عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

أورد عليه بأنّ الإهمال في مقام الثبوت من نفس الحاكم الجاعل للأحكام غير معقول بأن يجعل الحكم لموضوع لا يدري أنّه مطلق أو مقيّد فالحكم الواقعي بالنسبة الى حال العلم والشك إمّا أن يكون مطلقا فيلزم اجتماع الضدّين إذ الحكم الظاهري وإن لم يكن في مرتبة الحكم الواقعيّ إلّا أنّ إطلاق الحكم الواقعي يشمل مرتبة الحكم الظاهري وإمّا أن يكون مقيّدا بحال العلم فيلزم التصويب المجمع على بطلانه وأجيب عن هذا الإيراد بأنّ تصوّر ما يكون موضوعا للحكم الواقعي الأوّلي مبنىّ على قطع النظر عن الحكم لأنّ المفروض كون الموضوع موضوعا للحكم فتصوّره يلزم أن يكون مجرّدا عن الحكم وتصوّره بعنوان كونه مشكوك الحكم لا بدّ وأن يكون للحاظ الحكم ولا يمكن الجمع بين لحاظ التجرّد عن الحكم ولحاظ ثبوته فحينئذ متى تصوّر الآمر صلاة الجمعة بملاحظة ذاتها تكون مطلوبة وحتّى تصوّرها بملاحظة كونها مشكوك الحكم تكون متعلّقة لحكم آخر ، فالموضوع فيهما ليس بواحد بل متعدّد.

ودعوى لزوم الإهمال مندفع بأنّ الموضوع في الحكم الواقعيّ هو العناوين الذهنيّة ولكن عند تعلّق الحكم بها لا يلحظ موضوعات بالتجرّد الاسميّ بالنسبة إلى الوجودات الخارجيّة والأحوال المتأخّرة كالشكّ وغيره وإلّا فلا يكون قابلا للامتثال لأنّ موطنها حينئذ هو الذهن بل العناوين الذهنيّة تكون موضوعات للأحكام بالتجرّد الحرفي أي في حال تجرّدها على الوجودات والأحوال المتأخّرة وعليه فالعلم والشكّ يكونان ممّا يكون الموضوع مجرّدا عنه في حال تعلّق الحكم بالعناوين الذهنيّة.

وعليه فموضوع الحكم الواقعي مباين مع موضوع الحكم الظاهري إذ الموضوع في الحكم الواقعي مجرّد بنحو التجرّد الحرفي عن الشكّ في الحكم بخلاف الموضوع في الحكم الظاهري فإنّه متقيّد بالشكّ في الحكم موضوعا أو موردا ومع المباينة والمغايرة في الموضوع فالموضوع في الحكم الواقعي لا يشمل حال الشكّ ومع عدم الإطلاق فلا مزاحمة ولا تضادّ.

٦٠١

وعليه فالحكم الواقعي فعليّ كالحكم الظاهري من دون محذور لتعدّد موضوعهما وإنّما لا يكون الحكم الواقعي منجّزا لعدم وصوله بل موضوع الحكم الظاهري مترتّب على عدم وصول الحكم الواقعي فهما فعليّان مترتّبان كما أنّ حكم المهمّ بناء على تصوير الترتّب مترتّب على ترك الأهمّ.

ولا يلزم من ذلك إهمال لانّ المتكلّم في مقام بيان حكم العناوين الأوّليّة ولكن إطلاقه لا يشمل الأحوال المتأخّرة لفرض ملاحظته مجرّدا عن الأحوال المتأخّرة بالتجرّد الحرفي كما عرفت فالموضوع في الأحكام الواقعيّة ليس متقيّدا بالعلم حتّى يلزم التصويب ولا يكون مطلقا حتّى يلزم اجتماع الضدّين بل يكون مجرّدا بالتجرّد الحرفي فتدبّر جيّدا. فالموضوع فيهما غير واحد بل رتبة موضوع الحكم الظاهري متأخّر طبعا عن موضوع الحكم الواقعي بمرتبتين.

وأجاب صاحب الكفاية عن المحاذير المذكورة بأنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو الحجّيّة لا الحكم التكليفي والحجّيّة موجبة للمنجّزيّة مع المطابقة مع الواقع والمعذّريّة مع المخالفة.

وعليه فالتعبّد بالأمارات لا يوجب اجتماع الحكمين سواء كانا مثلين أو ضدّين إذ ليس المجعول إلّا الحكم الواقعي فقط.

وبيان ذلك أنّ اعتبار نفس معنى الحجّيّة ليس معناه إلّا كون الشيء بحيث يصحّ الاحتجاج به وهذا المعنى إمّا يكون ذاتيّا كما في القطع وإمّا جعليّا انتزاعيا كحجّيّة الظواهر وحجّيّة الأخبار الواردة عن الثقات أو جعليّا اعتباريّا كقوله عليه‌السلام إنّهم حجّتي عليكم.

فإذا عرفت ما ذكرناه في معنى الحجّيّة الاعتباريّة والانتزاعيّة ظهر لك أنّ الحجّيّة ليست إلّا أمرا وضعيّا وعليه ليس بين الحجّيّة والحكم الواقعي تماثل ولا تضادّ حتّى يلزم من التعبّد بالأمارات اجتماع المثلين أو اجتماع الضدّين.

٦٠٢

ثم إنّ نظير ما ذهب إليه صاحب الكفاية هو ما حكي عن المحقّق النائيني قدس‌سره من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو مجرّد الطريقيّة والكاشفيّة بالأمر بإلغاء الخلاف وعليه أيضا لا يكون هنا حكم تكليفيّ حتّى يلزم من اجتماع الحكم الظاهري والواقعي اجتماع المثلين أو الضدّين بل حال الأمارة حال القطع في عدم جعل الحكم التكليفي.

ولعلّ وجه عدول المحقّق النائينيّ ممّا ذهب إليه صاحب الكفاية هو توهّم أنّ المجعول بناء على جعل الحجّيّة هو المنجّزيّة والمعذّريّة ولازم هذا الجعل هو اخترام قاعدة عقليّة وهي قبح العقاب بلا بيان إذ جعل العقاب بلا بيان تصرّف في ناحية الحكم ومن المعلوم أنّه تخصيص للقاعدة العقليّة وهو غير معقول.

هذا بخلاف جعل الطريقيّة فإنّ تصرّف الشارع حينئذ يكون في ناحية موضوع القاعدة فإنّه يرجع إلى جعل الموضوع فإنّه جعل شيء طريقا وأمارة فيشمله القاعدة المذكورة فلا يوجب تخصيصا في القاعدة بل هو توسعة لها بتوسعة موضوعها.

أورد على صاحب الكفاية والنائيني بأنّه لا دليل على جعل في الطرق والأمارات لا بمعنى جعل المنجّزيّة ولا بمعنى جعل الطريقيّة بل مدرك حجّيّة الأمارات هو بناء العقلاء وسيرتهم على العمل بها من دون جعل والشارع تبعهم في ذلك وأمضى ما بنوا عليه.

ودعوى أنّ إمضاء بناء العقلاء على لزوم العمل بالأمارات قد يؤدّى إلى خلاف الواقع.

مندفعة بما مرّ من أنّه لا مانع منه بعد حمل الحكم الواقعي على الشأني.

يمكن أن يقال إنّ لحن طائفة من أدلّة اعتبار الأخبار يساعد مع جعل الطريقيّة كقوله عليه‌السلام «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا» لأنّه يرجع إلى الأمر بإلغاء احتمال الخلاف والمعاملة مع الخبر معاملة العلم واليقين كما أنّ لحن أدلّة اعتبار قول

٦٠٣

المفتي يساعد مع الحجيّة كقول مولانا الإمام الثاني عشر عجّل الله تعالى فرجه الشريف «إنّهم حجّتي وأنا حجّة الله» ولا ينافي ما ذكر الأمر بأخذ الأحكام وتلقّيها لإمكان الجمع بين الأخبار باعتبار الطريقيّة وهي توجب الحجّيّة فيترتّب عليه وجوب الأخذ والتلقّي.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ إشكال المناقضة أو التضادّ وإن ارتفع بجعل الطريقيّة أو الحجيّة.

ولكن يبقى الإشكال من ناحية لزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال فإنّه باق على حاله إذ جعل الطريقيّة أو الحجّيّة ربّما يؤدّي إلى مخالفة الواقع.

ولا يدفع هذا الإشكال إلّا بما مرّ من الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بحمل الواقعي على الشأني وعليه فالاكتفاء بمجرّد جعل الحجّيّة أو الطريقيّة وإبقاء الواقع على الفعليّة لا يدفع الإشكال المذكور بل أساس الجواب عن المحاذير المذكورة في التعبّد بالأمارات هو يحمل الأحكام الواقعيّة على الشأنيّة من ناحية التزاحم بينها وبين مفاسد لزوم الاتّباع عن العلم وعدم جواز التعبّد بالأمارات فتدبّر جيّدا.

إمكان التعبّد بالاصول

واعلم أنّه يكفي ما تقدّم من بيان إمكان التعبّد بالأمارات لإمكان التعبّد بالاصول أيضا وذلك لأنّ لزوم الاتّباع عن العلم وعدم جواز التعبّد بالاصول يوجب ترتّب مفاسد عظيمة من العسر الشديد والحرج العظيم لا يتحمّلها أكثر الناس ومعها تسقط الأحكام الواقعية عن الفعليّة فمع سقوطها عن الفعليّة وحملها على الشأنيّة لا مانع من التعبّد بالاصول كما لا مانع من التعبّد بالأمارات.

ولا فرق في ذلك بين أن تكون الأصول محرزة وبين أن لا تكون كذلك وبالجملة فالجواب الصحيح الكامل عن المحذورات المذكورة في الأمارات والأصول

٦٠٤

هو أن يقال إنّ الواقعيّات بعد منافاتها مع الأحكام الظاهريّة محمولة على الشأنيّة بمعنى أنّها تسقط عن الفعليّة من جهة المنافاة بينها وبين الأحكام الظاهريّة.

ودعوى أنّ مقتضى شأنيّة الواقعيّات هو عدم لزوم الإتيان بها عند العلم بها فضلا عن قيام الأمارات عليها ضرورة عدم لزوم امتثال الأحكام التي لم تصر فعليّة ولم تبلغ مرتبة البعث والزجر.

مع أنّ لزوم الإتيان بالواقعيّات عند العلم بها أو قيام الأمارات عليها من الواضحات.

مندفعة بأنّ هذا الإشكال ناش من الخلط بين الشأنيّة التي لم تبلغ مرتبة البعث والزجر والشأنيّة التي بلغت مرتبة الفعليّة ولكن تسقط من جهة التزاحم بين مصالحها وبين المفاسد المترتّبة على الاقتصار على غيرها ومن المعلوم أنّ الثانية إذا تعلّق بها العلم أو قامت عليها الأمارة وجب الإتيان بها بلا كلام فلا تغفل.

٦٠٥

الفصل الرابع : في تأسيس الأصل

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : لا بدّ من تأسيس الأصل الذي يكون عليه المعوّل عند عدم الدليل على وقوع التعبّد بغير العلم مطلقا أو في الجملة ، فنقول : التعبّد بالظنّ الذي لم يدلّ على جواز التعبّد به دليل محرّم بالأدلّة الأربعة ، ويكفي من الكتاب قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) دلّ على أنّ ما ليس بإذن الله من إسناد الحكم إلى الشارع فهو افتراء ، ومن السنة قوله عليه‌السلام ـ في عداد القضاة من أهل النار ـ : «ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم» ومن الإجماع ما ادّعاه الفريد البهبهاني في بعض رسائله من كون عدم الجواز بديهيّا عند العوام فضلا عن العلماء ، ومن العقل تقبيح العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده عن المولى ولو كان عن جهل مع التقصير.

نعم قد يتوهّم متوهّم أنّ الاحتياط من هذا القبيل ، وهو غلط واضح ؛ إذ فرق بين الالتزام بشيء من قبل المولى على أنّه منه مع عدم العلم بأنّه منه وبين الالتزام بإتيانه لاحتمال كونه منه أو رجاء كونه منه ، وشتّان ما بينهما ؛ لأنّ العقل يستقلّ بقبح الأوّل وحسن الثاني ... إلى أن قال : وقد تبيّن ممّا ذكرنا أنّ ما ذكرنا في بيان الأصل هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه :

وحاصله أنّ التعبّد بالظنّ مع الشكّ في رضاية الشارع بالعمل به في الشريعة تعبّد بالشكّ من دون دليل وهو باطل عقلا ونقلا ، وأمّا مجرّد العمل على طبقه فهو غير محرّم إلّا إذا خالف أصلا من الاصول اللفظيّة ، أو العمليّة الدالّة على وجوب

٦٠٦

الأخذ بمضمونها حتّى يعلم الرافع ، فالعمل بالظنّ قد يجتمع فيه جهتان للحرمة كما إذا عمل به ملتزما بأنّه حكم الله وكان العمل به مخالفا لمقتضى الاصول اللفظيّة أو العمليّة وقد يتحقّق فيه جهة واحدة كما إذا خالف أصلا من الاصول ولم يلتزم بكونه حكم الله أو التزم به ولم يخالف مقتضى الاصول ، وقد لا يكون فيه عقاب أصلا كما إذا لم يلتزم بكونه حكم الله ولم يخالف أصلا ، وحينئذ يستحقّ عليه الثواب كما إذا عمل به على وجه الاحتياط. هذا ، ولكن حقيقة العمل بالظنّ هو الاستناد إليه في العمل والالتزام بكون مؤدّاه حكم الله في حقّه.

فالعمل على ما يطابقه بلا استناد اليه ليس عملا به ، فصحّ أن يقال : إنّ العمل بالظنّ والتعبّد به حرام مطلقا وافق الاصول أو خالفها غاية الأمر أنّه إذا خالف الاصول يستحقّ العقاب من جهتين من جهة الالتزام والتشريع ومن جهة طرح الأصل المأمور بالعمل به حتّى يعلم بخلافه ، وقد اشير في الكتاب والسنة إلى الجهتين ، فممّا اشير فيه إلى الاولى قوله تعالى (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) بالتقريب المتقدّم ، وقوله : «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم» ، وممّا اشير فيه إلى الثانية قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) وقوله : «من أفتى الناس بغير علم كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه» ونفس أدلّة الاصول. (١)

حاصله : أنّ مقتضى القاعدة أنّ التعبّد والالتزام بشيء بعنوان أنّه من قبل المولى يحتاج الى قيام الدليل ومع عدمه محرّم بالضرورة ، ويدلّ عليه الأدلّة الأربعة ، ويكفي في حرمة العمل بالظنّ عدم العلم بورود التعبّد ، لأنّ موضوعها هو عدم العلم بورود التعبّد به ، ولا حاجة إلى إحراز عدم ورود التعبّد به ليحتاج في ذلك إلى أصالة عدم وقوع التعبّد به ثمّ إثبات الحرمة.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣٠ ـ ٣٣.

٦٠٧

وهذا نظير قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب اليقين بالفراغ ، فإنّه لا يحتاج في إجرائها الى إجراء أصالة عدم فراغ الذمّة ، بل يكفي فيها عدم العلم بالفراغ ، ففي المقام أيضا يكفي في حرمة التعبّد نفس عدم إحراز ورود دليل على التعبّد ، ولا يحتاج إلى أصالة عدم وقوع التعبّد به ، فإذا شكّ في ورود دليل على جواز التعبّد بغير العلم من الأمارات يترتّب عليه حرمة التعبّد بالظنّ والعمل به ، فإنّ نفس الشكّ في ذلك موضوع لحرمة التعبّد ، لا عدم وقوع التعبّد به واقعا.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ البحث عن الحرمة التكليفيّة للتعبّد بالظنّ خارج عن البحث الاصولي ، كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره. (١)

بل الأنسب بالبحث الاصولي هو أن يقال : إنّ الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص أو بالعموم هو عدم الطريقيّة أو عدم حجّيّته جزما ، فلا يترتّب على المشكوك اعتباره الآثار المترتّبة على الطريق والحجّة.

نعم يمكن أن يقال : إنّ مرجع البحث عن الحرمة التكليفيّة للتعبّد بالظن إلى نفي الحجّيّة ؛ لوجود الملازمة بينهما بناء على مختاره من عدم كون الحجّيّة مجعولة بنفسها بل هي منتزعة عن الأحكام التكليفيّة ، ومع هذا المبنى لا محيص عن بيان الأصل. إلّا من هذا الطريق.

ويشكل ذلك بأنّ تلك الدعوى مبتنية على وجود الملازمة بين الحرمة ونفي الحجّيّة ، وهو غير ثابت ؛ لإمكان التفكيك بينهما ، كما صرّح به في الكفاية ضرورة أنّ حجّيّة الظنّ عقلا على تقدير الحكومة في حال الانسداد لا توجب صحّة الاستناد والتعبّد بالظنّ.

اجيب عنه بأنّ الحجّة في حال الانسداد هو العلم الاجمالي لا الظنّ ؛ فإنّ العلم

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٨٦ ـ ٨٨.

٦٠٨

الإجمالي بالأحكام مع عدم جواز الاحتياط في جميع الأطراف وعدم احتمال الإهمال يوجب حكم العقل بترجيح الظنّ على المشكوكات والموهومات في مقام الاحتياط ، فالظنّ ليس حجّة بما هو ظنّ بل الحجّة هو العلم الإجمالي ، ومقدّمات الانسداد على تقدير الحكومة لا تنتج حجّيّة الظنّ ، بل نتيجتها هو التبعيض في الاحتياط بالأخذ بالمظنونات دون غيرها لترجيحها على غيرها.

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره : وعلى تقدير تسليم عدم انحلال العلم الإجمالى بدعوى العلم بأنّ التكليف أزيد من موارد الأخبار لا بدّ من التبعيض فى الاحتياط على نحو لا يكون مخلّا بالنظام ولا موجبا للعسر والحرج ، فلو فرض ارتفاع المحذور بإلغاء الموهومات وجب الاحتياط في المشكوكات والمظنونات ، وإذا لم يرتفع المحذور بذلك يرفع اليد عن الاحتياط في جملة من المشكوكات ويحتاط في الباقي منها وفي المظنونات ، وهكذا إلى حدّ يرتفع محذور الاختلال والحرج ، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأزمان والحالات الطارئة على المكلّف والموارد ، ففي الموارد المهمّة التي علم اهتمام الشارع بها كالدماء والأعراض والأموال الخطيرة لا بدّ من الاحتياط حتّى في الموهومات منها وترك الاحتياط في غيرها بما يرفع معه محذور الاختلال والحرج على ما تقدّم بيانه.

فتحصّل : أنّ مقدّمات الانسداد على تقدير تماميّتها عقيمة عن إثبات حجّيّة الظنّ ؛ لتوقّفه على قيام دليل على بطلان التبعيض في الاحتياط ولم يقم ، فتكون النتيجة التبعيض في الاحتياط ، لا حجّيّة الظنّ. (١)

وربّما يستدلّ أيضا لعدم وجود الملازمة وجواز التفكيك بأنّ الشكّ حجّة في الشبهات البدويّة قبل الفحص مع أنّه لا يجوز انتساب المشكوك إليه تعالى ، ونحوه

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٦٠٩

الاستدلال على جواز التفكيك بوجوب الاحتياط في الشبهات البدويّة كلّها أو بعضها فإنّه حجّة على الواقع مع أنّه لا يصحّ معه الانتساب.

ويمكن الجواب عنه أيضا كما أفاد سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بأنّ مع الشكّ في الشبهات البدويّة واحتمال أن يكون البيان موجودا فى الكتب المعدّة للبيان ليست قاعدة قبح العقاب بلا بيان محكّمة ؛ لاحتمال وجود البيان ، وهو حجّة على الواقع دون الشكّ ، ومعه يرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وهكذا مع وجوب الاحتياط يرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ فإنّ وجوب الاحتياط حكم عقليّ. (١)

وبالجملة لا بأس بتقرير الأصل في المسألة بما ذكره الشيخ الأعظم قدس‌سره في فرائد الاصول بعد كون مختاره أنّ الحجّيّة غير مجعولة بنفسها ، نعم يمكن المناقشة في بعض استدلالاته ، كاستدلاله بقوله تعالى : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ). (٢)

بأنّ الافتراء كما في تهذيب الاصول عبارة عن الانتساب إلى الله تعالى عمدا وكذبا إذ الافتراء لغة هو الكذب لا انتساب المشكوك فيه إليه ، وعليه فلا يعمّ الافتراء المذكور في الآية لمثل المقام من المشكوكات.

ولكنّ الذي يسهّل الخطب أنّ حرمة انتساب المشكوك إليه تعالى من الواضحات ، ويدلّ عليها مضافا إلى حكم العقل والعقلاء بقبح الانتساب بغير علم خصوصا إلى الله تعالى الآيات والروايات المتعدّدة : منها قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٣).

وكيف كان فالأولى أن يقال ـ بعد ما عرفت من معقوليّة جعل الطريق وكونه

__________________

(١). تهذيب الاصول ٢ : ٨٦ ـ ٨٨.

(٢) يونس : ٥٩.

(٣) الاعراف : ٣٣.

٦١٠

ملزوما للحجّيّة ـ : إنّ مقتضى القاعدة عند الشكّ في الطريقيّة والحجّيّة هو عدم الطريقيّة والحجّيّة ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(١) ؛ لأنّ الطريقيّة من أوضح مصاديق الإغناء ، فمع نفي الإغناء عن الظن لا مجال للطريقيّة. ومن المعلوم أنّ نفي الطريقيّة عن الظنّ يستلزم نفي الحجّيّة ؛ لكونها مترتّبة عليها ، فلا يكون حينئذ منجّزا للواقع عند المطابقة ولا يكون معذّرا عند المخالفة ، هذا بحسب البحث الاصولي.

ثمّ إنّ مع عدم طريقيّة الظنّ فالمظنون بقي على ما هو عليه من أنّه ممّا لم يعلم أنّه من الله تعالى ، فلا يجوز إسناده إليه تعالى ؛ لأنّه قول على الله بغير علم كما دلّ عليه قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ... وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢) نعم ، هذا حكم فقهيّ لا يرتبط بالمقام بعد إمكان جعل الطريقيّة والحجّيّة ، فتدبّر جيّدا.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الطريقيّة والحجّيّة موضوعان للتنجيز والتعذير بوجودهما العلمي لا بوجودهما الواقعي ؛ إذ الشيء قبل وصوله ليس بطريق ولا بحجّة ، فمع القطع بالطريقيّة أو الحجّيّة يترتّب التنجيز والتعذير ، لوجود موضوعهما.

وعليه فإذا شكّ في وجود الحجّة أو في حجّيّة الموجود فالموضوع منتف بالعلم والقطع. ولا مجال للاستصحاب حينئذ مع انتفاء الموضوع بالقطع ، إذ الاستصحاب يفيد فيما إذا شكّ في وجود الموضوع ، والمفروض أنّه معلوم الانتفاء كما لا يخفى.

وإليه يؤوّل ما فى الكفاية حيث قال : فمع الشكّ في التعبّد به يقطع بعدم حجّيّته

__________________

(١) يونس : ٣٦.

(٢) الاعراف : ٣٣.

٦١١

وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه ؛ للقطع بانتفاء الموضوع معه (١).

وممّا ذكر يظهر ما في دعوى أنّ عموم دليل الاستصحاب يرفع الشكّ تعبّدا ويجعلنا موقنين بعدم الحجّيّة أو الطريقيّة ، فيترتّب الحكم بما أنّه ليس بطريق ولا حجّة لا بما أنّه مشكوك الطريقيّة ، وذلك لأنّ البيان المذكور يتمّ فيما إذا كان التنجيز والتعذير مترتّبين على الطريق والحجّة بوجودهما الواقعي ، مع أنّك عرفت أنّ الطريق والحجّة لا يتحقّقان من دون الوصول ، والآثار مترتّبة عليهما بعد تحقّقهما والعلم بهما. وعليه فمع الشك فيهما يقطع بانتفاء الموضوع. ولا مورد للاستصحاب بعد القطع بالانتفاء كما لا يخفى.

وينقدح ممّا ذكر أيضا أنّه لا حاجة في عدم جريان الاستصحاب إلى القول بأنّ مع وجود عموم مثل قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئا) لا مجال للاستصحاب ، فإنّه دليل اجتهاديّ يحكم على كلّ ظنّ بأنّه لا يغني من الحقّ شيئا ومن المعلوم أنّه مع الدليل الاجتهادي لا تصل النوبة إلى الاصول العمليّة. (٢)

فإنّ تقديم الدليل الاجتهادي على الاصول العمليّة فيما إذا كان شيء بوجوده الواقعي موضوعا لترتّب الأثر ، فمع قيام الطريق على عدم وجوده واقعا لا مجال للأصل العملي ؛ لعدم تحقّق موضوعه مع قيام الطريق. وأمّا إذا كان شيء بوجوده العلمي موضوعا ، فإذا شكّ فيه حصل العلم بعدم وجود موضوعه ، ومع العلم لا حاجة إلى الدليل الاجتهادي فضلا عن الأصل كما لا يخفى.

بقي شيء وهو أنّ الحجّة تتمّ بالوصول والمعيار في الوصول أن تكون الحجّة موجودة بحيث لو تفحّص عنها المكلّف لظفر بها وكانت واصلة عرفا ، والشكّ في

__________________

(١). الكفاية ٢ : ٥٥.

(٢). تسديد الاصول ٢ : ٤٣.

٦١٢

وجودها قبل الفحص لا يساوي العلم بالعدم ولذا لو كانت موجودة في الواقع بحيث لو تفحّص عنها لظفر بها تمّت الحجّة وإن لم يتفحّص ولم يعلم بها وكان شاكّا وما اشتهر من أنّ وجود الحجّة الواقعيّة المجهولة لا يؤثّر شيئا في مرحلة التنجيز أو في مرحلة الإسقاط والعذر مخصوص بما بعد الفحص لا قبله. وسرّ ذلك أنّ الإيصال المعتبر فى تأثير الحجّة هو أن يكون بحيث لو تفحّص عنها لظفر بها ، وهو صادق بعد الفحص لأنّه تفحّص ولم يظفر بها وتكون مقطوع العدم ولا فرق في ذلك بين مرحلة التنجيز ومرحلة الإسقاط والتعذير كما أنّه صادق قبل الفحص فإذا كانت الحجة موجودة بحيث لو تفحّص المكلّف عنها لظفر بها تمّت الحجّة وإن لم يتفحّص ولم يعلم بها وكان شاكّا فيها والشكّ في وجود الحجّة لا يساوي العلم بالعدم.

والظاهر من شيخنا الأستاذ قدس‌سره هو التفصيل بين مرحلة التنجيز ومرحلة الإسقاط حيث قال : أمّا من حيث الأثر الأوّل وهو التنجيز والإثبات والإلزام فهو بعد الفحص وعدم الظفر مقطوع العدم ، بمعنى أنّ وجود الحجّة الواقعية حينئذ كعدمه ، وليس مورثا لوقوع المكلّف في مئونة التكليف الذي يشمله هذه الحجّة ... إلى أن قال : وأمّا لو كان الحجّة في علم الله ثابتة في الواقع وكان في علمه تعالى أيضا بحيث لو تفحّص عنه لظفر بها فحينئذ تكون الحجّة الواقعية بوجودها الواقعي المجهول مؤثّرا في التنجيز والإثبات ، وليس متوقّفا على تحقّق الوجود العلمىّ لها ؛ فإنّ الإيصال الذي شأن الآمر ليس إلّا نصب الدليل على وجه يكون سهل الوصول إلى من أراد الوصول ... إلى أن قال :

وأمّا أثر الإسقاط فالحجّة المجهولة غير مفيدة من هذا الحيث مطلقا سواء كانت حجّة في الواقع أم لم يكن ، وعلى الأوّل سواء وصل على تقدير الفحص أم لم يصل وسواء قبل الفحص وبعده.

أمّا بعده فواضح. وأمّا قبله مع فرض الوصول لو تفحّص مثلا لو كان المبتلى

٦١٣

به من أطراف العلم الإجمالي ثمّ قامت الشهرة على إباحة هذا الطرف وكان الواجب واقعا موجودا فيه وشكّ في حجّيّة الشهرة وكانت في الواقع حجّة بحيث لو تفحّص المكلّف عن حجّيّتها لوصل إليها ومع ذلك لم يتفحّص وارتكب هذا الطرف على جهل بحجية الشهرة فهذه الحجّيّة الواقعيّة بوجودها الواقعيّ لا تورث سقوط تبعة ذلك الوجوب الواقعيّ عن هذا المكلّف.

وسرّ ذلك أنّ مقدّمات صحّة عقوبة المولى وحجّته على العبد تامّة لا نقص فيها ؛ فإنّ العلم الإجمالي منجّز للواقع وحجّة تامّة للمولى ، ولا بدّ للعبد في ترك الإطاعة مع وجود هذه الحجّة القويّة للمولى من وجود مستند يستند إليه في ذلك حتّى يجيب به عند سؤال المولى ، ويكون حجّة له في قبال حجّة المولى. وفي هذا الفرض المفروض أنّ تحقّق الحجّة على الإباحة في الواقع مع شكّ المكلّف فيه ليس لهذا المكلّف الشاكّ حجّة في قبال المولى ، فيكون حجّة المولى وهو العلم الإجمالي حجّة عليه ومورثة لصحّة عقابه.

والفرق بين ما هاهنا وبين مرحلة التنجيز حيث قلنا بأنّ الحجّة الواقعيّة بوجودها الواقعي حجّة للمولى ومستند له في العقاب وقلنا هنا بأنّ وجوده الواقعيّ الموصوف بكونه يوصل إليه على تقدير الفحص ليس بمستند وحجّة للعبد في رفع العقاب ـ : أن لا يطلب في باب حجّة المولى إلّا إتمام المقدّمات التي من شأن المكلّف إقامتها ، وليس المقدّمات الأخر للوصول إلى المكلّف المطلوبة منه مطلوبة من المكلّف ، مثلا : لو بيّن الشارع الحكم في مكان يصل صوته إلى العبد عادة ، فأوجد العبد باختياره مانعا عن إصغائه ، فليس التقصير حينئذ إلّا من قبل العبد ، فوظيفة المولى إقامة الحجّة على وجه كان الوصول إليه بالطريق المتعارف سهلا ... إلى أن قال : وهذا بخلاف مرحلة الإسقاط ، فوجود الحجّة في الواقع بهذا النحو ليس مثمرا ومنتجا للعبد شيئا فى رفع العقاب عن نفسه ؛ فإنّ رافع العقاب عنه استناده في العمل

٦١٤

على خلاف القواعد والاصول المنجّزة عليه التكليف ظاهرا حجّة قائمة على الرخصة ، والاستناد إنّما يتحقّق لو علم بوجود الحجّة المذكورة ، فلا يتحقّق الاستناد إليه بمجرّد وجودها الواقعي مع عدم العلم بها.

فتحصّل : أنّ وجود الحجّة الواقعيّة المجهولة لا يؤثّر شيئا في مرحلة التنجيز والإثبات ، إلّا في صورة واحدة وهي ما إذا كانت موجودة وكان المكلّف يظفر بها لو تفحّص ، وأمّا في مرحلة الإسقاط فلا يؤثّر شيئا أصلا في شيء من الصور. (١)

حاصله : أنّ اللازم هو الاستناد في المعذّر دون المنجّز ، فإنّ معيار صحّة العقاب هو وجود البيان ، والمفروض أنّه متحقّق بحيث لو تفحّص عنه لظفر به وهو كاف في التنجيز والمؤاخذة ، هذا بخلاف المعذّر فإنّه لا يكفي بوجوده الواقعي ، بل يحتاج إلى الاستناد ، والمفروض أنّه لم يستند إليه. وعليه فمن علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة عليه فلم يأت بالظهر مثلا وكان هو الواجب واقعا يصحّ أن يعاقب عليه وإن كان بحسب الواقع دليل على عدم وجوبه بحيث لو اطّلع عليه لكان حجّة له على المولى (٢).

ويمكن أن يقال : إنّ العلم الإجمالي مؤثّر في وجوب الاحتياط في جميع الأطراف لو لم يرد في بعضها بيان لعدم وجوبه وإلّا انحصر تأثيره في الوجوب في الطرف الآخر ، والمفروض في المقام كذلك ؛ فإنّ الحجّة المجهولة التي لو تفحّص عنها لظفر بها بيان لعدم وجوب الظهر ولا توقّف لكونه بيانا على الاستناد كما لا يخفى. ومعه لا تأثير للعلم الإجمالي بالنسبة إليه. وعليه فلا وجه لمؤاخذته بالنسبة إلى ترك الظهر ، بل يكون قبيحا ؛ لأنّه عقاب بلا بيان بل عقاب مع البيان على الخلاف ، فالبيان

__________________

(١) اصول الفقه لشيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره ١ : ٤٨٠ ـ ٤٨٣.

(٢) الدرر : ٣٥٦.

٦١٥

الذي لو تفحّص عنه لظفر به يكفي في رفع المؤاخذة ، وليس ذلك إلّا معنى المعذّريّة.

فلا فرق فيما ذكر بين المنجّزيّة والمعذّريّة ، ولا تفاوت بين أن يكون المورد من موارد العلم الإجمالي وبين أن لا يكون كذلك بل يحتمل التكليف ولم يفحّص ، فعلى كلّ تقدير تكفي الحجّة المجهولة للبيان مع فرض كونها بحيث لو تفحّص عنها لظفر بها ، وبناء على كفاية الحجّة المجهولة التي لو تفحّص عنها لظفر بها في المعذّريّة لا يكون ترك الظهر معصية ، نعم تركه يكون تجرّيا ؛ لوجود المعذّر الواصل.

لا يقال : إنّ تارك الظهر لم يعلم بوجود المعذّر.

لأنّا نقول : وصوله المتعارف بحيث لو تفحّص عنه لظفر به كاف في صدق البيان ، ومع صدق البيان على خلاف الواقع يكون معذّرا بالنسبة إلى الواقع سواء كان من مورد العلم الإجمالى أو لم يكن وسواء علم التارك به واستند إليه أو لم يعلم ولم يستند إليه ، فتدبّر جيّدا.

ودعوى أنّ بناء العقلاء في المقام على كون التارك عاصيا ، مندفعة بأنّه غير ثابت ، بل البناء على الأخذ بالحجّة الواصلة ، والمفروض هو وجودها في المقام ، وهي تفيد المعذّريّة من دون حاجة إلى الاستناد.

ولذلك قوّينا في مبحث الاجتهاد والتقليد صحّة عمل من كان عمله مطابقا لفتوى من كان يجب عليه تقليده حين العمل وان كان مخالفا لفتوى من يجب تقليده فعلا بناء على الإجزاء وعدم لزوم الاستناد إلى الحجج الشرعيّة وكفاية المطابقة العمليّة في سقوط الأوامر الواقعيّة حكومة كما هو الظاهر.

فلا يضرّ إطلاق حجّيّة رأي المجتهد الثاني بالنسبة إلى الأعمال الماضية ؛ لأنّه لا يؤثّر فيما امتثل وسقط أمره ، كما هو مقتضى الإجزاء على المختار. وبقيّة الكلام في محلّه.

٦١٦

الخلاصة :

الفصل الرابع : في تأسيس الأصل

ولا إشكال في أنّ التعبّد بالظنّ الذي لم يدلّ دليل على جواز التعبّديّة محرّم لما دلّ عليه الأدلّة الأربعة ويكفي من الكتاب قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) حيث دلّ على أنّ إسناد حكم إلى الله من دون دليل افتراء على الله تعالى.

ومن السنّة قوله عليه‌السلام في عداد القضاة من أهل النار ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فالقضاء من دون علم ودليل محرّم وإن طابق الواقع.

ومن العقل تقبيح العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده عن المولى.

ومن الإجماع ما ادّعاه الفريد البهبهاني في بعض رسائله من أنّ عدم جواز التعبّد بالظنّ الذي لا دليل على اعتباره بديهيّ عند العوام فضلا عن العلماء.

ودعوى أنّ الاحتياط أيضا تعبّد بما لا دليل على اعتباره ومقتضى ما ذكر هو حرمته.

مندفعة بأنّه فرق بين الالتزام بشيء على أنّه من قبل المولى مع عدم العلم بأنّه من ناحيته وبين الالتزام بإتيانه لاحتمال كونه منه فتحصّل أنّ التعبّد بالظنّ مع الشكّ في رضاية الشارع بالعمل به في الشريعة تعبّد بالشكّ من دون دليل وهو باطل بحكم

٦١٧

العقل والنقل.

وأمّا مجرّد العمل على طبقه فهو غير محرّم إلّا إذا خالف أصلا من الاصول اللفظيّة أو العمليّة التي تدلّ على وجوب الأخذ بمضمونها حتّى يعلم الرافع.

ثمّ إنّ البحث عن الحرمة التكليفيّة للتعبّد بالظنّ وعدمها خارج عن البحث الاصولي إذ الأنسب به هو أن يقال إنّ الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص أو بالعموم هو عدم الطريقيّة أو عدم الحجّيّة جزما وعليه فلا يترتّب على المشكوك اعتباره الآثار المترتّبة على الطريق والحجّة نعم يمكن أن يقال إنّ مرجع البحث عن الحرمة التكليفيّة للتعبّد بالظنّ إلى نفي الحجّيّة لوجود الملازمة بينهما بناء على عدم إمكان جعل الحجّيّة بنفسها إذ الحجّيّة حينئذ منتزعة عن الأحكام التكليفيّة وعليه فلا بأس بتقرير الأصل بما ذكره الشيخ في الفرائد من أنّ الأصل هو حرمة التعبّد والالتزام بشيء بعنوان أنّه من قبل المولى.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ نفس الشكّ في جواز التعبّد بالظنّ وعدمه يكفي في القطع بعدم حجّيّة التعبّد بالظنّ وبعدم ترتيب شيء من الآثار عليه للقطع بانتفاء الموضوع معه لأنّ الطريق أو الحجّة لا يتحقّقان من دون الوصول. وعليه فمع الشكّ في الطريقيّة والحجّيّة يحصل القطع بانتفاء الموضوع ومعه فلا مجال لاستصحاب عدم الحجّيّة أو الطريقيّة لأنّ الأثر وهو التنجيز أو التعذير لم يترتّب على الطريق أو الحجّة بوجودهما الواقعي بل الأثر مترتّب على الواصل من الطريق أو الحجّة والعلم بهما فمع الشكّ في الطريق والحجّة يقطع بانتفاء الموضوع ومع القطع لا مجال لاستصحاب العدم لعدم تماميّة أركانه كما لا يخفى.

إذ الشيء إذا كان بوجوده العلمي موضوعا فإذا شكّ فيه حصل العلم بعدم وجود موضوعه ومع العلم بعدم وجود موضوعه لا حاجة إلى الدليل الاجتهادي فضلا عن الأصل العملي كما لا يخفى.

٦١٨

بقي شيء وهو أنّ الحجّة تتمّ بالوصول والمعيار في الوصول هو أن تكون الحجة موجودة بحيث لو تفحّص عنها المعكف لظفر بها فإنّ هذا وصول عرفا ولذا لو لم يتفحّص وكانت الحجّة موجودة بنحو مذكور تمّت الحجّة عليه لأنّها واصلة عرفا كما أنّه لو كانت موجودة في الواقع وتفحّص عنها المعكف ولم يظفر بها لم تتمّ الحجّة لعدم صدق الوصول عرفا بالنسبة إليها إذ ليست الحجّة بحيث لو تفحّص عنها لظفر بها فوجودها في الواقع كالعدم.

ولا فرق في ذلك بين مرحلة التنجيز وبين مرحلة الإسقاط والعذر ، لأنّ المعيار هو صدق الوصول وهو يعمّ المرحلتين.

ودعوى أنّ هذا مختصّ بمقام التنجيز والإثبات دون مقام التعذير والإسقاط فإنّ الحجة المجهولة غير مفيدة من هذا الحيث مطلقا سواء كانت حجّة في الواقع أنّه لم تكن وعلى الأوّل سواء وصلت على تقدير الفحص أم لم تصل وسواء قبل الفحص أو بعده.

أمّا بعد الفحص فواضح وأما قبله مع فرض الوصول لو تفحّص فلأنّ الحجّة الواقعيّة بوجودها الواقعي لا تورث سقوط تبعة ذلك الوجوب الواقعي عن هذا المعكف.

بل لا بد للتعبد في ترك الإطاعة مع وجود العلم الإجمالي بالتكليف من وجود مستند يستند إليه في الترك ففي هذا الفرض تحقّق الحجّة على الإباحة في الواقع مع شكّ المعكف فيه ليس لهذا المعكف الشاكّ حجّة في قبال المولى بل يكون العلم الإجمالي حجّة عليه وموجب لصحّة عقابه. فتحصّل أنّ وجود الحجّة الواقعيّة المجهولة لا يؤثّر شيئا في مرحلة التنجيز والإثبات إلّا في صورة واحدة وهي ما إذا كانت موجودة وكان المعكف يظفر بها لو تفحّص عنها وأمّا في مرحلة الإسقاط فلا يؤثر شيئا أصلا في شيء من الصور.

٦١٩

مندفعة بأنّ العلم الإجمالي مؤثّر في وجوب الاحتياط في جميع الأطراف لو لم يرد في بعض الأطراف بيان لعدم وجوبه وإلّا انحصر تأثيره في الوجوب في الطرف الآخر.

والمفروض في المقام كذلك فإنّ الحجّة المجهولة التي لو تفحّص عنها لظفر بها بيان عرفيّ لعدم وجوب طرف من أطراف العلم الاجمالي ولا توقّف لكون الحجّة المجهولة بيانا على الاستناد ومعه لا تأثير للعلم الإجمالي بالنسبة إلى طرف قامت الحجّة على عدم وجوبه وعليه فلا وجه للمؤاخذة بالنسبة إلى ترك هذا الطرف بل تكون المؤاخذة عليه قبيحة لأنّه عقاب بلا بيان بل عقاب مع البيان على الخلاف فالبيان الذي لو تفحّص المعكف عنه لظفر به كفى في الحجّيّة ورفع المؤاخذة وليس ذلك إلّا معنى المعذّريّة فلا وجه للفرق بين مقام المنجّزيّة ومقام المعذّريّة.

كما لا تفاوت بين أن يكون المورد من موارد العلم الإجمالي وبين أن لا يكون كذلك بل يحتمل التكليف ولم يفحّص وعلى كلّ تقدير تكفي الحجّة المجهولة للبيان مع فرض كونها بحيث لو تفحّص عنها المعكف لظفر بها.

وبناء على كفاية الحجّة المجهولة التي لو تفحّص عنها لظفر بها في المعذّريّة لا يكون ترك الواجب الذي وردت الحجّة في الواقع على إباحته معصية. نعم غايته هو التجرّي وذلك لوجود المعذّر الواصل كما هو المفروض ودعوى لزوم الاستناد لبناء العقلاء عليه. مندفعة بأنّه غير ثابت بل تكفي الحجّة الواصلة عرفا كما هو المفروض في المقام والله هو الهادي.

٦٢٠