عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

بها ... إلى أن قال : إنّ استحقاق المدح والذمّ بالإضافة إلى العدل والظلم ليس من الأوّليّات بحيث يكفي تصوّر الطرفين في الحكم بثبوت النسبة كيف وقد وقع النزاع فيه من العقلاء؟! وكذا ليس من الحسّيّات كما هو واضح ، لعدم كون الاستحقاق مشاهدا ، ولا بنفسه من الكيفيّات النفسانية الحاضرة بنفسها للنفس ، وكذا ليس من الفطريّات أو ليس لازمها قياس يدلّ على ثبوت النسبة ، الخ. (١)

وذلك لما عرفت من وجدان الاشمئزاز والابتهاج ، وهما من كيفيّات النفس ، فلا وجه لمنع كون الاستحقاق من الكيفيّات النفسيّة.

والظاهر من الكفاية الاستدلال بالوجه العقلي حيث قال : الحقّ أنّه يوجبه ؛ لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته وذمّه على تجريه وهتك حرمته لمولاه وخروجه عن رسوم عبوديته وكونه بصدد الطغيان وعزمه على العصيان ، وصحّة مثوبته ومدحه على إقامته بما هو قضيّة عبوديّته من العزم على موافقته والبناء على طاعته (٢).

ظاهره الاستدلال بوجه عقليّ بديهيّ على الاستحقاق وإن كان كلامه محلّ تأمّل ونظر من جهة اكتفائه بالعزم مع أنّ العزم المتعقّب بالفعل الخارجي يكون موجبا لاستحقاق العقوبة لا مجرّد العزم.

وقال في الوقاية : وأمّا استحقاقه العقاب فلا مانع عنه بل هو الظاهر ؛ وذلك لأنّ الإقدام على المعصية وعدم المبالاة بنهي المولى ـ ونحوهما من التعبيرات المختلفة المؤدّية إلى معنى واحد وهو التجرّي بالمعنى الجامع بين المعصية الواقعيّة والتجرّي الاصطلاحي ـ هو موضوع حكم العقل باستحقاق العقاب ، ولولاه لما حكم العقل به ولا توجّه اللوم والذمّ من العقلاء على مرتكب المعصية ؛ إذ هي مع التجرّد عن هذا

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٨.

(٢) الكفاية ٢ : ١١.

٣٨١

العنوان لا يترتّب عليها شيء سوى الآثار الذاتيّة ، وتكون كالفعل المبغوض الواقع عن جهل واضطرار ، فالموجب لجواز. العقاب ليس إلّا الإقدام على ما نهي عنه ، لا وقوع المنهيّ عنه فالتجرّي اصطلاحا وإن لم يكن عنوانا قابلا لأن يتعلّق به النهي الشرعي ويعدّ فاعله مرتكبا للحرام ، ولكنّه مشترك مع المعصية الواقعيّة في المناط الذي يحكم لأجله باستحقاق العقاب ، وهو القبح الفاعلي على ما يعبّر عنه ، وهذا عنوان لا ينفكّ عن التجرّي أصلا ... إلى أن قال : وقد علمت أنّ هذه العناوين ممّا لا ينفكّ عن التجرّي وعن المعصية الواقعيّة وأنّها هي المناط في استحقاق العاصي للعقاب ... إلى أن قال : فتلخّص أنّ التجرّي يشارك المعصية الواقعيّة فيما هو مناط القبح واستحقاق العقاب ، ولا تزيد هي عليه إلّا في ترتّب المفسدة الذاتيّة والمبغوضيّة التكوينيّة عليها دونه أعني القبح الفعلي.

وقد عرفت بما لا زيادة عليه أنّ المناط في الاستحقاق هي الجهة الاولى لا الثانية وأنّ العقلاء لا يذمّون العاصي إلّا من جهة القبح الفاعلي لا الفعلي. (١)

مراده من القبح الفاعلي إن كان مجرّد العزم على المخالفة ففيه منع ؛ لأنّ العزم المتعقّب بالفعل بعنوان أنّه مصداق الهتك قبيح ، فلا وجه لتخصيص القبيح بمجرّد العزم ، وإن كان مراده منه أنّ قبح التجرّي يجتمع مع حسن الفعل ذاتا فلا كلام. والظاهر من كلامه كما سيأتي هو الثاني.

وكيف كان فتحصّل من جميع الكلمات المذكورة أنّ مناط استحقاق العقاب في التجرّي هو عين مناط استحقاق العقوبة في المعصية الواقعيّة ، وهو الهتك والظلم ، وهما مترتّبان على القطع بالتكليف سواء كان موافقا للواقع أو لم يكن ؛ فإنّ تمام موضوعهما كما أفاد السيد الشهيد الصدر هو نفس القطع بتكليف المولى أو مطلق

__________________

(١) الوقاية : ٤٥٥ ـ ٤٥٧.

٣٨٢

تنجّزه لا واقع التكليف ؛ إذ مع تنجّز التكليف عليه لو خالف مولاه كان بذلك قد خرج عن أدب العبوديّة واحترام مولاه ولو لم يكن تكليف في الواقع. وأدب العبوديّة حقّ للمولى على العبد ، فخلافه هتك وظلم مع قطع النظر عن الواقع. (١)

وممّا ذكر يظهر ما في فرائد الاصول حيث أنكر القبح رأسا في موارد التجرّي ، وذهب إلى أنّ الموجود فيها هو كشف سوء السريرة بالفعل.

حيث قال : إنّ الكلام في كون هذا الفعل الغير المنهيّ عنه واقعا مبغوضا للمولى من حيث تعلّق اعتقاد المكلّف بكونه مبغوضا ، لا في أنّ هذا الفعل المنهيّ عنه باعتقاده ينبئ عن سوء سريرة العبد مع سيّده وكونه جريئا في مقام الطغيان والمعصية وعازما عليه ؛ فإنّ هذا غير منكر في هذا المقام.

لكن لا يجدي فى كون الفعل محرّما شرعيّا ؛ لأنّ استحقاق المذمّة على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقه على نفس الفعل. ومن المعلوم أنّ الحكم العقلي باستحقاق الذم إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعا إذا تعلّق بالفعل لا بالفاعل (٢).

وذلك لما عرفت من حكم العقل باستحقاق العقوبة بمجرّد القطع بتكليف المولى والمخالفة معه سواء وافق الواقع أو لم يوافق ؛ لأن الفعل المتجرّى به مضافا إلى كونه كاشفا عن سوء السريرة مصداق للهتك والإهانة بالنسبة إلى مولاه ، وهذا بنفسه ظلم ، وهو تمام الموضوع للقبح واستحقاق العقوبة.

الأمر الثانى : في أنّ الاستحقاق المذكور هل هو على العمل المتجرّى به أو العزم المجرّد؟ ولا يخفى أنّ الفعل المتجرّي به حيث إنّه مصداق للهتك والإهانة ، يكون قبيحا ومحكوما بالحرمة.

__________________

(١) مباحث الحجج ١ : ٣٧ ـ ٣٨.

(٢) فرائد الاصول : ٥.

٣٨٣

ولا ينافي ذلك عدم اتّصاف الفعل في نفسه بشيء من موجبات القبح أو الحرمة ، بل هو على ما عليه في نفسه ؛ إذ الفعل حيث صار مصداقا للهتك والإهانة يكون بهذا الاعتبار مبغوضا وإن لم يتغيّر وجهه في نفسه بالقطع بالخلاف ، فالفعل في نفسه كشرب الماء جائز أو محبوب ، ولكن باعتبار حدوث القطع بالخلاف وإتيانه بما يقطع بكونه معصية للمولى يصير مصداقا للهتك والإهانة ويكون قبيحا ومحرّما ، وحيث إنّ موضوع القبح والحرمة مع موضوع الحكم النفسي مختلف ، فلا منافاة ولا تضادّ بينهما ؛ لاختلاف الموضوع.

فلا وجه لما في الكفاية من اختيار كون القبيح في التجرّي هو مجرّد العزم والجزم على الجري والعمل مع بقاء المتجرّى به أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن أو القبح والوجوب والحرمة واقعا بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلّق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة ، ولا يغيّر حسنه أو قبحه بجهة اصلا ؛ ضرورة أنّ القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلا ولا ملاكا للمحبوبيّة والمبغوضيّة شرعا ، ضرورة عدم تغيّر الفعل عمّا هو عليه من المبغوضيّة والمحبوبيّة للمولى بسبب قطع العبد بكونه محبوبا أو مبغوضا له ، فقتل ابن المولى مثلا لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضا له ولو اعتقد العبد بأنّه عدوّه ، وكذا قتل عدوّه مع القطع بأنّه ابنه لا يخرج عن كونه محبوبا أبدا ، هذا (١).

وذلك لأنّ بقاء الفعل على ما هو عليه بحسب اقتضاء ذاته لا ينافي قبحه باعتبار مصداقيّته للهتك بسبب عروض القطع ، وإنّما المنافاة فيما إذا ادّعى القبح بحسب الذات ، والمفروض هو ادّعاء القبح بحسب عروض القطع بالخلاف ومصداقيّة للهتك والإهانة ، فالمصداق الخارجي له عنوانان ، ومع تعدّد العناوين لا منافاة ولا

__________________

(١) الكفاية ٢ : ١١ ـ ١٣.

٣٨٤

تضادّ كما لا يخفى.

وممّا ذكر يظهر ما في الدرر من أنّ الذي يقوى في النظر عدم كونه قبيحا أصلا فإنّا إذا راجعنا وجداننا لم نر شرب الماء المقطوع خمريّته إلّا على ما كان عليه واقعا قبل طروّ عنوان القطع المذكور عليه ، والذي أوقع مدّعي قبح الفعل في الشبهة كون الفعل المذكور في بعض الأحيان متّحدا مع بعض العناوين القبيحة كهتك حرمة المولى والاستخفاف بأمره تعالى شأنه وأمثال ذلك ممّا لا شبهة في قبحه وأنت خبير بأنّ اتّحاد الفعل المتجرّى به مع تلك العناوين ليس دائميّا لأنّا نفرض الكلام فيمن أقدم على مقطوع الحرمة لا مستخفّا بأمر المولى ولا جاحدا لمولويّته بل غلبت عليه شقوته كإقدام فسّاق المسلمين على المعصية. ولا إشكال في أنّ نفس الفعل المتجرّى به مع عدم اتّحاده مع تلك العناوين لا قبح فيه أصلا (١).

وذلك لأنّ الإهانة والهتك لا تنفكّ عن المخالفة مع أمر المولى ولو كان داعيه في المخالفة هو الشقوة لا المعاندة ولكن مع ذلك هو هتك

وبعبارة اخرى كما في تسديد الاصول : تمام الملاك لكون الفعل لا مبالاة هتكا بالمولى عدم القيام مقام الإطاعة لما يراه واجبا أو حراما ، وهو لا يتوقّف على أزيد من الإتيان بفعل يقطع بكونه معصية للمولى ، ولا يحتاج إلى قصد هتك جناب المولى بعنوانه ، بل إذا دعاه شقوته إلى العمل لكان عمله هتكا لحرمة المولى ومصداقا للمعصية مع الإصابة وللتجرّي مع الخطأ ، فلا يرد عليه ما في الدرر. (٢)

ولقد أفاد وأجاد في الوقاية حيث قال : وقد علمت أنّ هذه العناوين ممّا لا ينفكّ عن التجرّي وعن المعصية الواقعيّة وأنّها هي المناط في استحقاق العاصي

__________________

(١) الدرر : ٣٣٧ ، ط ـ جديد.

(٢) تسديد الاصول ٢ : ١٤.

٣٨٥

للعقاب ، كما أنّ العناوين المقابلة لها من احترام أمر المولى والانقياد له بمعناه اللغوي ونحوهما ممّا لا ينفكّ عنها الانقياد الاصطلاحي والإطاعة الواقعيّة ، ولولاه ما استحق ذلك عقابا ولا هذا ثوابا بل هما معنى الإطاعة والعصيان والمناط في القرب والبعد ، فالتجرّي مصداق لهذه العناوين ومحقّقها في الخارج ولا ملازم معها. ومنه يظهر استحالة الفرض الذي فرضه أعني المتجرّي غير المستخفّ ، إلّا أن يريد من هذه العناوين ما يزيد على الحاصل منها بنفس التجرّي ، ولا يناسب ذلك إلّا الردّ على من أراد تكفير المتجرّي لا الحكم عليه باستحقاق العقاب (١).

لا يقال : إنّ الجرأة على المولى إنّما تكون من الصفات النفسانيّة والأحوال العارضة للنفس ، ولا يكون لها مصداق في الخارج أصلا ، بل هو نظير العلم والإرادة وغيرهما من الصفات التي محلّها النفس. نعم يكون الإتيان بالفعل المتجرّى به كاشفا عن تحقّقه فيها ومظهرا لثبوته ، ولا يكون مصداقا له كما هو واضح. وحينئذ فلا وجه لسراية القبح إليه بعد كونه مصداقا حقيقيّا لبعض العناوين غير المحرّمة. (٢)

لأنّا نقول :

أوّلا : إنّه ينتقض بالتعظيم ونحوه من مقابلات الهتك ، فكما أنّ نفس الفعل المأتيّ به للتعظيم محكوم بالوجوب والحسن فكذلك نفس الفعل المتجرّى به محكوم بالحرمة والقبح.

وثانيا : إنّ لازم ذلك هو عدم حرمة الهتك مطلقا ، لأنّ كلّ هتك يحكي عن الجرأة على المولى ، وهي من الصفات النفسانيّة والأحوال العارضة للنفس ، ولا يكون لها مصداق في الخارج ، فلا وجه لسراية القبح إلى الفعل الخارجي مع كونه

__________________

(١) الوقاية ١ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧.

(٢) معتمد الاصول : ٣٨٣.

٣٨٦

مصداقا حقيقيّا لبعض العناوين غير المحرّمة ، بل المحبوبة كالتكبير حال خطابة المولى للإخلال بخطبته ، وهو كما ترى ؛ لشهادة الوجدان على أنّ نفس الفعل المأتيّ به للإخلال مصداق للإهانة ، وهو كاف للحكم بالقبح والحرمة ولو كان الفعل المذكور مثل التكبير محبوبا في نفسه ، فنفس التكبير المذكور باعتبار كونه مصداقا للهتك قبيح ، وكشف هذا الهتك عن سوء السريرة وطغيان النفس لا ينافي صدق الإهانة على نفس الفعل وكفايته في الحكم بالقبح والحرمة.

ويشهد له وجدان الفرق بين حاله قبل الإتيان بالفعل وبين حاله بعده ، والذمّ في الأوّل راجع إلى خلقه ، وفي الثاني راجع إلى فعله ، كما قال في الوقاية ويرشدك إليه حكم الوجدان بالفرق الواضح بين من علم سوء سريرته بإتيان ما يقطع بحرمته وبين من علم منه ذلك بعلم الرمل مثلا وبين حاله قبل الإتيان به وبين حاله بعده والذمّ في الأوّل متوجّه على خلقه وفي الثاني على فعله ، وشتّان بين ذمّ الشخص وبين ذمّ الفعل. (١)

ثم إنّ المنقول عن سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره في تهذيب الاصول أنّه سلّم انطباق الهتك والظلم على الخارج ، وإنّما استشكل فيه من ناحية عدم الملازمة بينهما وبين التجرّي (٢).

وقد مرّ أنّا نمنع عدم الملازمة ؛ إذ لا تفكيك بين الهتك والظلم والتجرّي ، بل التجرّي مصداق لهذه العناوين لا أنّه ملازم لها ، فتدبّر جيّدا.

فتحصّل : أنّ الفعل المتجرّى به أو العزم المتعقّب بالفعل مصداق للهتك والإهانة ، ومندرج تحت عنوان الظلم ، ويحكم العقل باستحقاق العقوبة عليه.

__________________

(١) الوقاية : ٤٥٧.

(٢) تهذيب الاصول ٢ : ١٦.

٣٨٧

الأمر الثالث : في ملازمة حكم العقل بقبح التجرّي مع حكم الشرع بالحرمة. وعدمها ولا يخفى عليك أنّه يقع الكلام حينئذ في أنّ حكم العقل بقبح الفعل المتجرّى به هل يستلزم حرمته شرعا أولا؟.

وقد استدلّ على ذلك بقاعدة الملازمة بين الحكم العقليّ والحكم الشرعي أعني كلّما حكم به العقل حكم به الشرع.

أورد عليه في مصباح الاصول بأنّ القاعدة المذكورة مسلّمة إن كان المراد بها إدراك العقل في ناحية سلسلة علل الأحكام الشرعيّة من المصالح والمفاسد ؛ إذ العقل لو أدراك مصلحة ملزمة في عمل من الأعمال وأدرك عدم وجود مزاحم لتلك المصلحة فلا محالة علم بوجوبه الشرعي بعد كون مذهب أهل العدل أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد ، وهكذا لو أدرك مفسدة ملزمة بلا مزاحم علم بالحرمة الشرعيّة لا محالة فهذه الكبرى مسلّمة ولا كلام فيها ، وإنّما الكلام في صغراها ؛ إذ قلّما يوجد مورد يعلم العقل بعدم المزاحم كموارد المستقلّات العقليّة كحسن العدل وقبح الظلم ؛ لأنّ العقل لا يحيط بالمصالح الواقعيّة والمفاسد النفس الأمريّة والجهات المزاحمة لها ، ولذا ورد فى الروايات أنّ دين الله لا يصاب بالعقول وانّه ليس شيء أبعد عن دين الله من عقول الرجال.

وإن كان المراد بها إدراك العقل في ناحية معلولات الأحكام الشرعيّة كحسن الإطاعة وقبح المعصية وقبح التجرّي وحسن الانقياد فإنّ حكم العقل فيها فرع ثبوت الحكم الشرعيّ المولويّ ، فقاعدة الملازمة أجنبيّة عنه.

وعليه فلا دليل على أنّ حكم العقل بقبح التجرّي يستلزم الحرمة الشرعيّة ، بل لنا أن ندّعي عدم إمكان جعل حكم شرعيّ مولويّ في المقام ؛ إذ لو كان حكم العقل كافيا في إتمام الحجّة على العبد وفي بعثه نحو العمل أو زجره عن العمل كما هو الصحيح فلا حاجة إلى جعل حكم شرعيّ مولويّ آخر ، وإن لم يكن كافيا فلا فائدة

٣٨٨

في جعل حكم آخر ؛ إذ هو مثل الحكم الأوّل ، فيكون جعل الحكم لغوا يستحيل صدوره من الحكيم تعالى وتقدّس (١).

ولا يخفى عليك أنّ القول بعدم الفائدة منظور فيه ؛ إذ ربما يكون الانبعاث موقوفا على حكم مولويّ ولكنّ الحاجة إليه في بعض الأحيان لا تصلح لإثبات الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي مطلقا ، بل هو مختصّ بمورده.

واستشكل الشهيد الصدر قدس‌سره على ما في مصباح الاصول بأنّه كلّما كان الشارع يهتمّ بحفظ الملاك بأكثر ممّا يقتضيه الحسن والقبح العقليين من الحفظ الذاتي وكان ذلك ـ أي الحفظ المذكور ـ يحصل بجعل الشارع أمكن استكشاف جعل شرعيّ في مورد الحكم العقلي من غير فرق بين أن يكون حكم العقل في مرتبة علل الأحكام أو في سلسلة معلولاتها. وفي مسألة التجرّي يمكن للشارع جعل خطاب تحريمي له لكي يحفظ.

ملاكات أحكامه الواقعيّة بمرتبة جديدة وزائدة من الحفظ ولو في حقّ من تنجّز عليه التكليف الواقعي بغير العلم ، فإنّه إذا علم بحرمة التجرّي عليه على كلّ حال فقد يتحرّك ولا يقدّم على ارتكاب المخالفة ؛ لأنّ للانقياد والتحرّك عن خطابات المولى درجات ، فقد ينقاد المكلّف في موارد العلم بالتكليف ولكنّه لا ينقاد في موارد الاحتمال أو الظن وإن كان منجّزا عليه ـ بحكم العقل ـ فيكون جعل حرمة التجرّي لمزيد الحافظيّة وسدّ أبواب العدم بهذا الخطاب وفي هذه المرتبة ، فلا لغوية أصلا. (٢)

ولا يذهب عليك أنّ إمكان ترتّب الفائدة على الحكم الشرعيّ المولوي

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٢٦.

(٢) مباحث الحجج ١ : ٦٢.

٣٨٩

أحيانا لا إنكار له ، ولكن لا يكفي ذلك للحكم بالملازمة بين الحكم العقليّ والشرعيّ ؛ لجواز الاكتفاء بالحكم العقلي في إتمام الحجّة ، إذ الذي تقتضيه قاعدة اللطف والحكمة هو وجود ما يصلح للداعويّة ، والحكم العقلى فى موارد المعلومات ممّا يصلح للداعويّة ، فيصحّ أن يقال مع كون الحكم العقلي كافيا في الاحتجاج فلا حاجة إلى الجعل الشرعيّ المولوي. نعم إذا علم باهتمام الشارع بحفظ الملاك بأكثر من ذلك في بعض الموارد أمكن استكشاف جعل شرعيّ فى مورد الحكم العقلي فيما إذا لم يحصل ذلك إلّا بجعل شرعيّ ، ولكن قلّما توجد موارد يقطع العقل بذلك فيها. هذا ، مضافا إلى أنّ الكلام في مراتب المعلولات لا ملاحظة العلل والملاكات ، فتدبّر جيّدا.

فتحصّل : أنّه لا دليل على الملازمة بين حكم العقل باستحقاق العقوبة في الفعل المتجرّى به وبين الحكم الشرعي إلّا في موارد العلم باهتمام الشارع بحفظ الملاكات بحيث لا يكتفي بالحكم العقلي.

٣٩٠

الخلاصة :

الباب الأوّل في القطع ، وفيه فصول

الفصل الأوّل في القطع ، ويقع البحث فيه من جهات :

الجهة الأولى : أنّ القطع يكون بنفسه طريقا إلى الواقع وحيث انّ الطريقية المذكورة عين ذات القطع لا تكون قابلة للجعل مطلقا سواء كان الجعل بسيطا كجعل طريقيّة القطع ، أو مركّبا كجعل القطع طريقا لا استقلالا ولا تبعا ، كما لا يتصوّر الجعل في ذاتيّات كلّ شيء كالحيوانيّة والنطق للإنسان ، إذ وجدان الشيء لذاته وذاتيّاته ضروريّ ولا يحتاج إلى جعل جاعل.

نعم يجوز تعلّق الجعل بوجود القطع أو بإيجاد المقدّمات الموجبة للقطع.

ودعوى أنّ الذاتيّ لا ينفكّ عن الشيء مع أن القطع قد يصيب وقد لا يصيب ، فمنه علم أنّ الطريقيّة والكاشفيّة ليستا ذاتيّا ، وكونه كذلك في نظر القاطع لا يثبت كونها من لوازمه الذاتيّة ، لانّ الذاتيّ لا يختلف في نظر دون نظر.

مندفعة بأنّ كشف القطع في نظر القاطع لا يختلف في نظر دون نظر ، ما دام القطع موجودا عند القاطع ، وعدم إصابته بالنسبة إلى الواقع لا يجعل القطع غير كاشف فالقطع أينما تحقّق لا ينفكّ عن الكاشفيّة وحيث إنّها ذاتيّة لا تحتاج إلى الجعل.

الجهة الثانية : أنّ بعد ما عرفت من كون الطريقيّة والكاشفيّة عين القطع هل

٣٩١

تكون حجيّة القطع ذاتيّة أم لا؟

هنا أقوال.

أحدها : أنّ تأثير القطع في الحجّيّة بمعنى تنجّز التكليف واستحقاق العقوبة على المخالفة لازم للقطع ، وصريح الوجدان شاهد على ذلك.

ولعلّ الوجه فيه أنّ مخالفة التكليف المجهول لا توجب استحقاق العقوبة بحكم العقل ، بل الشرط في تأثيرها في ذلك ، هو القطع بالتكليف ، فالقطع شرط في تأثير المخالفة في حكم العقل باستحقاق العقوبة ، فهذا الشرط كسائر الشروط التكوينيّة لا يتوقّف تأثيره على شيء آخر غير وجود المقتضى. فإذا انضمّ هذا الشرط إلى وجود المقتضي ، فالتأثير لازم قهرا من دون حاجة إلى جعل شرعيّ أو عقلائيّ إذ القطع يجعل المخالفة مصداقا لهتك حرمة المولى ، ومن المعلوم أنّه ظلم ، وقبح الظلم ذاتيّ وليس بمجعول.

نعم المنجّزيّة لا تكون من لوازم ماهيّة القطع ، بل هي من لوازم وجود القطع ، فإذا حصل القطع للإنسان ، يحكم العقل بترتّب استحقاق العقوبة على المخالفة.

هذا كلّه بالنسبة إلى المنجّزيّة ، وأمّا المعذّريّة ، فظاهر العبارات أنّها كذلك ، إذ العقل يحكم بعدم استحقاق العقوبة عند عدم مصادفة قطعه للواقع.

ثانيها : أنّ استحقاق العقوبة ليس من الآثار القهريّة واللوازم الذاتيّة لمخالفة التكليف المعلوم قطعا ، بل من اللوازم الجعليّة من العقلاء ، لأنّ حكم العقل باستحقاق العقوبة ليس ممّا اقتضاه البرهان ، بل من القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء لعموم مصالحها ، ومخالفة أمر المولى هتك لحرمته وهو ظلم عليه ، والظلم قبيح ، أي ممّا يوجب الذمّ والعقاب عند العقلاء ، فدخل القطع في استحقاق العقوبة جعليّ عقلائيّ لا ذاتيّ قهريّ كسائر الأسباب الواقعيّة والآثار القهريّة.

فإذا عرفت أنّ الحجّيّة بمعنى المنجّزيّة من اللوازم الجعليّة العقلائيّة ، فبناء على

٣٩٢

أنّ جعل العقاب من الشارع يصحّ القول بجعل المنجّزيّة للقطع شرعا ، من دون لزوم محذور.

يمكن أن يقال ، إنّ استحقاق العقوبة على مخالفة التكليف المعلوم من جهة كونها هتك لحرمة المولى لا يحتاج إلى تطابق الآراء ، بل العقل مدرك لذلك ، ولو لم يكن اجتماع لأنّه من مصاديق قبح الظلم ، وقبح الظلم كحسن العدل أمر ثابت ولو لم يكن اجتماع أو لم يوجب اختلالا في النظام ، وذلك لملاءمة العدل مع القوّة العاقلة ومنافرة الظلم معها وهي تكفي في إدراج القضيّة في اليقينيّات.

هذا مضافا إلى أنّ الأوامر الشرعيّة ليست بتمامها دخيلة في حفظ النظام ، فتدبّر.

ثالثها : أنّ الصحيح أنّ حجّيّة القطع من لوازمه العقليّة بمعنى أنّ العقل يدرك حسن العمل به وقبح مخالفته ويدرك صحّة العقوبة عند المخالفة لقطعه ، لا بمعنى إلزام العقل أو تحريكه وبعثه.

ثمّ إنّ إدراك العقل لذلك لا يكون بجعل جاعل أو بناء من العقلاء ، لتكون الحجّيّة من الامور المجعولة ، أو من القضايا المشهورة.

بل هو من الامور الواقعيّة الأزليّة ، كما هو الحال في جميع الاستلزامات العقليّة وتحرّك الإنسان ، نحو ما يراه نفعا له ، أو ابتعاده ممّا يراه ضررا عليه ليس بإلزام من العقل بل السبب فيه حبّ النفس ولا اختصاص لذلك ، بالإنسان ، بل كلّ حيوان يكون كذلك بفطرته ، وهذا التحريك تكوينيّ لا بعث تشريعيّ.

ولا يخفى عليك ، أنّ القول الثالث يشبه القول الأوّل ، والفرق بينهما في أنّ القول الأوّل ظاهر في أنّ العقل حكم بذلك دون القول الثالث ، فإنّه صريح في عدم حكم العقل بذلك وهو الصحيح ولكن حركة الإنسان غير حركة الحيوان ، فإنّ الحركة في الإنسان ناشئة عن الإدراك ، كإدراك الاستلزامات بخلاف الحيوان فإنّه في الغالب

٣٩٣

غريزيّ فتدبّر.

الجهة الثالثة : أنّه هل يجوز للشارع أن ينهى عن العمل بالقطع أو لا؟

قال الشيخ الأعظم ، لا يجوز ذلك ، لاستلزامه التناقض ، إذ بمجرّد القطع بكون مائع بولا يحصل له صغرى وكبرى أعني قوله هذا بول وكلّ بول يجب الاجتناب عنه ، فهذا يجب الاجتناب عنه ، وعليه فحكم الشارع بأنّه لا يجب الاجتناب عن المقطوع يوجب التناقض إلّا إذا قلنا بأنّ النجاسة وحرمة الاجتناب من أحكام ما علم بوليّته من وجه خاصّ.

قال المحقّق الخراساني ، إنّ المنع عن تأثير القطع ينافي كون التنجيز ذاتيّا. هذا مضافا إلى أنّه يلزم منه اجتماع الضدّين اعتقادا مطلقا اي أصاب أو لم يصب ، وحقيقة في صورة الإصابة.

اورد عليه سيّدنا الإمام قدس‌سره بأنّ وجه الامتناع ليس لزوم اجتماع الضدّين ، لأنّ الضدّين ، أمران وجوديّان ، والوجوب والحرمة وغيرهما من الامور الاعتباريّة ، بل وجه الامتناع هو لزوم اجتماع الإرادتين المختلفتين على مراد واحد ، والإرادتان ، أمران وجوديّان واقعيّان. هذا مضافا إلى لغويّة الحكم الأوّل لو نهى عن العمل بالقطع.

وكيف ما كان فقد خالفهم صاحب الوقاية بدعوى أنّ التناقض لا يلزم على نحو الكلّيّة ، إذ لا يكون كلّ قطع مصيبا للواقع ، وعليه فلا يصحّ الحكم على كلّيّ القطع بعدم جواز الردع عنه من هذه الجهة.

هذا مضافا إلى أنّ التناقض لا يلزم إلّا إذا تعلّق الردع عمّا قطع عليه ، وأمّا إذا كان مفادّ الأمارة المعذوريّة أو رفع تنجّز الحرمة فلا تناقض أصلا. وقد وقع ذلك في ترخيص الشارع في ارتكاب مشكوك الحرمة ، بل ومظنونها في موارد البراءة والبيّنة القائمة على حلّيّة مظنون الحرمة إذ الترخيص لا يختصّ بصورة عدم المصادفة مع الحرام ، بل مشكوك الحرمة حلال مطلق إذا كان مورد البراءة ومفاد الأمارة ،

٣٩٤

فالتناقض المدّعى وجوده ، موجود فيها ، إذ من المعلوم وجود محرّمات كثيرة ، ونجاسات واقعيّة بين هذه المشكوكات.

فالإشكال مشترك ، وطريق الحلّ واحد ، وهو أنّ متعلّق القطع والظّنّ هو الحرمة الواقعيّة ، والردع لا يكون عنها أبدا ، بل الإذن يكون مؤمنا من عقابها ، أو رافعا لتنجّزها ، والتنجّز أو العقاب لم يتعلّق به القطع أبدا.

ودعوى أنّ مرتبة الحكم الظاهري محفوظة مع الظّن والشكّ ، لوجود الساتر على الواقع ، فيكون بما هو مجهول الحكم حلالا ، بخلاف القطع الذي هو عين الانكشاف ، من دون ستر وحجاب الذي لا يدع مجالا للإذن ، ولا لموضوع حكم آخر.

مندفعة بأنّه لا ينحصر جعل الحكم الظاهري في وجود الساتر ، بل ليس الوجه في إمكان أخذ الجهل موضوعا إلّا تأخّر مرتبة هذا الحكم عن الواقع بسببه ، وهذا موجود مع القطع أيضا فكما أنّ الشيء بعنوان أنّه مجهول الحكم متأخّر عنه ، فكذلك متأخّر بعنوان أنّه مقطوع الحكم.

ويمكن أن يقال أوّلا : إنّ الترخيص في ارتكاب فعل مقطوع الحرمة ترخيص في المخالفة بنظر القاطع. إذ الإتيان بالفعل مع القطع بالحرمة علّة تامّة ، لتحقّق عنوان المخالفة ، وهي قبيحة بحكم العقل ، والإذن فيها يخالف القبح العقلي ، ودعوى إمكان رفع التنجّز كما في مورد الظنّ والاحتمال لا يساعد مع كون التنجّز ذاتيّا لوجود القطع وعليه فلا يفيد تأخّر مرتبة الترخيص عن مرتبة الحكم الواقعي في رفع المحذور ، فإنّ القطع بالحكم علّة تامّة لحكم العقل باستحقاق المذمّة والعقوبة لمخالفة التكليف ، ومع هذا الحكم الواضح العقلي لا يقبل الشيء بعنوان مقطوع الحكم ما يخالف الحكم المتعلّق بنفس الشيء المنكشف بالقطع.

وثانيا : أنّ النهي عن العمل بالقطع يستلزم التناقض في مرحلة ثبوت الغرض

٣٩٥

الفعليّ التامّ من جميع الجهات وعدمه في نظر القاطع ، لأنّ الغرض الداعي الى جعل التكليف بنظر القاطع موجود وهو فعليّ مطلق ، حتّى في موارد الشكّ ولا معنى للنهي عن القطع ، إلّا عدم وجود الغرض الفعلي من جميع الجهات ولا يمكن الجمع بين ثبوت الغرض كما هو مقتضى القطع وبين عدمه كما هو مقتضى النهي عن العمل به كما لا يخفى.

لا يقال لازم ما ذكر من عدم إمكان الترخيص في مخالفة المقطوع هو عدم جواز تصرّف الشارع في حجّيّة بعض أقسام القطع كالقطع الحاصل من الوسواس ، أو القطع القياسي مع أنّ المعلوم خلافه ، إذ الشارع منع عن العمل بالقطع الوسواسيّ والقياسي بالضرورة.

لأنّا نقول إنّ الردع عن العمل بالقطع الوسواسي أو القياسي بالنسبة إلى عمل نفسه لا بدّ من أن يكون من جهة طروء عنوان يستوجب تبدّل الواقع عن حكمه إلى حكم آخر ، فيكون الواقع موضوعا للحكم ، إلّا في حال الوسواس ، فيكون له حكم آخر ، نظير العناوين المأخوذة موضوعات للأحكام الثانويّة ، فشرب النجس مثلا في نفسه حرام ، لكن كما أنّه ، إذا اضطرّ إليه يجب شربه فكذلك إذا كان المكلّف وسواسيّا يجب عليه أن يشرب النجس وإن علم أنّه نجس ، فالوسواسيّ وإن حكم بتنجيز الحكم الواقعيّ في حقّ نفسه ، ولكن للشارع أن يرخّصه في تركه لما يرى من تبدّل عنوان الواقع المقطوع الموجب لرفع التنجّز واقعا ، والوسواسيّ والقطّاع وإن حكما بقطعهما على تنجيز الواقع ، ولكن لا اعتبار بعد إحراز طروء العناوين المبدّلة للحكم الواقعيّ ولا يناقض هذا الحكم مع الحكم الواقعيّ بعد كون حكم الشارع عند الوسواس أو القياس متعلّقا على المعنون بعنوان الوسواس والقياس ، والحكم المقطوع يكون متعلّقا بعنوان نفس الشيء ، وحيث إنّه أعمّ سقط الواقع عن التنجيز ولا يلزم منه الترخيص في المعصية الفعليّة ، فإنّه فيما إذا لم يتبدّل الموضوع الواقعي.

٣٩٦

وثالثا : أنّ ما ذكرناه من عدم حجّيّة قطع القطّاع ، أو قطع الوسواسي ، ليس من شواهد عدم كون القطع علّة تامّة للتنجيز ، لأنّ القطع عند القاطع يكون منجّزا بنحو العلّيّة التامّة.

وهكذا ما ذكرناه ليس بمعنى رفع التنجيز ، بل معنى ما ذكرناه هو أنّ الحكم بالتنجيز من القاطع لا يعتبر عند الشارع فيما إذا كان القطع كثير الخطأ ، ففي هذه الصورة يجوز للشارع النهي عن العمل به ، لطروء العناوين المسوّغة لذلك.

فتحصّل أنّه لا يجوز النهي عن العمل بالقطع ما لم يطرأ عنوان آخر يسوّغ النهي عنه ، كما في مورد الوسواس أو القطّاع أو من أخذ بالقياس.

تنبيه في حقيقة الحكم ومراتبه

ذكر جماعة أنّ مراتب الحكم أربعة : إحداها مرتبة الاقتضاء ، ويعبّر عنها بمرتبة الشأنيّة ، وليس لهذه المرتبة إلّا شأنيّة الثبوت ، فمثل طبيعة النظافة مثلا في نفسها ذات مصلحة مستعدّة باستعداد ماهويّ لقبول الوجوب فمع وجود المانع عن الوجوب يقال لها شأنيّة الوجوب ، ووجوب اقتضائي وليس لها وراء ذلك ثبوت ووجود ، كما لا يخفى.

ثانيتها مرتبة الإنشاء ، وهو إيجاد المعنى باللفظ إيجادا لفظيّا ، بحيث ينسب الوجود الواحد إلى اللفظ بالذات ، والى المعنى بالعرض.

ثالثتها مرتبة الفعليّة ، وهي الّتي تبلغ مرتبة البعث والزجر بنحو الجدّ ، فإذا أنشأ المولى حكما بداعي جعل الداعي من جدّ وإرادة جزميّة تمّ الأمر من قبل المولى.

رابعتها مرتبة التنجّز ، وهي ما إذا بلغ الحكم إلى مرتبة الوصول إلى المكلّف وحصول العلم به ، وحينئذ يكون مخالفته موجبة لاستحقاق العقوبة ، وهذا هو معنى التنجيز.

يمكن أن يقال إنّ مراتب الحكم اثنتان : إحداهما مرتبة الإنشاء وثانيتهما مرتبة

٣٩٧

الفعليّة من قبل المولى ، إذ مرتبة التنجّز ليست من مراتب الحكم حيث إنّ علم المكلّف وجهله بالحكم لا يوجب تغييرا في ناحية الحكم الفعليّ من قبل المولى. وهكذا مرتبة الاقتضاء ليست من مراتب الحكم ، لأنّه ليس فيها ثبوت حكم أصلا.

الجهة الرابعة : في التجرّي ، واعلم أنّه لا إشكال في أنّ القطع عند الإصابة يوجب التنجيز واستحقاق العقوبة على المخالفة.

وإنّما الكلام في أنّ القطع عند عدم الإصابة والتجرّي ، هل يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة أو لا؟

ويقع الكلام في أمور :

الأمر الأوّل : أنهم استدلّوا على أنّ التجرّي يوجب استحقاق العقوبة بوجوه ، منها الاتّفاق والإجماع ، اجيب عنه بأنّ الإجماع المحصّل غير حاصل ، والمنقول ليس بحجّة ، هذا مضافا إلى أنّ المسألة عقليّة ، والإجماع فيها لا يكشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام.

ومنها حكم العقل بتقريب أنّ العقاب على المعصية الواقعيّة ليس إلّا لكونه هتكا لحرمة المولى وجرأة عليه وهذا الملاك موجود في التجرّي ، ومقتضاه هو استحقاق المتجرّي للعقوبة. لا يقال إنّ العقاب على المعصية يكون لأجل ذات المخالفة مع الأمر والنهي ، أو لأجل تفويت الغرض ، أو لأجل ارتكاب المبغوض للمولى ، لأنّا نقول ليس كذلك لوجود الكلّ في صورة الجهل. ومع ذلك لا يحكم فيه باستحقاق العقوبة.

فالتجرّي مشترك مع المعصية الواقعية في المناط الذي يحكم العقل لأجله باستحقاق العقوبة وهو الإقدام على المعصية وعدم المبالات بنهي المولى وهتك حرمته ، ومقتضاه هو استحقاق العقوبة بالتجرّي كما يستحقّها بارتكاب المعصية الواقعيّة.

٣٩٨

ودعوى أنّ استحقاق المذمّة على ما كشف عنه الفعل من سوء السريرة لا يوجب استحقاقها على نفس الفعل ، ومن المعلوم أنّ الحكم العقلي باستحقاق الذمّ ، إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعا إذا تعلّق بالفعل ، لا بالفاعل.

مندفعة بما عرفت من حكم العقل باستحقاق العقوبة ، بمجرّد القطع بالتكليف ، والإقدام على المخالفة ، من دون فرق بين الموافقة للواقع عدمها ، وذلك لأنّ الفعل المتجرّى به مضافا إلى أنّه كاشف عن سوء السريرة يكون مصداقا للهتك والإهانة بالنسبة إلى المولى وهذا بنفسه ظلم وهو تمام الموضوع لاستحقاق العقوبة.

الأمر الثاني : في أنّ الاستحقاق المذكور هل يكون على الفعل المتجرّى به أو خصوص العزم ، والمختار هو الأوّل.

والوجه فيه ، أنّه مصداق للهتك والإهانة للمولى ، والهتك قبيح ومحكوم بالحرمة ولا ينافيه عدم اتّصاف الفعل في نفسه بشيء من موجبات القبح ، إذ صيرورة الفعل مصداقا للهتك يكفي في كونه موجبا لاستحقاق العقوبة وإن لم يتغيّر وجهه في نفسه ، وحيث إنّ موضوع القبح والحرمة مع موضوع الحكم النفسي للفعل مختلف فلا منافاة ولا تضادّ بين كون الفعل محكوما بالجواز في نفسه ، وبين كونه محكوما بالحرمة باعتبار كونه مصداقا للهتك والإهانة بالنسبة إلى المولى.

وإنّما المنافاة فيما إذا ادّعى القبح بحسب ذات الفعل وهو خلاف المفروض ، ودعوى أنّ اتّحاد الفعل المتجرّى به مع عنوان الهتك والإهانة ليس دائميّا ، لأنّ من أقدم على مقطوع الحرمة من جهة شقوة نفسه لا من جهة الاستخفاف بالمولى ، لا يكون إقدامه هتكا للمولى.

مندفعة بأنّ الهتك يصدق مع القطع بكونه معصية للمولى ، ولو لم يقصد الهتك لكفاية مخالفته ، مع القطع المذكور في صدق الهتك والإهانة.

لا يقال ، إنّ الجرأة على المولى ، تكون من الصفات النفسانيّة والأحوال العارضة

٣٩٩

على النفس ، والفعل المتجرّى به يكشف عن تحقّقها في النفس ، ولا يكون هو بنفسه مصداقا لها ، والقبيح هو الجرأة ولا وجه لسراية القبح منها إلى الفعل.

لأنّا نقول أوّلا : إنّه منقوض بمثل التعظيم ونحوه ، فكما أنّ نفس الفعل المأتيّ به للتعظيم محكوم بالحسن والوجوب ، فكذلك نفس الفعل المتجرّى به محكوم بالقبح والحرمة.

وثانيا : إنّ لازم ذلك هو عدم القول بحرمة الهتك مطلقا ، لأنّ كلّ هتك يحكي عن الجرأة على المولى ، وهي محكومة بالحرمة لا نفس الفعل وهو كما ترى ، وبالجملة كشف الهتك عن سوء السريرة والجرأة والطغيان لا ينافي صدق الإهانة على الفعل المتجرّى به وكفاية ذلك في الحكم بالقبح أو الحرمة.

فتحصّل أنّ الفعل المتجرّى به ، أو العزم المتعقّب بالفعل ، مصداق للهتك والإهانة ، وبهذا الاعتبار يندرج الفعل المتجرّى به تحت عنوان الظلم ، وحكم العقل باستحقاق العقوبة عليه.

الأمر الثالث : في ملازمة حكم العقل مع حكم الشرع وعدمها في الاستحقاق المذكور.

ربّما يستدلّ على ذلك في المقام بقاعدة الملازمة بين الحكم العقليّ والحكم الشرعيّ ، أعني كلّما حكم به العقل حكم به الشرع.

اورد عليه في مصباح الاصول بأنّ القاعدة المذكورة مسلّمة إن كان المراد بها ، إدراك العقل في ناحية سلسلة علل الأحكام الشرعيّة من المصالح والمفاسد ، إذ العقل لو أدرك مصلحة ملزمة في عمل من الأعمال وأدرك عدم وجود مزاحم لتلك المصلحة فلا محالة علم بوجوبه الشرعي بعد كون مذهب أهل العدل ، أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد.

وهكذا لو أدرك مفسدة ملزمة بلا مزاحم علم بالحرمة الشرعيّة لا محالة ، فهذه

٤٠٠