المراد أنّ العلّية بين المعلولات وعللها باطلة وإنّما جرت عادة الله (سبحانه) أن يخلق بعض الأشياء بعد خلق بعضها الآخر كما يقول به القائل بالجبر تحفّظا على التوحيد.

بل المراد أنّ بقاء الشيء المستند إلى علّته المبقية ـ ليصير علّة لوجود شيء آخر إنّما ينشأ من عدم تعلّق إرادة الله بإفنائه كما أنّ حصول شيء من شيء آخر موقوف على تعلّق إرادة الله بحصوله منه ، وإلّا فإن تعلّقت إرادته (جلّت قدرته) بأن لا يوجد فلا يوجد ، إمّا بإرادة زوال العلّة أو بخلق المزاحم للتأثير والعلّية (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً)(١).

وقد تقدّم أنّ مشيّته (جلّت عظمته) قد تعلّقت بكون الإنسان قادرا متمكّنا من الأفعال ، ومنها الأفعال التي تعلّق بها طلبه وإرادته بمعني الإيجاب والندب ، وما تعلّق به زجره ومنعه ، كي يتميّز المطيع من العاصي ، والكافر من المؤمن ، والصالح من الطالح ، (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ)(٢) ، (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(٣) ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ)(٤) ، (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً)(٥) ، (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها)(٦).

__________________

(١) سورة النساء : الآية ١٢٦.

(٢) سورة البروج : الآية ٢٠.

(٣) سورة الأنفال : الآية ٤٧.

(٤) سورة الأنعام : الآية ١٣٧.

(٥) سورة يونس : الآية ٩٩.

(٦) سورة السجدة : الآية ١٣.

٣١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

ومع كون العباد وأفعالهم محاطا بهم (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً)(١) قد تصيب رحمته ورأفته العبد ويؤيّده حتّى يجتنب الحرام ، أو يفعل الطاعة ، قال (عزّ من قائل) : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)(٢) ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)(٣) ، وقال سبحانه : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(٤) ، (قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا)(٥) ، إلى غير ذلك من الآيات الواضحة في أنّه (تعالى) هو القاهر فوق كلّ شيء ، وأنّه يحيي ويميت ، وينزل الغيث ، ويرزقكم من السماء ، وبيده ملكوت كلّ شيء.

والبرهان العقلي على ذات الحقّ (جلّ وعلا) مقتضاه أيضا ما ذكر ، والتعرّض له لا يناسب المقام ، ومن الله الهداية والرشاد.

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٥٢.

(٢) سورة التغابن : الآية ١١.

(٣) سورة الأنفال : الآية ٢٤.

(٤) سورة الزمر : الآية ٦٢.

(٥) سورة المائدة : الآية ٦٤.

٣١١
٣١٢

الفصل الثاني

فيما يتعلق بصيغة الأمر وفيه مباحث :

الأول : إنّه ربّما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها [١] ، وقد عدّ منها : الترجي ، والتمني ، والتهديد ، والإنذار ، والإهانة ، والاحتقار ، والتعجيز ، والتسخير ، إلى غير ذلك ، وهذا كما ترى ، ضرورة أن الصيغة ما استعملت في واحد منها ، بل لم

______________________________________________________

معنى صيغة الأمر :

[١] ذكر قدس‌سره أنّه قد يذكر لصيغة الأمر معان استعملت فيها ويعد منها الترجّي والتمنّي والتهديد والإنذار والإهانة والاحتقار والتعجيز والتسخير ، إلى غير ذلك ممّا أنهاها بعضهم إلى خمسة عشر معنى ، فيقع الكلام في أنّ استعمال صيغة الأمر في الموارد المزبورة هل هو من قبيل استعمال اللفظ في معانيه المتعدّدة كما ذكر ، فمثلا أنّ قول القائل : (يا ربّ تب علي) مرادف لقوله : (لعل الله يغفر لي) ، وقوله : (ليت ربّي يرجعني) مرادف لقوله : (يا ربّ ارجعني) إلى غير ذلك ، أو أنّ المستعمل فيه للصيغة في جميع الموارد أمر واحد وهو إنشاء الطلب المتعلّق بالمادة ، إلّا أنّ الداعي

٣١٣

يستعمل إلا في إنشاء الطلب ، إلّا أن الداعي إلى ذلك ، كما يكون تارة هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي ، يكون أخرى أحد هذه الأمور ، كما لا يخفى.

قصارى ما يمكن أن يدعى ، أن تكون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب ، فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك ، لا بداع آخر منها ، فيكون إنشاء الطلب بها بعثا حقيقة ، وإنشاؤه بها تهديدا مجازا ، وهذا غير كونها مستعملة في التهديد وغيره ، فلا تغفل.

______________________________________________________

إلى إنشائه يختلف ، فتارة يكون الغرض إرادة حصول داعي الانبعاث لدى المطلوب منه فيكون الطلب المنشأ بعثا وتكليفا ، وأخرى يكون الداعي إلى إنشائه ترجي المادّة أو تمنّيها ، وثالثة إظهار عجز المطلوب منه ، ورابعة إظهار وهنه فيكون تحقيرا ، وإلى غير ذلك.

والذي يشهد به الوجدان في موارد استعمالات الصيغة ، هو أن المستعمل فيه إنشاء طلب المادّة ممّن يتوجه إليه الطلب ، والاختلاف إنّما هو في ناحية الدواعي إلى إنشائه.

وغاية ما يمكن أن يقال إنه اشترط في وضع صيغة الأمر لإنشاء الطلب ، كون الداعي والغرض حصول ما يمكن أن ينبعث به المطلوب منه نحو الفعل وإيجاد المادة ، وهذا نظير اشتراط قصد الإنشاء والإخبار ، أو قصد اللحاظ الآلي والاستقلالى في وضع الحروف والأسماء.

وبالجملة فاختلاف الدواعي في إنشاء الطلب أمر واختلاف المستعمل فيه لصيغة الأمر أمر آخر ، وقد اشتبه أحدهما بالآخر ، وعلى ما ذكرنا يكون استعمالها في غير موارد البعث والتحريك من استعمال اللفظ في معناه ، ولكن بغير الوضع ، فيكون مجازا.

وقد يقال : إنّ الصيغة في موارد الطلب تستعمل لإبراز كون المادة على عهدة

٣١٤

إيقاظ : لا يخفى أن ما ذكرناه في صيغة الأمر ، جار في سائر الصيغ الإنشائية [١] ، فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام بصيغها ، تارة هو ثبوت هذه الصفات حقيقة ، يكون الداعي غيرها أخرى ، فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها ، واستعمالها في غيرها ، إذا وقعت في كلامه تعالى ، لاستحالة مثل هذه المعاني في حقه تبارك وتعالى ، ممّا لازمه العجز أو الجهل ، وأنّه

______________________________________________________

الغير ، وأمّا إذا استعملت في غير مقام الطلب ، يكون المستعمل فيه أمرا آخر ، وكون استعمالها في معنى واحد في جميع المقامات ـ مع الاختلاف في الدواعي كما ذكر ـ مبني على كون الإنشاء إيجادا للمعنى باللفظ لا إبرازا للاعتبار الحاصل بالنفس.

أقول : الظاهر عدم الفرق بين القول بأنّ الإنشاء عبارة عن قصد إيجاد عنوان اعتباري بالتلفّظ ، أو أنّه إبراز لأمر اعتباري حاصل من النفس مع قطع النظر عن الإبراز بالتلفّظ ، حيث إنّ اعتبار الفعل على عهدة الغير وإبرازه قد يكون لغرض التصدّي إلى حصول الفعل منه خارجا ، وأخرى لغرض إظهار عجزه عنه أو وهنه وحقارته ، إلى غير ذلك ، هذا وقد تقدّم عدم كون مدلول الصيغة اعتبار الفعل على العهدة.

نعم هذا الاعتبار إذا حصل وأبرز ممّن له ولاية الطلب على الغير فهو يعتبر إيجابا وطلبا منه ، إلّا أنّ الصيغة لم توضع له ، ويشهد له عدم اختلاف معنى الصيغة في موارد استعمال العالي والداني ، وموارد الإيجاب والاستحباب ، على ما تقدّم.

[١] مراده : كما أنّ صيغة الأمر تستعمل في إنشاء الطلب ويكون الاختلاف في الدواعي لإنشائه ، كذلك في التمنّي والترجّي والاستفهام ، فإنّ صيغة كلّ واحدة منها وضعت لإنشاء الترجّي أو غيره ، غاية الأمر تارة يكون الداعي إلى إنشاء الترجّي مثلا ثبوت الترجّي الحقيقي في النفس ، وأخرى يكون الداعي إلى إنشائه حصول طلب الفعل والبعث إليه ، وفي أداة الاستفهام يكون المستعمل فيه إنشاء طلب الفهم ،

٣١٥

لا وجه له ، فإنّ المستحيل إنّما هو الحقيقي منها لا الإنشائي الإيقاعي ، الذي يكون بمجرد قصد حصوله بالصيغة ، كما عرفت ، ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الإيقاعية الإنشائية أيضا ، لا لإظهار ثبوتها حقيقة ، بل لأمر آخر حسب ما يقتضيه الحال من إظهار المحبة أو الإنكار أو التقرير إلى غير ذلك ، ومنه ظهر أن ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضا.

______________________________________________________

والداعي إلى إنشائه قد يكون قصد الفهم ، فيكون استفهاما حقيقيا ، وقد يكون حصول الإقرار ممّن توجّه إليه طلبه أو الإنكار أو غير ذلك ، فيكون إقرارا أو استفهاما إنكاريا أو غير ذلك ، وعليه فلا وجه للالتزام بأنّ هذه الصيغ إذا استعملت في كلامه (تعالى) تنسلخ عن معانيها الموضوعة لها ؛ لاستحالة مثل هذه المعاني في حقّه (تبارك وتعالى) التي تستلزم العجز والجهل ؛ وذلك لأنّ الصيغ لم توضع للحقيقي من معانيها ، بل الموضوع له فيها الإنشائي منها ، غاية الأمر الداعي إلى إنشائها قد يكون غير ثبوتها حقيقة حسب ما يقتضيه الحال.

أقول : يمكن أن يقال : إنّ أداة التمنّي والترجّي وضعت لإظهار الصفة النفسانية (أي إظهار ثبوتها) وأنّ التمنّي يطلق على هذا الإظهار ، إلّا أنّ إبراز ثبوتها قد يكون لثبوتها واقعا ، فيكون تمنّيا وترجّيا حقيقة ، وقد يكون الإظهار لغرض آخر من طلب الفعل ونحوه.

وإن شئت التوضيح فلاحظ الجمل الخبرية في موارد الكنايات ، فإنّها موضوعة لإظهار ثبوت محمولاتها لموضوعاتها ولكنّ الإظهار تارة يكون لحكاية الثبوت الواقعي ، وأخرى لثبوت أمر آخر ، حيث إنّ قول القائل (زيد كثير الرماد) لا يكون لغرض الحكاية عن ثبوت مدلول الجملة واقعا ، بل لغرض ثبوت ما يلازم مدلولها.

٣١٦

المبحث الثاني : في أنّ الصيغة حقيقة في الوجوب [١] ، أو في الندب ، أو فيهما ، أو في المشترك بينهما ، وجوه بل أقوال ، لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة ، ويؤيده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة

______________________________________________________

وبالجملة الممتنع في حقّ الباري (جلّ وعلا) الثبوت الواقعي للتمنّي أو الترجّي أو الاستفهام لا إظهار ثبوتها لغرض آخر غير ثبوت معانيها الحقيقية المستحيلة في حقّه (تعالى).

دلالة صيغة الأمر على الوجوب :

[١] المراد بالوجوب كما تقدّم إطلاق الطلب ، ويقابله اقتران الطلب واتصافه بثبوت الترخيص في ترك الفعل ، وأمّا حكم العقل بلزوم الإتيان بالمأمور به ، بمعنى استحقاق العقوبة على المخالفة ، فهو يترتّب على وصول الطلب إلى المطلوب منه صغرى وكبرى ، ولكن اتّصاف الطلب بالوجوب والندب إنّما هو قبل ملاحظة الوصول إليه ، كما تقدّم.

والحاصل أنّ إطلاق الطلب أو اتّصافه بثبوت الترخيص في الترك خارجان عن المدلول الوضعي للصيغة وهما وصفان للطلب الصادر عمّن له ولاية الحكم وإذا تمّت مقدّمات الاطلاق في ناحية الطلب ، يكون ظهور الصيغة بملاحظة حال منشأ الطلب ظهورا إطلاقيا في وجوب الفعل ، ومع ثبوت الترخيص ينتفي عنها الظهور في الوجوب ، ويشهد لخروج الوصفين عن المدلول الوضعي للصيغة عدم الفرق في المعنى المتفاهم عرفا من نفس الصيغة بين موردي الوجوب والندب ، وهذا بخلاف ما تقدّم في مادة الأمر ، فإنّها بنفسها دالّة على تعنون الطلب بعنوان الوجوب ، ولذا يصحّ أن نقول ما أمرنا بصلاة الليل وأمرنا بالصلوات اليومية. وبالجملة إطلاق الطلب من العالي يكون وجوبا ،

٣١٧

الندب ، مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال أو مقال ، وكثرة الاستعمال فيه [١] في الكتاب والسنة وغيرهما لا يوجب نقله إليه أو حمله عليه ، لكثرة استعماله في الوجوب أيضا ، مع أن الاستعمال وإن كثر فيه ، إلّا أنّه كان مع القرينة المصحوبة ، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا يوجب صيرورته مشهورا فيه ، ليرجح أو يتوقف ، على الخلاف في المجاز المشهور ، كيف؟ وقد كثر استعمال العام في الخاص ، حتّى قيل : (ما من عام إلّا وقد خص) ولم ينثلم به ظهوره في العموم ، بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص.

______________________________________________________

ومع ثبوت ترخيصه يكون ندبا ، وإذا لم يؤخذ في مدلول الصيغة خصوصية الطالب ، فكيف يكون الوجوب أو الندب داخلا في المدلول الوضعي للصيغة مع أنّهما فرع علوّ الطالب ، وما ذكره قدس‌سره من عدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب ، لا يكون دليلا على أنّ الظهور وضعي لا إطلاقي ، ولعله لذلك عدّة مؤيّدا.

[١] هذا شروع في الردّ على صاحب المعالم قدس‌سره ، حيث ذكر عدم ظهور الصيغة في الوجوب ، معلّلا بكثرة استعمالها في الندب في الأخبار المروية عن الأئمّة عليهم‌السلام فيشكل الحكم بوجوب فعل بمجرّد ورود الأمر به بالصيغة.

وحاصل الدفع أنّ استعمال الصيغة في الاستحباب وإن كان كثيرا ، إلّا أنّ كثرة الاستعمال إذا كانت بالقرينة المتصلة في أكثر الموارد لا توجب انقلاب ظهور اللفظ أو إجماله ، وإنّما توجب ذلك إذا كانت مع القرينة المنفصلة ، فإنّه في هذه الصورة يحصل للذهن أنس بين اللفظ ومعناه المجازي ، فيوجب انقلابه أو إجماله ، ألا ترى أنّ صيغ العموم الوضعى أو أداته قد استعملت في الخصوص عند صاحب المعالم قدس‌سره كثيرا ، بحيث قيل : ما من عامّ إلّا وقد خصّ ، إلّا أنّ الكثرة بما أنّها تكون مع المخصّص المتصل ، لا توجب انقلاب ظهورها.

٣١٨

المبحث الثالث : هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب والبعث ـ مثل : يغتسل ، ويتوضأ ، ويعيد ـ ظاهرة في الوجوب أو لا؟ لتعدد المجازات [١] فيها ، وليس الوجوب بأقواها ، بعد تعذر حملها على معناها من الأخبار ، بثبوت النسبة والحكاية عن وقوعها.

الظاهر الأول ، بل تكون أظهر من الصيغة ، ولكنّه لا يخفى أنّه ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام ـ أي الطلب ـ مستعملة في غير معناها ، بل تكون مستعملة فيه ، إلّا أنّه ليس بداعي الإعلام ، بل بداعي البعث بنحو آكد ، حيث إنّه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه ، إظهارا بأنّه لا يرضى إلّا بوقوعه ، فيكون آكد في البعث من الصيغة ، كما هو الحال في الصيغ الإنشائية ، على ما عرفت من أنّها أبدا تستعمل في معانيها الإيقاعية لكن بدواعي أخر ، كما مر.

______________________________________________________

مدلول الجملة الخبرية المستعملة في مقام الإنشاء :

[١] وجه لعدم ظهور تلك الجمل في الوجوب ، والظاهر أنّ المراد بالمجازات الوجوب والندب ومطلق الطلب ، فيقال إنّه بعد قيام القرينة على عدم استعمال الجملة الخبرية في الاخبار والحكاية ، لا يكون لها ظهور في خصوص الوجوب لتعدّد المجازات وعدم كون الوجوب أظهر المعاني المجازيّة وأقواها.

وذكر الماتن قدس‌سره بأنّ الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب ، تكون ظاهرة في وجوب الفعل ، بل تكون دلالتها عليه أظهر وأقوى من دلالة الصيغة عليه ، والوجه في ذلك أنّ الجملة الخبرية في ذلك المقام لا تستعمل في غير معناها ، بل تكون مستعملة في حكاية حصول الشيء خارجا في المستقبل ، إلّا أنّ الداعي إلى الحكاية ليس ثبوت الشيء خارجا ، بل بداعي البعث والطلب بنحو آكد ، حيث إنّ

٣١٩

لا يقال : كيف؟ ويلزم الكذب كثيرا ، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج ، تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علوا كبيرا.

فإنّه يقال : إنّما يلزم الكذب ، إذا أتى بها بداعي الإخبار والإعلام ، لا لداعي البعث ، كيف؟ وإلّا يلزم الكذب في غالب الكنايات ، فمثل (زيد كثير الرماد) أو (مهزول الفصيل) لا يكون كذبا ، إذا قيل كناية عن جوده ، ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلا ، وإنما يكون كذبا إذا لم يكن بجواد ، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ ، فإنّه مقال بمقتضى الحال.

هذا مع أنّه إذا أتى بها في مقام البيان ، فمقدمات الحكمة [١] مقتضية لحملها على الوجوب ، فإن تلك النكتة إن لم تكن موجبة لظهورها فيه ، فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين محتملات ما هو بصدده ، فإنّ شدة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب ، موجبة لتعيّن إرادته إذا كان بصدد البيان ، مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره ، فافهم.

______________________________________________________

المستعمل حكى وقوع الشيء خارجا في مقام طلبه لإظهار أنّه لا يرضى بعدم وقوعه ، فالجمل الخبريّة تستعمل في قصد الحكاية عن ثبوت الشيء أو لا ثبوت ، ولكن بداعي الطلب ، وهذا نظير ما تقدّم في الصيغ الإنشائيّة من أنّها تستعمل دائما في معانيها الإنشائيّة ، ولكن بدواع مختلفة.

[١] يعني لو نوقش فيما ذكره من أنّ الإخبار بوقوع شيء مستقبلا بداعي البعث والطلب يدلّ على شدّة الطلب وعدم الرضا إلّا بوقوع الفعل فلا ينبغي التأمّل في أنّه لو كان الطالب في مقام البيان وأخبر بوقوع الفعل مستقبلا بداعي الطلب يكون الطلب بالإخبار المزبور متعيّنا في الوجوب بمقتضى مقدّمات الحكمة ؛ لأنّ شدّة مناسبة الإخبار بوقوع الفعل مع الطلب الوجوبي موجبة لتعيّن إرادته إذا كان الطالب

٣٢٠