دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

العاشر

أنّه وقع الخلاف في أن ألفاظ العبادات ، أسام لخصوص الصحيحة أو للأعم منها؟

وقبل الخوض في ذكر أدلة القولين ، يذكر أمور :

منها : إنه لا شبهة في تأتّي الخلاف ، على القول بثبوت الحقيقة الشرعية ، وفي جريانه على القول بالعدم إشكال.

وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره [١] : إنّ النزاع وقع ـ على هذا ـ في أنّ

______________________________________________________

الصحيح والأعمّ :

[١] ذكر قدس‌سره ما حاصله إنّ جريان البحث في الصحيح والأعمّ على القول بإنكار الحقيقة الشرعية ، والبناء على أنّ استعمال الشارع تلك الألفاظ في معانيها الشرعية كان بنحو المجاز يتوقّف على أمرين :

الأوّل : عدم ملاحظة الشارع العلاقة بين كلّ من الصحيح والأعمّ وبين المعاني اللغوية لتلك الألفاظ ، بل كانت الاستعمالات في أحدهما بملاحظة العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي ، واستعماله في الآخر منها بنحو سبك المجاز عن مجاز ، يعني بملاحظة العلاقة بينه وبين المعنى المجازي الأوّل.

والثاني : إثبات أنّه بعد فرض وحدة المجاز المسبوك عن المعنى اللغوي جرى ديدنه عند إرادة المعنى المسبوك من الحقيقة على الاكتفاء بنصب قرينة صارفة فقط ، وأنّه عند إرادة المعنى المسبوك عن المجاز كان ملتزما بنصب قرينة معيّنة عليه ونتيجة هذين الأمرين حمل كلامه على المسبوك من معناه اللغوى عند قيام القرينة الصارفة على عدم إرادته ، فللملتزم بالأمرين أن يتكلّم في المعنى الذي لاحظ

١٠١

الأصل في هذه الألفاظ المستعملة مجازا في كلام الشّارع ، هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الأعم ، بمعنى أنّ أيّهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء ، وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته ، كي ينزل كلامه عليه مع

______________________________________________________

الشارع العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي ، والذي جرت عادته عند إرادته على نصب قرينة صارفة فقط ، هل كان هو الصحيح أو الأعمّ ، ولكن لا يمكن لمنكر الحقيقة الشرعية والقائل بمجازية استعمالات الشارع إثبات هذين الأمرين ، إذ من المحتمل ملاحظة الشارع العلاقة بين كلّ من الصحيح والأعمّ ، وبين المعنى اللغوي في عرض واحد ، أو كان ديدنه نصب قرينة معيّنة لكلّ منهما.

وذكر بعض الأعاظم رضى الله عنه أنّه يكفي في جريان النزاع على القول بمجازية استعمالات الشارع إثبات أحد الأمرين المزبورين ، فإنّه لو ثبت سبك أحد المعنيين عن الحقيقة ، وسبك الآخر من المجاز ، كان كلامه عند قيام القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي ظاهرا في إرادة المسبوك من المعنى الحقيقي لا محالة ، كما أنّه لو قيل بأنّه كانت عادته على عدم نصب قرينة معيّنة لأحد المعنيين ، بل كان تفهيمه بالقرينة الصارفة فقط ، كان اللفظ ظاهرا فيه عند قيام القرينة الصارفة فقط ، حتّى مع ملاحظته العلاقة بين كلّ من المعنيين والمعنى اللغوي في عرض واحد (١).

أقول : لا يخفى ما فيه ، فإنّه كيف يكون ظهور اللفظ في أحد المعنيين بخصوصه بقيام القرينة الصارفة ، فيما إذا ثبت أنّ استعماله فيه كان بنحو سبك المجاز عن الحقيقة ، مع احتمال جريان عادته على نصب القرينة لتعيين كلّ منهما ، نعم لو ثبت الأمر الثاني من الأمرين لكفى في جريان النزاع ، ولا حاجة معه إلى اثبات الأمر

__________________

(١) نهاية الأفكار : ١ / ٧٣.

١٠٢

القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية ، وعدم قرينة أخرى معينة للآخر.

وأنت خبير بأنّه لا يكاد يصح هذا ، إلّا إذا علم أن العلاقة إنّما اعتبرت كذلك ، وأنّ بناء الشارع في محاوراته ، استقر عند عدم نصب قرينة أخرى على إرادته ، بحيث كان هذا قرينة عليه ، من غير حاجة إلى قرينة معينة أخرى ، وأنّى لهم بإثبات ذلك.

______________________________________________________

الأوّل.

وذكر المحقّق النائيني قدس‌سره النزاع بوجه آخر ـ بناء على كون استعمالات الشارع بنحو المجاز ـ وهو أن يكون النزاع في مقتضى الأدلّة الدالّة على الحقيقة عند المتشرّعة من التبادر وغيره ، وفي أنّها دالّة على كون الألفاظ حقيقة عند المتشرّعة في خصوص الصحيح أو في الأعم ، وحيث إنّ المعنى الحقيقي (أي المسمّى بلفظ الصلاة) عندهم كاشف عن المراد الشرعي عند الإطلاق الذي هو مجاز عنده ـ حسب الفرض ـ ، فإنّ منشأ هذه الحقيقة ذلك المجاز ، فيتعيّن بتعيينها (١).

ولا يخفى ما فيه أيضا ، فإنّه لا تكون ثمرة البحث مترتبة على ما ذكره ، وذلك لأنّه لو ثبت مثلا أنّ الحقيقة المتشرعية هي الأعم ، وعلم أيضا أنّ منشأ هذا استعمال الشارع اللفظ فيه مجازا ، فلا يمكن إثبات أنّ الشارع لم يكن يستعمل اللفظ في الصحيح أصلا ، ولو في بعض الأحيان ؛ ليكون المعنى الأعم متعينا في كلامه فيما إذا أحرزنا أنّه لم يرد في الاستعمال المزبور معناه اللغوي ، فإنّا نحتمل أن يكون صيرورة اللفظ حقيقة في الأعمّ عند المتشرّعة لشيوع استعمال اللفظ عندهم في المعنى الأعمّ من غير سبق هذا الشيوع في استعمالات الشارع بل كان ديدنه نصب القرينة

__________________

(١) فوائد الأصول : ١ / ٥٩.

١٠٣

وقد انقدح بما ذكرنا تصوير النزاع ـ على ما نسب إلى الباقلّاني [١] ـ وذلك بأن يكون النزاع ، في أن قضية القرينة المضبوطة التي لا يتعدى عنها إلّا بالأخرى ـ الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه ـ هو تمام الأجزاء والشرائط ، أو هما في الجملة ، فلا تغفل.

ومنها : أنّ الظّاهر أنّ الصحة عند الكل بمعنى واحد ، وهو التمامية ، وتفسيرها بإسقاط القضاء ـ كما عن الفقهاء ـ أو بموافقة الشّريعة ـ كما عن المتكلمين ـ أو غير ذلك ، إنّما هو بالمهم من لوازمها [٢] ، لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الأنظار ،

______________________________________________________

على إرادة كل منهما.

[١] وتقريره : أنّه بناء على المنسوب إلى الباقلّاني وإن كانت تلك الألفاظ مستعملة في كلام الشارع في معانيها اللغوية دائما وإنّما الخصوصيات التي لها دخل في المأمور به من الأجزاء والشرائط مستفادة من دالّ آخر ، إلّا أنّه لم تكن الدلالة عليها دائما بذكرها تفصيلا ، فلم يكن يقول دائما : صلّوا ، واركعوا ، واسجدوا ، وكبّروا ، إلى غير ذلك ، بل كان ينصب على تلك الخصوصيات دالّا يدلّ عليها بالإجمال ، أي بنحو دلالة لفظ الدار على أجزائها ، فيقع البحث في أنّ ذلك الدالّ عليها بالإجمال المعبّر عنه بالقرينة المضبوطة كان دالّا على عدّة منها كما في دلالة لفظ الصلاة عليها على القول بالأعمّ أو كان دالّا على جميعها ، كما لو قيل بوضعها للصحيح ، ولا يخفى أنّ هذا التصوير لم يعلم مما ذكره قبل ذلك ، فلا يظهر وجه لقوله قدس‌سره : «وقد انقدح بما ذكرنا».

[٢] لا يخفى أن إسقاط القضاء أو موافقة الشريعة وإن كانا من اللوازم ، إلّا أنهما من لوازم صحّة المأتيّ به ، بمعنى مطابقته لمتعلّق الأمر ، وكلامنا في المقام في صحّة المتعلق لا المأتيّ به ، حيث إنّ صحّة المأتي به تكون بعد تعلّق الأمر ، وفي مرحلة

١٠٤

وهذا لا يوجب تعدد المعنى ، كما لا يوجبه اختلافها بحسب الحالات من السفر ، والحضر ، والاختيار ، والاضطرار إلى غير ذلك ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

الامتثال ، والبحث في المقام في الصحّة التي تكون مأخوذة في المسمّى على مسلك الصحيحي والمتأخّر عن الأمر لا يؤخذ في متعلّقه ، فضلا عن أخذ لوازمه. وبتعبير آخر : مثل الصلاة مركب اعتباري وقوامه باعتبار معتبره ، فما يوجد من الأفراد يضاف إلى ذلك المركّب ، فإن كان شاملا لجميع المأخوذ فيه يكون تامّا ، وإن كان فاقدا لبعضها يكون فاسدا ، فيقع الكلام في المقام في أنّ الموضوع له للفظ الصلاة مثلا تمام ذلك المركّب بحيث يكون إطلاقها على الناقص بالعناية ، أو أنّ الموضوع له هو أصل المركّب الموصوف بالتمام تارة ، وبالناقص أخرى ، والصحّة بمعنى التمام والفساد بمعنى النقص لا تكون إلّا في المركّبات أو المقيّدات ، وبالجملة المحتمل اعتباره في الموضوع له ليس عنوان الصحّة أو الصحيح ، بل على تقدير الأخذ يكون المأخوذ في الموضوع له ، ما به يوصف بالصحّة والتمام.

وذكر المحقّق الاصفهاني قدس‌سره في تعليقته مناقشة أخرى في كلام الماتن قدس‌سره ، وحاصلها : أنّ موافقة الأمر أو إسقاط القضاء ليسا من لوازم الصحّة ، يعني التمامية ، بل تكون التمامية بهما حقيقة ، حيث لا حقيقة للتمامية إلّا التمامية من جهتهما ، ولا يمكن أن يكون اللازم متمّما لمعنى ملزومه ، وتمامية حقيقة الصحّة بهما كاشفة عن عدم كونهما بالإضافة إليها من قبيل اللازم بالإضافة إلى ملزومه ، فتدبّر (١).

ثمّ ذكر في الهامش في وجه التدبّر أنّ ما ذكر من عدم إمكان تمامية معنى الملزوم بلازمه إنّما هو في لوازم الوجود حيث إنّه لا يعقل فيه دخالته وتمامية

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٩٥.

١٠٥

ومنه ينقدح أنّ الصحة والفساد أمران إضافيان ، فيختلف شيء واحد صحة وفسادا بحسب الحالات ، فيكون تاما بحسب حالة ، وفاسدا بحسب أخرى ، فتدبر جيّدا.

______________________________________________________

ملزومه به ، وأمّا بالإضافة إلى عارض الماهيّة أي محمولها الخارج عنها مفهوما ، فيمكن أن يكون الشيء خارجا عن تلك الماهية ومع ذلك دخيلا في تماميتها وحصولها ، كالناطق بالإضافة إلى الحيوان ، حيث إنّه عارض للحيوان ولكن يكون به حصول الحيوان (١).

أقول : قد تقدّم أنّ التمامية إذا كانت وصفا للمأتيّ به ، فالمراد بها مطابقته لمتعلّق الأمر ، فيكون سقوط القضاء أو موافقة الأمر من آثار صحّة المأتيّ به ، وإذا كانت وصفا لما تعلّق به الأمر فالمراد اشتماله على جميع ما يوصف معه بالصحيح بمعنى التامّ ، وسقوط القضاء أو موافقة الأمر لا يرتبط بالمتعلّق وليسا من لوازمه ، فإنّه يوصف بالصحّة قبل تعلّق الأمر وفي مرحلة التسمية.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من التفرقة بين لوازم الوجود والماهية ، من أنّ عارض الوجود لا يدخل في معنى ملزومه ، ولكن عارض الماهيّة يمكن دخله في تماميتها ، فإن كان المراد من التمامية صيرورة الماهيّة نوعا فهو وإن كان صحيحا إلّا أنّ الكلام هنا في الدخول في معنى الملزوم ، كما لا يخفى ، وصيرورة الماهية نوعا وعدمها أجنبي عن مورد الكلام في المقام.

ثمّ إنّه قد يقال الصحّة في العبادة تغاير الصحّة في المعاملة أي ـ العقود والإيقاعات ـ ، حيث إنّ الصحّة في المعاملة بمعنى ترتب الأثر عليها خارجا والمعاملة الفاسدة لا يترتب عليها الأثر ـ أي الأثر المترقب من تلك المعاملة ـ.

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ١ ، هامش ٩٥.

١٠٦

ومنها : أنه لا بدّ ـ على كلا القولين ـ من قدر جامع في البين ، كان هو المسمى بلفظ كذا ، ولا إشكال في وجوده بين الأفراد الصحيحة [١] ، وإمكان الإشارة إليه

______________________________________________________

ووجه الفرق بين الصحتين هو أنّ الحكم المجعول للمعاملة بنحو القضية الحقيقية يكون انحلاليّا يثبت لوجودات تلك المعاملة ، فمعنى قوله سبحانه (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) ثبوت الحلية الوضعية لكلّ ما ينطبق عليه عنوان البيع خارجا ، فالبيوع التي لا تثبت لها تلك الحلية يعبر عنها بالفاسدة ، وهذا بخلاف التكاليف فإنّ الأمر لا يتعلّق بالوجود الخارجي للمتعلق ، فإنّه يكون من طلب الحاصل بل يتعلّق بالعنوان ومعنى الأمر به طلب صرف وجوده بالمعنى المصدري ، فالمأتي به إذا كان صرف وجوده يكون مسقطا للأمر به فينتزع الصحّة للمأتي به عن مطابقته للعنوان المتعلّق به الأمر بمعنى اشتماله على تمام ما اعتبر في ذلك المتعلق من الأجزاء والقيود.

ولكنّ الظاهر أنّ ترتّب الأثر ليس بمعنى الصحّة حتّى في المعاملة ، حيث إنّ كلامنا في الصحّة في مقام التسمية ، فيكون المراد من كون الفاظ المعاملات أسامي للصحيحة أو الأعمّ كونها موضوعة لما يكون جامعا لجميع ما يلاحظ في إمضائها أو أنّها موضوعة لما يلاحظ في إمضائها في الجملة ولو لم تكن جامعة لجميعها ، ولذا لو سئل أحد عن البيع الصحيح ، لأجاب بمقوماته بجميع قيوده ، وبهذا الاعتبار تتّصف المعاملة بالصحّة قبل تحققها ، نعم لا تكون الصحّة الفعلية إلّا إذا حصل ذلك الجامع الملحوظ خارجا بتمام قيوده الملازم لإمضائها ، وليس كلامنا في المقام في الصحّة الفعلية بل الصحّة في مقام التسمية.

[١] الاشتراك اللفظي في مثل لفظ الصلاة ، بأن يوضع اللفظ لكل ما يطلق عليه

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

١٠٧

بخواصه وآثاره ، فإنّ الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد ، يؤثر الكل فيه بذاك الجامع ، فيصح تصوير المسمّى بلفظ الصلاة مثلا : بالناهية عن الفحشاء ، وما هو معراج المؤمن ، ونحوهما.

______________________________________________________

الصلاة بوضع مستقل ، أو يوضع لها بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ غير محتمل ، كما يشهد بذلك خطور المعنى الواحد عند الاطلاق ، مع أنّ الثاني أيضا يستدعي وجود الجامع ولو بين الأفراد الصحيحة ، والتزم المصنف قدس‌سره بإمكان وجود الجامع بين الأفراد الصحيحة ، بل التزم بوجود الجامع المزبور لا محالة ، اعتمادا على قاعدة «الواحد لا يصدر إلّا من الواحد» حيث إنّ كلّ ما يطلق عليه الصلاة ويوصف بالصحّة له أثر واحد كما يفصح عن ذلك قوله سبحانه : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(١) ، وقوله عليه‌السلام ـ على ما ادّعي ـ : «الصلاة معراج المؤمن» (٢) ، حيث إنّ المؤثّر في الواحد يكون واحدا ، كما هو مقتضى لزوم السنخيّة بين الشيء وعلّته ، يمكن الإشارة في مقام الوضع إلى ذلك الجامع ولو بذلك الأثر ، فيوضع له لفظ الصلاة ، أو يستعمل فيه لفظها مجازا ، أو بنحو تعدّد الدالّ والمدلول.

ثمّ أورد قدس‌سره على ذلك ، بأنّ الجامع المزبور لا يمكن أن يكون مركّبا من الأجزاء والشرائط ، فإنّ كلّ ما يفرض من المركّب منها ، يمكن أن يكون صحيحا في حال وفاسدا في حال آخر ، لما تقدّم من اختلاف الصحيح بحسب الحالات والأشخاص ، وأنّ الصحيح في حال أو من شخص فاسد في حال آخر أو من شخص آخر. وكذا لا يمكن أن يكون الجامع المزبور أمرا بسيطا بحيث لا يصدق ذلك

__________________

(١) سورة العنكبوت : الآية ٤٥.

(٢) روضة المتقين : ٢ / ٦ ، لم نظفر على مصدر يدل على كون هذه الجملة من كلام المعصوم عليه‌السلام ، لعلّها من كلام المجلسي الأوّل قدس‌سره ، والله العالم.

١٠٨

والإشكال فيه : بأنّ الجامع لا يكاد يكون أمرا مركبا ، إذ كل ما فرض جامعا ، يمكن أن يكون صحيحا وفاسدا ، لما عرفت ، ولا أمرا بسيطا ، لأنّه لا يخلو : إما أن يكون هو عنوان المطلوب ، أو ملزوما مساويا له ، والأول غير معقول ، لبداهة استحالة أخذ ما لا يتأتّى إلّا من قبل الطلب في متعلقه ، مع لزوم الترادف بين لفظة

______________________________________________________

العنوان البسيط إلّا على الأفراد الصحيحة ، فإنّ البسيط إمّا عنوان المطلوب ، أو عنوان ملزوم لعنوان المطلوب ، وأما كون لفظ الصلاة موضوعا لعنوان المطلوب فغير معقول ؛ لأنّ هذا العنوان يحصل بعد تعلق الطلب بالصلاة ، ويستحيل أن يتعلق الطلب بعنوان يتوقّف على تعلّق الطلب به ، هذا مع عدم الترادف بين لفظ الصلاة ولفظ المطلوب ، وأمّا كون المسمّى عنوان المطلوب أو ملزومه المساوي له فلازمه أن لا تجري البراءة عند الشك في جزئية شيء أو قيديته للصلاة مثلا ، فإنّ الشكّ فيها لا يكون شكّا في نفس متعلّق التكليف ، بل فيما يحصل به ذلك المتعلّق ، والشكّ والإجمال فيما يحصل به المتعلّق مجرى قاعدة الاشتغال ، وبهذا يظهر أنّ المسمّى للصلاة على الصحيحي ، كما لا يمكن أن يكون عنوان المطلوب كذلك لا يمكن أن يكون ملزومه المساوي له ، فإنّه عليه أيضا لا يمكن أن تجري البراءة في موارد الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته لكون الشكّ في المحصل للصلاة.

وأجاب عن الإيراد ، بالالتزام بأنّ المسمّى عنوان بسيط ، ملزوم لعنوان المطلوب بعد تعلّق الأمر به ، والمعنى البسيط المنتزع بلحاظ الأثر الواحد يمكن أن ينطبق على المركّب بتمام أجزائه وقيوده ، لا أن تكون الأجزاء والقيود محصّلة له كما في عنوان (حافظ الإنسان من برودة الجوّ) فإنّ عنوان الحافظ ينطبق على البيت المركّب من الأجزاء بتمام شرائطه ، انطباق الكلي على مصداقه ، والإجمال في أجزاء المركّب المفروض وشرائطه عين إجمال ذلك العنوان بحسب وجوده ،

١٠٩

الصلاة والمطلوب ، وعدم جريان البراءة مع الشك في أجزاء العبادات وشرائطها ، لعدم الإجمال ـ حينئذ ـ في المأمور به فيها ، وإنّما الإجمال فيما يتحقق به ، وفي مثله لا مجال لها ، كما حقق في محله ، مع أنّ المشهور القائلين بالصحيح ، قائلون بها في الشك فيها ، وبهذا يشكل لو كان البسيط هو ملزوم المطلوب أيضا ـ مدفوع ، بأنّ

______________________________________________________

فيؤخذ عند الشكّ ، بالمقدار المتيقّن من المطلوب ، ويرجع في المشكوك إلى أصالة البراءة كان المشكوك جزءا أو شرطا وقيدا.

وإنّما لا يؤخذ بالبراءة فيما إذا كان متعلّق الأمر واحدا خارجيّا ، مسببا وجوده عن وجود مركّب مردّد أمره بين الأقل والأكثر ، كالطهارة من الحدث بناء على أنّها حالة للنفس تحصل من الغسل أو الوضوء ، وفي مثل ذلك إذا شكّ في كون شيء جزءا أو شرطا للوضوء أو الغسل ، فلا مورد للبراءة ، بل مقتضى استصحاب بقاء الأمر بالطهارة وقاعدة لزوم إحراز الامتثال بعد إحراز اشتغال الذمة بشيء ، لزوم الاحتياط.

أقول : يستفاد من كلامه قدس‌سره من صدره إلى ذيله أمور :

الأوّل : لزوم الجامع على كل من القولين ، الصحيحيّ والأعميّ.

الثاني : إنّ تحقّق الجامع بين الأفراد الصحيحة مقتضى البرهان ، يعني برهان لزوم السنخية بين الشيء وعلّته ، ويكون ذلك الجامع المستكشف بالبرهان هو الموضوع له على الصحيحي.

الثالث : إنّ الجامع المستكشف بمقتضى البرهان بسيط يتّحد مع الأجزاء والشرائط خارجا ، وملزوم لعنوان المطلوب ولو بعد تعلّق الأمر بذلك الجامع.

الرابع : إنّه من تعلّق الأمر بذلك الجامع البسيط عنوانا ، لا يلزم الاحتياط في موارد الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته وإنّما يجب الاحتياط فيما إذا كان للعنوان البسيط وجود خارجا مسبّب عن المركّب أو تردّد أمر المركّب بين الأقل والأكثر.

١١٠

الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات المختلفة زيادة ونقيصة. بحسب اختلاف الحالات ، متحد معها نحو اتحاد ، وفي مثله تجري البراءة ، وإنما لا تجري فيما إذا كان المأمور به أمرا واحدا خارجيا ، مسببا عن مركب مردد

______________________________________________________

أمّا الأمر الأوّل : فقد ناقش فيه المحقّق النائيني قدس‌سره ، وذكر ما حاصله أنّ للصلاة مراتب تكون أعلاها صلاة المختار ، وأدناها صلاة الغرقى ، وبينهما مراتب لها عرض عريض ، فيمكن القول بأنّ الصلاة وضعت للمرتبة الأعلى أوّلا وهي الصلاة الاختياريّة من جميع الجهات ، ثمّ إنّها استعملت وطبّقت على سائر المراتب بالادّعاء والتنزيل ، أو من باب الاكتفاء بها في سقوط التكليف ، من غير أن تكون فردا تنزيليا ، كما في صلاة الغرقى ، فإنّه يمكن أن لا تكون فردا تنزيليّا ، بل يكتفى بها في مقام الامتثال ، نظير ما ذكره الشيخ قدس‌سره في نسيان بعض أجزاء الصلاة وشرائطها ممّا لا يدخل في المستثنى من حديث «لا تعاد» ، حيث التزم بأنّ المأتي به خارجا المنسيّ بعض أجزائه أو شرائطه لا يعمّه متعلّق الأمر ، ولكن مع ذلك يسقط به التكليف بالصلاة.

نعم بالإضافة إلى صلاة المسافر والحاضر لكونهما في مرتبة واحدة وعرض واحد ، لا بدّ من فرض جامع بينهما.

والالتزام بأنّ لفظ الصلاة موضوع للمرتبة العليا ويستعمل فيها وتطبّق تلك المرتبة على سائرها بالادّعاء والتنزيل ، أو من باب الاكتفاء ، قريب جدّا. ويؤيّده جملة من الاستعمالات المتعارفة ، حيث يوضع اللفظ ابتداء لما اخترع أوّلا ، ثمّ يستعمل ذلك اللفظ في الناقص والمشابه له ، وعلى ما ذكر ينتفي النزاع بين الصحيحي والأعمّي من أساسه ؛ لأنّ ثمرة الخلاف كما يأتي تظهر في التمسّك بإطلاق خطابات العبادة ، فإنّه لا يجوز التمسك به عند الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته لمتعلق الأمر على الصحيحي لإجمال المتعلّق عندنا ، ويتمسّك بإطلاقه

١١١

.................................................................................................

______________________________________________________

على الأعمّي مع عدم وروده بنحو الإهمال ، وتنتفي هذه الثمرة بناء على وضع الصلاة للمرتبة العليا والالتزام بالتنزيل في سائر المراتب ، ووجه الانتفاء عدم إحراز التنزيل في الاستعمال الواقع في الخطاب بالإضافة إلى الفاقد ليؤخذ بالاطلاق (١).

أقول : لا يخفى ما فيه ، فإنّ الصلاة الاختيارية من جميع الجهات لا تنحصر بالقصر والتمام ، بل الصلاة اليومية وصلاة الآيات والجمعة والعيدين ، وغيرها من الصلوات حتّى المندوبة منها كلّها اختياريّة ، ولا تكون بعضها في طول الأخرى ، فلا بدّ من فرض الجامع بينها ، هذا أوّلا.

وثانيا : إنّ الوجدان شاهد صدق بأنّ إطلاق الصلاة وانطباق معناها على المراتب على حدّ سواء في عرف المتشرّعة ، وكما أنّ الصلاة مع الطهارة المائيّة صلاة ، كذلك مع الطهارة الترابيّة ، ومن هنا ينساق إلى الأذهان من مثل قوله سبحانه (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(٢) ومن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «بني الإسلام على خمس : على الصلاة ...» الحديث (٣) ، معنى يعمّ جميع أفرادها ، وعليه فاللازم تصوير الجامع بين جميع المراتب ، ولو كانت بعضها في طول الاخرى في مقام تعلّق الأمر بها ، وقد تقدّم منه قدس‌سره الالتزام بأنّ التبادر الفعلي كاشف عن كيفيّة وضع الشارع واستعماله في ذلك الزمان.

وثالثا : ما ذكره قدس‌سره من انتفاء ثمرة الخلاف فيما إذا شكّ في اعتبار شيء جزءا أو

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ٣٦.

(٢) سورة العنكبوت : الآية ٤٥.

(٣) الوسائل : ج ١ ، الباب ١ من أبواب مقدّمات العبادات.

١١٢

بين الأقل والأكثر ، كالطهارة المسببة عن الغسل والوضوء فيما إذا شك في أجزائهما ، هذا على الصحيح.

______________________________________________________

شرطا ، فهو فيما إذا شكّ في اعتبار أحدهما في سائر المراتب ، وأمّا إذا شكّ في اعتبار أحدهما في المرتبة العليا التي تعلّق بها الأمر ، فعلى الصحيحيّ لا يمكن التمسّك بإطلاق الخطابات ؛ لإجمال تلك المرتبة وعلى الأعمّي يصحّ مع عدم إهمال الخطاب.

وأمّا الأمر الثاني : فيقع الكلام فيه من جهتين ؛ الأولى : هل للصلوات الصحيحة أثر واحد يحدث بحصول كلّ منها؟ والثانية : على تقدير الأثر الواحد لها ، فهل يكشف ذلك الأثر عن جامع ذاتيّ بين الصلاة الصحيحة ، بحيث يكون التأثير لذلك الجامع لقاعدة «عدم إمكان صدور الواحد إلّا عن واحد» أم لا؟

أمّا الجهة الأولى ، فتظهر حقيقة الحال فيها بالتكلّم في معنى قوله سبحانه (الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(١) فنقول : ليس المراد من النهي النهي التشريعي قطعا ، فإنّ الناهي عن الفحشاء والمنكر هو الشارع سبحانه ، يقول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(٢).

وقد يقال : إنّ إسناد النهي عن الفحشاء والمنكر باعتبار أنّ الصلاة المتعلّق بها الأمر مقيّدة بقيود ـ من عدم السوء والمنكر ـ ، حيث إنّها مشروطة بإباحة المكان والثوب والساتر وعدم لبس الذهب للرجال وغير ذلك ، فيكون نهي الصلاة عن السوء بمعنى أخذ عدم ذلك السوء فيها ، فلا يكون عدم الفحشاء والمنكر أثرا خارجيّا مترتبا على الصلاة ترتّب المعلول على علّته ، لتكشف وحدته عن وحدة المؤثّر.

__________________

(١) سورة العنكبوت : الآية ٤٥.

(٢) سورة النحل : الآية ٩٠.

١١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن لا يخفى أنّ إرادة ذلك من نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر لا يناسب تعظيم الصلاة وحثّ المؤمنين على المواظبة عليها لكي لا تضيع ولو في وقتها ، بل الظاهر أنّ المراد من النهي ، المنع الخارجي المترتّب على المواظبة عليها والإتيان بما هو حقّها ، فإنّ الإتيان بها كذلك يقتضي أن لا ينقدح للمؤمن داع نفساني إلى السوء والمنكر ، نظير إسناد الأمر بالسوء والفحشاء إلى الشيطان في مثل قوله سبحانه : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ)(١) ، و (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢).

وبتعبير آخر : ترتّب الامتناع عن السوء على الصلاة إنّما هو في مرحلة امتثال الأمر بها ، حيث إنّ العبد إذا امتثل الأمر بها ، بالتدبّر بالقراءة والأدعية والأذكار المشروعة في أفعالها ، والتعمّق في الخشوع بها الوارد في الروايات بأنّ ذلك روحها تحصل للنفس حالة ترتقي بها عن الانحطاط المناسب للشرور والقبائح ، وبوصولها إلى بعض مراتبها الكمالية ، لا يحصل لها الداعي إلى ارتكاب الفحشاء والمنكرات الشرعية ويختلف هذا باختلاف مراتب الارتقاء الحاصل بمراتب الامتثال في الصلاة.

والحاصل إنّ منع الصلاة عن الفحشاء والمنكر ، إنّما هو لارتقاء النفس بها في بعض مراتب الامتثال ، الملازم لعدم ميل النفس إلى الشرور والقبائح ، أو لعدم تماميّة الداعي له إليها ، فيكون للصلوات الصحيحة جهة جامعة في مقام الامتثال ، وهي كون محتوى الأفعال والأذكار والقراءة والأدعية المشروعة فيها موجبة لتذكّر

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٦٨.

(٢) سورة البقرة : الآية ١٦٩.

١١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

العبد ربّ العالمين والتوجّه إلى عزّه وذلّ نفسه ، وتمتاز الصلاة بذلك عن سائر العبادات ، حيث لا يكون لها هذه المرتبة من التذكّر والخشوع ؛ ولذا عبّر عن الصلاة بالذكر في قوله سبحانه : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ)(١).

وأمّا الجهة الثانية : فمن الظاهر أنّ ترتّب هذا الأثر على الصلاة الصحيحة في مقام الامتثال لا يلازم الجامع لها بين الأفراد الصحيحة في مقام التسمية بالمعنى المتقدّم ، فإنّ الناقص أيضا لو كان مأمورا به وكان امتثال أمره ببعض مراتب الامتثال المراعى فيها الخشوع والتذكّر بمحتواها ، لحصل لها هذا المنع أيضا.

وبالجملة فليس المترتّب على الصلاة في مقام التسمية إلّا شأنيّتها للخشوع والتذكّر بها ، وهذا الأثر يشترك فيه في مقام التسمية التامّة والناقصة ، ولا تترتّب الشأنيّة على خصوص التامّ ، كما ذكرنا.

وأما ما ذكر من كون «الصلاة معراج المؤمن» فلم يحرز وروده في خطاب الشارع ليقال إنّ ترتّب العروج على الصلاة الصحيحة يكشف عن جامع بينها ، وعلى تقدير وروده أيضا يجيء فيه ما تقدّم في قوله سبحانه : (الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(٢) ، حيث إنّ عروج المؤمن عبارة أخرى عن ارتقاء نفسه إلى بعض المراتب الكماليّة ، كما لا يخفى.

وإن شئت البرهان على أنّه لا يمكن أن يكون في البين جامع ذاتي بين الأفراد الصحيحة ، فنقول : الأثر الوارد في الكتاب المجيد أو غيره يترتّب على ما يحصل

__________________

(١) سورة الجمعة : الآية ٩.

(٢) سورة العنكبوت : الآية ٤٥.

١١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

خارجا ويوصف بالصحّة ، ومن الظاهر أنّ الموجود خارجا مركب اعتباريّ أوّله التكبير وآخره التسليم ، فيعتبر فيه أفعال وأقوال من الأذكار والقراءة وسائر القيود المعبّر عنها بالشرائط ، ومن البديهي أنّ القراءة والذكر من مقولة ، والركوع والسجود والقيام من مقولة أخرى ، والطهارة من الحدث والخبث من مقولة ثالثة ، فالأثر المترتّب يترتّب على المجموع ، ولا يعقل جامع ذاتيّ بين مجموع هذه المقولات المتباينة ، وإذا لم يمكن الجامع الذاتيّ بين أجزاء صلاة واحدة ، بحيث يكون هو المؤثّر ، فكيف يمكن الجامع الذاتيّ بين الصلوات المختلفة؟ بل الجامع على تقديره يكون اعتباريّا ولو لوحظ خصوصيّة كلّ من الصلاتين ، فلا يمكن أخذ الجامع التركيبي أصلا فإنّ إحدى الصلاتين مشروطة بالركعة الأخرى مثلا والأخرى مشروطة بعدم تلك الركعة كصلاة الصبح وصلاة المغرب ، وأخذ الجامع فرع إلغاء الخصوصيتين ومع إلغائهما يكون ذلك الجامع منطبقا على الصحيح والفاسد ، لما تقدّم من أنّ الصحيح في حال ، فاسد في حال آخر.

وممّا ذكرناه يظهر وجه المناقشة فيما ذكره المحقّق الاصفهاني قدس‌سره في المقام ، حيث قال : إنّ تصوير الجامع في المقام على الصحيحيّ والأعميّ على نهج واحد ، وذلك فإنّ الماهية مع وجودها الحقيقي (الذي حيثية ذاته طرد العدم) متعاكسان في الاطلاق والسعة ؛ لأنّ الماهيّة سعتها وإطلاقها للضعف والإبهام ، وسعة الوجود الحقيقيّ لفرط الفعليّة ، ولذا كلّما كان الضعف والإبهام في المعنى أكثر ، كان الإطلاق والسعة والشمول فيه أكثر ، وكلّما كان الوجود أشدّ وأقوى ، كان الإطلاق والسعة أعظم وأتمّ ، فإن كانت الماهيّة من الماهيّات الحقيقية ، كان إبهامها وضعفها بلحاظ ذا الطوارئ والعوارض ، مع حفظ نفسها كالانسان ، فإنّه لا إبهام فيه من حيث الجنس

١١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والفصل ، وإنّما الإبهام فيه من حيث الشكل واللون وشدّة القوى وضعفها ، وسائر عوارض النفس والبدن حتّى عوارض الوجود والماهيّة ، وإن كانت الماهية من الأمور المؤتلفة من عدّة أمور بحيث تنقص وتزيد كمّا وكيفا ، فمقتضى الوضع لها بحيث يعمّها مع تفرّقها وشتاتها أن تلاحظ على نحو مبهم غاية الإبهام بمعرفيّة بعض العناوين غير المنفكّة عنها ، وكما أنّ الخمر مثلا مائع مبهم من حيث اتّخاذه من العنب والتمر وغيرهما ، ومن حيث اللون والطعم والريح ومن حيث مرتبة الإسكار والمقدار ، ولذا لا يمكن وضعه إلّا لمائع خاصّ ، بمعرفيّة المسكريّة من دون لحاظ الخصوصيّة تفصيلا ، بحيث إذا أراد المتصوّر تصوّره لم يوجد في ذهنه إلّا مائع مبهم من جميع الجهات إلّا جهة مائعيّته ، بمعرفيّة المسكريّة من دون لحاظ شيء آخر ، كذلك لفظ الصلاة مع الاختلاف الشديد بين مراتبها كمّا وكيفا ، فلا بدّ من أن يوضع لفظه لعمل يكون معرّفه النهي عن الفحشاء أو غيره من المعرّفات ، بل العرف لا ينتقل من سماع لفظ الصلاة إلّا إلى سنخ عمل خاصّ مبهم إلّا من حيث كونه مطلوبا في الأوقات الخاصّة ، وهذا لا يدخل في النكرة ، فإنّه لم يؤخذ فيه كما ذكرنا خصوصيّة البدلية كما أخذت في النكرة ، والحاصل أنّ الإبهام في معنى الصلاة غير الترديد المأخوذ في معنى النكرة ، والجامع بالنحو الذي ذكرناه لا مناص منه بعد الجزم بحصول الوضع للمعنى الشرعي ولو تعيّنا وعدم إمكان الالتزام بجامع ذاتيّ وعدم صحّة الالتزام بكون الموضوع له الجامع العنوانيّ أو الاشتراك اللفظي في مثل الصلاة.

وقال قدس‌سره : قد التزم بنظير ما ذكرنا بعض أكابر فنّ المعقول في تصحيح التشكيك في الماهية ، جوابا عمّا قيل بعدم إمكان شمول طبيعة واحدة لتمام مراتب الزائدة

١١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

والناقصة والمتوسطة ، مع الإغماض عن وجودها ، حيث قال : الجميع مشترك في سنخ واحد مبهم غاية الإبهام ، بالقياس إلى تمام نفس الحقيقة ونقصها زائدا عن الإبهام الناشئ فيه عن اختلاف الأفراد بحسب هويّاتها. وقال : إنّ ما ذكرناه في المركّب الاعتباري أولى ممّا ذكره في الحقائق المتأصّلة ، كما لا يخفى.

أقول : لعلّ نظره في الأولوية إلى أنّ الحقائق المتأصّلة لا يمكن فيها الإهمال بالإضافة إلى نفس الماهية ، فالماهيّة لا بدّ من كونها متعيّنة ، بخلاف المركّبات الاعتبارية ، فإنّه يمكن فرض الإبهام في معانيها (١).

ووجه ظهور المناقشة : أنّ ما قرّره في إبهام المعنى ، لا يخرج المعنى عن الجامع العنواني البسيط (الذي اعترف قدس‌سره في كلامه بأنّه لا يمكن أن يكون معنى الصلاة) حيث لو تبادر إلى أذهان المتشرّعة ذلك الجامع ولو بمعرفيّة النهي عن الفحشاء ، أو الوجوب في أوقات خاصّة مع فرض إبهامه من سائر الجهات ، فإن كان المتبادر عنوان العمل المبهم من جميع الجهات المعلومة ، بمعرفيّة النهي عن الفحشاء أو التكليف به في أوقات خاصّة ، فمن الظاهر أنّ عنوان العمل ، جامع عنواني وإن كان المتبادر واقع العمل ومصاديقه ، المعرّفة بالنهي عن الفحشاء والمنكر ، أو بالتكليف بها في أوقات خاصّة ، فمن الظاهر أنّ المصاديق مختلفة متعدّدة فيكون وضع اللفظ لها من الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

أضف إلى ذلك ، صدق الصلاة وشمول معناها للصلاة المندوبة التي ليس لها وقت ، وتبادر المعنى منها إلى أذهان المتشرّعة من غير أن يعرفوا علاميّة النهي عن

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ١٠١.

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الفحشاء ، وما هو المراد منه أصلا.

وما قيل من أنّ لفظ الصلاة ليس موضوعا لجامع ذاتيّ مقوليّ ، ولا لجامع عنوانيّ ، وإنّما هو اسم لمرتبة من الوجود ، وتلك المرتبة سيّالة في جميع الصلاة الصحيحة (١) ، لا يمكن المساعدة عليه أيضا ؛ إذ لو أريد أنّ الصلاة اسم للأجزاء المشروطة والمقيّدة المتحقّقة ، فمن الظاهر أنّ ما في الخارج وجودات متعدّدة تندرج في مقولات مختلفة ، تجمعها وحدة اعتباريّة ، وليست مرتبة من الوجود ، وإن أريد أنّ مع الوجودات المتعدّدة وجودا آخر يحصل بتلك المتعدّدات وتكون وحدتها بذلك الوجود ، نظير مرتبة من قوّة جرّ الثقيل الحاصلة من العشرة رجال أو الخمس عشرة نسوة ، أو رجلين ، أو غير ذلك.

وبتعبير آخر : الملاك الملحوظ يحصل من كلّ من الصلاة الصحيحة المختلفة بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال ، فمن الظاهر أنّ الملاك الملحوظ الواحد على تقدير وجوده غير محرز عند العرف فلا يمكن أن يكون نفس ذلك الملاك موضوعا له ، كما لا يمكن أن يكون الموضوع له ، ما هو دخيل في حصول ذلك الملاك ، فإنّه إن أريد ممّا هو الدخيل فيه عنوانه ، فيكون جامعا عنوانيا ، ولا يتبادر إلى الأذهان من لفظ الصلاة عنوان «الدخيل فيما هو ملاك عند الشارع» ، وإن أريد معنونه ، فقد تقدّم أنّ المعنون بذلك العنوان متعدّد ومختلف بحسب الحالات والأشخاص ، فيكون وضع اللفظ للمعنون من وضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

وبالجملة ، لا يتصوّر معنى لا يكون من الجامع الذاتيّ ولا من الجامع العنوانيّ

__________________

(١) نهاية الأفكار : ١ / ٨٢.

١١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

بحيث يكون معنى واحدا بسيطا ولا يتّصف بأحدهما ، وقد ذكرنا عدم معقولية الجامع الذاتيّ بين الأفراد الصحيحة ، فيتعيّن الجامع العنوانيّ البسيط ، وذكرنا أنّ كون الموضوع للفظ الصلاة مثلا هو العنوان البسيط خلاف المعنى المتبادر عرفا ، حيث لا يتبادر منها إلّا المشتمل على الأعمال الخاصّة.

وقد تحصل ممّا ذكرنا ، أنّ ما يمكن للقائل بوضع اللفظ للصحيح بحيث يساعده فهم المتشرّعة أن يدّعيه ، هو أنّ الشارع لاحظ التكبيرة والقراءة والركوع والسجود والتشهّد والتسليمة ، وبنى على أنّ كلّ عمل يشرّعه فيما بعد ويشتمل على جميع الأعمال المزبورة أو معظمها فنفس العمل المزبور بتشريعه هو معنى لفظ الصلاة مثلا ، سواء كان تشريعه بعد ذلك بالأمر الوجوبي أو الندبي ، فيكون التشريع شرطا لفعليّة وضع اللفظ لذلك العمل ، ويكون في الحقيقة لفظ الصلاة موضوعا بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، فإن كان العمل المؤلّف منها مشروعا في حال أو في حقّ شخص فهو صلاة في ذلك الحال أو من ذلك الشخص ، لا يكون صلاة في حال آخر ، أو في حقّ شخص آخر لعدم المشروعية فيهما. ولا ينافي ذلك تعلّق الأمر في خطاب تشريعه به بعنوان الصلاة ، فإنّ المفروض اتّحاد زمان التشريع مع الإطلاق على ما تقدّم.

١٢٠