دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-94850-2-7
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٧٧

١
٢

٣
٤

المدخل

أمّا المقدمة ففي بيان أمور [١].

[الأمر] الأوّل : أنّ موضوع كلّ علم [٢] ، وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ـ أي بلا واسطة في العروض ـ هو نفس موضوعات مسائله عينا ، وما يتّحد معها خارجا ، وإن كان يغايرها مفهوما ، تغاير الكلّي ومصاديقه ، والطبيعي وأفراده ،

______________________________________________________

[١] قد جرت سيرة المصنّفين على ذكر مقدمة قبل الشروع في مباحث العلم ومسائله ويتعرضون فيها لأمور ترتبط بالعلم ولا تكون من مسائله ، كبيان موضوع العلم وتعريفه وبيان الغرض والغاية منه ، وتبعهم على ذلك الماتن قدس‌سره وجعل لكتابه هذا مقدّمة وبيّن فيها أمورا كلّها خارجة عن مسائل علم الأصول ولكنّها ترتبط بها بنحو من الارتباط ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

موضوع العلم ومسائله :

[٢] المعروف عند القوم أنّه لا بدّ لكلّ علم من موضوع يبحث في مسائل العلم عن العوارض الذاتية لذلك الموضوع بأن تكون المحمولات المذكورة في

٥

.................................................................................................

______________________________________________________

مسائل العلم عوارض ذاتية له. وذكروا في تعريف العرض الذاتي : إنّه ما يعرض الشيء بلا واسطة أو مع الواسطة المساوية داخليّة كانت أو خارجيّة.

توضيح ذلك : أن العارض (يعني المحمول على الشيء بمفاد كان الناقصة) إمّا أن يكون بلا واسطة أصلا أو يكون معها ، وعلى الثاني إمّا أن تكون الواسطة داخلية أو خارجية.

فالواسطة الداخلية بالإضافة إلى ذيها تكون أعمّ أو مساوية ولا يمكن أن تكون أخص لأنّها جزء الشيء وجزئه لا يكون أخصّ منه ، حيث إنّه جنسه أو فصله ، فالعارض الشىء بواسطة فصله مثل ادراك الكلّيات والعارض للانسان بواسطة الناطق ، العارضة له بواسطة جنسه كالحركة القصدية العارضة بواسطة الحيوان. (ولا يخفى أنّ الحركة القصديّة غير الحركة الإراديّة حيث إنّ الحركة الإراديّة لا تكون في غير الإنسان من سائر الحيوانات).

الواسطة الخارجية تكون بالإضافة إلى المعروض مساوية أو أعم أو أخصّ أو مباينة ، والأوّل كعروض الضحك للإنسان بواسطة التعجب المساوي له حيث لا يوجد في غيره من سائر الحيوان ، والثاني كعروض الحركة القصدية للمتكلم بواسطة الحيوان ، والثالث كعروض إدراك الكلّيات للحيوان بواسطة الناطق ، والواسطة المباينة كالنّار في عروض الحرارة للماء وكالسفينة في عروض الحركة لجالسها. فهذه أقسام سبعة.

والعرض الذاتي منها ما يعرض الشيء بلا واسطة أو مع الواسطة المساوية داخلية كانت أو خارجية.

والغريب منها ما يعرض له بواسطة خارجية أعمّ أو أخصّ أو مباينة واختلفوا

٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فيما كان بالواسطة الداخلية الأعم (١). ولذلك وقعوا في إشكال لزوم خروج كثير من مباحث العلوم عن كونها مسائل لها فإنّ المحمولات في مسائلها لا تكون غالبا عارضة لموضوعاتها بلا واسطة أو مع واسطة مساوية داخلية أو خارجية ، مثلا المبحوث عنه في علم النحو في مسألة الفاعل رفعه ، وفي مسألة المفعول نصبه ، ونحو ذلك مع أنّ شيئا من الرفع والنصب لا يعرضان الكلمة بنفسها بل يعرضانها بوساطة الفاعل والمفعول وكل منها أخص من الكلمة التي هي موضوع هذا العلم (على ما هو المعروف) ، وكذا المبحوث عنه في علم الأصول ظهور صيغة الأمر في الوجوب مثلا مع أنّ النسبة بينها وبين صيغة الأمر في الكتاب المجيد ليست هي التساوي وهكذا.

توضيحه : إنّ في مسألة «صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب أم لا؟» يكون المبحوث عنه فيها مطلق صيغة الأمر ، وموضوع المسألة خصوص «صيغة الأمر في الكتاب» والمحمول فيها العارض له «ظاهر في الوجوب» فيعرض لموضوع المسألة الذي هو نوع بواسطة أعمّ ، أي الجنس وهو مطلق صيغة الأمر المبحوث عنها وليس هو الموضوع في المسألة لعدم كونه فردا لطبيعي موضوع العلم سواء كان الأدلة الأربعة أو ما يصلح أن يكون دليلا على الحكم الشرعي ، كما لا يخفى على المتأمّل ، بل الموضوع فيها صيغة الأمر في الكتاب أو السنة مثلا.

وذكر الماتن في المقام أمرين وكأنّه يندفع الإشكال بهما من أساسه :

أحدهما : أنّ موضوع العلم عين موضوعات مسائله خارجا ولا تغاير بينهما إلّا

__________________

(١) كتاب البرهان من الشفاء : الفصل الثاني من المقالة الثانية ص ١٣١ ؛ الأسفار : ١ / ٣٠.

٧

.................................................................................................

______________________________________________________

تغاير الكلّي مع أفراده.

وثانيهما : أنّ كل عرض لا يكون عروضه للشيء مع الواسطة في العروض هو عرض ذاتيّ له سواء لم يكن في عروضه له واسطة أصلا أو كانت بنحو الواسطة في الثبوت ، ولا يخفى أنّ الواسطة في العروض نظير ما في نسبة الحركة إلى جالس السفينة حيث إن المتحرك خارجا حقيقة هي السفينة ونسبتها إلى الجالس فيها بنحو من العناية وعلى ما ذكره قدس‌سره تكون تمام المحمولات في مسائل العلوم عوارض ذاتية لموضوعاتها فإنّه بعد كون الموضوع في علم النحو مثلا هي الكلمة (يعني اللفظ الموضوع لمعنى) وهي عين الفاعل في الكلام ، يكون الرفع المحمول على الفاعل محمولا على الكلمة بلا واسطة في العروض.

ثمّ إنّ المراد بالعارض هو المحمول لا العرض في مقابل الجوهر حيث إنّه ربّما لا يكون المحمول في المسألة عرضا كما في بعض مسائل علم الكلام «كقولهم «واجب الوجود عالم ، قادر ، بسيط» وكقولهم في الفقه «الماء طاهر» و «الخمر نجس» إلى غير ذلك.

وعلى ما ذكر يكون قوله رحمه‌الله (١) «هو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية» جملة معترضة لبيان تعريف موضوعات العلوم ، وقوله رحمه‌الله (٢) : «بلا واسطة في العروض» تفسير للعرض الذاتي وإشارة إلى الخلل فيما ذكروه في تعريفه من تقسيمهم العارض إلى سبعة أقسام وقولهم بأنّ أربعة منها عرض غريب.

__________________

(١) كفاية الأصول : ص ٧.

(٢) كفاية الأصول : ص ٧.

٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وقوله رحمه‌الله (١) : «نفس موضوعات مسائله» خبر «إنّ» يعني موضوع كل علم هو نفس موضوعات مسائله.

وقوله رحمه‌الله (٢) : «ما يتحد معها خارجا» معطوف على «موضوعات مسائله» يعني موضوع كل علم ما يتحد مع نفس موضوعات مسائله خارجا.

وقوله رحمه‌الله (٣) : «والطبيعي وأفراده» معطوف على «الكلّي ومصاديقه» والمراد من المعطوف والمعطوف عليه واحد.

وقد اتضح بما تقدّم أنّ ما يذكر موضوعا لبعض العلوم مما لا تكون نسبته إلى موضوعات مسائله من قبيل الكلّي والفرد خطأ في تشخيص الموضوع إذ لا تغاير بين موضوع العلم وموضوعات مسائله إلّا تغاير الكلي مع فرده كما مرّ (ويقتضيه البرهان المدّعى لإثبات لزوم الموضوع لكلّ علم). وعليه فما يقال من أنّ موضوع علم الطب مثلا هو بدن الإنسان وموضوعات مسائله الأعضاء المخصوصة ليس بصحيح لأن نسبة البدن إلى العضو نسبة الكلّ إلى الجزء لا الكلّي إلى الفرد فيكون الموضوع في علم الطب ما يعرضه المرض لا خصوص البدن.

ثمّ إنّ المعروف أنّ وجه التزام الماتن رحمه‌الله ومن تبعه بلزوم الموضوع للعلوم ، هو عدم إمكان صدور الواحد عن الكثير بدعوى أنّ الغرض من العلم واحد فاللازم صدوره عن واحد وهو الجامع بين موضوعات المسائل حيث إنّ الجامع بين

__________________

(١) كفاية الأصول : ص ٧.

(٢) كفاية الأصول : ص ٧.

(٣) كفاية الأصول : ص ٧.

٩

.................................................................................................

______________________________________________________

محمولاتها ينتهى إليه كما هو مقتضى قولهم كل ما بالعرض لا بدّ من أن ينتهي إلى ما بالذات.

أقول : ليس في كلامه قدس‌سره في المقام ما يشير إلى الموجب لالتزامه بذلك بل في كلامه ما ينافي الموجب المزبور حيث صرح في تداخل العلوم بإمكان غرضين متلازمين فيدوّن لأجلهما علم واحد ، ومقتضى القاعدة المزبورة عدم إمكان غرضين في علم واحد بل ولا إمكان ترتب غرضين على بعض مسائل العلم حيث إنّه من صدور الكثير عن واحد.

ثمّ إنّه قدس‌سره أضاف إلى تعريف علم الأصول «أو التي ينتهي إليها في مقام العمل» (١) وذكر في وجهه أنّه لا موجب لخروج مباحث الأصول العلمية وحجيّة الظن الانسدادي على الحكومة من مسائل علم الأصول ، ولو كان المهم الأصول هو التمكن من الاستنباط فقط لكان مقتضاه الالتزام بالاستطراد في تلك المباحث والحاصل إنّ لعلم الأصول غرضين ومع ذلك لا يخرج عن كونه علما واحدا وإرجاعهما إلى غرض واحد غير سديد ، لإمكان إرجاع الأغراض في جملة من العلوم إلى غرض واحد ككمال النفس مثلا.

والذي يخطر بالبال أنّ تعيين الموضوع للعلوم ، كذكر التعريف لمسائلها وبيان الغرض منها ، إنّما هو لتبصرة طالب تلك العلوم على ما يظهر بعد ذلك.

وكيف ما كان فإنّ أريد بالكلّي ، الجامع العنواني لموضوعات مسائله نظير سائر العناوين الانتزاعية حتّى من المتباينات في تمام ذواتها ببعض الاعتبارات فهذا

__________________

(١) كفاية الأصول : ص ٩.

١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الجامع كالحجر في جنب الإنسان في عدم دخله في كون تلك المسائل من العلم ، نعم لو بيّن بنحو حصل فيه الاطراد والانعكاس فهو يوجب معرفة موضوعات المسائل لطالب تلك المسائل.

وإن أريد به الجامع الذاتي ، بأن يكون الموضوع للعلم كالجنس أو النوع لموضوعات المسائل ، فلم يعلم وجه لزوم هذا الجامع ، والاستناد في لزومه إلى قاعدة عدم صدور الواحد عن كثير ، غير صحيح ؛ لما ظهر مما تقدم أنّ الغرض من العلم يمكن أن يكون واحدا عنوانيا أو واحدا مقوليا له حصص متعدّدة يصدر عن بعض المسائل حصة منه وعن بعض آخر حصته الاخرى من غير أن يكون فيما يصدر عنهما جامع ذاتيّ ، مثلا التمكن المترتب على العلم بمسألة من مسائل علم النحو ، غير التمكن المترتب على العلم بمسألة أخرى من مسائله فيكون العلم بمسألة رفع الفاعل موجبا للتمكن من حفظ اللسان عن الخطأ في التكلم بالفاعل ، وبمسألة نصب المفعول التمكن من حفظه عن الخطأ في التكلم بالمفعول وهكذا ، فيكون الغرض من علم النحو مستندا إلى مسائله بخصوصياتها.

ولا يخفى أنّ القاعدة المشار إليها بأصلها وعكسها (أصل القاعدة : «الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد». وعكس القاعدة : «الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد».) أسّسها أهل المعقول لإثبات وحدة الصادر الأوّل من المبدأ الأعلى.

وقد ذكر في محلّه أنها على تقدير تماميّتها لا تجري في الفعل بالإرادة ، بل موردها الفعل بالايجاب ، لإمكان صدور فعلين عن فاعل بالإرادة مع كونهما من مقولتين ، وبما أنّ الصادر من المبدأ الأعلى يعدّ من الفعل بالإرادة فلا شهادة لها بوحدة الصادر الأوّل.

١١

والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتّتة جمعها اشتراكها في الداخل في الغرض الذي لأجله دوّن هذا العلم [١]. فلذا قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل ، ممّا كان له دخل في مهمّين ، لأجل كلّ منهما دوّن علم على حدة ، فيصير من مسائل العلمين.

______________________________________________________

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنه لا وجه للالتزام بلزوم الموضوع للعلم كما ذكر ، كما لا وجه للالتزام بأنّه لا بدّ في مسائل العلم من البحث عن العوارض الذاتيّة لموضوعه فإنّه يصحّ جعل مسألة من مسائل العلم مع ترتب الغرض منه عليها حتّى ولو كان المحمول فيها من العوارض الغريبة لموضوع المسألة فضلا عن موضوع العلم ، أو لم يكن المحمول فيها من العوارض أصلا ، مثلا البحث عن الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته من مسائل علم الأصول بلا كلام مع أنّ المبحوث فيه الذي هو ثبوت الملازمة بين الايجابين ليس بحثا عن العوارض ، فإنّها ما يحمل على الشيء بمفاد «كان» الناقصة ، والبحث عن ثبوت الملازمة بحث عنه بمفاد «كان» التامة ، وكذا البحث عن اعتبار الإجماع مسألة أصولية ، مع أنّ حمل الاعتبار عليه على مسلك الأصحاب ـ بلحاظ كشفه عن قول المعصوم عليه‌السلام ـ حمله مع الواسطة في العروض وهو من العرض الغريب حيث يكون الاعتبار حقيقة لقول الإمام عليه‌السلام ، وإسناده إلى فتوى العلماء يكون بالعناية.

[١] في توصيف الغرض بقوله قدس‌سره : «الذي لأجله دوّن هذا العلم» إشارة إلى أنّه ليس المراد خصوص الثمرة المترتّبة على كل مسألة من مسائل العلم كما يترتب على مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي التمكّن من استنباط حكم الصلاة في الدار المغصوبة ، ولا يشاركها في هذه الثمرة غيرها من مسائل علم الأصول ، بل المراد الغرض الملحوظ للمدوّن ـ بالكسر ـ ابتداء أو ما يكون داعيا له إلى تدوين جملة من

١٢

لا يقال : على هذا يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما ، فيما كان هناك مهمان متلازمان في الترتّب على جملة من القضايا ، لا يكاد انفكاكهما.

فإنّه يقال : مضافا إلى بعد ذلك ، بل امتناعه عادة ، لا يكاد يصحّ لذلك تدوين علمين وتسميتهما باسمين ، بل تدوين علم واحد ، يبحث فيه تارة لكلا المهمّين ، وأخرى لأحدهما ، وهذا بخلاف التداخل في بعض المسائل ، فإنّ حسن تدوين علمين كانا مشتركين في مسألة ، أو أزيد في جملة مسائلهما المختلفة ، لأجل مهمّين ، ممّا لا يخفى.

وقد انقدح بما ذكرنا ، أنّ تمايز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين [١] لا الموضوعات ولا المحمولات ، وإلّا كان كل باب ، بل كلّ مسألة من

______________________________________________________

المسائل وتسميتها باسم واحد ، وقد تقدّم أنّ هذا الغرض ليس واحدا شخصيا بل واحد عنواني أو نوعي ذو حصص مختلفة.

تمايز العلوم

[١] وتقريره : لا ريب في أنّ كل مسألة من مسائل العلم لها موضوع ومحمول يغاير موضوع الأخرى ومحمولها ، مثلا مسألة ظهور صيغة افعل في الوجوب وعدمه ، وجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه ، وحجّية خبر العدل وعدمها ، كلّها من مسائل علم الأصول والموضوع والمحمول فى كلّ منها يغاير الموضوع والمحمول فى الأخرى ، وهذا الاختلاف بعينه موجود بين كل مسألتين من مسائل علمين ، مثلا مسألة رفع الفاعل غير مسألة ظهور صيغة الأمر في الوجوب بحسب الموضوع والمحمول فيقع السؤال عن وجه كون مسألة رفع الفاعل ، من مسائل النحو وعدم كونه مسألة ظهور صيغة افعل في الوجوب ، منها.

ولا يصحّ الجواب ، بأنّ ذلك لاختلاف المسألتين بحسب الموضوع أو المحمول ، فإنّ لازمه كون كل مسألة من مسائل علم النحو علما على حدة لأنّها

١٣

كل علم ، علما على حدة ، كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمّل ، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجبا للتعدّد ، كما لا يكون وحدتهما سببا لأن يكون من الواحد.

ثم إنّه ربما لا يكون لموضوع العلم ـ وهو الكلّي المتّحد مع موضوعات المسائل ـ عنوان خاص واسم مخصوص ، فيصحّ أن يعبّر عنه بكل ما دلّ عليه ، بداهة عدم دخل ذلك في موضوعيته أصلا.

______________________________________________________

مختلفة كذلك.

بل الصحيح هو القول بأنّ جامع مسائل علم النحو هو الغرض الملحوظ لمدوّن العلم ابتداء ، وحيث لم يكن ذلك الغرض مترتبا على مسألة ظهور صيغة الأمر في الوجوب ، فلم تجعل من مسائل علم النحو بخلاف مسألة رفع الفاعل ، وقد ظهر أنّ المراد بالتمايز هو التمايز عند تدوين العلم وأمّا تمايز العلوم عند المتعلّم ، فله طرق متعدّدة.

وبالجملة كلّ مسألة من مسائل العلم ، وإن كانت لها خصوصية واقعية ، تكون موجبة لترتّب ثمرة مخصوصة عليها إلّا أنّ تلك الخصوصية لا تكون موجبة لتمايزها عن مسائل العلم الآخر في نظر المدوّن بل المائز لها عنده هو الغرض الداعي إلى التدوين.

هذا كلّه فيما كان المهم من مسائل العلم أمرا مترتبا عليها بأن يكون العلم بتلك المسائل موجبا لحصوله وفي مثل ذلك يكون المهم المزبور المعبّر عنه بغرض التدوين جامعا لمسائل العلم ومميّزا لها عن مسائل علم آخر. وأمّا إذا لم يكن المهم كذلك بل كان المهم نفس معرفة تلك القضايا ، كما في علم التاريخ حيث إنّ المهم فيه معرفة أحوال الملل والبلاد وحوادثها في الماضي والحاضر ، يكون امتياز قضاياه

١٤

وقد انقدح بذلك أنّ موضوع علم الأصول هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله [١] المتشتّتة ، لا خصوص الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة ، بل ولا بما هي هي ، ضرورة أنّ البحث في غير واحد من مسائله المهمّة ليس من عوارضها ، وهو واضح لو كان المراد بالسنّة منها هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، كما

______________________________________________________

عن قضايا غيره بالموضوع ولو كان ذلك الموضوع أمرا واحدا عنوانا وجامعا مشيرا إلى موضوعات قضاياه.

موضوع علم الأصول :

[١] لا ينفع ما ذكره قدس‌سره في دفع الاشكال في المقام فانه يرد حتى بناء على ان موضوع علم الاصول ما ذكر. فإنّ البحث في مسألة مقدمة الواجب مثلا بحث في ثبوت الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته ، وهذا بحث عن مفاد «كان» التامة ، وحيث إنّ موضوع علم الأصول متّحد مع موضوعات مسائله خارجا يكون البحث المزبور بحثا عن ثبوت الموضوع وعدمه ، وليس هذا بحثا عن العوارض فضلا عن كونها ذاتية.

ثمّ إنّهم جعلوا موضوع علم الأصول الأدلّة الأربعة يعني (الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والعقل).

وأورد الماتن عليهم بأنّ ذلك يوجب خروج مبحث حجّية الخبر والتعارض بين الخبرين من المباحث الأصولية ، حيث إنّ خبر الواحد غير داخل في السنة ، يعني قول المعصوم وفعله وتقريره ، فلا يكون البحث عن عارض الخبر بحثا عن عوارض السنّة.

وقد أجيب عنه بأنّ المباحث المزبورة تدخل في مسائل علم الأصول بناء على أنّ المراد بالأدلّة ذواتها لا بما هي أدلّة ، لأنّ مرجع البحث عن حجّية الخبر إلى

١٥

هو المصطلح فيها ، لوضوح عدم البحث في كثير من مباحثها المهمّة ، كعمدة مباحث التعادل والترجيح ، بل ومسألة حجّية خبر الواحد ، لا عنها ولا عن سائر الأدلّة ، ورجوع البحث فيهما ـ في الحقيقة ـ إلى البحث عن ثبوت السنّة بخبر الواحد ، في مسألة حجّية الخبر ـ كما أفيد ـ وبأي الخبرين في باب التعارض ، فإنّه أيضا بحث في الحقيقة عن حجّية الخبر في هذا الحال غير مفيد فإنّ البحث عن ثبوت الموضوع ، وما هو مفاد كان التامّة ، ليس بحثا عن عوارضه ، فإنّها مفاد كان النّاقصة.

لا يقال : هذا في الثبوت الواقعي ، وأمّا الثبوت التعبدي ـ كما هو المهم في هذه المباحث ـ فهو في الحقيقة يكون مفاد كان الناقصة.

______________________________________________________

البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد ، أو ثبوتها بأيّ من الخبرين عند تعارضهما.

وقد ردّ الماتن قدس‌سره الجواب المزبور بأنّه غير مفيد ، فإنّ البحث عن ثبوت السنّة بالخبر أو بأحد المتعارضين بحث عن مفاد «كان» التامة أي بحث عن وجود السنّة به أو بأحدهما والبحث في المسائل لا بدّ أن يكون عن العارض لموضوع المسألة وما هو بمفاد «كان» الناقصة. هذا في الثبوت الواقعي يعني الحقيقي ، وأمّا الثبوت التعبدي بمعنى جعل الحجّة ، فهو وإن كان بحثا عن العارض إلّا أنّ الحجيّة لا تترتّب على السنة بل على الخبر الحاكي لها.

وبالجملة الثبوت الحقيقي ليس من العوارض ، والتعبدي بمعنى وجوب العمل به وإن كان من العوارض إلّا أنّه عارض للخبر لا السنّة.

ولا يخفى أنه لم يظهر معنى معقول لثبوت السنة بالخبر ، بأن يكون الخبر علّة لقول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره ، فإنّ الخبر على تقدير صدقه ، يكون كاشفا وحاكيا عنها. ولو أغمض عن ذلك فيمكن الجواب عن إشكال مفاد «كان» التامة بأنّ البحث عن معلولية السنّة للخبر بحث عن العارض وما هو مفاد كان الناقصة.

١٦

فإنّه يقال : نعم ، لكنّه ممّا لا يعرض السنّة ، بل الخبر الحاكي لها ، فإنّ الثبوت التعبدي يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر كالسنّة المحكية به ، وهذا من عوارضه لا عوارضها ، كما لا يخفى.

وبالجملة : الثبوت الواقعي ليس من العوارض ، والتعبدي وإن كان منها ، إلّا أنّه ليس للسنّة ، بل للخبر ، فتأمّل جيّدا.

______________________________________________________

نعم ، لا ينبغي التأمّل في أنّ البحث عن البراءة العقلية أو الاحتياط العقلي في الشبهة الحكمية بحث عن ثبوت الموضوع وهو حكم العقل.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من أمر الثبوت التعبدي ، فهو عارض للسنّة أيضا فإنّ الثبوت التعبدي عند الماتن قدس‌سره ليس إيجاب العمل بالخبر على ما ذكره في بحث اعتبار الخبر وغيره ، بل معناه تنزيل قول المخبر منزلة الواقع ، يعني قول المعصوم وفعله وتقريره (١) ، وهذا التنزيل سنخ من الحكم يضاف إلى المنزل (أي خبر العدل) ، وإلى المنزّل عليه (أي السنّة) ، وكما يمكن البحث في مسألة اعتبار الخبر أن يقع في أنّ قول المخبر العدل هل نزّل منزلة السنّة؟ فيكون البحث من عوارض الخبر الحاكي لها ، كذلك يمكن أن يقع البحث في أنّ السنة هل نزل عليها خبر العدل؟ فيكون البحث من عوارض السنّة.

نعم المعيار في كون المسألة من مسائل العلم ، هو عنوانها المذكور في مسائله لا ما هو لازم ذلك العنوان ، وإلّا كانت المسألة الأصولية فقهية ، والمسألة الفقهية كلامية ، فإنّ مرجع البحث عن ثبوت الملازمة بين الإيجابين إلى وجوب الوضوء ونحوه عند وجوب الصلاة ، ومرجع البحث عن تعلّق التكليف الإلزامي بفعل إلى

__________________

(١) الكفاية : ص ٢٧٩.

١٧

وأمّا إذا كان المراد من السنّة ما يعمّ حكايتها ، فلأنّ البحث في تلك المباحث وإن كان عن أحوال السنّة بهذا المعنى ، إلّا أنّ البحث عن غير واحد من مسائلها كمباحث الألفاظ وجملة من غيرها ، لا يخصّ الأدلّة ، بل يعمّ غيرها ، وإن كان المهم معرفة أحوال خصوصها ، كما لا يخفى [١].

ويؤيّد ذلك تعريف الأصول [٢] بأنّه (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشّرعية).

______________________________________________________

البحث عن إيجاب المخالفة لاستحقاق العقاب ، وإلى غير ذلك.

[١] لا يخفى أنّ البحث عن ظهور صيغة افعل في الوجوب ، مثلا يكون بحثا عن العارض الغريب للكتاب والسنّة بناء على ما ذكروه من أنّ ما يكون عروضه بواسطة أعم فهو عرض غريب ، وأمّا بناء على ما ذكره رحمه‌الله في العارض الغريب فالبحث المزبور بحث عن العوارض الذاتيّة للكتاب والسنّة ، فالإشكال به عليهم مبنيّ على مسلكهم حيث يكون نظير بحث الملازمة بين الإيجابين في عدم اختصاصه بالواجبات الشرعيّة ، وإن كان المهم معرفة حالها.

[٢] ووجه التأييد أنّ مقتضى تعريفهم كون كلّ قاعدة ممهدة لاستنباط الحكم الشرعيّ مسألة أصولية ولو لم يكن المحمول فيها من العارض الذاتي للأدلّة الأربعة.

١٨

وإن كان الأولى تعريفه [١] بأنّه (صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام ، أو التي ينتهى إليها في مقام العمل) ، بناء على أنّ

______________________________________________________

تعريف علم الأصول :

[١] ووجه العدول خروج أمرين عن التعريف المزبور :

أحدهما : مسألة حجية الظن على الحكومة ، فإنّ حجيّته على المسلك المزبور لا تكون موجبة لاستنباط حكم شرعى منها ، وذلك لكون الحجية بناء عليها عبارة عن استقلال العقل بكفاية الاطاعة الظنيّة للتكاليف الواقعية ، وأنّه يقبح من الشارع مطالبة العباد بأزيد منها ، كما أنه لا يجوز للمكلّف الاقتصار على ما دونها من الطاعة الاحتماليّة والوهميّة. وهذا الحكم من العقل ، كحكمه بلزوم الاطاعة العلميّة حال الانفتاح لا يكون مستتبعا لحكم شرعيّ مولويّ ، كما يأتي بيانه في باب الانسداد.

ثانيهما : خروج مباحث الأصول العملية الجارية في الشبهات الحكمية من النقلية والعقلية ، فهي مع كونها من المسائل الأصولية لا تكون إلّا وظائف عملية بلا استنباط حكم شرعي واقعي منها بل تطبّق في الفقه ، بتعيين مواردها ، على صغرياتها.

وقوله قدس‌سره (١) : «بناء على أنّ مسألة حجية الظن ... إلخ» مفاده : أنّ أولوية العدول مبنية على كون الأمرين من المباحث الاصولية كما هو كذلك ، حيث لا وجه للالتزام بالاستطراد في مثلهما من المهمات. وبما أنّ التعاريف المذكورة للعلوم من قبيل شرح اللفظ لأنّ وحدتها اعتبارية على ما تقدم من كون كل علم جملة من القضايا المتشتتة التي اعتبرت الوحدة لها باعتبار دخلها في الغرض ، فذكر قدس‌سره أولوية العدول

__________________

(١) كفاية الأصول : ص ٩.

١٩

مسألة حجّية الظنّ على الحكومة ، ومسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية من الأصول ، كما هو كذلك ، ضرورة أنّه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمّات.

______________________________________________________

لا تعيّنه ، وجعل التعريف السابق مؤيدا لا دليلا ، حيث لا يعتبر في هذه التعاريف الاطّراد والانعكاس.

ولا يخفى أنّ المراد بالقواعد في تعريف علم الأصول نتائج المباحث الأصولية ، وأمّا الصناعة فهي نفس مباحثها ، فيكون حاصل تعريفه : أنّ علم الأصول مباحث ، تعرف بها القواعد التي يمكن وقوعها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكليّة أو الّتي ينتهي إليها الأمر في مقام العمل ، أي بعد اليأس عن الظفر بالدليل على الحكم الواقعي.

ولكن يرد عليه أنّ إضافة «أو التي ينتهي ... إلخ» غير مفيد ، فإنّ استنباط الحكم الشرعي الفرعي ، بناء على ما اختاره قدس‌سره من أنّ المجعول في الأمارات هو الحجية لها ، أي المنجزيّة والمعذريّة ، يعمّ انكشاف حال الحكم الواقعي من حيث التنجز وعدمه ، ولا ينحصر بالعلم بنفس الحكم الواقعي ، وعليه فلا فرق بين الأمارات المعتبرة والأصول العملية في أنّه يعيّن بهما حال الحكم الواقعي من حيث تنجّزه على تقدير الإصابة وعدمه. نعم يكون تعيينه بالأصول العملية في طول التعيين بالأمارة وهذا لا يكون فارقا فإنّ بعض الأمارات أيضا يكون اعتبارها في طول بعضها الآخر ، كخبر العدل ، فإنّه وإن كان معتبرا إلّا أنّه لا اعتبار به في مقابل الكتاب الدال على خلافه.

فالصحيح أن يقال في تعريفه : إنّه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي الكلي الفرعي أو حاله من حيث التنجيز والتعذير. ومن البديهي أنّه يعتبر

٢٠