عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

الخلاصة :

الفصل الأوّل : في تعريف المطلق

حكي عن المشهور ، أنّ المطلق هو ما دلّ على شائع في جنسه ، اورد عليه بعدم الاطّراد لشموله للمقيّد كقوله رقبة مؤمنة ، لأنّه أيضا شائع في جنسه ولشموله للعامّ فإنّه أيضا شائع في جنسه ، هذا مضافا إلى أنّ هذا التعريف غير منعكس لخروج الأعلام الشخصيّة من هذا التعريف لعدم الشمول فيها إلّا للمعيّنات الخاصّة ، والمعهودات الخارجيّة ، ولا مورد للشيوع في الجنس فيها.

وعرّفه جماعة ، منهم الشهيد ، أنّه اللفظ الدالّ على الماهيّة من حيث هي هي اورد عليه بأنّ قولهم من حيث هي هي إن كان جزء مدلول اللفظ فهو ينافي الإطلاق وإن كان صفة للمعنى ، فهو يشمل لما هو غير مقيّد أصلا ولما هو مقيّد ولكنّه ملحوظ من جهة إطلاقه في حصصه وأفراده فإنّه يصدق عليه أيضا أنّه دالّ على الماهيّة من حيث هي هي ولا يوجب انحصار المطلق فيما لا تقييد فيه ولعلّه لذلك عدل الشيخ الأنصاري قدس‌سره عن التعريف المنطقي ، وذهب إلى التعريف اللغوي.

وهو أنّ المطلق ما ارسل عنانه وهو يشمل الماهيّة المطلقة والنكرة ؛ والمقيّد بخلافه ، فإنّه ما لم يرسل عنانه ، سواء كان مطلقا ومرسلا ، ثمّ لحقه التقييد فأخذ عنانه وقلّ انتشاره ، مثل رقبة مؤمنة ، أو لم يكن مرسلا من أوّل الأمر كالأعلام الشخصيّة ونحوها.

٢٨١

قال شيخنا الأعظم : هذا الاستعمال في غاية الشيوع بينهم ، وعليه فيشمل المطلق بهذا المعنى الأعلام الشخصيّة فإنّها من المطلقات باعتبار إطلاق أحوالها من حيث القيام والقعود والسفر والحضر ونحوهما من الحالات.

ولعلّ هذا هو مراد الشهيد ، فإنّ المطلق هو ما لم يؤخذ فيه قيد وحال خاصّ ، بل اخذ من حيث هي هي.

ثم إنّ معنى إرسال العنان أنّه لم يؤخذ شيء زائد على نفس المعنى فيه ، فالإطلاق مقتضى ذات المعنى ، فإنّه يصدق على كلّ فرد من أفراده بإطلاقه الذاتي ، فالشيوع غير مأخوذ في المعنى اللغوي ، وعليه فالمطلق لا يشمل العموم لأخذ الشيوع في العموم دون المطلق.

ثمّ إنّ الإطلاق والتقييد يكونان من أوصاف المدلول والمفهوم وإن اتّصف بهما الألفاظ بالتبع ، إذ التوسيع والتضييق لا معنى له في اللفظ مع كونه جزئيّا وممّا ذكر يظهر حكم أسامي الأجناس وأعلامها والنكرة من جهة أنّ نفس المعنى مدلولها من دون أخذ الشياع والسريان أو بعض الخصوصيّات فيها ، وإليك تفصيل ذلك :

أسامي الأجناس :

ولا يخفى أنّها موضوعة لنفس المعاني من دون ملاحظة أيّ قيد من القيود فيها حتّى اعتبار المقسميّة للأقسام بل حتّى اعتبار من حيث هي هي.

ولذلك يحمل على الذاتيّات ، من دون نظر إلى الخارج عنها كقولنا الإنسان حيوان ناطق أو الإنسان حيوان أو ناطق مع أنّه لو كان غير الذات مأخوذا فيه لما حمل عليه الذاتي كالجنس والفصل من دون تجريد أو عناية.

ولذلك أيضا يحمل على الأفراد فإنّها من مصاديقها من دون حاجة إلى التجريد وهو شاهد على أنّ الشيوع والسريان غير مأخوذين في معناها ، وإلّا لما حمل

٢٨٢

عليها من دون تجريد أو عناية.

ثمّ إذا اعتبر مع نفس المعنى أمر غير ما هو مأخوذ فيه في نفسه ، فهو يعدّ من أطوار ذلك المعنى سواء كان ذلك الأمر اعتبار الوجود الذهني فيه أو الخارجي ، أو اعتبار أمر آخر غيرهما ، إذ في جميع هذه الأطوار نفس المعنى محفوظ من دون تبدّل وتغيير فيه ، وإنما التبدّل والتغيير في أطوار المعنى وعوارضه.

فالموضوع له في أسماء الأجناس هو معنى يكون فوق اللابشرط المقسمي ، واللابشرط القسميّ ، لأنّهما متحقّقان فيما إذا قيس المعنى إلى خارجه ، سواء كان الخارج هو الاعتبارات الثلاثة أو القيود الخارجيّة ، بل لم يعتبر فيها بالمعنى الذي ذكرناه قيد الإهمال ولا الإبهام ولا الإطلاق والشيوع ولا قيد الكلّيّ ، إذ الموضوع له للمطلق ليس إلّا هو نفس المعنى وإن دلّت على الامور المذكورة بقيام القرينة من باب تعدّد الدالّ والمدلول.

أعلام الأجناس :

ولا يخفى عليك أنّ بعض الفحول من الاصوليّين ذكر الفرق بين علم الجنس واسم الجنس ، في أنّ علم الجنس كاسامة وضع للجنس بملاحظة حضوره وتعيّنه في الذهن ، فمدلوله كمدلول المعرّف بلام الجنس متقيّد بالحضور والتعيّن ، ولذا كان من المعارف دون اسم الجنس فإنّه وإن دلّ على الماهيّة إلّا أنّ مدلوله لم يتقيّد بشرط الحضور.

يمكن أن يقال إنّ تقييد المعنى بالحضور في الذهن في أعلام الجنس والمعرّفات باللام فاسد ، إذ مقتضى التقييد بأمر ذهنيّ هو عدم صحّة حملهما على الأفراد الخارجيّة ، وهو كما ترى.

فالصحيح هو أن يقال في الفرق إنّ الموضوع له في علم الجنس كاسامة هو ،

٢٨٣

حصة من الطبيعي تعلّقت بها الإشارة الذهنيّة من دون أخذ جهة التقييد بها في مدلوله ومعناه ، وهكذا الأمر في المشار إليه في المعرّف بلام الجنس هذا بخلاف الموضوع له في اسم الجنس ، كأسد ، فإنّه الطبيعيّ الذي له سعة إطلاق يشمل الكثيرين.

فالفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس والمعرّف بلام الجنس يكون بحسب المعنى ، حيث إنّه كان لاسم الجنس سعة إطلاق وليس ذلك لعلم الجنس والمعرّف بلام الجنس ، بل يختصّ علم الجنس والمعرّف بلام الجنس بالحصّة الّتي اشير إليها.

وحيث إنّ التقييد بالإشارة لا يؤخذ في المعنى ، يكون المعنى قابلا للحمل على الأفراد والانطباق على الخارجيّات.

فما ذكره المشهور من أهل العربيّة من كون التعريف في علم الجنس والمعرّف بلام الجنس معنويّا وليس بلفظيّ متين جدّا.

المعرّف باللام :

والظاهر من كلمات أهل الأدب أنّ الأصل في اللام أنّه للتعريف إلّا ما خرج ، والمعرّف بلام الجنس هو ما دخل عليه لام الجنس وهي التي اشير بها إلى الجنس ، فتفيد تعريف الجنس والإشارة إليه.

وهذا التعريف لا يحصل باسم الجنس المعرّى عن اللام وإن دلّ على الجنس ، والفرق بين المعرّف بلام الجنس وعلم الجنس هو أنّ في الأوّل يستفاد التعريف بتعدّد الدالّ والمدلول بخلاف الثاني ، لأنّ الدالّ فيه واحد ولا فرق بينهما من ناحية اخرى.

وقد عرفت أنّ التعريف في اللام وعلم الجنس ليس من جهة كون التعيّن الذهني دخيلا في المعنى جزءا وتقيّدا ، وإلّا لما صحّ حمل المعرّف باللام أو علم الجنس بما هو معرّف على الأفراد.

٢٨٤

بل التعريف من جهة دلالة اللفظ على ذات المعنى في حين ملاحظة تعيّن المعنى عن غيره من المعاني.

وهذه الملاحظة توجب كون التعريف تعريفا معنويّا فلا مجال لحمل اللام على التعريف اللفظي ، ولذا يترتّب عليه أحكام التعريف المعنويّ من جواز كونه مبتدأ وغير ذلك. ثمّ إنّ معنى المعرّف بلام التعريف أو علم الجنس وإن لم يكن مقيّدا بالتعيّن ولكن مع ذلك لا يكون مطلقا ، لأنّ المعنى هو الحصّة الملازمة مع الالتفات إلى خصوصيّات المعنى ، فلا يشمل غير حال الالتفات.

ثمّ إنّ لام التعريف تدلّ على تعريف الجنس إن كان مدخولها هو الجنس ، وتدلّ على الاستغراق إن كان مدخولها الأفراد ، لأنّ التعريف الخارجي ، في الأفراد منحصر في جميع الأفراد ، لعدم تعيّن غير هذه المرتبة.

وتدلّ على التعريف الحضوري إن كان مدخولها منطبقا على الحاضر ، كقولك لمن يشتم رجلا بحضرتك لا تشتم الرجل.

وتدلّ على التعريف الخارجي إن كان مدخولها معهودا في الخارج كقولك لأهل البلد أكرموا القاضي.

وتدلّ على التعريف الذكري إن كان مدخولها معهودا بحسب الذكر قبل ذلك.

وبالجملة أنّ اللام وضعت للدلالة على أنّ مدخولها واقع موقع التعيين إما جنسا أو استغراقا أو عهدا بأقسامه ذكرا وخارجا وذهنا ، والدليل على ذلك هو التبادر الذي يشهد به الاستعمالات المتعارفة وإن لم يكن لها مرادف في سائر اللغات.

ومع التبادر والانسباق ، لا وقع لحمل اللام على إفادة مجرّد التزيين والاعتماد على القرائن الحاليّة والمقاليّة ، وهذا هو المشهور.

النكرة

هي على ما ذهب إليه مشايخنا موضوعة للجزئيّ الحقيقي ، ويعبّر عنه

٢٨٥

بالفرد المردّد.

لا يقال إنّ الجزئيّ يتوقّف على تصوّره بتمام تشخّصاته الواقعيّة المعيّنة لأنّا نقول لا يتوقّف على ذلك. ألا ترى أنّه لو رأى الإنسان شبحا من البعيد وتردّد أنّه إنسان أو غيره ، أو أنّه زيد أو عمرو ، لا يخرجه هذا التردّد عن الجزئيّة.

ودعوى أنّه لا وجود للفرد المردّد في الخارج ، حيث إنّ كلّ ما هو موجود فيه متعيّن لا مردّد بين نفسه وغيره ، فإنّه غير معقول ضرورة. أنّ كلّ واحد هو هو لا هو أو غيره ، فلا بدّ من أن تكون النكرة الواقعة في متعلّق الأمر هو الطبيعيّ المقيّد بمثل مفهوم الوحدة ، وعليه فتكون النكرة كلّيّا قابلا للانطباق.

مندفعة بأنّه لا ملازمة بين ترديد المفهوم وترديد الخارج ، إذ يمكن أن يكون المفهوم مشتملا على الترديد ولا يكون الخارج إلّا متعيّنا ، ألا ترى الكسور المشاعة أنّها قابلة للانطباق على الخارج بأشكال مختلفة مع أنّ الخارج ليس إلّا المفروزات والمتعيّنات ولا أثر للإشاعة في الخارج وعليه فلا إشكال في تصوّر الفرد المردّد في الذهن حاكيا عن الجزئي ، الخارجي من دون دخالة لفرد دون فرد.

ويشهد لذلك تبادر الفرق بين رجل من دون تنوين ورجل مع التنوين في ظهور الأوّل في الجنس والماهيّة الكلّيّة الّتي لا يمتنع صدقه على الكثيرين ، وظهور الثاني في فرد غير معيّن خارجيّ وهذا مضافا إلى ورود الرواية على صحّة الوصيّة بأحد الشيئين لأحد الشخصين.

وليس المقصود من الفرد المردّد ، وجود المردّد في الخارج حتّى يقال إنّ المردّد ، بما هو مردّد لا وجود له في الخارج. لأنّ كلّ موجود له ماهيّة ممتازة عن سائر الماهيّات بامتياز ماهويّ وله وجود ممتاز بنفس هويّة الوجود عن سائر الهويّات.

بل المقصود هو الخارجيّ المشار إليه بمفهوم الفرد المردّد ، ومن المعلوم أنّ الخارجيّ من المتعيّنات ولا مانع من أن يكون عنوان الفرد المردّد مشيرا إلى المتعيّنات

٢٨٦

الخارجيّة كما عرفت في الكسور المشاعة.

ثمّ إنّه لا فرق بعد تصوّر الفرد المردّد بين وقوع النكرة في الجملة الخبريّة كقوله تعالى : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) ، أو في الجملة الإنشائيّة كقولهم جئني برجل في إفادة الفرد المردّد بحكم التبادر.

وقد يقال إنّ النكرة تدلّ باعتبار الاسم على معناه الكلّيّ وباعتبار التنوين تدلّ على اتّصافه بالوحدة ، وعليه فالنكرة هي الطبيعة المتقيّدة بعنوان واحد.

وفيه أنّ التبادر ممّا يشهد على كون النكرة من الجزئيّات لا الكلّيّات.

هذا مضافا إلى أنّ لازم ما ذكره القائل هو عدم خروج النكرة عن قابليّة الانطباق بانطباق عرضيّ على القليل والكثير وتقيّده بمفهوم الواحد لا يوجب خروجه عن القابليّة للانطباق عرضا على القليل والكثير وهو كما ترى فإنّ شأن النكرة إنما هو عدم الانطباق على المتكثّرات إلّا بانطباق تبادليّ.

والنكرة على ما ذكرنا من أنّ معناها هو الفرد المردّد يحتاج في الإطلاق التبادلي إلى مقدّمات الإطلاق ، كما في الإطلاق الأحوالي ، وأيضا على قول من ذهب إلى أنّ معناها الكلّيّ المقيّد بقيد الوحدة تحتاج إلى المقدّمات في عدم دخالة قيد من القيود كما لا يخفى.

٢٨٧

الفصل الثاني : في مقدّمات الاطلاق

وليعلم قبل بيان المقدّمات أنّا نحتاج إلى مقدّمات الاطلاق في إثبات عدم دخالة قيد في الموضوع فيما إذا لم يستفد الاطلاق من نفس اللفظ وإلّا فلا مجال لتلك المقدّمات لأنّ الظهور حينئذ وضعيّ ولذا يمكن أن يقال بعدم الحاجة إليها بناء على ما نسب إلى المشهور من أنّ الإطلاق والشياع مستفاد من نفس اللفظ لأنّ الموضوع له هو المعنى الشائع فمع الظهور الوضعيّ لا حاجة إلى المقدّمات لإثبات الشيوع والإرسال.

ولكنّه على تقدير صحّة النسبة إلى المشهور مندفع بما مرّ من أنّ الموضوع له هو الماهيّة الجامعة المهملة من دون أخذ الشياع والإطلاق فيه.

أو يمكن أن يقال بأنّ الماهيّة في ذاتها لا إبهام فيها ما لم تلحظ مقيّدة بقيد مبهم بل هي في ذاتها سيّالة سارية ذات إطلاق فلو توجّه الحكم إليها سرى بتبع سرايتها لأنّ الطبيعة حينئذ تكون تمام الموضوع وما هذا شأنه لا ينفكّ عن الحكم فلا حاجة إلى نصب مقدّمات والتماس أمر آخر للدلالة على الإطلاق وسريان الحكم حيثما سرت الطبيعة (١).

ولكنّ الإبهام بالمعنى الاسمي وإن كان غير مأخوذ في الماهيّة إلّا أنّ الماهيّة قبل تماميّة المقدّمات قابلة للشيوع والسريان لا شائعة وإنّما تحتاج في فعليّة الإطلاق

__________________

(١) نهاية النهاية : ١ / ٣١٢.

٢٨٨

والشياع إلى المقدّمات وبدونها دعوى السراية والاطلاق لا دليل لها كما مرّ.

أو يمكن أن يقال إنّ ظهور الإرادة في الأصليّة لا التبعيّة يكفي في الحكم بالاطلاق فلا حاجة إلى مقدّمات الإطلاق كما ذهب إليه المحقّق اليزدي الحاج الشيخ قدس‌سره حيث قال :

ويمكن أن يقال بعدم الحاجة إلى إحراز كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد في الحمل على الإطلاق عند عدم القرينة بيانه أنّ المهملة مردّدة بين المطلق والمقيّد ولا ثالث ولا إشكال أنّه لو كان المراد هو المقيّد يكون الإرادة متعلّقة به بالأصالة وإنّما ينسب إلى الطبيعة بالتبع لمكان الاتّحاد فنقول لو قال القائل جئني بالرجل أو برجل يكون ظاهرا في أنّ الإرادة أوّلا وبالذات متعلّقة بالطبيعة لا أنّ المراد هو المقيّد ثمّ أضاف إرادته إلى الطبيعة لمكان الاتّحاد وبعد تسليم هذا الظهور تسري الإرادة إلى تمام الأفراد وهذا معنى الاطلاق (١).

ولكن كما في مناهج الوصول أنّ هذا ليس ظهورا لفظيا مستندا إلى الوضع بل هو لأجل حكم العقلاء بأنّ ما جعل موضوع حكمه يكون تمامه لا بعضه وهو غير ثابت إذ لا يحكم العقلاء به إلّا بعد كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد وإلّا فلو فرض كونه في مقام بيان حكم آخر أو كان بصدد الإهمال لم يمكن إثبات كون الإرادة ظاهرة في الأصالة فهذه المقدّمة ممّا لا مناص منها (٢).

فانقدح ممّا ذكر أنّ الألفاظ في إفادة الاطلاق تحتاج إلى المقدّمات ويقع الكلام في أنّ المقدّمات ما هي.

__________________

(١) الدرر : ١ / ٢٣٤.

(٢) راجع مناهج الوصول : ٢ / ٣٢٦.

٢٨٩

ما هي مقدّمات الإطلاق

وقد ذهب في الكفاية إلى أنّ المقدّمات ثلاثة إحداها كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد لا الإهمال والإجمال. ثانيتها انتفاء ما يوجب التعيين. ثالثتها انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب دون المتيقّن بملاحظة الخارج عن ذاك المقام في البين فإنّه غير مؤثّر في رفع الإخلال بالغرض لو كان بصدد البيان كما هو الفرض (١).

ولا كلام بعد ما عرفت في الحاجة إلى المقدّمة الاولى إذ بدون كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد لا يحكم العقلاء بأنّ الموضوع المذكور في كلامه تمام موضوع حكمه ومعه لا تتمّ الحجّة العقلائيّة على المتكلّم فالاطلاق بمعنى عدم دخالة قيد في موضوعيّة الموضوع للحكم لا يثبت إلّا إذا كان المتكلّم في مقام بيان تمام المراد واكتفى بالمذكور في كلامه هذا إذا كان المتكلّم تمكّن من الإتيان بالقيد في مقام الاثبات ولم يأت به وأمّا إذا لم يتمكّن من ذلك لوجود المانع فلا يكشف عدم الإتيان عن الاطلاق كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المراد من كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد هو كونه في مقام إعطاء الحجّة للمخاطب وإن لم يكن إرادته الجدّيّة مطابقة معها في تمام الموارد وسيأتي أنّ حكم الشكّ في كونه في مقام بيان تمام المراد أو الإهمال هو البناء على كونه في مقام بيان تمام المراد وعليه فالمراد من إحراز كون المتكلّم في مقام البيان هو الأعمّ من العلم والعلميّ كما لا يخفى.

وهكذا لا كلام في الحاجة إلى المقدّمة الثانية إذ مع وجود قرينة التقييد لا مجال للاطلاق فاللازم هو انتفاء وجودها ولو بالأصل.

__________________

(١) الكفاية : ١ / ٣٨٤.

٢٩٠

وعليه فنحتاج في إثبات الإطلاق إلى عدم وجود قرينة التقييد وإلّا فمع وجود القرينة لا مجال للاطلاق.

نعم هذه المقدّمة كما أفاد سيّدنا الإمام الراحل قدس‌سره ليست من المقدّمات بل هي محقّقة محلّ البحث فإنّه مع وجود ما يوجب التعيين سواء كان في الكلام أو كان بسبب الانصراف لا معنى للاطلاق لأنّ محطّ البحث في التمسّك بالإطلاق ما إذا جعل شيء موضوعا لحكم وشكّ في دخالة شيء آخر فيه فيرفع بالاطلاق وأمّا مع ما يوجب التعيين فلا يبقى شكّ حتّى يتمسّك به (١).

وإنّما الكلام في المقدّمة الثالثة فقد عرفت تصريح صاحب الكفاية بلزومها وتقريبها على ما أفاده المحقّق الأصفهاني قدس‌سره أنّ الواجب على المولى إذا كان بصدد بيان موضوع حكمه حقيقة هو بيان ذات موضوع حكمه بتمامه وما هو بالحمل الشائع تمام موضوع حكمه لا بيان أنّه تمام موضوع حكمه.

وكونه قدرا متيقّنا في مقام المحاورة يوجب إحراز تمام الموضوع وإن لم يحرز أنّه تمامه فالعبد ليس له نفي الخصوصيّة الزائدة المحتملة لعدم لزوم الإخلال بالغرض لو كان المتيقّن في مقام التخاطب تمام موضوع حكمه.

وفائدة تبيّن ذات التمام وجوب الاقتصار عليه وعدم التعدّي عنه لعدم الموجب حيث لا إطلاق.

بل يمكن القول بعدم إرادة المطلق إذ مع علم المولى بتيقّن الخاصّ المانع عن الإطلاق لو أراد المطلق وجب عليه نصب القرينة المانعة عن كون المتيقّن تمام موضوع حكمه وإلّا لأخلّ بغرضه ومنه يعلم الدليل على أنّه تمام موضوع حكمه (٢).

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ٣٢٧.

(٢) نهاية الدراية : ٢ / ٢١٨.

٢٩١

وفيه ما لا يخفى فإنّ ما ذكر مبنيّ على اكتفاء المتكلّم بالقدر المتيقّن بنحو من الأنحاء كالإشارة إليه من دون أخذ موضوع آخر أعمّ لكلامه والمفروض خلافه فإنّ المتكلّم لم يكتف بالإشارة بل أخذ موضوعا آخر أعمّ لكلامه والمفروض أنّه لم يقيّده بقيد ومقتضاه هو الحكم بالإطلاق لأنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب لا يجدي في إثبات الخصوصيّة بل غايته هو العلم بثبوت الحكم لمورد القدر المتيقّن ولا يعلم أنّه بخصوص عنوانه أو بعنوان المأخوذ في متعلّق الحكم فلا دلالة للقدر المتيقّن على شيء من ذلك فمع عدم دلالة القدر المتيقّن على ذلك لا وجه لرفع اليد عن إطلاق المتعلّق المأخوذ في الحكم وتبيّن ذات التمام لا يوجب لزوم الاقتصار عليه وعدم التعدّي عنه بعد إطلاق المأخوذ في متعلّق الحكم.

ولعلّه لذلك بنى العقلاء على عدم الاعتناء بخصوصيّة الأسئلة عند كون الأجوبة مطلقة وقالوا العبرة بإطلاق الوارد لا بخصوصيّة المورد نعم لو كان القدر المتيقّن موجبا للانصراف فلا كلام في كونه موجبا للتقيّد وكان مندرجا في المقدّمة الثانية.

وأمّا إذا لم يكن كذلك وكان المتكلّم في مقام البيان وأخذ الطبيعة موضوعة لحكمه فلا محالة يحكم العقلاء بأنّ موضوع حكمه هو الطبيعة غير المتقيّدة بقيد ولذا نرى أنّ العرف لا يعتني بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب وغيره إذا لم يصل إلى حدّ الانصراف فلا تغفل.

قال شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره في نفي اعتبار عدم القدر المتيقّن في مقام التخاطب ففيه :

أوّلا : أنّه منقوض بالأجوبة الواردة بصورة الإطلاق في الأسئلة عن الموارد الخاصّة مثلا لو سأل عن حال زيد فقال أكرم العالم فإنّه ليس البناء على التوقّف على خصوص المورد بل يأخذون بإطلاق الوارد حتّى اشتهر أنّ العبرة بعموم اللفظ لا

٢٩٢

بخصوص المورد.

وثانيا : أنّ برهان نقض الغرض قائم بحاله فإنّه إذا أراد المقيّد والمفروض أنّه بصدد أن يبيّن للمخاطب أنّه مراده بحيث لو سأل عن المخاطب أنّ مراد هذا المتكلّم هو المطلق أو المقيّد كان عالما ومجيبا بأحد الأمرين واكتفى مع ذلك بوجود هذا القدر المتيقّن الذي لا تبيّن فيه إلّا عن ذات المراد لا عن حدّه وأنّه بحدّ الإطلاق مرادا وبحدّ التقييد فقد أخلّ بالغرض من حيث إخفائه حدّ المراد وإن بيّن ذاته (١).

ولا يخفى عليك أنّ مراده أنّ لزوم الإخلال بالغرض على فرض إرادة المقيّد لو لم يبيّن حدوده يوجب الكشف عن كون مراده هو نفس الطبيعة مطلقا وكيف كان فالعمدة هو بناء العقلاء وفهم العرف في استكشاف الإطلاق والظهورات.

ومن المعلوم أنّ القدر المتيقّن سواء كان في مقام التخاطب أو في الخارج لا يضرّ بإطلاق الخطاب لأنّ العبرة في الإطلاق والتقيّد بالمأخوذ في متعلّق الحكم والمفروض أنّه مطلق ولا يمنع القدر المتيقّن المزبور عن الإطلاق ولا التفات لهم ببرهان نقض الغرض وإن لم يكن فعل المتكلّم خاليا عن الغرض فلا وجه لابتناء الاستدلال على الاطلاق أو التقييد على نقض الغرض لأنّ الظهورات العقلائيّة مبتنية على المقدّمات لا على البراهين العقليّة.

فتحصّل أنّ المقدّمات ثنائيّة لا ثلاثيّة بل المقدّمات منحصرة في المقدّمة الاولى بعد ما عرفت من أنّ المقدّمة الثانية من المحقّقات لا المقدّمات فليس للاطلاق إلّا مقدّمة واحدة وهي المقدّمة الاولى.

ثمّ إنّ المراد من المقدّمة الاولى هو أن يكون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد من الجهة التي هو في صدد بيانها ولا يضرّ بذلك عدم كونه كذلك بالنسبة إلى سائر

__________________

(١) اصول الفقه : ٣ / ٣٩٠.

٢٩٣

الجهات وعليه فيحكم بالاطلاق من ناحية يكون المتكلّم في صدد بيانها ولذا نقول بجواز أكل صيد الكلاب بإطلاق قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ولو لم يقع عليه التذكية والذبح الشرعيّ فيما لا مجال لذلك ولا نقول بكون موضع ملاقاة الكلب للصيد طاهرا لأنّ الآية الكريمة ليست في صدد بيان الطهارة بل هي تكون في صدد بيان حلّيّة أكل الصيد.

ثمّ إنّ المطلق كالعامّ فكما أنّ تخصيص العامّ بالنسبة إلى فرد لا ينافي حجّيّته بالنسبة إلى الباقي فكذلك المطلق بعد تقييده بالنسبة إلى مورد بقي على حجّيّته لبناء العقلاء على التمسّك بالعامّ والمطلق في غير مورد التخصيص والتقييد.

وعليه فمع تقييد المطلق بقيد لا يسقط المطلق عن إطلاقه بالنسبة إلى غيره من سائر القيود المشكوك فيها وذلك لأنّ العثور على قيد لا يوجب تصرّفا في ناحية المستعمل فيه حتّى يقال المطلق بعد استعماله في غير المطلق يحتاج في شموله بالنسبة إلى الباقي إلى الدليل بل العثور على قيد يوجب التصرّف في ناحية الإرادة الجدّيّة بالنسبة إلى مورد القيد فقط والمطلق باق على إطلاقه بالنسبة إلى سائر القيود المشكوكة إذ الظهور الإطلاقيّ لا يختلّ بالعثور على قيد لأنّ بعد الفحص ينعقد الظهور ببناء العقلاء من دون تعليق على عدم العثور على قيد ويكون المطلق بعد الفحص وعدم الظفر كالعامّ في انعقاد الظهور ولا يختلّ ذلك الظهور بالعثور على القيد بل يقدم عليه من باب أقوى الحجّتين.

قال في المحاضرات إنّ التقييد بدليل منفصل لا يضرّ بكونه في مقام البيان ولا يكشف عن ذلك وإنّما يكشف عن أنّ المراد الجدّي لا يكون مطابقا للمراد الاستعماليّ وقد تقدّم أنّه قد يكون مطابقا له وقد لا يكون مطابقا له ولا فرق في ذلك بين العموم الوضعيّ والعموم الإطلاقيّ.

ولذا ذكرنا سابقا أنّ التخصيص بدليل منفصل لا يكشف عن أنّ المتكلّم ليس

٢٩٤

في مقام البيان مثلا قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) في مقام البيان مع ورود التقييد عليه بدليل منفصل في غير مورد وكذا الحال فيما إذا افترضنا أنّ الآية عموم يدلّ عليه بالوضع.

وعلى الجملة فلا فرق من هذه الناحية بين العموم والمطلق فكما أنّ التخصيص بدليل منفصل لا يوجب سقوط العامّ عن قابليّة التمسّك به فكذلك التقييد بدليل منفصل.

ويترتّب على ذلك أنّ تقييد المطلق من جهة لا يوجب سقوط إطلاقه من جهات اخرى إذا كان في مقام البيان من هذه الجهات أيضا فلا مانع من التمسّك به من تلك الجهات إذا شكّ فيها كما إذا افترضنا أنّ الآية في مقام البيان من جميع الجهات وقد ورد عليها التقييد بعدم كون البائع صبيّا أو مجنونا أو سفيها وشكّ في ورود التقييد عليها من جهات اخرى كما إذا شكّ في اعتبار الماضويّة في الصيغة أو الموالاة بين الايجاب والقبول فلا مانع من التمسّك بإطلاقها من هذه الجهات والحكم بعدم اعتبارها (١).

بقي شيء وهو أنّ صاحب الكفاية ذهب إلى أنّه إذا شكّ في كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد وعدمه كان الأصل هو كونه بصدد بيانه.

واستدلّ عليه بقيام سيرة أهل المحاورات على التمسّك بالإطلاقات فيما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرف وجهها إلى جهة خاصّة (٢).

وتبعه سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال لا شبهة في أنّه إذا شكّ في كون المتكلّم هل هو في مقام بيان جميع ما هو دخيل في مراده (بعد إحراز كونه في مقام بيان

__________________

(١) المحاضرات : ٥ / ٣٦٨.

(٢) الكفاية : ١ / ٣٨٧.

٢٩٥

الحكم) أو أنّه بصدد الإجمال والإهمال يكون الأصل العقلائي هو كونه في مقام بيان تمامه وبه جرت سيرة العقلاء إلى أن قال فالأصل بعد إحراز كونه بصدد بيان الحكم يقتضي أن يكون بصدد بيان تمام ما يدخل في الموضوع في مقابل الإهمال والإجمال (١).

واستقربه المحقّق الأصفهاني قدس‌سره بقوله الظاهر أنّ ما نحن فيه عكس موارد الكناية فإنّ المراد الاستعمالي هناك محقّق ويشكّ في أنّه مراد جدّيّ أم لا وفيما نحن فيه المراد الجدّيّ محقّق وهو إمّا مقيّد أو مطلق لكنّه يشكّ في أنّه بصدد إظهار ذلك المراد الجدّيّ أم بصدد أمر آخر فكما أنّ العقلاء يحكمون هناك بمطابقة الجدّ للاستعمال فإنّ غير الجدّ يحتاج إلى التنبيه عليه وجدّ الشيء كأنّه لا يزيد على الشيء.

فكذلك يحكمون هنا بأنّ المولى الذي له مراد محقّق فهو بالجبلة والطبع أي لو خلّي ونفسه يقوم بصدد إظهاره وكونه بصدد إظهار أمر آخر يحتاج إلى التنبيه عليه فينتج أنّ المراد الاستعمالي غير مهمل بل إمّا مطلق أو مقيّد فبضميمة عدم التقييد يثبت الإطلاق خصوصا إذا كان المورد مقام الحاجة ولو بمعنى حاجة السائل إلى فهم حكم المسألة كما هي عادة الرواة المتصدّين لضبط الأحكام عن الإمام ويؤكّده ظهور الصيغة في الوجوب الفعلي ولا يتعلّق إلّا بموضوعه التامّ وهو إمّا مطلق أو مقيّد بلا كلام (منه) (٢).

ولا ملزم لتوجيه بناء العقلاء وإن كان ما ذكره المحقّق الأصفهاني في توجيه ذلك غير بعيد ومع ما عرفت من بناء العقلاء في المقام ظهر أنّ المراد من إحراز كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد في المقدّمة الأولى هو الأعمّ من العلم والعلميّ لكفاية

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ٣٢٨.

(٢) نهاية الدراية : ٢ / ٢١٩.

٢٩٦

بناء العقلاء عن العلم كما لا يخفى.

وكيف كان فحيث إنّ البناء دليل لبّيّ يقتصر فيه بمورد العلم بقيام البناء عليه ولذا يمكن التفصيل كما في المحاضرات بين ما إذا كان الشكّ من جهة أنّ المتكلّم كان في مقام أصل التشريع أو كان في مقام بيان تمام مراده فيؤخذ بالاطلاق أخذا ببناء العقلاء وبين ما إذا شكّ من جهة سعة الإرادة وضيقها فلا يؤخذ بالإطلاق لعدم ثبوت البناء فيه فإذا علمنا بأنّ لكلامه إطلاقا من جهة ولكن نشكّ في إطلاقه من جهة اخرى كما في قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) حيث نعلم بإطلاقه من جهة أنّ حلّيّة أكله لا يحتاج إلى الذبح سواء كان إمساكه من محلّ الذبح أو من موضع آخر كان إلى القبلة أو إلى غيرها ولكن لا نعلم أنّه في مقام البيان من جهة اخرى وهي جهة طهارة محلّ الإمساك ونجاسته ففي مثل ذلك لا يمكن التمسّك بالإطلاق كما عرفت لعدم قيام السيرة على حمل كلامه في مقام البيان من هذه الجهة (١).

فلا يكفي كون المتكلّم بصدد البيان من جهة ، لجهة اخرى إلّا إذا كان بينهما ملازمة عقلا كصحّة الصلاة غفلة في نجس كالدم ولو كان من غير مأكول اللحم فإنّه يستلزم عقلا لعدم مانعيّة الدم من جهة كونه من غير مأكول اللحم إذ لا يمكن التفكيك بين كون الدم من غير مأكول اللحم معفوّا عنه من حيث النجاسة وبين عدم كونه معفوّا عنه من حيث كونه غير مأكول اللحم أو إلّا إذا كان بينهما ملازمة شرعيّة كملازمة الحكم بالقصر في الصلاة مع عدم وجوب الصوم أو إلّا إذا كان بينهما ملازمة عادية كملازمة جواز الشرب من سؤر الهرّة وإن كان فمه متلوّثا بالنجاسة مع الحكم بطهارة فمه بالإزالة.

وبالجملة حكم العقلاء بالإطلاق يكون فيما إذا سئل المتكلّم عن مورد الإطلاق

__________________

(١) المحاضرات : ٥ / ٣٦٩.

٢٩٧

لأجاب بأنّه المراد أيضا وإلّا فحكمهم به غير ثابت.

تنبيهات :

الأوّل : أنّه لا [أنّه لا يخفى عليك أنّه بناء على ما عرفت من الفرق بين النكرة وبين ...] يخفى عليك أنّه بناء على ما عرفت من الفرق بين النكرة وبين اسم الجنس وعلم الجنس والمعرّف باللام يكون الموضوع له في النكرة هو الفرد المردّد والموضوع له في البواقي هو نفس المعنى والماهيّة وإن كان بينهما اختلاف من ناحية السعة والضيق باعتبار الملاحظة الحينيّة للتعريف وعدمها والفرد المردّد عنوان للأفراد الخارجيّة ونفس المعاني حاكيات عن حصصها لا عن الأفراد بما هي أفراد لخلوّ المعاني عن الخصوصيّات الفرديّة وعليه فمقتضى مقدّمات الإطلاق في النكرة هو جواز الإتيان بأيّ فرد كان لأنّه مقتضى الإطلاق التبادلي فمثل قوله تصدّق على رجل يمتثل بالتصدّق على أيّ فرد من أفراد الرجل من دون اعتبار خصوصيّة خاصّة في بعض الأفراد وهكذا مقتضى مقدّمات الإطلاق في الجنس ونحوه هو صدق الامتثال بإتيان أيّ حصّة من حصص الطبيعة المأمور بها من دون اعتبار الخصوصيّات الفرديّة لأنّ الطبيعة حاكية عن حصصها لا عن خصوصيّات الأفراد.

والمنع عن حكايتها عن الحصص بدعوى أنّ نفس الطبيعة تخالف الوجود والتشخّص وسائر عوارضها خارجا أو ذهنا ولا يمكن كاشفيّة الشيء عمّا يخالفه فالماهيّة لا تكون مرآة للوجود الخارجيّ والعوارض الحافّة به (١) غير سديد لأنّ ذلك خلط بين الأحكام الفلسفيّة والأحكام العرفيّة إذ العرف لا يفكّك بين الطبيعة والوجود ولذا حكم بوجود طبيعة الإنسان في الخارج مع أنّ الموجود هو الوجود لا الطبيعة بالنظر العقليّ الدقيق فمع عدم التفكيك عرفا فلا وجه لإنكار مرآتيّة الماهيّة عن الحصص الوجوديّة نعم الماهيّة لا تحكي عن الخصوصيّات الفرديّة لخلوّها عنها

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ٢٣٠.

٢٩٨

كما لا يخفى وعليه فالألفاظ كما أنّها دالّة على معانيها كذلك دالّة على ما يحكي عنه معانيها من الحصص فالدلالة على الأفراد في النكرة وعلى الحصص في الأجناس والطبائع لفظيّة لا عقليّة ويكون التفاوت بين النكرات والأجناس في الحكاية عن الأفراد إذ النكرات حاكية عنها بخلاف غيرها فإنّها لا تكون حاكية إلّا عن حصصها ولذا يمكن قصد التقرّب بإتيان الأفراد في النكرات دون غيرها كما لا يخفى.

الثاني : أنّ انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق لا يكون منوطا بعدم وجود القيد واقعا وإلّا لاختلّ أمر المطلقات باحتمال تقييدها في الواقع وهو معلوم البطلان ولذا كان بناء العقلاء على تماميّة الإطلاق بعد الفحص وعدم الظفر بالقيود لعدم مانعيّة القيد واقعا عن انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق فالمانع هو القيد الواصل في وقت البيان وعليه فبعد الفحص وعدم الظفر بالقيد انعقد ظهور المطلق كانعقاد ظهور العامّ سواء وصل بعد ذلك أو لم يصل فإنّ وصوله بعد البيان لا يضرّ بانعقاد الظهور وعليه فإذا ورد بعد مرحلة البيان شيء من القيود كان معارضا مع ظهور المطلق كما أنّ الأمر كذلك في العمومات بالنسبة إلى الخصوصات فيقدّم أقوى الحجّتين ولا يرتفع ظهور المطلق بعد انعقاده بوصول القيد بعد وقت البيان ودعوى أنّ ظهور المطلق معلّق على عدم البيان ولو للتالي لا يساعده بناء العقلاء ولذا ذهبوا في التقديم إلى أقوائيّة إحدى الحجّتين وإلّا فاللازم هو تقديم القيد على المطلق ولو كان أضعف ظهورا مع أنّه كما ترى لتقديم المطلقات على القيود إذا كانت المطلقات أقوى منها.

وممّا ذكر يظهر أنّه لا وجه لتقديم القيود على المطلقات فيما إذا كانت المطلقات الكثيرة واردة في مقام الحاجة بحيث يكون ظهورها أقوى من القيود بل المطلقات مقدّمة على القيود ويتصرّف في هيئتها بحملها على الاستحباب أو الكراهة.

الثالث : أنّ للانصراف مراتب متفاوتة شدّة وضعفا حسب اختلاف مراتب الانس الناشئ من كثرة الاستعمال أو غيرها منها هو الانصراف البدويّ وهو الذي

٢٩٩

يزول بأدنى تأمّل وتدقيق كانصراف الماء إلى ماء خاصّ كماء فرات في بعض البلاد وهو لا يمنع عن الأخذ بإطلاق الماء لتماميّة الإطلاق وعدم المانع ومنها ما يوجب الانس اللفظي بمثابة يكون كالتقييد اللفظي فيوجب تحديد دائرة المطلوب وتقييده كالقيود اللفظيّة ولا إطلاق مع وجوده كانصراف الحيوان عن الإنسان مع أنّ الإنسان من أنواع الحيوان.

وأمّا الموارد التي لم تصل إلى هذا الحدّ فلا وجه لرفع اليد عن الإطلاق بعد تماميّة الإطلاق غايته هو الشكّ في التقييد ومع إطلاق المأخوذ في متعلّق الحكم لا يرفع اليد عنه والشكّ فيه كالشكّ في التقييد اللفظي فكما أنّ مقتضى الأصل هو عدم التقييد اللفظي فكذلك مقتضى الأصل هو عدم حصول الانس بالنسبة إلى مورد المشكوك وممّا ذكرنا يظهر وجه عدم العبرة بالغلبة الخارجيّة ما لم توجب الانس اللفظي وبالجملة أنّ المعيار في التقيّد هو حصول الانصراف فما لم يحصل لا يضرّ بالاطلاق الموجود.

ثمّ إنّ الانصراف ربّما يحصل بمناسبة الحكم والموضوع مع أنّه ليس فيه كثرة الاستعمال فاختصاص الانصراف بصورة كثرة الاستعمال لا وجه له مثلا قوله عليه‌السلام : «فاغسله وصلّ فيه» في صحيحة حريز قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام لزرارة ومحمّد بن مسلم : «اللبن واللباء والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكلّ شيء ينفصل من الشاة والدابّة ذكيّ وان أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصلّ فيه» منصرف إلى غير اللبن واللباء.

قال في المحاضرات وللانصراف عوامل متعدّدة منها علوّ مرتبة بعض أفراد الماهيّة على نحو يوجب انصرافها عنه عرفا.

ومن ذلك لفظ الحيوان فإنّه موضوع لغة لمطلق ما له الحياة فيكون معناه اللغويّ جامعا بين الانسان وغيره إلّا أنّه في الإطلاق العرفيّ ينصرف عن الإنسان

٣٠٠