دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

القيد على ذلك المتعلّق ، فإذا دار القيد بين كونه أقلّ أو أكثر يؤخذ بالمقدار الثابت من التقييد ويؤخذ في غيره بالإطلاق.

وما تقدّم سابقا من تحديد الصلاة بالأركان أو بمعظم الأجزاء والشرائط في ناحية الأقلّ وأنّه لا يوجب المجاز عند إرادة الكل فليس المراد منه استعمال لفظ الصلاة بمجرّده في المجموع التامّ ، بل المراد استعماله فيه بنحو تعدّد الدال والمدلول ، ولكن مع ذلك يكون تطبيق المسمّى على التامّ كتطبيق الكلام على ما ذكر معه من متعلّقات الفعل والفاعل حقيقة.

لا يقال : نفس العلم الإجمالي بورود القيود على المطلق ودورانها بين القليلة والكثيرة يوجب إجمال الخطاب ، حتّى لو بني على إرادة المقيّد من المطلق بنحو تعدّد الدالّ والمدلول ، وأنّه لا يوجب استعمال نفس اللفظ الدالّ على المطلق في المقيد.

فإنه يقال : العلم الإجمالي لا يوجب الإجمال فيما إذا كان المعلوم بالإجمال معلوما بوجه آخر ، كما إذا علم أنّ المطلق قد ورد عليه التقييد بخطابات مستقلّة ، بحيث نحتمل أن لا يكون في البين قيد آخر غير ما في تلك الخطابات ، وفي مثله يرجع عند الشكّ في قيد آخر لم يقم عليه خطاب مستقلّ ، إلى إطلاق الخطاب ، ولذا يتمسّك بخطاب «أحلّ البيع» في موارد الشكّ في شرطيّة شيء للبيع ، مع العلم بأنّ البيع قد ورد عليه في الشرع قيود.

وأمّا إذا لم يكن للمعلوم بالإجمال وجها معلوما ، فمجرّد العلم ببعض القيود لا يكفي لخروج الخطاب عن الإجمال ، بل عن الإهمال ، حيث إنّه مع العلم بعدم

١٤١

وقد انقدح بذلك : إنّ الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال [١] في موارد إجمال الخطاب أو إهماله على القولين ، فلا وجه لجعل الثمرة هو الرجوع إلى البراءة على

______________________________________________________

إرادة الإطلاق وعدم نصب خطاب للقيد يعلم أنّ المتكلّم لم يكن في مقام البيان من جهة القيود ، وهذا التفصيل يختصّ بباب الإطلاق ولا يجري في العامّ الوضعي ، حيث إنّ ظهوره في إرادة كلّ فرد بالوضع ولا يرفع اليد عن ظهور العامّ إلّا في الأفراد التي يعلم بعدم إرادتها ثبوتا ويؤخذ بالظهور في غيرها.

وأمّا دعوى الإجمال في الخطابات حتّى على الأعميّ ، بدعوى العلم بأنّ للشارع غرضا واحدا من الصلاة وغيرها من العبادات ، ولا يعلم حصوله بالاكتفاء بالمتيقّن من القيود ، فواضحة الفساد فإنّ على المتكلّم التكلّم بنحو يحصل الغرض بالإتيان بمتعلّق أمره ، ومع الإطلاق يدفع دخالة المشكوك في غرضه ، نعم ربّما يناقش بمسألة الغرض الواحد في الرجوع إلى أصالة البراءة في موارد الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة ، وهذا غير المفروض في المقام ، فإنّ الكلام في المقام في التمسّك بالإطلاق ويأتي في بحث الأقلّ والأكثر الارتباطيين عدم صحّة المناقشة المزبورة وأنّ العلم بالغرض من تعلّق الأمر لا يمنع عن الرجوع إلى أصالة البراءة الشرعيّة.

[١] يعنى بما أنّ موارد إجمال الخطاب في ناحية متعلّق التكليف أو إهماله داخلة في الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، يكون المرجع فيها أصالة البراءة أو الاشتغال على القولين ، وأنّه لا أساس لما ذكره صاحب القوانين قدس‌سره من أنّ ثمرة النزاع هو الرجوع إلى البراءة على الأعمّ وإلى الاشتغال على الصحيح (١).

والوجه في ذلك ، أنّه لو قيل بانحلال التكليف المعلوم بالإجمال في مقام

__________________

(١) قوانين الأصول : ٤٠.

١٤٢

الأعم ، والاشتغال على الصحيح ، ولذا ذهب المشهور إلى البراءة ، مع ذهابهم إلى الصحيح.

وربما قيل بظهور الثمرة في النذر أيضا.

______________________________________________________

الثبوت إمّا انحلالا وجدانيّا أو حكميّا يكون المرجع عند دوران أمر المتعلّق بين الأقل والأكثر هي البراءة وإذا بني على عدم الانحلال حقيقة ولا حكما يكون المرجع قاعدة الاشتغال بلا فرق بين القولين.

وذكر المحقّق النائيني قدس‌سره انتصارا لصاحب القوانين أنّ الصحيحيّ لا يمكنه الرجوع إلى البراءة عند الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته لمتعلّق التكليف ، بل عليه الالتزام بالاشتغال ، وذلك لأنّ الصحيحي لا بدّ له من الالتزام بأخذ جامع بسيط خارج عن نفس الأجزاء والشرائط يكون ذلك الجامع معنى لفظ الصلاة مثلا ، والجامع المزبور إمّا مأخوذ من ناحية الأثر للأفراد الصحيحة ، أو من ناحية عللها ، ومع أخذ ذلك الجامع في متعلّق التكليف يكون صدق المعنى على الفاقد للمشكوك غير محرز ، فلا بدّ من إحراز صدق ذلك العنوان عليه لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في المحصّل ـ بالكسر ـ ، وما حكي عن المشهور من ذهابهم إلى البراءة في تلك المسألة مع ذهابهم إلى القول بالصحيح في المقام ، يحمل على الغفلة منهم أو تخيّلهم عدم أخذ العنوان البسيط معنى ، للفظ الصلاة (١).

أقول : لا يمكن المساعدة على الانتصار فإنّ مجرّد كون العنوان البسيط معنى للفظ الصلاة لا يجعل المورد من موارد الشكّ في المحصّل ليجري الاستصحاب في ناحية عدم حصول المحصّل ـ بالفتح ـ بالاكتفاء بالأقلّ ، أو تجري قاعدة الاشتغال

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ٤٥.

١٤٣

قلت : وإن كان تظهر فيما لو نذر لمن صلى إعطاء درهم في البرء فيما لو أعطاه لمن صلى ، ولو علم بفساد صلاته ، لإخلاله بما لا يعتبر في الاسم على الأعم ، وعدم

______________________________________________________

في ناحية التكليف المتعلق به.

وبتعبير آخر : الموجب لجريان الاستصحاب أو قاعدة الاشتغال اختلاف متعلّق التكليف مع المشكوك فيه وجودا ، بحيث يكون متعلّق الشكّ وجودا آخر ، مغايرا لمتعلّق التكليف ، وإذا فرض أنّ العنوان المتعلّق به التكليف ينطبق على نفس المركّب المشكوك انطباق العنوان على معنونه والأمر الانتزاعي على منشئه ، ففي مثل ذلك يكون المطلوب حقيقة هو ذلك المعنون لا العنوان ، كما هو الحال في تمام موارد العنوان الانتزاعيّ ، والمعنون بما أنّه مردّد بين الأقل والأكثر ، فيجري الكلام في انحلال التكليف المتعلّق به ثبوتا ولو بعنوان انتزاعي ، وتفصيل الكلام في بحث الأقلّ والأكثر الارتباطيّين إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ ما تقدّم من لزوم الاحتياط عند الشكّ في المحصّل ـ بالكسر ـ قد يقال باختصاصه بغير المحصّلات الشرعيّة ، وأمّا المحصّلات الشرعيّة ، فيمكن أن يقال فيها بجواز الاقتصار على الأقلّ المحرز من أجزائها وشرائطها في موافقة التكليف المتعلّق بالمحصّل ـ بالفتح ـ وذلك لأنّ المحصّل ـ بالفتح ـ في حقيقته حكم شرعيّ واعتبار للشارع ، فالتكليف لا يتعلّق به وإنّما يتعلّق بما هو فعل المكلّف ، فمثلا إذا فرض أنّ الطهارة من الخبث أمر يوجد بغسل الثوب والبدن ، ففيما إذا شكّ في حصولها بالغسل مرّة أو مرّتين ، حيث أنّ التكليف في الحقيقة متعلّق بما هو الموضوع لها ، يعني الغسل ـ فلا بأس بجريان البراءة عن وجوب الغسل مرّة ثانية ، وهذا بخلاف المحصّلات الخارجية ، فإنّ متعلّق التكليف فيها يعني المسبّب ـ بالفتح ـ غير مشكوك فيه والمشكوك سببه.

١٤٤

البرء على الصحيح ، إلّا أنّه ليس بثمرة لمثل هذه المسألة [١] ، لما عرفت من أنّ ثمرة المسألة الأصولية ، هي أن تكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الأحكام الفرعية ، فافهم.

______________________________________________________

ولكن لا يخفى أنّ لهذا الكلام وجها إذا أريد بالمحصّل الشرعي ـ بالفتح ـ مجرّد الحكم الشرعي الداخل في الحكم الوضعي ، وكان ذلك متعلّق التكليف الإلزامي ، وأمّا إذا أريد منه الأمر الواقعيّ الذي كشف عنه الشارع أو كان ذلك المعتبر قيدا لما هو متعلّق التكليف الإلزامي ، كما في الأمر بالصلاة المقيّدة بالطهارة ، فلا مجال إلّا للاشتغال وللكلام في ذلك مقام آخر.

[١] كأنّ نظره قدس‌سره إلى أنّ المسألة الأصوليّة هي التي يستنبط منها الحكم الشرعيّ الكليّ بواسطة مسألة من المسائل ، لا يوجب دخولها في علم الأصول إذا كان الحكم معلوما من الخارج لا مستنبطا من تلك المسألة ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ وجوب الوفاء على من نذر إعطاء درهم لمن صلّى ، حكم شرعي فرعيّ معلوم من الخارج ، وبمسألة الصحيح والأعمّ يعيّن مصداق موضوع وجوب الوفاء بهذا النذر ، إذ الصلاة الباطلة صلاة على الأعمّ ، ومن أتى بها فقد صلّى ، فيجب على الناذر إعطاء درهم ، ولكنّ ترتّب مثل هذه الثمرة على مسألة الصحيح والأعمّ لا يدخلها في علم الأصول.

ونظير ذلك ما ورد في الخطاب الشرعي من النهي عن صلاة الرجل وأمامه امرأة تصلّي ، فعلى الأعمّ يحكم ببطلان صلاة الرجل أو كراهتها ، حتّى فيما كانت صلاة المرأة غير تامّة من حيث الأجزاء والشرائط ، بخلافه على الصحيح حيث لا يحكم ببطلان صلاته أو كراهتها ، إلّا إذا كانت صلاتها صحيحة.

١٤٥

وكيف كان ، فقد استدل للصحيحي بوجوه :

أحدها : التبادر ، ودعوى أن المنسبق إلى الأذهان منها هو الصحيح ، ولا منافاة بين دعوى ذلك [١] ، وبين كون الألفاظ على هذا القول مجملات ، فإن المنافاة إنّما تكون فيما إذا لم تكن معانيها على هذا مبيّنة بوجه ، وقد عرفت كونها مبينة بغير وجه.

ثانيها : صحة السلب عن الفاسد ، بسبب الإخلال ببعض أجزائه ، أو شرائطه بالمداقّة ، وإن صح الإطلاق عليه بالعناية.

______________________________________________________

ولكنّ المناقشة ليست في محلّها فإنّ مسألة الصحيح والأعمّ ، لا تكون من المسائل الأصوليّة ؛ ولذا لم تجعل من مسائل علم الأصول ، بل ذكرت في مقدمة مسائل علم الأصول ، فتكون هذه المسألة من المبادئ التصوريّة لمسائله.

بيان ذلك : أنّ مسألة التمسّك بالإطلاق في استنباط الأحكام الشرعيّة سواء كان الشكّ في أصل التقييد أو في التقييد الزائد ، مسألة أصوليّة بلا فرق بين القول بأنّ مقدّمات الحكمة توجب ظهور المطلق في الاطلاق ، والقول بأنّ الاطلاق بحكم العقل ، وكلامنا في المقام في تعيين أنّ ألفاظ العبادات تعدّ من المطلق ليمكن التمسّك بإطلاقها فيما إذا وردت في الخطاب الشرعيّ وتمّت فيه مقدّمات الحكمة ، كما هو مقتضى قول بالأعمّ أو أنّها مجملة لا تدخل في المطلق.

فالمناسب أن يناقش بأنّ ثمرة النذر أو ثمرة صلاة الرجل لا تجعل المسألة من مبادئ المسائل الأصوليّة ، بل تجعلها من مبادئ المسائل الفقهيّة فلاحظ وتدبر ، ولعلّ الماتن رحمه‌الله أشار إلى ذلك في آخر كلامه بقوله «فافهم».

[١] وبتعبير آخر : معنى لفظ الصلاة وإن كان مجملا على القول بالصحيح وغير مبيّن من جهة أجزائها وشرائطها إلّا أنّ هذا الإجمال لا ينافي كون معناها مبيّنا من

١٤٦

ثالثها : الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص [١] والآثار للمسمّيات مثل (الصلاة عمود الدين) أو (معراج المؤمن) و (الصوم جنّة من النار) إلى غير ذلك ، أو نفي ماهيّتها وطبائعها ، مثل (لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب) ونحوه ، مما كان ظاهرا في نفي الحقيقة ، بمجرد فقد ما يعتبر في الصحة شطرا أو شرطا ، وإرادة خصوص الصحيح من الطائفة الأولى ، ونفي الصحة من الثانية ، لشيوع استعمال هذا التركيب في نفي مثل الصحة أو الكمال خلاف الظاهر ، لا يصار إليه مع عدم نصب قرينة عليه ، واستعمال هذا التركيب في نفي الصفة ممكن المنع ، حتى في مثل (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) مما يعلم أنّ المراد نفي الكمال ، بدعوى استعماله في نفي الحقيقة ، في مثله أيضا بنحو من العناية ، لا على الحقيقة ، وإلّا لما دل على

______________________________________________________

جهة أثرها ، ويكفي في الانسباق من اللفظ كون المعنى مبيّنا ولو من جهة ، هذا بالإضافة إلى التبادر ، وأمّا صحّة السلب ، فيكون مقتضاها عدم السعة في معنى مثل لفظ الصلاة ، بحيث يعمّ الأفراد الفاسدة.

أقول : للمناقشة في كلّ من التبادر وصحّة السلب مجال واسع كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

[١] لا ينبغي التأمّل في أنّ الآثار المحمولة على العبادات لا تعمّ الأفراد الفاسدة ، إلّا أنّ عدم شمولها إمّا لكون مسمّياتها المعاني الصحيحة ، كما هو مقتضى القول بالصحيح ، أو بتقييد مسمّياتها بالقيود ، كما هو مقتضى القول بالأعمّ ، فيكون المقام من صغريات ما إذا علم المراد وأحرز أنّ الحكم الجاري على المطلق لا يعمّ شيئا ، ودار الأمر بين خروجه عن الاطلاق بالتقييد وبين عدم كون المطلق شاملا له بحسب معناه الوضعي ، ففي أمثال ذلك لا تجري أصالة الإطلاق أو الحقيقة وغيرها ، كما أنّ الأخبار النافية للحقيقة عند فقدان جزء أو شرط مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا صلاة إلّا

١٤٧

المبالغة ، فافهم.

رابعها : دعوى القطع بأنّ طريقة الواضعين وديدنهم ، وضع الألفاظ للمركبات التامة ، كما هو قضية الحكمة الداعية إليه ، والحاجة وإن دعت أحيانا إلى استعمالها في الناقص أيضا ، إلا أنّه لا يقتضي أن يكون بنحو الحقيقة ، بل ولو كان مسامحة ، تنزيلا للفاقد منزلة الواجد.

والظاهر أنّ الشارع غير متخط عن هذه الطريقة.

ولا يخفى أن هذه الدعوى وإن كانت غير بعيدة ، إلا أنّها قابلة للمنع [١] ، فتأمل.

______________________________________________________

بفاتحة الكتاب» (١) إرشاد إلى جزئيّة القراءة في الصلاة المأمور بها ، والأمر دائر بين كون أخذها في متعلّق الأمر بالتقييد ـ ونفي الصلاة عن فاقدها بحسب مقام الامتثال فقط ـ كما هو مقتضى القول بالأعمّ وكون النفي بحسب مقام الامتثال والتسمية كما هو مقتضى القول بالصحيح ، ولا مجال لأصالة الإطلاق أو الحقيقة أو لغيرهما من الأصول مع العلم بالمراد ، ولعله قدس‌سره يشير إلى ذلك في آخر كلامه بقوله «فافهم».

هذا مع الإغماض عمّا تقدّم من أنّ مثل قوله سبحانه (الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(٢) أو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ عمود الدين الصلاة» (٣) يراد به الصحيح في مقام الامتثال لا الصحيح في مقام التسمية.

[١] ووجه كونها قابلة للمنع ، أنّه لم يثبت أنّ الواضع يضع اللفظ ابتداء بإزاء ذلك التامّ ، بل يضع اللفظ للأعمّ منه وممّا يختلف معه في الجملة كما تقدّم سابقا ، هذا أوّلا.

__________________

(١) غوالي اللئالي : ١ / ١٩٦ ، الفصل التاسع ، الحديث ٢.

(٢) سورة العنكبوت : الآية ٤٥.

(٣) الوسائل : ج ٣ ، باب ٨ من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث : ١٣ / ٢٣.

١٤٨

وقد استدل للأعمّي أيضا ، بوجوه :

منها : تبادر الأعم ، وفيه : أنّه قد عرفت الإشكال في تصوير الجامع [١] الذي لا بد منه ، فكيف يصح معه دعوى التبادر.

ومنها : عدم صحة السلب عن الفاسد ، وفيه منع ، لما عرفت.

ومنها : صحة التقسيم إلى الصحيح والسقيم.

وفيه أنّه إنّما يشهد على أنّها للأعم ، لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصحيح ، وقد عرفتها ، فلا بد أن يكون التقسيم بملاحظة ما يستعمل فيه

______________________________________________________

وثانيا إنّ ما ذكر إنّما يصحّ إذا كان المركّب التامّ واحدا ، فالحكمة في وضع الألفاظ تقتضي وضع اللفظ لذلك التامّ ؛ لكون غرض التفهيم يتعلق به غالبا ، بخلاف التامّ في المقام ، فإنّه يختلف بحسب الحالات والأشخاص والازمان وغيرها ، وإذا أمكن وضع اللفظ للجامع المركّب بين الأفراد فلا محالة يكون ذلك الجامع أعمّ يصدق على التامّ والناقص ، على ما تقدّم.

[١] قد تقدّم عدم الإشكال في تصوير الجامع المركّب على الأعمّ ، فليس في دعوى التبادر محذور من جهة الجامع ولا من سائر الجهات ، وكذا في دعوى عدم صحّة سلب المسمّى عن الفاسد. والمراد من صحّة التقسيم إلى الصحيح وغيره صحّته بحسب مسمّى اللفظ ، لا المسمى الذي تعلّق به التكليف ثبوتا ، أو الذي يقوم به الغرض ، فإنّ الصحيح بمعنى ما يقوم به الملاك والغرض يصحّ سلبه حتّى عن التامّ بحسب مقام التسمية ، والفاسد في مقام الامتثال ، ولو لعدم قصد التقرّب فيه ، وبالجملة معنى صحّة تقسيم المسمّى إلى الصحيح والفاسد هو أنّ المعنى المتفاهم من لفظ الصلاة مثلا إذا تحقّق في الخارج قد يتّصف بأنّه تامّ وقد يتّصف بأنّه ناقص ، فيقال : إنّ الصلاة إذا وقعت قبل وقتها تكون فاسدة ، وإذا وقعت بعده تكون صحيحة.

١٤٩

اللفظ ، ولو بالعناية.

ومنها : استعمال الصلاة وغيرها في غير واحد من الأخبار في الفاسدة [١] ، كقوله عليه الصلاة والسلام (بني الاسلام على خمس : الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، والولاية ، ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بأربع ، وتركوا هذه ، فلو أنّ أحدا صام نهاره وقام ليله ، ومات بغير ولاية ، لم يقبل له صوم ولا صلاة) ، فإنّ الأخذ بالأربع ، لا يكون بناء على بطلان عبادات تاركي الولاية ، إلّا إذا كانت أسامي للأعم. وقوله عليه‌السلام : (دعي الصلاة أيام أقرائك) ضرورة أنّه لو لم يكن المراد منها الفاسدة ، لزم عدم صحة النهي عنها ، لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها.

وفيه : أن الاستعمال أعم من الحقيقة ، مع أنّ المراد في الرواية الأولى ، هو خصوص الصحيح بقرينة أنّها مما بني عليها الإسلام ، ولا ينافي ذلك بطلان عبادة

______________________________________________________

[١] قد يقال : ظاهر جملة من الأخبار ، ومنها الخبر المنقول (١) إنّ الولاية شرط لقبول العمل في مقام إعطاء الأجر والثواب لا شرط لصحّته ، وعليه فلا يمكن الاستدلال بالخبر لكون عبادة المخالف صلاة على القولين.

أقول : يمكن الاستدلال بالخبر بتقريب آخر وهو أنّ الصلاة التي يأتي بها المخالف محكومة بالفساد للنقص في بعض أجزائها وشرائطها ، فإطلاق الإمام عليه‌السلام ذ الصلاة على عمل المخالف لا يكون إلّا بإرادة الأعمّ ، فينحصر الجواب عن ذلك بما ذكره الماتن قدس‌سره أخيرا ، ويمكن أن يقال : المراد بالأخذ ، الأخذ باعتقادهم فلا موجب للالتزام باستعمال الألفاظ في غير الصحيح أو في الأعمّ ، هذا مع الإغماض عمّا

__________________

(١) الوسائل : ج ١ ، باب ١ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث : ١ / ٧.

١٥٠

منكري الولاية ، إذ لعل أخذهم بها إنّما كان بحسب اعتقادهم لا حقيقة ، وذلك لا يقتضي استعمالها في الفاسد أو الأعم ، والاستعمال في قوله : (فلو أن أحدا صام نهاره) إلى آخره ، كان كذلك ـ أي بحسب اعتقادهم ـ أو للمشابهة والمشاكلة.

وفي الرواية الثانية ، الإرشاد إلى عدم القدرة على الصلاة ، وإلا كان الإتيان بالأركان ، وسائر ما يعتبر في الصلاة ، بل بما يسمى في العرف بها ، ولو أخلّ بما لا يضر الإخلال به بالتسمية عرفا. محرما على الحائض ذاتا ، وإن لم تقصد به القربة.

ولا أظن أن يلتزم به المستدل بالرواية ، فتأمل جيدا.

ومنها : أنّه لا شبهة في صحّة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة في مكان تكره

______________________________________________________

ذكرناه من أنّ الاستدلال بأصالة الإطلاق وأصالة الحقيقة لكشف كيفيّة الاستعمال لا يصحّ بعد معلومية المراد.

وأمّا الاستدلال على قول الأعمّي بنهي الحائض عن الصلاة أيّام أقراءها (١) بدعوى أنّ النهي كالأمر لا يتعلّق بغير المقدور ، والصلاة الصحيحة لا تتمكن منها الحائض ، لاشتراطها بالخلوّ من الحيض ، فنهيها عنها أيّام حيضها كاشف عن كون المراد بالصلاة الأعمّ ، فهو كما ترى ، إذ غاية الأمر يعلم بأنّ لفظ الصلاة في خطاب نهي الحائض مستعمل في الأعمّ بقرينة عدم إمكان نهيها عن الصحيحة ، ولا دلالة لها على كون الاستعمال على نحو الحقيقة ، هذا أوّلا.

وثانيا أنّ النهي المزبور ليس بتكليفي ليقال إنّه لا يتعلّق بغير المقدور ، بل إرشاد إلى عجزها عن الصلاة لاشتراطها بالخلوّ من الحيض ، ونتيجة ذلك أنّ حرمة الصلاة على الحائض تشريعيّة ، فإذا أتت بها تعليما لبنتها ، أو لغير ذلك من غير قصد

__________________

(١) الوسائل : ج ٢ ، باب ١٤ من أبواب الحيض ، ١ و ٢ و ٣.

١٥١

فيه [١]. وحصول الحنث بفعلها ، ولو كانت الصلاة المنذور تركها خصوص الصحيحة ، لا يكاد يحصل به الحنث أصلا ، لفساد الصلاة المأتي بها لحرمتها ، كما لا يخفى ، بل يلزم المحال ، فإنّ النذر حسب الفرض قد تعلق بالصحيح منها ، ولا يكاد يكون معه صحيحة ، وما يلزم من فرض وجوده عدمه محال.

______________________________________________________

الامتثال به لم تفعل حراما.

ودعوى كون النهي الإرشادي أيضا كالأمر الإرشادي لا يتعلّق بغير المقدور ، لا يمكن المساعدة عليها ، فإنّ الإرشادي لا يتعلّق بما أحرز عدم إمكانه لكونه لغوا محضا ، وأمّا تعلّقه بغير المقدور واقعا ، إرشادا إلى عدم قدرة من يتوجّه إليه النهي على متعلّقه ، فهو ليس بلغو ، كما في النواهي الارشاديّة العرفيّة.

[١] لا يخفى أنّ مرادهم نذر ترك صلاة النافلة ، أو الصلاة التي تكون من قبيل الواجب الموسع ، بحيث أمكن امتثال الأمر بها بإتيانها في غير الحمّام ، وأمّا نذر ترك الصلاة الواجبة التي ينحصر امتثال الأمر بها بالصلاة في الحمّام ولو كان الانحصار بسوء الاختيار ، فلا ينعقد ؛ لأنّ النذر المفروض مساو لنذر ترك الواجب ، فلا ينعقد.

وبتعبير آخر : نذر ترك الصلاة في الحمّام كنذر ترك الصوم في يوم عاشوراء يصحّ ويحصل الحنث بالصلاة فيه ، كحنث نذر ترك صوم يوم عاشوراء بالصوم فيه.

فالمذكور في كلامهم أمران : صحّة النذر المفروض ، وحصول الحنث بالفعل ، ويستدلّ على القول بالأعمّ بهذين الأمرين ، فإنّه على قول الصحيحيّ لا يمكن أن يحكم بانعقاد النذر المزبور ؛ وذلك لأنّ متعلّق النذر على ذلك القول ترك الصلاة الصحيحة في الحمّام ، والصلاة الصحيحة من جميع الجهات غير مقدورة مع نذر تركها ، فيلزم انتفاء النذر ، لأنّه يعتبر في انعقاد النذر كون متعلّقه مقدورا ، كما أنّه على قول الصحيحيّ لا يمكن الالتزام بحصول الحنث بالصلاة في الحمّام لكون تلك

١٥٢

قلت : لا يخفى أنّه لو صح ذلك ، لا يقتضي إلّا عدم صحة تعلق النذر بالصحيح ، لا عدم وضع اللفظ له شرعا ، مع أنّ الفساد من قبل النذر لا ينافي صحة متعلقة ، فلا يلزم من فرض وجودها عدمها.

ومن هنا انقدح أن حصول الحنث إنّما يكون لأجل الصحة ، لو لا تعلقه ، نعم لو فرض تعلّقه بترك الصلاة المطلوبة بالفعل [١] ، لكان منع حصول الحنث بفعلها بمكان من الإمكان.

______________________________________________________

الصلاة فاسدة ، لتعلّق النهي بها ولو بعنوان حنث النذر ويلزم من حصول الحنث بها عدم حصوله ، لأنّ المنذور ترك الصلاة الصحيحة وما يلزم من وجوده عدمه محال سواء كان نذرا أو حنثا.

والجواب عن هذا الاستدلال بأمرين :

الأوّل : أنّ ما ذكر من المحذور لا يثبت كون لفظ «الصلاة» وغيره من ألفاظ العبادات موضوعة للأعمّ ، بل غايته أنّ ما ذكر من المحذور قرينة على أنّ الناذر يريد بالصلاة في نذره ، معناها الأعمّ.

وهذا الجواب غير صحيح ؛ لأنّ للمستدلّ أن يدّعي أنّ من المقطوع به أنّ الناذر يستعمل لفظ «الصلاة» في المعنى الذي يستعمل اللفظ فيه في غير النذر.

والثاني : أنّ المراد بالصحيح عند الصحيحيّ ، هو التامّ من حيث الأجزاء والشرائط التي قرّرها الشارع لنفس الصلاة ، وأمّا فسادها من قبل النهي عنها ولو بعنوان آخر ، فلا يضرّ بالصحّة المأخوذة في مسمّى الصلاة ، فالمراد بالتامّ من الصلاة في قول الناذر هو الصحيح لو لا النذر ، ولذا لو صلّى الناذر في الحمّام وأبطل صلاته في الأثناء بالحدث أو بغيره لا يحصل الحنث بها.

[١] وحاصله ، أنّه إذا تعلّق النذر بترك الصلاة المطلوبة ، لتكون مطلوبة للشارع

١٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

بعد نذر تركها ، فيمكن أن يقال بعدم حصول الحنث بالصلاة في الحمّام ؛ لأنّ الصلاة الفاسدة لا تكون حنثا لذلك النذر.

وذكر في هامش الكتاب أنّ صحّة النذر المفروض مشكل ؛ لعدم إمكان الصلاة الصحيحة المطلقة ، بأن تكون مطلوبة بعد نذر تركها ، ويلزم من ذلك صحّة الصلاة في الحمّام لعدم انعقاد النذر وبقاء الصلاة في الحمّام على حكمها الأصلي.

أقول : لا ينبغي التأمّل في أنّ النذر يتعلّق بفعل الناذر أو تركه ، ولا يدخل فعل الغير في نذره ـ سواء كان فعل الشارع أو غيره ـ ولو نذر ترك الصلاة في الحمّام ، بحيث تكون تلك الصلاة مطلوبة وصحيحة حتّى بعد نذره ، بأن كان الوصف تقييدا في الصلاة المنذور تركها ، فالنذر محكوم بالبطلان ؛ لعدم تحقّق مثل تلك الصلاة ، نعم إذا كان وصفها بالصحّة والمطلوبية حتّى بعد النذر بتخيّل أنّ الصلاة في الحمّام لا تسقط عن المطلوبية والصحّة حتّى بعد النذر المفروض ، فالنذر صحيح ويحصل الحنث بصلاته في الحمّام ، فتدبّر.

١٥٤

بقي أمور :

الأول : إنّ أسامي المعاملات ، إن كانت موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة [١] للصحيحة أو للأعم ، لعدم اتصافها بهما ، كما لا يخفى ، بل بالوجود تارة وبالعدم أخرى ، وأما إن كانت موضوعة للأسباب ، فللنزاع فيه مجال ،

______________________________________________________

الصحيح والأعم في المعاملات :

[١] ذكر قدس‌سره أنّه لا يجري نزاع الصحيحيّ والأعميّ في ألفاظ المعاملات من العقود والإيقاعات بناء على كونها أسامي للمسبّبات حيث أنّ المسبّب لا يكون تامّا تارة وناقصا أخرى ، ليقع البحث في أنّ أسامي المعاملات موضوعة لخصوص التامّ أو القدر الجامع بينه وبين الناقص ، بل المسبّب أمر بسيط يتّصف بالوجود تارة ، وبالعدم أخرى.

نعم لو كانت الألفاظ موضوعة للأسباب ، فللنزاع المزبور مجال ، فإنّ الأسباب مركّبات لها أجزاء وقيود تكون بمجموعها موجبة لحصول المسبّب ، فيقع النزاع في ناحية الموضوع له بأنّه التامّ أو القدر الجامع.

وقد يقال بأنّه لا فرق في صحّة النزاع بين القول بأنّها موضوعة للأسباب أو المسبّبات ، فإنّ المسبّب هو الذي ينشئه الموجب أو الموجب والقابل ، ويقع مورد الإمضاء من العقلاء والشرع تارة ، ولا يقع مورد الإمضاء من العقلاء والشرع أخرى ، أو من الشرع خاصّة ثالثة ، فمثلا ملكيّة المبيع للمشتري بإزاء الثمن أمر ينشئه البائع ويقع مورد الإمضاء فيما كان البائع مالكا عاقلا رشيدا وكذا المشتري ، ولا يقع مورد الإمضاء حتّى عند العقلاء فيما كان البائع سكرانا أو صبيّا غير مميّز. وعلى ذلك فيمكن البحث في أنّ الملكية المنشأة الموضوع لها لفظ البيع هي الواقعة مورد الإمضاء من العقلاء والشرع ، أو أنّه موضوع لنفس الملكية المزبورة التي ينشئها

١٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

العاقد ولو لم تقع مورد الإمضاء ، أو أنّه موضوع لما تكون مورد الإمضاء من العقلاء خاصّة ، والحاصل الصحّة في المعاملات عبارة عن التماميّة بحسب الإمضاء ، لا من حيث الأجزاء أو الشرائط ، كما كان الأمر عليه في العبادات ، نعم لو كانت أسامي المعاملات موضوعة للأسباب فيمكن أن تكون الصحّة فيها بمعنى التماميّة من حيث الأجزاء والشرائط.

أقول : لا يخفى أنّه لا يمكن أن يكون الإمضاء الشرعي قيدا لمعنى البيع ، بل الإمضاء شرعا حكم شرعيّ يترتّب على البيع بمعناه العرفي وإلّا يكون قوله سبحانه (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) بمعنى إمضائه لغوا ، ولذا ذكرنا أنّه لا تحتمل الحقيقة الشرعيّة في ألفاظ المعاملات المتداولة عند العرف والعقلاء ، نعم ربّما يكون الموضوع للحكم الشرعي البيع الممضى شرعا كما في قوله عليه‌السلام : «البيّعان بالخيار حتّى يفترقا وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام» (١) ، وهذا لا يكون استعمالا للفظ البيع في الممضى شرعا ، بل إرادته بنحو تعدّد الدال والمدلول ، نظير ما تقدّم في أسامي العبادات فيما إذا ورد في الخطابات الأمر بها على قول الأعميّ.

وبالجملة الخطابات المزبورة لبيان حكم البيع بعد فرض إمضائه ، والنزاع المعقول في المعاملات ـ على تقدير كونها أسامي للمسبّبات ـ هو أنّ الموضوع له فيها المسبب في نظر العاقد مطلقا ولو لم يلحق به إمضاء العقلاء؟ أو أنّ الموضوع له خصوص ما يكون ممضي عند العقلاء؟ نظير ما ذكرنا في بحث البيع من أنّ إطلاق البيع بالمعنى المصدري ينطبق على فعل البائع إلّا أنّ انطباقه عليه في صورة تحقّق

__________________

(١) الوسائل : ج ١٢ ، باب ١ من أبواب الخيار ، الحديث : ١ / ٣٤٥.

١٥٦

لكنّه لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضا [١] ، وإنّ الموضوع له هو العقد المؤثّر لأثر كذا شرعا وعرفا. والاختلاف بين الشرع والعرف فيما يعتبر في تأثير

______________________________________________________

القبول من المشتري ، لا مطلقا.

وذكرنا أيضا أنّ إطلاق السبب والمسبّب في المعاملات أمر لا أساس له ، وليس في المعاملات سبب ولا مسبّب ، وإنّما يكون فيها الإنشاء بالمعنى المتقدّم ؛ لأنّ الإنشاء مقوّم لعنوان المعاملة فلا يطلق البيع على مجرّد الاعتبار النفساني بتمليك شيء بإزاء مال ، ما لم يبرز ، فالإبراز مقوّم للمعاملة سواء كان عقدا أو إيقاعا ، غاية الأمر كونه معاملة في العقود مشروط بقبول الطرف الآخر دون الإيقاع ، نعم هذا ما يسمّى عندهم بالمعاملة بمعناها المصدريّ ، وأمّا بمعناها الإسم المصدريّ فهو المعتبر المنشأ.

وعلى ذلك فلو كان في ناحية الإنشاء نقص فلا يكون في البين لا معاملة بمعناها المصدري ولا بمعناها الإسم المصدريّ ، هذا بناء على الصحيح ، وأمّا بناء على أنّ ألفاظها أسامي للأعمّ فيكون في البين منشأ ، ولكن فيه نقص ولو في ناحية إنشائه ، كما لا يخفى.

[١] ذكر قدس‌سره أنّه بناء على كون أسامي المعاملات موضوعة للأسباب ، فالموضوع له فيها ـ كالموضوع له في أسامي العبادات ـ هو العقد الصحيح ، أي المؤثّر للأثر المترقّب من تلك المعاملة ، بلا فرق بين استعمالات العرف والشرع ، واختلاف الشرع مع العرف في بعض القيود المعتبرة في العقد لا يوجب اختلاف المعنى ، بل المستعمل فيه عند كلّ من العرف والشرع العقد المؤثر لذلك الأثر ، غاية الأمر يمكن أن يرى أهل العرف العقد ـ ولو مع فقد بعض القيود ـ مؤثّرا ، ولا يرى الشرع ذلك ، فيكون الاختلاف بينهما في المحقّقات ومصاديق المعنى ، ويكون نظر

١٥٧

العقد ، لا يوجب الاختلاف بينهما في المعنى ، بل الاختلاف في المحققات والمصاديق ، وتخطئة الشرع العرف في تخيّل كون العقد بدون ما اعتبره في تأثيره ، محققا لما هو المؤثّر ، كما لا يخفى فافهم.

______________________________________________________

الشارع من قبيل تخطئته العرف في المصداق ، حيث يرى الموجود مع فقد ما يعتبر في تأثيره شرعا مؤثّرا.

وبيان ذلك : كما أنّ لفظ الخمر موضوع لمائع خاصّ يعرف بمسكريّته ، وإذا اعتقد أحد أنّ المائع الفلاني خمر ، واعتقد الآخر أنّه خلّ فاسد ، فلا يكون اختلافهما في معنى لفظ الخمر بل اختلافهما في مصداقه ، حيث إنّ الموجود الخارجي مصداق للخمر عند أحدهما وليس كذلك عند الآخر ، كذلك لفظ البيع مثلا ، فإنّه موضوع عند العرف والشرع للعقد المؤثّر في ملكيّة عين بعوض ، وعليه فمثلا الإيجاب من الصبيّ المميّز المراهق مع القبول من الطرف الآخر لو رآه العرف بيعا وحكم الشارع بفساده ، فمعناه أنّ الشارع لا يرى عقده مصداقا للبيع وحكمه بالفساد تخطئة للعرف.

وبالجملة فألفاظ المعاملات على تقدير كونها أسامي للأسباب ، موضوعة للتامّ أي المؤثّر في الأثر المترقّب عند العرف والشرع ، حيث إنّ الشارع لم يخترع للفظ البيع معنى واختلافهما من جهة بعض القيود ، إنّما هو في المصاديق لا في أصل المعنى.

أقول : التخطئة بمعناها المعروف لا يكون إلّا فيما كان للشيء مصداق واقعيّ بحيث يكون انطباقه عليه قهريّا وفي مثل ذلك يمكن أن يرى أحد أنّ الشيء الخارجيّ مصداق واقعيّ له ، ولا يراه الآخر كذلك ، كما مثّلنا لذلك بالخمر ، وأمّا الاعتباريّات التي يكون فيها الشيء مصداقا للمعنى بالاعتبار فمصداقيّته دائرة مدار

١٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

اعتبار المعتبر ، ولا معنى لتخطئة المعتبر فيها ، حيث إنّه يمكن أن يعتبر أحد شيئا مصداقا له ولا يعتبره الآخرون مصداقا له ، فمثلا يرى طائفة الفعل الخاصّ تعظيما ولا يراه الآخرون تعظيما ، ولا يكون في الفرض اعتبار إحداهما تخطئة للأخرى ، إذ ليس في البين واقع معيّن ليكون نظر إحداهما بالإضافة إليه خطأ ونظر الأخرى صوابا.

لا يقال : إذا ورد في خطاب الشارع (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) يحرز بعد تماميّة مقدّمات الإطلاق أنّ ما هو مصداق للبيع عند العرف هو تمام المؤثّر عند الشارع أيضا ، حيث إنّ الاستعمالات الشرعيّة في المعاملات جارية على المعاني العرفية ، كما يأتي ، فلو ورد بعد ذلك في خطاب «لا بيع في المكيل إلّا بالكيل» يكون هذا تخطئة ؛ لانكشاف أنّ المؤثّر عند العرف لا يكون مؤثّرا عند الشارع.

فإنّه يقال : التخطئة بهذا المعنى الذي مرجعه إلى الأخذ بالإطلاق قبل ورود خطاب التقييد ، وإلى رفع اليد عنه بعد وروده ، لا يكون مختصّا بباب المعاملات ، بل يجري في جميع الاطلاقات ، ولعلّه قدس‌سره يشير إلى ذلك في آخر كلامه بقوله «فافهم».

وعن المحقّق الاصفهاني قدس‌سره إنّ التخطئة ليست بلحاظ نفس الأمر الاعتباري ليرد أنّها لا تكون في الاعتباريّات ، بل بلحاظ الملاك والصلاح الموجب للاعتبار ، بحيث لو انكشف الواقع يرى العرف عدم الصلاح في اعتبارهم (١).

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ الصلاح في الاعتباريّات (يعني ما كان من قبيل الوضع لا التكليف بالفعل الخارجي) يكون في نفس الأمر الاعتباريّ ، وهو حفظ نظام

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ١٣٧.

١٥٩

الثاني : إنّ كون ألفاظ المعاملات أسامي للصحيحة ، لا يوجب إجمالها [١] ،

______________________________________________________

المعاش بين الناس ، ولكنّ الشارع قد يضيف إلى ذلك الصلاح في لحاظه أمرا آخر ، فيضيف قيدا آخر في اعتبار المعاملة لتمييز من يطيعه عمّن يعصيه ، أو لعلمه بعدم الصلاح في اعتبار المعاملة بدونه ، فعليه لا يكون اختلافه مع العرف في كلّ مورد تخطئة ولو بلحاظ الملاك ، كما لا يخفى.

[١] لا ينبغي الرّيب في عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة في ألفاظ المعاملات وأنّ الشارع لم يخترع فيها اصطلاحا ، بل جعل لها بمعانيها العرفية ، أحكاما امضاء كما في قوله سبحانه (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) ، أو تأسيسا ، مثل قوله عليه‌السلام «والخيار في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري» الحديث (٢) ، وأضاف إليها قيودا في إمضائها أو في ترتّب الحكم التأسيسي عليها ، وبعد البناء على ذلك وكون استعمالات الشارع تتبع الاستعمالات العرفيّة فيمكن التمسّك بخطاباتها عند الشكّ في اعتبار أمر آخر في إمضاء المعاملة ، أو بيان الحكم لها ، حتّى بناء على كونها أسامي للصحيحة ، وذلك لعدم إجمال الصحيح عند العرف كما كانت أسماء العبادات عندهم على الصحيحي ، وعلى ذلك فبعد إحراز مقدّمات الإطلاق كما هو الفرض ، يحرز أنّ الموضوع للإمضاء أو الحكم التأسيسيّ ، نفس تلك المعاملة عند العرف ، وإلّا كان على الشارع بيان القيد.

ولكن مع ذلك ، قد يناقش في التمسّك بإطلاق المعاملات عند الشكّ في كون شيء قيدا في إمضائها ، بدعوى عدم ورود الخطابات في مقام إمضاء الأسباب ، بل

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

(٢) الوسائل : ج ١٢ ، باب ١ من أبواب الخيار ، الحديث : ٥ / ٣٤٦.

١٦٠