دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الممكن متين ، بل وضع اللفظ بإزاء كلّي لا يمكن منه حتّى فرد واحد كمعنى شريك الباري بمكان من الإمكان ، فإنّ الغرض من الوضع تفهيم المعنى ومن الظاهر أنّ قصد التفهيم كما يكون في المفاهيم والمعاني الممكنة ، كذلك يكون في الممتنعة أيضا إلّا أنّ ما ذكره من أنّ لفظ الواجب موضوع لكلّي لا يمكن منه إلّا فرده الواحد ، غير تامّ ؛ وذلك لأنّ الواجب وإن كان يقيّد ويقال «الواجب بذاته وبلا علّة» ويراد منه ما لا يمكن انطباقه إلّا على ذات الحقّ (جلّ وعلا) وهو ما لا يمكن فرض عدمه أو فرض العلّة له ، إلّا أنّه لم يوضع لهذا المعنى.

والذي أظنّه أنّ الإشكال في أسماء الأزمنة لا يكون راجعا إلى امتناع وضعها للأعمّ ليجاب عنه بما ذكر ، بل يرجع إلى أنّ البحث فيها في المقام لغو لا يترتّب عليه ثمرة ، إذ الأحكام الشرعية الثابتة لعناوين الأسماء المذكورة ترتفع بارتفاع الزمان الواقع فيه المبدأ ـ سواء قيل بوضعها لخصوص المتلبّس أو للأعمّ ـ وهذا بخلاف سائر المشتقّات كاسم الفاعل ، فإنّه إذا ورد الأمر بإكرام العالم مثلا ، فبناء على وضعه لخصوص المتلبّس لا يحكم باستحباب إكرام من زال عنه العلم بنسيان أو غيره ، وبناء على القول بوضعه للأعمّ يحكم باستحبابه أيضا ، وهذا بخلاف اسم الزمان فإنّ الذات فيه وهو الزمان ينقضي بانقضاء المبدأ ، فلا يكون في الخارج ذات انقضى عنها المبدأ ليثبت لها الحكم بناء على القول بوضعه للأعمّ.

نعم لو قيل بأنّ هيئة (مفعل) لم توضع بإزاء زمان الفعل تارة ولمكانه أخرى ، بل وضعت لمعنى واحد لهما ـ ويؤيّد ذلك عدم اختلاف أسماء الزمان والمكان في الهيئة ، بل لهما هيئة واحدة ـ لكان جريان النزاع فيها بلا كلام ، حيث تترتّب الثمرة على البحث في معناها كما لا يخفى.

٢٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد يقال إنّ الالتزام بأنّ هيئة مفعل ، موضوعة لمعنى ينطبق على الزمان والمكان غير مفيد ، ووجهه أنّ تلبّس المكان بالمبدإ نحو تلبّس ، وتلبّس الزّمان به نحو آخر ، وعنوان الظرفية والوعائية وإن كان يطلق على كلا التلبسين إلّا أنّه جامع عرضيّ انتزاعيّ ، لا يمكن أخذه في معنى اسم الزمان والمكان ، فإنّه لا يكون معنى المقتل عنوان وعاء القتل ، كما أنّ الالتزام بأخذ ما يكون وعاء بالحمل الشائع ، مضافا إلى أنّه غير مفيد ، يوجب أن يكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا ، فإنّ الموضوع له أشخاصه.

أقول : الوضع في ناحية المشتقّات أي هيئاتها يكون عامّا والموضوع له خاصّا لا محالة ؛ لأنّ الهيئة تتضمّن معنى حرفيّا لا محالة ، فالكلام في أنّ هيئتي اسم الزمان واسم المكان ، هل وضعتا لمعنى يشار إليه ويعبّر عنه بعنوان «ما يقع فيه المبدأ» بالخصوص ، أو وضعتا لما يعبّر عنه بعنوان «ما خرج فيه ، المبدأ إلى الفعلية» سواء بقيت فيه الفعلية أو انقضت؟

فإذا وضعتا بوضع واحد للأوّل ، يكون الوضع فيهما مختصّا بالمتلبّس الفعلي ، وإذا وضعتا كذلك للثاني ، يكون الوضع للأعمّ ، وبهذا اللحاظ يجري النزاع. هذا مع أنّ للتأمّل في اختلاف تلبّس الزمان بالمبدإ عن تلبّس المكان به مجالا واسعا.

وأجاب المحقّق النائيني قدس‌سره عن الإشكال في أسماء الزمان بأنّ الذات المأخوذة فيها يمكن أن تكون كلية ، كاليوم العاشر من المحرّم ، وما وقع فيه الفعل كالقتل وإن كان الموجود منه فردا من أفراده وينقضي بانقضاء القتل فيه ، إلّا أنّ الذات وهو المعنى الكلّي يكون باقيا حسب أفراده المتجدّدة بعده (١).

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ٥٦.

٢٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وفيه : أنّ العامّ يعني الكلي ، وإن كان يتكثّر بتكثّر أفراده وتسري إليه أوصاف أفراده فيتّصف بوصف كلّ منها ، إلّا أنّ حدوث فرد من الكلّي وارتفاعه ، وحدوث فرد آخر منه بعد ذلك ، لا يصحّح بقاء العامّ بذلك الوجود ، فإنّ الحادث وجود آخر والمأخوذ في معنى اسم الزمان ولو كان عامّا إلّا أنّ ما هو ظرف للمبدا وجود واحد لا بقاء له على الفرض وحدوث فرد آخر لا يصحّح كون الكلّي بذلك الوجود متّصفا بالمبدإ ، ويتّضح ذلك بملاحظة المأخوذ من الذات في معنى لفظ المجتهد ، فإنّه ليس خصوص زيد ، بل المأخوذ فيه مطلق الذات المتّصفة بالاجتهاد ، وقيام مبدأ الاجتهاد بزيد يوجب اتّصاف الإنسان بالمبدإ المفروض ، ولكن لا يوجب ذلك صدق المجتهد على سائر أفراد الإنسان بدعوى أنّ المأخوذ في معنى المجتهد كلي الذات المتصفة بالاجتهاد لا خصوص زيد الموصوف بمبدإ الاجتهاد.

والسرّ في ذلك أنّ لكل فرد من أفراد الإنسان وجودا ، قد يتّصف الطبيعي بوصف بعض وجوداته وينطبق عليه عنوان باعتبار بعض أفراده ولكن هذا لا يوجب بقاء الطبيعي الموصوف بوصف ما ، بوجود فرده الآخر. وقد ذكر هذا الوجه لعدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي.

وربّما يقال : إنّ للزمان بقاء اعتبارا ، فإنّ اليوم باق ما دام لم تغرب الشمس ، والليل باق ما دام لم تطلع الشمس أو الفجر ؛ ولذا يجري استصحاب بقاء الشهر أو اليوم أو الليل ونحو ذلك ، وهذا النحو من البقاء كاف في جريان النزاع في اسماء الزمان ، حيث إنّ اليوم العاشر من كلّ سنة وإن لم يكن مقتلا للحسين عليه‌السلام إلّا أنّ اليوم العاشر من سنة إحدى وستين يصدق عليه مقتله عليه‌السلام حتّى بعد الزوال أيضا ، على أنّ

٢٠٣

ثالثها : إنّه من الواضح خروج الأفعال والمصادر المزيد فيها عن حريم النّزاع [١] ، لكونها غير جارية على الذوات ، ضرورة أن المصادر المزيد فيها

______________________________________________________

المشتقّ حقيقة في مطلق ما تلبّس بالمبدإ وإن انقضى تلبّسه.

أقول : ما ذكر من الاعتبار في النهار والليل والشهر ونحوها لا ينكر ، كما في بحث جريان الاستصحاب في ناحية الزّمان ، ولكن هذا لا يثمر في جريان النزاع في أسماء الزمان ، والوجه في ذلك أنّ الذات المأخوذة في معنى المشتق أو الملازم لمعناه ـ كما يأتي ـ مبهمة من جميع الجهات غير تلبّسها بالمبدإ ، والعناوين الاعتبارية كالنهار والليل ، لم يؤخذ شيء منها في معنى اسم الزمان ، وما أخذ فيه من المعنى المبهم إنّما ينطبق على نفس القطعة الزمانية التي وقع فيها الفعل ، والمفروض أنّها لا تبقى بعد انقضاء التلبّس.

نعم ، في المقام أمر ، وهو أنّه لو أخذ في بعض الخطابات الشرعية مقتل الحسين عليه‌السلام ونحوه موضوعا لآداب ، يكون ذكر الآداب قرينة على أنّ المراد به مثل ذلك الزمان لا نفسه ، ومثله وإن كان فردا آخر حقيقة إلّا أنّ إطلاق مقتله عليه‌السلام عليه باعتبار أنّ أهل العرف يرون المثل عودا لنفس ذلك الزمان ولو تسامحا.

[١] المصادر المزيد فيها وإن كان يطلق عليها المشتق باصطلاح علماء الأدب إلّا أنّها كالمصادر المجرّدة لا تحمل على الذوات ، فإنّ معانيها عبارة عن المبادئ وما تتّصف به الذوات وما يقوم بها ، ومع انقضاء التلبّس عن الذوات لا يمكن انطباقها على عدمها ، وهكذا الأفعال فإنّها مركبة من المبادئ والهيئات ، أمّا مباديها فالحال فيها كالحال في المصادر لا يمكن أن تنطبق على عدمها ، وأمّا هيئاتها فلأنّها دالّة على قيام تلك المبادئ بالذوات قيام صدور أو حلول أو غير ذلك ، ومع انقضاء المبدأ عن الذات لا قيام للمبدا بها.

٢٠٤

كالمجردة ، في الدّلالة على ما يتصف به الذوات ويقوم بها ـ كما لا يخفى ـ وإنّ الأفعال إنّما تدلّ على قيام المبادي بها قيام صدور أو حلول أو طلب فعلها أو تركها منها ، على اختلافها.

إزاحة شبهة :

قد اشتهر في ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان ، حتى أخذوا الاقتران به في تعريفه [١]. وهو اشتباه ، ضرورة عدم دلالة الأمر ولا النهي عليه ، بل على إنشاء

______________________________________________________

[١] ذكر النحاة في الفرق بين الإسم والفعل بعد اشتراكهما في الدلالة على معنى مستقل ـ أي مستقل في اللحاظ ـ أنّ ذلك المعنى المستقل بمجرده مدلول الإسم ولا يدلّ الإسم على اقترانه بأحد الأزمنة ، بخلاف الفعل فإنّه يدلّ على معنى مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ، وعباراتهم في التفرقة بين الإسم والفعل توهم دخول الزمان في مدلول الأفعال بخلاف الأسماء ، حيث إنّ الزمان خارج عن مداليلها فهذا الوهم فاسد جدّا ـ سواء كان مراد علماء الأدب في تعريف الإسم والفعل هذا أو غيره ـ ، فإنّ من الأفعال عندهم الأمر والنهي وليس لهما دلالة على الزمان ، فإنّ الأمر يدلّ على إنشاء طلب الفعل ، والنهي على إنشاء الزجر عنه أو طلب الترك ، غاية الأمر يكون الإنشاء حال التكلّم لا محالة ، كما هو الحال في الإخبار ولو بالجملة الاسميّة ، كقوله زيد ابن عمرو ، أو بالجملة الفعلية كضرب زيد أو يضرب عمرو ، بل لا دلالة للفعل الماضي أو المضارع على الزمان ؛ ولذا لا يكون عناية وتجريد عند إسنادهما إلى الزمان والمجردات.

وبالجملة لا ينبغي التأمّل في أنّ الزمان غير مأخوذ في معنى الفعل لا في ناحية معنى المادة ولا في ناحية معنى الهيئة ، نعم لمعنى هيئة الماضي والمضارع عند

٢٠٥

الفعل أو الترك ، غاية الأمر نفس الإنشاء بهما في الحال ، كما هو الحال في الإخبار بالماضي أو المستقبل أو بغيرهما ، كما لا يخفى ، بل يمكن منع دلالة غيرهما من الأفعال على الزمان إلّا بالإطلاق والإسناد إلى الزمانيات ، وإلّا لزم القول بالمجاز والتجريد ، عند الإسناد إلى غيرها من نفس الزمان والمجردات.

نعم لا يبعد أن يكون لكل من الماضي والمضارع ـ بحسب المعنى ـ خصوصية أخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة ، في الزمان الماضي في الماضي ، وفي الحال أو الاستقبال في المضارع ، فيما كان الفاعل من الزمانيات ، ويؤيده أن المضارع يكون مشتركا معنويا [١] بين الحال والاستقبال ، ولا معنى له

______________________________________________________

دخولها على المادة خصوصية ، وتلك الخصوصية تقتضي زمان الماضي أو الحال والاستقبال فيما كان الإسناد إلى الزماني ، فإنّ الماضي يدلّ على انتساب المبدأ بنحو التحقّق والمضارع على انتسابه بغيره من الفعليّة أو الترقّب ودلالة هيئتهما على ذلك بنحو ما تقدّم في معاني الحروف ، لا على عنوان الانتساب الموصوف بالتحقّق أو الترقّب.

ثمّ إنّه لو كان في البين قرينة على لحاظ الترقّب أو التحقّق بالإضافة إلى زمان فلا كلام ، كما في قوله : (يجيئني زيد بعد عامّ وقد ضرب قبله بثلاثة أيام) وكما في قوله : (جاءني زيد في شهر كذا وهو يضحك) حيث لوحظ تحقّق الضرب في الأوّل بالإضافة إلى زمان المجيء ، والفعلية أو الترقّب في الضحك بالإضافة إلى زمانه أيضا في الثاني ، وإلّا يحمل التحقّق والترقّب على أنّهما بالإضافة إلى زمان الاخبار ، وهذا هو المراد بالاطلاق في قول الماتن قدس‌سره : «بل يمكن منع دلالة غيرهما على الزمان إلّا بالاطلاق والإسناد إلى الزمانيات».

[١] هذا تأييد لعدم دخول الزمان في مدلول الأفعال وأنّ الداخل في مدلولها

٢٠٦

إلا أن يكون له خصوص معنى صح انطباقه على كل منهما ، إلا أنه يدل على مفهوم زمان يعمهما ، كما أنّ الجملة الاسمية ك (زيد ضارب) يكون لها معنى صح انطباقه على كل واحد من الأزمنة ، مع عدم دلالتها على واحد منها أصلا ، فكانت الجملة الفعلية مثلها.

وربما يؤيد ذلك أن الزمان الماضي في فعله ، وزمان الحال أو الاستقبال في المضارع ، لا يكون ماضيا أو مستقبلا حقيقة لا محالة ، بل ربّما يكون في الماضي مستقبلا حقيقة ، وفي المضارع ماضيا كذلك ، وإنّما يكون ماضيا أو مستقبلا في

______________________________________________________

خصوصية انتساب المبدأ إلى الذات ، وتقتضي تلك الخصوصية فيما كان الفاعل من الزمانيات أحد الأزمنة. ووجه التأييد أنّه لا جامع بين زماني الحال والاستقبال إلّا معنى لفظ الزمان ، ومفهوم الزمان معنى اسمي غير داخل في معنى هيئة الأفعال حتّى عند النحويين ، فإنّ ظاهر كلامهم دلالة الفعل على معنى مقترن بمصداق الزمان ، فلا بدّ من أن يكون مرادهم أيضا أن للهيئة في فعل المضارع خصوصية تقتضي زمان الحال أو الاستقبال.

أقول : لم يثبت من النحويين التزامهم بالاشتراك المعنوي في هيئة فعل المضارع بمعناه المعهود ليشكل عليهم بأنّ الهيئات ليس لها معان اسميّة حتّى يتصوّر فيها الاشتراك المعنوي ، بل لعلّ مرادهم أنّ صيغة فعل المضارع تدلّ على ما يوصف به انتساب المبدأ إلى الفاعل بكونه في غير الزمان الماضي من الحال أو الاستقبال ، فالمراد بالاشتراك الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، كما في الحروف وهيئات سائر الأفعال.

وغاية ما يرد عليهم أنّ خصوصية النسبة المستفادة من هيئة الفعل الماضي أو الفعل المضارع وإن كانت تقتضي الاقتران بالأزمنة فيما كان الفاعل من الزمانيّات إلّا أنّ اقتضاء الخصوصية لا يوجب دخول الزمان وأخذه في مدلوله ليلزم العناية أو

٢٠٧

فعلهما بالإضافة ، كما يظهر من مثل قوله : يجيئني زيد بعد عام ، وقد ضرب قبله بأيّام ، وقوله : جاء زيد في شهر كذا ، وهو يضرب في ذلك الوقت ، أو فيما بعده مما مضى ، فتأمل جيّدا.

ثم لا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عما عداه ، بما يناسب المقام ؛ لأجل الاطراد في الاستطراد في تمام الأقسام.

فاعلم أنّه وإن اشتهر بين الأعلام ، أن الحرف ما دلّ على معنى في غيره ، وقد بيناه في الفوائد بما لا مزيد عليه ، إلّا أنك عرفت فيما تقدم ، عدم الفرق بينه وبين الاسم [١]

______________________________________________________

التجريد في موارد الإسناد إلى الزمان أو المجردات.

فيكون الحال في الفعل الماضي أو المضارع مثل الجملة الاسميّة ك (زيد ضارب) ، حيث إنّه نسب (ضارب) إلى (زيد) بنسبة تحقّقية أو بنسبة ترقّبية ، وهذه النسبة تقتضي أحد الأزمنة الثلاثة لا محالة ؛ لكون (زيد) من الزمانيّات ، والفرق أنّ تعيين كون النسبة في (زيد ضارب) تحقّقية أو ترقّبية يكون بالقرينة العامة أو الخاصة ، بخلاف تعيينها في الفعل فإنّه يكون بالوضع ، حيث إنّ هيئة الفعل الماضي تدلّ على نسبة تحقّقية وهيئة المضارع على نسبة ترقّبية.

وممّا ذكر يظهر أنّ في عبارة الماتن قدس‌سره تسامحا ، فإنّه قدس‌سره ذكر أنّ للمضارع معنى يصحّ انطباقه على الحال والاستقبال ووجه التسامح أنّ معنى الفعل ـ سواء كان ماضيا أو مضارعا ـ لا ينطبق على الزمان ، بل ينطبق على النسبة الخارجية المقتضية للزمان فيما كان الفاعل من الزمانيات ، وكذلك الحال في الجملة الاسميّة ك (زيد ضارب) ، فتدبّر.

[١] ذكر قدس‌سره فيما تقدّم أنّه ليس الاختلاف بين الحرف والإسم في نفس الموضوع له والمستعمل فيه لا بالذات ولا بالاعتبار ، بل الموضوع له والمستعمل فيه فيهما واحد وهو ما يتعلّق به اللحاظ الآلي تارة والاستقلالي أخرى ، من غير دخل

٢٠٨

بحسب المعنى ، وأنّه فيهما ما لم يلحظ فيه الاستقلال بالمفهومية ، ولا عدم الاستقلال بها ، وإنّما الفرق هو أنّه وضع ليستعمل وأريد منه معناه حالة لغيره وبما هو في الغير ، ووضع غيره ليستعمل وأريد منه معناه بما هو هو وعليه يكون

______________________________________________________

للحاظين في الموضوع له والمستعمل فيه ، والاختلاف في كيفية اللحاظ عند استعمالهما معتبر في وضعهما حيث إنّ الإسم وضع لذلك المعنى الذي يكون من قبيل الكلي الطبيعي ؛ ليلاحظ عند الاستعمال بما هو هو ، والحرف وضع له ليستعمل فيه عند لحاظه آليا ، فالمعنى الموضوع له والمستعمل فيه في نفسه في كلّ منهما كلي طبيعي ، وكيفية اللحاظ عند الاستعمال لا تدخل في المستعمل فيه لا في الاسماء ولا في الحروف ، ولذا تكون معاني الأسماء والحروف كلّيات تنطبق على الخارجيات ، وتصدق على كثيرين.

ولو قيّد المعنى باللحاظ ، بأن يكون واقع اللحاظ الآلي أو الاستقلالي داخلا في المعنى ، يكون المستعمل فيه جزئيّا ذهنيا وكليّا عقليا ، حيث إنّ الوجود الذهني كالخارجي يكون شخصا لا محالة ، بحيث لو لوحظ المعنى المفروض ثانيا ، يكون اللحاظ الثاني وجودا ذهنيا آخر مثل الأوّل ، ويكون المعنى مع أنّه جزئي ذهني ـ حيث أن المقيّد بأمر ذهني يكون ذهنيا لا ينطبق على الخارج ـ كليّا عقليّا ، وقد ذكرنا أنّ المراد بالكلي العقلي ، مرآتيّة الملحوظ وحكايته عن كثيرين في الخارج من غير أن ينطبق عليها ليكون عين ما في الخارج ، ويمكن تشبيهه بالصورة المنقوشة على الجدار من إنسان أو غيره ، فإنّها تحكي الخارج وتشير إليه من غير أن تكون عين الخارج ، وأضاف هنا إلى ما تقدّم ، التوفيق بين جزئية المعنى الحرفي بل الاسمي وبين كليّته ـ أي كونه كلّيا طبيعيا يصدق على كثيرين في الخارج ـ بأنّ المعنى الموضوع له والمستعمل فيه إذا قيّد بواقع اللحاظ ، يعني الوجود الذهني ، يكون

٢٠٩

كل من الاستقلال بالمفهومية ، وعدم الاستقلال بها ، إنّما اعتبر في جانب الاستعمال ، لا في المستعمل فيه ، ليكون بينهما تفاوت بحسب المعنى ، فلفظ (الابتداء) لو استعمل في المعنى الآلي ، ولفظة (من) في المعنى الاستقلالي ، لما كان مجازا واستعمالا له في غير ما وضع له ، وإن كان بغير ما وضع له ، فالمعنى في كليهما في نفسه كلّي طبيعي يصدق على كثيرين ، ومقيدا باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلّي عقلي ، وإن كان بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهنا كان جزئيا ذهنيا ، فإنّ الشّيء ما لم يتشخص لم يوجد ، وإن كان بالوجود الذهني ، فافهم وتأمل فيما وقع في المقام من الأعلام ، من الخلط والاشتباه ، وتوهم كون الموضوع له أو المستعمل فيه في الحروف خاصا ، بخلاف ما عداه فإنّه عام.

______________________________________________________

جزئيا ذهنيا وكليا عقليا ، وإذا أغمض عن اللحاظ الذي هو من كيفيّات الاستعمال ومقدّماته يكون نفس المستعمل فيه كلّيا طبيعيا يصدق على الخارجيات.

أقول : قد تقدّم أنّ المعنى الحرفي يختلف عن المعنى الاسمي ولا اتحاد بينهما أصلا وأنّ الاختلاف ليس بحسب اللحاظ فقط ليقال إنّ اللحاظ غير داخل في المستعمل فيه فيهما ، بل قد ذكرنا في الفرق ما ملخّصه : أنّ الحرف إذا ذكر مجرّدا لا يكون له معنى ، وإذا دخل على الإسم أو غيره دلّ على خصوصيّة في معنى المدخول بحسب الخارج ، فتكون تلك الخصوصية ، نسبية وغير نسبية ، مثلا إذا قيل (سرت من البصرة إلى الكوفة) فكلمة (من) الداخلة على (البصرة) تدلّ على أنّها في نسبة السير إليها معنونة بعنوان المبدئية له ، بخلاف ما إذا قلنا (ابتداء السير) ، فإنّ لفظ (الابتداء) يضاف إلى (السير) لا إلى (المكان) فلا يدلّ على خصوصية المبدئية في النسبة ليقال إنّ المستعمل فيه فيهما أمر واحد ، وقلنا : إنّ هذا هو السرّ في عدم استعمال أحدهما في موضع الآخر ، لا أنّ الاختلاف بينهما يكون بمجرد اللحاظ

٢١٠

وليت شعري إن كان قصد الآلية فيها موجبا لكون المعنى جزئيا ، فلم لا يكون قصد الاستقلالية فيه موجبا له؟ وهل يكون ذلك إلّا لكون هذا القصد ، ليس مما يعتبر في الموضوع له ، ولا المستعمل فيه بل في الاستعمال ، فلم لا يكون فيها كذلك؟ كيف ، وإلّا لزم أن يكون معاني المتعلقات غير منطبقة على الجزئيات الخارجية ، لكونها على هذا كليات عقلية ، والكلّي العقلي لا موطن له إلّا الذهن ، فالسير والبصرة والكوفة ، في (سرت من البصرة إلى الكوفة) لا يكاد يصدق على السير والبصرة والكوفة ، لتقيّدها بما اعتبر فيه القصد فتصير عقلية ، فيستحيل انطباقها على الأمور الخارجية.

وبما حققناه يوفق بين جزئية المعنى الحرفي بل الاسمي ، والصدق على الكثيرين ، وإنّ الجزئية باعتبار تقيّد المعنى باللحاظ في موارد الاستعمالات آليا أو استقلاليا ، وكليته بلحاظ نفس المعنى ، ومنه ظهر عدم اختصاص الإشكال والدفع بالحرف ، بل يعمّ غيره ، فتأمل في المقام فإنّه دقيق ومزالّ الأقدام للأعلام ، وقد سبق في بعض الأمور بعض الكلام ، والإعادة مع ذلك لما فيها من الفائدة والإفادة ، فافهم.

رابعها : إن اختلاف المشتقات في المبادئ [١] ، وكون المبدأ في بعضها حرفة

______________________________________________________

فراجع وتأمّل. وقد ذكرنا هناك أيضا أنّ نفس الخصوصية الخارجية في مدلول المدخول ليست هي معنى الحرف ليقال إنّ الحرف لم يستعمل في شيء ، في صورة الكذب في الاخبار ، بل مدلول الحرف تلك الخصوصية بصورتها المندكّة في معنى المدخول ؛ ولذا لا يكون للحروف معان إخطارية ، فالاسم يدلّ على معنى في نفسه ، والحرف يدلّ على معنى في غيره ، والخصوصية المدلول عليها بالحرف في معنى الغير ، تصحّح اتصاف معنى المدخول بعنوان اسمي كالمبدئية.

[١] قد تقدّم أنّ النزاع في المقام في ما وضع له هيئات المشتقّات وأنّه ينطبق

٢١١

وصناعة ، وفي بعضها قوة وملكة ، وفي بعضها فعليّا ، لا يوجب اختلافا في دلالتها بحسب الهيئة أصلا ، ولا تفاوتا في الجهة المبحوث عنها ، كما لا يخفى ، غاية الأمر إنّه يختلف التلبس به في المضي أو الحال ، فيكون التلبس به فعلا ، لو أخذ حرفة أو ملكة ، ولو لم يتلبس به إلى الحال ، أو انقضى عنه ، ويكون مما مضى أو يأتي لو أخذ فعليا ، فلا يتفاوت فيها أنحاء التلبسات وأنواع التعلقات ، كما أشرنا إليه.

______________________________________________________

على ما انقضى عنه المبدأ ، أو لا ينطبق إلّا على ما يكون تلبّسه بالمبدإ فعليا ، ولكنّ المراد بالمبدإ في المشتقات يختلف ، فيكون المراد بالمبدإ في بعضها بنحو الحرفة ، وفي بعضها بنحو الصنعة ، وفي بعضها بنحو الملكة ، وفي بعضها بنحو الشأنية أو الاستعداد ، وفي بعضها بنحو الفعلية ، وهذا الاختلاف في المبادئ لا يوجب اختلافا في دلالة الهيئات ، ولا تفاوتا في محلّ النزاع ، والفرق بين الحرفة والصناعة أنّ الأولى لا تحتاج إلى التعلّم بخلاف الثانية.

ثمّ إنّ اختلاف المشتقّات بحسب المبادئ لا يوجب الاشتراك اللفظي في ناحية المبادئ ، لإمكان إرادة الملكة أو الاستعداد أو غيرهما من المبدأ ولو بنحو المجاز.

وبذلك يظهر أنّ ما ذكر من عدم كون المبدأ موضوعا للاستعداد فلا يمكن أن يكون مستفادا من مشتقّاته أيضا ، كما في الفتح والمفتاح ، فإذا لم يستعمل الفتح في الاستعداد ، فكيف يستعمل المفتاح في استعداد الفتح ، لا يمكن المساعدة عليه إذ الاستعداد للفتح غير داخل في مدلول الهيئة ، بل الهيئة قرينة على إرادة الاستعداد من المبدأ ولو مجازا ، حيث إنّ الآلية لشيء لا تستلزم إيجاد ذلك الشيء بها فعلا.

٢١٢

خامسها : إنّ المراد بالحال في عنوان المسألة ، هو حال التلبس [١] لا حال النطق ضرورة أن مثل (كان زيد ضاربا أمس) أو (سيكون غدا ضاربا) حقيقة إذا كان متلبسا بالضرب في الأمس ، في المثال الأول ، ومتلبسا به في الغد في الثاني ، فجري المشتق حيث كان بلحاظ حال التلبس ، وإن مضى زمانه في أحدهما ، ولم يأت بعد في آخر ، كان حقيقة بلا خلاف ، ولا ينافيه الاتفاق على أن مثل (زيد ضارب غدا) مجاز ، فإنّ الظاهر أنّه فيما إذا كان الجري في الحال ، كما هو قضية الإطلاق ، والغد إنّما يكون لبيان زمان التلبس ، فيكون الجري والاتصاف في الحال ، والتلبس في الاستقبال.

______________________________________________________

[١] تعرّض قدس‌سره في هذا الأمر لبيان المراد من الحال الوارد في عنوان المسألة ، وظاهر كلامه أنّ المراد به فعليّة المبدأ للذات ، حيث إنّ انطباق معنى المشتق على الذات مع فعلية تلبّسها بالمبدإ ليس محلّ كلام ، وإنّما الكلام في انطباق معناه عليها مع انقضاء تلبّسها بالمبدإ ، وعلى ذلك فإن كان حمل معنى المشتق على الذات وتطبيقه عليها مع فعلية المبدأ لها ، كان الحمل والتطبيق حقيقيين ، سواء كانا في الزمان الماضي أو الحال (أي زمان النطق) أو المستقبل. وأمّا لو كان حمله عليها وتطبيقه بلحاظ انقضاء الفعلية ، فكونهما حقيقيين مبنيّ على سعة معنى المشتق ، وعلى كل تقدير ، فلا عبرة بزمان النطق المعبّر عنه بالزمان الحال ، نعم يحمل عليه حال الفعلية فيما إذا لم تكن في البين قرينة على تعيينها في غيره.

وذكر المحقّق النائيني قدس‌سره أنّ الحال يطلق على معان ثلاثة ؛ الأوّل : زمان النطق الذي تقدّم عدم دخله في معنى المشتق. والثاني : زمان التلبّس يعني زمان تلبّس الذات بالمبدإ. والثالث : فعليّة التلبّس بالمبدإ وأنّ المراد بالحال في عنوان المسألة هو المعنى الثالث لا الثاني ، ونسب إلى كثير من الأعلام ، منهم صاحب الكفاية قدس‌سره ،

٢١٣

ومن هنا ظهر الحال في مثل (زيد ضارب أمس) وأنّه داخل في محل الخلاف والاشكال. ولو كانت لفظة (أمس) أو (غد) قرينة على تعيين زمان النسبة والجري أيضا كان المثالان حقيقة.

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في كون المشتق حقيقة ، فيما إذا جرى على الذات ، بلحاظ حال التلبس ، ولو كان في المضي أو الاستقبال ، وإنّما الخلاف في كونه حقيقة في خصوصه ، أو فيما يعم ما إذا جرى عليها في الحال بعد ما انقضى عنه التلبس ، بعد الفراغ عن كونه مجازا فيما إذا جرى عليها فعلا بلحاظ التلبس في الاستقبال ، ويؤيد ذلك اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان ، ومنه الصفات الجارية على الذوات ، ولا ينافيه اشتراط العمل في بعضها بكونه بمعنى الحال ، أو الاستقبال ، ضرورة أن المراد الدلالة على أحدهما بقرينة ، كيف لا؟ وقد اتفقوا على كونه مجازا في الاستقبال.

لا يقال : يمكن أن يكون المراد بالحال في العنوان زمانه ، كما هو الظاهر منه

______________________________________________________

حيث ذكروا أنّ المراد به هو المعنى الثاني يعنى زمان التلبس (١).

أقول : ليس في عبارة الماتن قدس‌سره دلالة على ما ذكره ، بل ظاهرها أنّ المراد بالحال فعلية المبدأ ، بمعنى أنّ حمل المشتق على ذات ـ يكون تلبسها بالمبدإ فعليّا ـ حقيقي ، وحمله على ذات ـ يكون تلبّسها بالمبدإ منقضيا في ظرف الحمل ـ محلّ النزاع ، ويشهد لذلك قوله قدس‌سره : «ويؤيد ذلك اتّفاق أهل العربية على عدم دلالة الإسم على الزمان» (٢) ، فإنّ مقتضاه خروج الزمان عن مدلول المشتق سواء كان المراد به خصوص أحد الأزمنة الثلاثة ، أم زمان التلبّس الذي يعمّ الماضي والحال والاستقبال.

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ٥٧.

(٢) كفاية الأصول : ص ٤٤.

٢١٤

عند إطلاقه ، وادعي أنّه الظاهر في المشتقات ، إما لدعوى الانسباق من الاطلاق ، أو بمعونة قرينة الحكمة.

لأنا نقول : هذا الانسباق ، وإن كان مما لا ينكر ، إلّا أنهم في هذا العنوان بصدد تعيين ما وضع له المشتق ، لا تعيين ما يراد بالقرينة منه.

سادسها : إنّه لا أصل في نفس هذه المسألة يعوّل عليه [١] عند الشك ، وأصالة

______________________________________________________

[١] إن كان المراد بالأصل ، الأصل اللفظي ، فلا ينبغي التأمّل في أنّه لا بناء من العقلاء ولا من أبناء المحاورات على كون المعنى عامّا أو خاصّا فيما إذا دار أمر الموضوع له بينهما.

نعم قد يقال : إنّ اللفظ فيما إذا استعمل في موردين ودار أمره بين كون اللفظ موضوعا للجامع بينهما ، ليكون استعماله في كلّ من الموردين حقيقة أو كان موضوعا لخصوص أحدهما ، ليكون استعماله في المورد الآخر مجازا ، يرجّح الاشتراك المعنويّ لأجل غلبة الاشتراك المعنوي على المجاز.

ولكن لا يخفى أنّ غلبة الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز غير محرزة ، وعلى تقدير الغلبة ، فلا دليل على الترجيح بها.

ونظير ذلك ما يدّعى من أنّ المشتقّ يستعمل كثيرا في موارد الانقضاء ، فلو لم يكن مشتركا معنويا وكان موضوعا لخصوص المتلبّس لزم المجاز في غالب موارد استعمالاته ، فلا محالة يكون مشتركا معنويا ، حذرا من غلبة المجاز في موارد استعماله.

وفيه أيضا كما يأتي أنّ استعماله في موارد الانقضاء بلحاظ حال التلبّس حقيقة مع أنّ غلبة المجازية لا توجب الالتزام بالاشتراك المعنوي أو اللفظي ، فإنّ باب المجاز في الاستعمالات واسع.

وإن كان المراد بالأصل الأصل الشرعي ـ يعني الاستصحاب ـ فلا ينبغي التأمّل في

٢١٥

عدم ملاحظة الخصوصية ، مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم ، لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له ، وأما ترجيح الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز. إذا دار الأمر بينهما لأجل الغلبة ، فممنوع ، لمنع الغلبة أولا ، ومنع نهوض حجة على الترجيح بها ثانيا.

______________________________________________________

عدم الأصل الشرعي أيضا ؛ لأنّ استصحاب عدم لحاظ الخصوصية في الموضوع له ـ مع عدم إثباته ظهور المشتق ووضعه للعموم ، لعدم كون ظهوره في العموم أمرا شرعيا مترتبا على عدم لحاظ الخصوصية ـ معارض باستصحاب عدم لحاظ العموم والإطلاق.

وذكر الماتن قدس‌سره أنّه إذا انقضى تلبّس الذات بالمبدإ ، ثمّ جعل التكليف للموضوع بعنوان المشتق ، سواء كان بمفاد القضية الخارجية أو بمفاد القضية الحقيقية ، فيرجع إلى البراءة عنه بالإضافة إلى الذات المذكورة ، وأمّا لو جعل الحكم قبل انقضاء التلبّس عنه ، ثمّ انقضى عنه المبدأ ، فيستصحب الحكم فيه.

وبالجملة مقتضى الأصل العملي البراءة عن التكليف في الأوّل ، وبقاء التكليف في الثاني.

أقول : قد يقال بعدم الفرق بين الفرضين ، ففي كلّ منهما يجري استصحاب بقاء الموضوع ، وبإحراز بقائه يثبت الحكم ، بأن يقال في الفرض الأوّل إنّ زيدا كان في السابق عالما وبعد انقضاء تلبّسه بالمبدإ يشكّ في بقائه عالما ؛ لاحتمال كون المشتق حقيقة في الأعمّ ، وإذا ثبت بالاستصحاب كونه عالما يترتّب عليه الحكم الوارد في خطاب أكرم العلماء ، فإنّه يكفي في جريان الاستصحاب كون المستصحب موضوعا للحكم ولو في زمان الاستصحاب (أي في بقائه) ، وكذا الحال فيما إذا ورد الخطاب في زمان تلبّس زيد بالمبدإ ثمّ انقضى عنه المبدأ ، فإنّه يستصحب كونه عالما ، فيترتب عليه الحكم الوارد في الخطاب.

٢١٦

وأما الأصل العملي فيختلف في الموارد ، فأصالة البراءة في مثل (أكرم كل عالم) يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدأ قبل الإيجاب ، كما أن قضية الاستصحاب وجوبه لو كان الإيجاب قبل الانقضاء.

______________________________________________________

ولكن لا يمكن المساعدة على هذا القول المذكور ، وذلك لعدم جريان الاستصحاب في ناحية الموضوع في موارد الشبهة المفهومية ، كما هو المفروض في المقام ، وقد تعرّضنا لذلك في مبحث الاستصحاب ، وبيّنا أنّ ظاهر خطاب النهي عن نقض اليقين بالشكّ أن يحتمل الشخص بقاء ذلك المتيقّن الحاصل خارجا ، بأن يكون المحتمل بقاء نفس ذلك الموجود الذي علم به ، وفي الشبهات المفهومية لا مشكوك كذلك ، فإنّه في المثال كان يعلم أنّ الذات المتلبّسة بالمبدإ (عالم) وبقاء تلك الذات محرز ، وعدم بقاء تلبّسها بالمبدإ أيضا محرز ، فلا يكون شيء في الخارج مشكوكا ، بل المشكوك صدق عنوان (العالم) على الذات المزبورة مع عدم بقاء تلبّسها بالمبدإ ، والاستصحاب لا يتكفّل لإثبات الإسم ومعنى اللفظ ، كما هو الحال في مسألة استصحاب بقاء النهار فيما إذا شك بانتهائه بغيبوبة القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية ، فإنّه مع عدم الشكّ في الخارج لا مجال للاستصحاب.

وأمّا إجراء الاستصحاب في ناحية الحكم ، الذي يظهر من الماتن الالتزام به في الفرض الثاني ، فبناء على جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية يختصّ جريانه بما إذا شكّ في سعة الحكم المجهول وضيقه من حيث تخلّف بعض الحالات التي يكون ثبوت الحكم للموضوع في تلك الحالات متيقنا ، كما إذا شكّ في تنجّس الماء الكثير بعد زوال تغيّره بنفسه ، حيث إنّ التغيّر في الماء يعدّ عرفا من حالات الماء ، وإنّ الموضوع للتنجس عرفا هو الماء ، فيجري استصحاب بقاء نجاسة الماء بعد زوال تغيّره ؛ لكون التغيّر عرفا من حالات الماء لا من مقوماته.

٢١٧

فإذا عرفت ما تلونا عليك ، فاعلم أنّ الأقوال في المسألة وإن كثرت ، إلّا أنّها حدثت بين المتأخرين ، بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدّمين ، لأجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مباديه في المعنى ، أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال [١] ، وقد مرت الإشارة إلى أنّه لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده ، ويأتي له مزيد بيان

______________________________________________________

وأمّا في الموارد التي لا يحرز فيها بقاء العنوان المقوّم للموضوع عرفا ، كصوم نهار شهر رمضان ، فلا يجري استصحاب الحكم فيها ، إذ الموضوع لوجوب الصوم هو نهار شهر رمضان ، والنهار مقوّم لموضوع الحكم عرفا ، فإذا شكّ في بقاء النهار بالشبهة المفهومية ، فلا يحرز اتّحاد القضية المتيقّنة والمشكوكة ليجري الاستصحاب في وجوبه والأمر في أكرم العالم كذلك فإنّ عنوان (العالم) مقوّم لموضوع استحباب الإكرام ، والذي كنّا على يقين منه ، استحباب إكرام زيد بما هو إكرام عالم ، ثمّ شككنا في أنّ إكرامه بعد انقضاء علمه إكرام للعالم ليجب ، أم لا؟ فالشكّ يكون فيما هو مقوّم للموضوع ، ومعه لا يجري الاستصحاب.

وبتعبير آخر : لا يجري الاستصحاب في الشبهات الحكمية إلّا فيما إذا كان انطباق العنوان موجبا لحدوث الحكم بنظر العرف ، ويحتمل دخالة بقائه في بقاء الحكم ، أو كان المتخلّف من قبيل حالات الشيء عرفا ، فالأول كما في قوله سبحانه : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(١) ، والثاني كما في تغيّر الماء الكثير في أحد أوصافه.

[١] كان الاختلاف في معاني المشتقات بين المتقدّمين على قولين :

أحدهما : أنّها حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدإ ، ومجاز في غيره ، بمعنى أنّ معاني هيئات المشتقات ضيقة لا تنطبق إلّا على الذات المتلبّسة بالمبدإ ، وهذا

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٢٤.

٢١٨

في أثناء الاستدلال على ما هو المختار ، وهو اعتبار التلبس في الحال ، وفاقا لمتأخري الأصحاب والأشاعرة ، وخلافا لمتقدميهم والمعتزلة ، ويدلّ عليه

______________________________________________________

القول كان لمتأخّري الأصحاب والأشاعرة.

وثانيهما : أنّ معاني المشتقات وسيعة تنطبق على المتلبّس والمنقضي ، وكان على هذا متقدّمي الأصحاب والمعتزلة ، ثمّ حدثت الأقوال الأخر كالتفصيل بين ما إذا كان مبدأ المشتق لازما أو متعدّيا والالتزام بسعة المعنى على الثاني دون الأوّل ، كما فصّل بين تلبّس الذات بضدّ المبدأ وعدم تلبّسها به ، ففي الأوّل يعتبر عدم الانقضاء بخلاف الثاني ، وكالتفصيل بين كون المشتق محكوما عليه فلا يعتبر التلبّس بخلاف ما إذا كان محكوما به فيعتبر التلبّس ، والأخير تفصيل باعتبار ما يعتري المشتق من الحالات ، بخلاف الأولين فإنّهما تفصيل في المشتق بحسب المبادئ.

وقد ذكر المحقّق النائيني قدس‌سره أنّه لا معنى للنزاع في المشتق بناء على بساطة مفهومه ، وأنّ هيئته موضوعة للدلالة على اتّحاد المبدأ مع الذات خارجا ، بخلاف نفس المبدأ ، فإنّه لوحظ في مقابل الذات ولذا لا يحمل عليها.

وبتعبير آخر بعد انقضاء المبدأ عن الذات وارتفاع معنى المشتق لا معنى لانطباقه على عدمه ، بل يكون المشتق أوضح خروجا عن النزاع ، من الجوامد التي ذكر خروجها عن محلّ الكلام كالأنواع ، ووجه الأولويّة أنّه مع ارتفاع الصورة النوعية في تلك الجوامد تبقى الهيولى والمادّة القابلة للصور ، بخلاف المشتقات بناء على بساطة مفاهيمها.

لا يقال : كيف يستعمل المشتق ولو مجازا في موارد الانقضاء ، أو في موارد التلبّس فيما بعد؟

فإنّه يقال : بما أنّ الموضوع له اتّحاد المبدأ مع الذات والذات الموصوفة بمعنى

٢١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

المشتق باقية ، فيكون إطلاق المشتق (الموضوع لجهة الاتحاد) على موصوفه بنحو من المجاز والعناية ، وهذا النحو من العناية يمكن في معنى المبدأ أيضا ، فإنّه مع عدم إمكان انطباقه على عدمه يمكن إطلاقه على الذات بنحو من العناية كقولنا : (زيد عدل).

نعم ، لو قيل بدخول الذات في معنى المشتق ، فللنزاع في أنّه موضوع لخصوص المتلبّس أو للأعمّ مجال ؛ إذ الركن الوطيد والثابت بناء على تركّب معناه مفروض ، ويمكن أن يكون تلبّسه بالمبدإ كالحيثية التعليلية في صدق المشتق بأن تكون فعلية التلبّس في الذات موجبة لصدق معنى المشتق عليها ، ولو بعد انقضاء المبدأ عنها.

ثمّ إنّه قدس‌سره عدل عن هذا أيضا وبنى على عدم إمكان وضع المشتق للأعمّ ، حتّى بناء على تركّب مفهومه ، وذكر في وجه ذلك : أنّ الموضوع له لا يمكن أن يكون الذات بإطلاقها ، ضرورة أنّ من اللازم أخذ قيد فيها ، وهذا القيد لا يكون هو المبدأ ، فإنّه ـ بما هو مبدأ ـ أجنبي عن الذات ، بل لا بدّ من لحاظ نسبة ما ـ ولو كانت ناقصة ـ بين المبدأ والذات ، وتكون تلك النسبة جهة اتّحاد المبدأ مع الذات ، ومن الظاهر أنّ جهة الاتّحاد لا تكون إلّا في مورد فعلية التلبّس ، والذات المنقضي عنها المبدأ لا تتحد مع المبدأ إلّا بلحاظ التلبّس وفعلية المبدأ.

وإن شئت قلت : الذات ـ بعد انقضاء المبدأ عنها ـ خالية عن المبدأ ، فكيف تتّحد معه والمبدأ في مورد التلبّس موجود ومتحد مع الذات ، ولا يمكن وضع المشتق للجامع بينهما ، حيث لا جامع بين الوجود والعدم ، نعم يمكن تصوّر الجامع بينهما بإدخال الزمان في معنى المشتق ، بأن يكون الموضوع له هي الذات المتحدة مع المبدأ في غير الزمان المستقبل ، وهذا يوجب دلالة الأسماء على الزمان ، مع أنّ

٢٢٠