عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

لمرتبة الحكم الظاهري سواء كان التعاصر بينهما رتبيّا أو زمانيّا لأنّ تعدّد الموضوع مانع من اجتماع الحكمين في موضوع واحد وقد عرفت أنّ الموضوع في الحكم الواقعي لا يشمل مورد الشكّ ومع عدم شموله ومغايرته مع موضوع الحكم الظاهري لا يلزم منه اجتماع الضدّين لا بحسب الرتبة ولا بحسب الزمان هذا مضافا إلى ما في دعوى العلّيّة في الأحكام الاعتباريّة حيث أنّ العلّيّة من أحكام الوجود لا الاعتباريّات واختلاف الرتبة لا يستلزم العلّيّة كما لا يخفى.

فتحصّل أنّ موضوع الأحكام الواقعية مطلق نسبى ومتضيّق من ناحية ما يتأتّى من قبل الحكم لتجرّده عنه بنحو التجرّد الحرفي ومن المعلوم أنّ إطلاق موضوع الأحكام بعد كونه نسبيّا بالنسبة إلى غير ما يتأتّى من قبل الحكم لا يوجب شموله لموضوع الحكم الظاهري من الشكّ في الحكم الواقعي وبعد عدم الشمول المذكور لا مجال لدعوى اجتماع الضدّين وأيضا حيث كان التضيّق بنحو التجرّد الحرفي لا الاسميّ فلا يلزم منه التقييد بحال العلم حتى يلزم من ذلك التصويب وأيضا حيث إنّ الموضوع مطلق نسبيّ فلا مجال لدعوى الإهمال كما لا يخفى.

فحاصل هذا الوجه هو تغاير موضوع الحكم الواقعي مع موضوع الحكم الظاهري بحيث يمنع التغاير والمباينة بينهما عن اجتماعهما في شيء واحد بل رتبة موضوع الحكم الظاهري متأخّر طبعا عن موضوع الحكم الواقعي بمرتبتين : أحدهما تأخّر الحكم عن الموضوع الواقعي وثانيهما تأخّر الشكّ في الحكم الواقعي ومع المغايرة والبينونة فلا مجال لنفي الفعليّة عنهما إلّا أنّ الحكم الواقعي حيث لم يصل إلى الشاكّ لا يكون منجّزا فتأمّل.

ومنها ما ذهب إليه صاحب الكفاية من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو الحجّيّة لا الحكم التكليفي والحجّيّة موجبة للمنجّزيّة مع المطابقة والمعذّريّة مع المخالفة فيكون مخالفتها وموافقتها مع عدم الإصابة تجرّيا وانقيادا كما هو شأن الحجّة

٥٨١

غير المجعولة وهي العلم وعليه فالتعبّد بالأمارات لا يوجب اجتماع الحكمين سواء كانا مثلين أو ضدّين إذ ليس المجعول إلّا الحكم الواقعي فقط والحجّيّة لا تكون مستتبعة لإنشاء أحكام التكليفيّة بحسب ما أدّى إليه الطريق بل إنّما تكون موجبة لتنجّز التكليف به إذا أصاب وصحّة الاعتذار به إذا أخطأ ، انتهى محصّله.

ولا يخفى عليك أنّ الظاهر من عبارته هو أنّ المجعول في الطرق والأمارات هو نفس الحجّيّة لا التنجيز والاعتذار بل هما من آثارها التي يحكم بها العقل كما في الحجّة غير المجعولة إذ موضوع حكم العقل أعمّ من الحجّة غير المجعولة.

وممّا ذكر يظهر ما في نهاية الدراية حيث قال : اعتبار المنجّزيّة للواقع لا يأبى عنه عبارة صاحب الكفاية.

ثمّ أورد عليه بأنّه إن اريد منه جعل الخبر موجبا للعقوبة على مخالفة الواقع المخبريّة كجعل العقاب ابتداء على مخالفة ما قام عليه الخبر فإنّه أيضا يصحّح انتزاع الحجّيّة بمعنى المنجّزيّة والموجبة للعقاب فكلاهما غير معقول إذ لا عقاب على مخالفة الواقع مع عدم الحجّة عليه عقلا أو شرعا فجعل الحجّيّة بنفس جعل العقاب المتوقّف على وجود الحجّة دورىّ ، وإن اريد من المنجّزيّة جعل حيثيّة يترتّب عليها تنجّز الواقع فالكلام في تلك الحيثيّة إلّا أنّ التعبير بالمنجّزيّة لا يأبى عن جعل حيثيّة يترتّب عليها الوقوع في تبعة المخالفة فإنّ التنجيز ليس إلّا إتمام العمل وجعل الواقع على حدّ يترتّب على مخالفته العقوبة (١).

وذلك لما عرفت من أنّ عبارة صاحب الكفاية أجنبيّة عمّا أسند إليه لأنّ الظاهر منها هو جعل الحجّيّة وقوله إنّما تكون الحجّيّة موجبة لتنجّز التكليف به الخ صريح في أنّ المجعول هو الحجّيّة والتنجّز والتعذير من آثارها وهكذا يظهر ما في

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ ، ٤٤ ـ ٤٣.

٥٨٢

مصباح الاصول ، حيث قال : إنّ المجعول على مختار صاحب الكفاية في باب الأمارات هي الحجّيّة بمعنى التنجّز عند المصادفة والتعذير عند المخالفة.

ثمّ أورد عليه بأنّ التنجيز والتعذير بمعنى حسن العقوبة على مخالفة التكليف مع قيام الحجّة عليه وعدمه مع عدمه من الأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص (١).

وكيف كان فتوضيح اعتبار نفس الحجّيّة كما أفاد المحقّق الأصفهاني أنّ اعتبار نفس معنى الحجّيّة ليس إلّا كون الشيء بحيث يصحّ الاحتجاج به وهذا الحيثيّة تارة تكون ذاتيّة غير جعليّة كما في القطع فإنّه في نفسه بحيث يصحّ به الاحتجاج للمولى على عبده وأخرى تكون جعلية إمّا انتزاعية كحجّيّة الظاهر عند العرف وحجّيّة خبر الثقة عند العقلاء فإنّه بملاحظة بنائهم العملي على اتباع الظاهر وخبر الثقة ، والاحتجاج بهما يصحّ انتزاع هذه الحيثيّة من الظاهر والخبر.

وإمّا اعتباريّة كقوله عليه‌السلام إنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله فإنّه جعل الحجّيّة بالاعتبار إلى أن قال : إذا عرفت ما ذكرناه في معنى الحجّيّة الاعتبارية والانتزاعيّة فاعلم أنّ الحجّيّة المجعولة بالاعتبار حيث إنّها أمر وضعيّ ليس بينه وبين الحكم الواقعي تماثل ولا تضادّ (٢).

ونظير ما ذهب إليه صاحب الكفاية هو ما حكي عن المحقّق النائيني قدس‌سره من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو مجرّد الطريقية والكاشفيّة بإلغاء احتمال الخلاف فلا يكون هناك حكم تكليفي حتّى يلزم اجتماع الضدّين بل حال الأمارة هي حال القطع لأنّ الشارع اعتبرها على في عالم التشريع فكما يكون العلم الوجداني منجّزا مع المطابقة ومعذّرا مع المخالفة فكذلك العلم التعبّدي يكون منجّزا ومعذّرا فكما لا مجال

__________________

(١) مصباح الاصول : ٢ ، ١٠٤.

(٢) نهاية الدراية : ٢ ، ٤٥ ـ ٤٤.

٥٨٣

لتوهّم التضادّ عند مخالفة القطع للواقع فكذلك في المقام.

وبالجملة ليس في مورد الطرق والأمارات حكم تكليفي مجعول كى يلزم اجتماع الضدّين.

وليعلم أنّ مجرّد إمكان أن يكون المجعول فيها ذلك كاف في دفع الشبهة بلا حاجة إلى إثبات وقوعه إذ الكلام في إمكان التعبّد بالظنّ.

مع أنّ لنا دليلا على وقوعه أيضا وهو أنّ الأمارات المعتبرة شرعا طرق عقلائيّة يعملون بها في أمور معاشهم وقد أمضاها الشارع وعليه يكون المجعول الشرعي في باب الأمارات ما تعلّق به واستقرّ عليه بناء العقلاء ومن الواضح أنّه لم يتعلّق بناؤهم على جعل حكم تكليفيّ في موارد الطرق وإنّما استقرّ بناؤهم على المعاملة معها معاملة العلم الوجداني وقد أمضى الشارع هذا البناء منهم فليس المجعول إلّا الطريقيّة والمحرزيّة (١).

ولعلّ الوجه في عدوله عن الحجّيّة إلى الطريقيّة هو توهّم أنّ المجعول بناء على جعل الحجّيّة هو المنجّزيّة والمعذّريّة ولازم جعل المنجّزيّة والمعذّريّة هو خرق قاعدة قبح العقاب بلا بيان إذ جعل العقاب بلا بيان تصرّف في ناحية الحكم وتخصيص للقاعدة وهو غير معقول هذا بخلاف جعل الطريقية فإنّ تصرّف الشارع حينئذ يكون في ناحية موضوع القاعدة بأن يجعل شيئا طريقا وبيانا فيشمله القاعدة فلا يوجب تخصيصا في القاعدة بل هو توسعة للقاعدة بتوسعة موضوعها وكيف كان.

فقد أورد عليهما سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بوجوه :

الأوّل : أنّه ليس في الطرق والأمارات جعل أبدا وأصلا لا للطريقيّة والحجّيّة ولا لغيرها لا من الشارع ولا من العقلاء لأنّ مبنيّ حجّيّة الأمارات هو بناء العقلاء و

__________________

(١) مصباح الاصول : ٢ ، ١٠٤.

٥٨٤

استقرار سيرتهم عليها وتبعهم الشارع أيضا وأمضاه بمعنى أنّه سكت ولم يردع عنه مع أنّ ذلك بمرأى ومنظره لا أنّه جعل الحجّيّة والطريقيّة لها وليس بناء العقلاء على جعل حجّيّتها أوّلا ثمّ العمل بها كما هو واضح فليس في الأمارات جعل أصلا وأبدا.

الثاني : أنّه على فرض تحقّق الجعل فيها يكون المجعول هو الحكم التكليفى لا الحجّيّة والطريقيّة لعدم دليل على ذلك إلّا الروايات الواردة في مقام الأمر بأخذ الشرائع وتلقّى الأحكام من مثل يونس بن عبد الرحمن وزرارة وزكريّا بن آدم وأمثالهم المستفاد منها إيجاب العمل بقولهم وأخبارهم فتنزع من هذا الإيجاب الشرعيّ الحجّيّة والوسطيّة ولا يكفي في المقام إثبات جعل الوسطيّة والطريقيّة ما لم يدلّ الدليل على وقوعه في الشريعة المقدسة.

الثالث : أنّه لو سلّمنا ذلك كان إشكال ابن قبة وهو لزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال باق بحاله ولا يدفع بذلك لما ذكرنا في تقريب الإشكال من أنّ جعل حجّيّة الخبر الذي قد يؤدّى إلى مخالفة الواقع يضادّ الحكم الواقعي.

وأمّا قياس الأمارات بالعلم فهو ممنوع فإنّ طريقية العلم والعمل على طبقه تكوينيّة ، وليست بجعل الشارع حتّى يلزم التضادّ في صورة المخالفة بخلاف الأمارات لو قلنا : بأنّها مجعولة أو أذن الشارع في العمل بها (١).

لا يقال إنّ إمضاء بناء العقلاء على لزوم العمل بالأمارات أيضا قد يؤدّي إلى خلاف الواقع لأنّا نقول : نعم ولكن لا مانع منه بعد حمل الواقعيّ على الشأني حيث إنّ الأمر دائر بين وقوع المفسدة العظيمة التي تصير سببا لإهمال جميع الأحكام وبين جعل التعبّد بالأمارات والإغماض عن الحكم الواقعيّ في بعض الموارد التي لا تصادف الأمارة الواقع ورفع اليد وصرف النظر عنه مع وجوده واقعا وعدم تغيّره عمّا هو

__________________

(١) تنقيح الاصول : ٣ ، ٩٨ ـ ٩٧.

٥٨٥

عليه ومن المعلوم أنّ الراجح أنّ الشارع لم يرد الحكم الواقعيّ الذي يخالفه الأمارة فعلا لأجل الاضطرار إلى ذلك وعدم المحيص عنه وحينئذ فالأحكام الواقعيّة في مورد الأمارات المؤدّية إلى خلاف الواقع محفوظة لكنّها شأنيّة لا فعليّة (١).

يمكن أن يقال : أوّلا إنّ استقرار البناء على العمل بالطرق والأمارات يكون مسبوقا بجعل الأمارات والطرق كالعلم في الطريقيّة أو الحجّيّة إذ بنائهم عليها ليس بلا وجه مع كونها لا تتمّ في الطريقيّة وكان باب العلم مفتوحا فلا ينافى استقرار البناء على العمل مع جعل الطريقيّة أو الحجّيّة قبل ذلك فامضاء الشارع يرجع إلى إمضاء الطريقيّة أو الحجّيّة بل يمكن أن يقال : إنّ اعتبار طريقيّة الأمارات إلى الواقع يوجب جواز إسناد مؤدّاها إلى المولى ومقتضاه هو صحّة الاحتجاج بها وعليه فالحجّيّة تكون في طول اعتبار الطريقيّة وعملهم عليها مسبوق بهذه الاعتبارات.

وثانيا إنّ لحن طائفة من أدلّة اعتبار الأخبار يساعد مع جعل الطريقيّة كقوله عليه‌السلام «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا» لأنّه يرجع إلى الأمر بإلغاء احتمال الخلاف والمعاملة مع الخبر معاملة العلم واليقين كما أنّ لحن أدلّة اعتبار قول المفتي يساعد مع الحجّيّة كقول مولانا الإمام الثاني عشر عجّل الله تعالى له الفرج إنّهم حجّتي وأنا حجّة الله ولا ينافي ما ذكر الأمر بأخذ الأحكام وتلقّيها من مثل يونس بن عبد الرحمن وزرارة وزكريّا ابن آدم وأمثالهم لأنّه من باب التضرّع على الطريقيّة أو الحجّيّة بل مقتضى الجمع بين أدلّة الاعتبار هو اعتبار الطريقيّة الّتي توجب الحجّيّة فيترتّب عليه وجوب الأخذ والتلقّي.

وثالثا إنّ المقصود من احتمال أن يكون المجعول هو الحجّيّة أو الطريقيّة هو دفع الشبهات والمحاذير بمجرّد إمكان إرادة ذلك فلا حاجة في الجواب عن الشبهة إلى

__________________

(١) تنقيح الاصول : ٣ ، ٩٣.

٥٨٦

الإثبات كما نصّ عليه المحقّق النائيني قدس‌سره حيث قال : وليعلم أنّ مجرّد إمكان أن يكون المجعول فيها ذلك كاف في دفع الشبهة بلا حاجة إلى إثبات وقوعه ؛ إذ الكلام في إمكان التعبد بالظنّ.

ثمّ إنّه لا فرق بين الحجّيّة والطريقيّة في دفع الشبهة ؛ فإنّ التضادّ والمناقضة يرتفعان بعدم جعل الحكم المخالف للواقع سواء كان المجعول هو الحجّيّة أو الطريقيّة.

ودعوى : ترجيح الطريقيّة على الحجّيّة بأنّ مجرّد الحجّيّة وإن سوّغت ترتب العقاب إلّا أنّها لا تجوّز نسبة مفاد الأمارة إلى المولى كما في أطراف العلم الإجمالي والشبهة قبل الفحص عن الحكم ، ومن المعلوم جواز إسناد مفاد الأمارات القائمة على الحكم إليه تعالى ، فلا بدّ وأن يكون المجعول هي الطريقيّة (١).

مندفعة : بأنّ ما ذكر من الفرق يتمّ فيما إذا لم يكن مورد الحجّيّة من الأمارات كالشبهة قبل الفحص أو احتمال خصوص كلّ طرف من أطراف المعلوم بالإجمال ، بخلاف ما إذا كان مورد الحجّيّة من الأمارات ؛ فإنّ اعتبار الحجّيّة للأمارة لا ينفكّ عن اعتبار الطريقيّة وبعد تماميّة الطريق بإلغاء احتمال الخلاف جاز إسناد مفاده إلى الواقع ، بل الحجية متفرّعة على الطريقيّة. ثمّ ربّما يشكل في جعل الطريقيّة من العقلاء أو الشارع بأنّ مقتضى اعتبار الوصول بنحو تحقيق الموضوع أن يكون الأثر العقلي مرتّبا على الأعمّ من الوصول الحقيقي والاعتباري ، مع أنّه ليس ترتّب الأثر على الوصول من باب ترتّب الحكم الكلّي على الموضوع الكلّيّ بنحو القضايا الحقيقيّة حتّى يكون القطع من أفرادها المحقّقة الوجود والظنّ مثلا من أفرادها المقدّرة الوجود التي يحقّقها الشارع باعتباره وصولا ، بل هذا الأثر إنّما استفيد من بناء العقلاء عملا على المؤاخذة على التكليف الواصل قطعا أو الواصل بخبر الثقة ففي ما لا بناء عملى لهم على اتّباعه

__________________

(١). تسديد الاصول ٢ : ٣٨.

٥٨٧

لا معنى لتحقيق الموضوع وفيما كان لهم بناء عملىّ كخبر الثقة لا حاجة إلى اعتباره لترتيب ذلك الأثر إلّا بعنوان الإمضاء ولا معنى لإمضاء الاعتبارات إلّا باعتبار يماثل ذلك الاعتبار وترتّب أثر يوافق ذلك الأثر وإلّا فترتّب الأثر العقلائي لا يتوقّف إلّا على بناءهم واعتبارهم لا على اعتبار الشارع (١). ويمكن الجواب عنه بأنّه لا مانع من أن يكون ترتّب الأثر على الوصول وهو جواز المؤاخذة من باب ترتّب الحكم الكلّيّ العقلي على الموضوع الكلّيّ بنحو القضيّة الحقيقية فكما أنّ حكم العقل بلزوم إطاعة المولى مترتّب على الموضوع الكلّيّ فلذا يشمل المحقّقة والمقدّرة ولو بمثل اعتبار المطاعية لفرد أو استصحاب الأمر والنهي فكذلك يحكم العقل بترتّب الأثر على التكليف الواصل بنحو القضيّة الحقيقيّة وعليه فيشمل كلّ مورد يتحقّق الوصول سواء كان حقيقيّا أو اعتباريّا باعتبار العقلاء أو اعتبار الشارع فالأثر العقلي يكون مترتّب على الأعمّ من الوصول الحقيقي والاعتباري وبنتيجة ذلك أنّه لا إشكال في جواز اعتبار الوصول بنحو تحقيق الموضوع حتّى يوجب تعميم الأثر العقلي المترتّب على التكليف الواصل فيصحّ المؤاخذة على الواصل بالاعتبار كما يصحّ المؤاخذة على الواصل الحقيقي وبالجملة جعل الطريقيّة معقول وهي ملازمة مع الحجّيّة فتدبّر جيّدا.

وكيف كان فإشكال المناقضة والتضادّ بحسب الأحكام مندفع بجعل الطريقيّة أو الحجّيّة. نعم ، يبقى الإشكال من ناحية لزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال ؛ فإنّه باق على حاله ، كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره ؛ إذ جعل الحجّيّة أو الطريقيّة ربّما يؤدّي إلى مخالفة الواقع ، ولا يدفع إلّا بحمل الواقعي على الشأني دفعا عن الوقوع في المفسدة العظيمة. والاكتفاء بمجرّد جعل الحجّيّة أو الطريقيّة وإبقاء الواقع على الفعليّة لا يدفع الإشكال ، كما لا يخفى.

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ ، ٤٤.

٥٨٨

ولقد أفاد وأجاد في مباحث الحجج حيث قال : هذا الوجه لا محصّل له ؛ لأنّ الجعل المذكور إن كان غير مستلزم لموقف عملي من قبل المكلّف فعلا أو تركا فلا أثر لجعل مثل هذا الحكم الوضعي ولا يكون موضوعا لحكم العقل بلزوم الإطاعة.

وإن كان مستلزما لذلك فإن كان غير ناشئ عن مبادئ الحكم التكليفي من ورائه من إرادة وشوق نحو الفعل أو كراهة وبغض فهذا وحده كاف لدفع المحاذير المتوهّمة في المقام سواء كان الحكم الظاهري بحسب صياغته واعتباره القانوني من سنخ الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة ؛ لأنّ التنافي والمحاذير الناشئة منه إنّما تنشأ بلحاظ تلك المبادي لا بين الصيغ الإنشائيّة للحكمين. وإن كان ناشئا عن ملاكات واقعيّة فمحذور التنافي باق على حاله سواء كانت صيغة الحكم الظاهري المجعول من سنخ الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة ، (١) انتهى موضع الحاجة.

بل محذور التنافي باق على جميع الوجوه ، ولا يرتفع إلّا بحمل الحكم الواقعي على الشأني دفعا لوقوع المفسدة العظيمة ، وإلّا فاختيار جعل الطريقيّة أو الحجّيّة إن كان بملاحظة حفظ الحكم الواقعي على الفعليّة فإشكاله ظاهر ؛ لما عرفت من أنّ ذلك يوجب تحليل الحرام وتحريم الحلال ، فلا مناص من رفع اليد عن الفعليّة حتّى يرتفع إشكال التنافي المذكور ، فلا تغفل.

فتحصّل : أنّ المحاذير المذكورة للتعبّد بالأمارات بعضها يرتفع بالوجه الأخير من جعل الطريقيّة أو الحجّيّة. وأمّا محذور تحليل الحرام أو تحريم الحلال وتفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة وامتناع اجتماع إرادة الحكم الواقعي مع إرادة ما ينافيه من مؤدّى الأمارة لا يرتفع بذلك ، بل يحتاج إلى رفع الفعليّة عن الواقعي بعد تزاحمه مع مفسدة عظيمة.

__________________

(١). مباحث الحجج ١ : ١٩٣ ـ ١٩٤.

٥٨٩

وعليه فالأحكام الواقعيّة في مورد الأمارات المؤدّية إلى خلاف الواقع محفوظة بنحو شأنيّة لا فعليّة ، ولكن لا يخفى أنّ شأنيّة هذه الأحكام من جهة المزاحمة لا في نفسها ؛ ولذا لو حصل العلم بها لكانت متنجّزة ، بخلاف الأحكام التي تكون شأنيّة في نفسها ، فإنّها مع حصول العلم بها لا تكون متنجّزة ؛ لأنّ متعلّق العلم هو الحكم الشأني كما لا يخفى.

وهذا هو أساس الجواب عن المحاذير المذكورة للتعبّد بالأمارات ؛ إذ مع حمل الأحكام الواقعيّة على الشأنيّة يرتفع المحذورات بحذافيرها سواء كانت في ناحية المبادئ أو الملاكات أو المنتهى ؛ إذ لا إشكال في جواز اجتماع الإرادة الشأنيّة مع الإرادة الفعليّة المخالفة معها. كما لا إشكال في جواز تزاحم المصلحة الواقعيّة مع مفسدة أعظم منها وترجيحها عليها. وهكذا لا مانع من اجتماع حكم غير فعليّ مع حكم فعليّ ؛ إذ لا يقتضي غير الفعليّ الامتثال. ولا فرق فى ذلك بين إن قلنا بأنّ التعبّد بالأمارات من باب الإرشاد إلى الواقع بلا جعل أو قلنا بأنّه من باب جعل الطريقيّة أو الحجّيّة أو غيرهما من الوجوه. وهكذا لا تفاوت بين ما إذا قلنا بأنّ الحكم الواقعي والظاهري يجتمعان في رتبة واحدة وبين ما إذا قلنا بأنّهما لا يجتمعان في رتبة واحدة لتعدّد موضوعهما ، وإن أمكن أن يقال في الأخير لا مانع من كون الحكم الواقعي فعليّا ، ولا يلزم أن يكون شأنيّا لفرض تعدّد الموضوع ، إلّا أنّ تجويز سلوك الأمارة مع إمكان تحصيل العلم بالواقع وأداء الأمارة إلى مخالفة الواقع لا يمكن إلّا مع تزاحم الحكم الواقعى مع مفسدة أعظم من مصلحته ، فمعه يسقط الحكم الفعلي عن فعليّته ، ويبقى على الشأنيّة ، فهذا الجواب أيضا لا يستغني عن الحمل على الشأنيّة ، فتأمّل. هذا كلّه بالنسبة إلى إمكان التعبد بالأمارات.

إمكان التعبّد بالاصول :

واعلم أنّه يكفي ما تقدّم من بيان إمكان التعبّد بالأمارات لبيان إمكان التعبّد

٥٩٠

بالاصول ؛ لأنّ لزوم الاتّباع عن العلم يوجب مفسدة عظيمة ، ومعها تسقط الأحكام الواقعيّة عن الفعليّة ، ومع سقوطها عن الفعليّة وحملها على الشأنيّة كما لا مانع من التعبّد بالأمارات فكذلك لا مانع من التعبّد بالأصول من دون فرق بين أن تكون الاصول محرزة وبين أن لا تكون كذلك.

ولقد أفاد وأجاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره في دفع الإشكال في التعبّد بالاصول العمليّة حيث قال : تقرير دفع الإشكال فيها يقرّب ممّا ذكرناه في الأمارات ، فإنّه مع عدم قاعدة الفراغ والتجاوز يلزم مفسدة عظيمة لا يمكن تحمّلها ؛ فإنّه قلّما يتّفق لإنسان أن يخرج من صلاته أو من الوقت ويتيقّن الإتيان بجميع ما يعتبر فى الصلاة ، بل إذا لاحظنا الصلوات المأتيّ بها سابقا في السنوات الماضية فالغالب عدم حصول اليقين بالإتيان بتمام أجزائها ومراعاة شرائطها تامّة وعدم الإخلال بها سهوا ونسيانا فلو لا اعتبار قاعدة الفراغ شرعا كان عليه أن يأتي بها أي بكلّ ما يشكّ فيه أداء وقضاء ، وهذا عسر شديد وحرج عظيم لا يتحمّلها أكثر الناس.

وحينئذ فمع تشريع الاصول دفعا للحرج والضرر والخروج عن الدين بعدم التزام المكلّفين بالأحكام الشرعيّة مع علم الشارع بأنّها قد تخالف الواقع لا بدّ أن يرفع اليد عن الحكم الواقعي ويغمض النظر عنه في موارد مخالفتها للواقع وعدم إرادته له فعلا مع الترخيص في العمل بالأمارات والاصول مع وجود الحكم الواقعي وتحقّقه وثبوته لجميع المكلّفين ، لكنّه ليس بفعليّ بل شأنيّ حينئذ. (١)

وإليه يؤوّل ما في الكفاية من الفعلي من بعض الجهات ؛ فإنّ المراد منه هو الحكم الفعلي الذي يسقط عن الفعليّة من جهة منافاته مع فعليّة ما يخالفه من الأحكام الظاهريّة سواء كانت هي مفاد الأمارات أو الاصول ، ولذا جعل الحمل على

__________________

(١). الاصول ٣ : ٩٤ ـ ٩٥.

٥٩١

الشأنيّة جوابا عن الإشكالات الواردة على التعبّد بالاصول والأمارات ؛ لتعبيره في مقام دفع إشكال منافاة الإذن في الإقدام والاقتحام في الاصول مع المنع فعلا بحسب الواقع كما إذا صادف الحرام وإن كان الإذن فى الإقدام لأجل مصلحة في نفس الإذن لا المأذون فيه : «بأنّه لا محيص في مثله إلّا عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية أيضا كما في المبدأ الأعلى ، لكنّه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعليّ بمعنى كونه على صفة ونحو لو علم به المكلّف لتنجّز عليه كسائر التكاليف الفعليّة التى تتنجّز بسبب القطع بها» (١).

وذلك لأنّ التعبير «في مثله» في كلامه ظاهر في عدم اختصاص الجواب المذكور بالاصول ، وعليه يأتي الجواب في الأمارات أيضا ولعلّ قوله : «فافهم» ـ بعد الجواب عن إشكال المضادّة في التعبّد بالأمارات عنها من جهة كون أحدهما طريقيّا ناشئا عن مصلحة في نفس الحكم الطريقي لا عن مصلحة في متعلّقه ، والآخر واقعيّا حقيقيّا ناشئا عن مصلحة أو مفسدة في متعلّقه ـ إشارة إليه ؛ فإنّ الجواب المذكور لا يدفع المنافاة في تحليل الحرام أو تحريم الحلال كما عرفت.

وبالجملة : فالجواب الصحيح الكامل عن المحذورات بأنّ الواقعيّات بعد منافاتها مع الأحكام الظاهريّة محمولة على الشأنيّة بمعنى الساقطة عن الفعليّة من جهة المنافاة المذكورة ، لا الشأنيّة التى لم تبلغ إلى المرتبة الفعليّة.

فلا يرد على هذا الجواب أنّ مقتضى شأنيّة الواقعيّات هو عدم لزوم الإتيان بها عند العلم بها فضلا عن قيام الأمارات عليها ؛ ضرورة عدم لزوم امتثال الأحكام التي لم تصر فعليّة ولم تبلغ مرتبة البعث والزجر مع أنّ لزوم الإتيان بالواقعيّات عند العلم بها أو قيام الأمارات عليها من الواضحات.

__________________

(١) الكفاية ٢ : ٥٠.

٥٩٢

وذلك لما عرفت من أنّ ما ذكر ناش عن الخلط بين الشأنيّة التي لم تبلغ مرتبة البعث والزجر والشأنيّة التي بلغت تلك المرتبة ولكن سقطت عنها من جهة منافاة الأهمّ ومن المعلوم أنّ الثانية إذا تعلّق بها العلم أو قامت عليها الأمارة وجب الإتيان بها بلا كلام ، فلا تغفل.

٥٩٣

الخلاصة :

الفصل الثالث

في الوجوه التي استدلّ بها على استحالة التعبّد بغير العلم من الأمارات وأجوبتها بناء على طريقيّة الأمارات.

أحدها أنّ التعبّد بغير العلم من الأمارات محال لرجوعه إلى اجتماع المثلين فيما إذا أصاب غير العلم أو اجتماع الضدّين فيما إذا أخطأ بناء على القول بالتخطئة وإلّا لزم من التعبّد بغير العلم أن لا يكون هناك أحكام غير مؤدّيات الأمارات وهو التصويب الذي لا نقول به.

والجواب عنه أنّ التعبّد بالأمارات من باب مجرّد الكشف عن الواقع فلا يلاحظ في التعبّد لها إلّا الإيصال الى الواقع ولا مصلحة في سلوك هذه الطرق وراء مصلحة الواقعيّات وعليه فلا مضادّة ولا اجتماع المثلين إذ في هذا الفرض لا يكون إلّا حكم واحد وإنّما التعدّد في مجرّد الإنشاء لغرض الوصول والأمر ليس إلّا للإرشاد الى الواقع.

ودعوى أنّ ذلك منوط بعلم الشارع العالم بالغيب بدوام موافقة هذه الأمارات بالنسبة الى الواقع أو منوط بعلمه بكونها أغلب مطابقة من غيرها وإلّا فلا يصحّ التعبّد بها من باب الإرشاد الى الواقعيّات إلّا مع تعذّر باب العلم لأنّ لازم مخالفة الأمارات أحيانا للواقع هو تفويت الواقعيّات على المكلّف ولو في موارد النادر وعليه

٥٩٤

فالتعبّد بالأمارات مع انفتاح باب العلم وبقاء الواقعيات على الإرادة الجدّيّة مستلزم للتفويت وهو قبيح.

مندفعة بأنّ القبح المذكور فيما إذا لم يكن تحصيل الواقعيّات مستلزما للأفسد وإلّا فلا إشكال في التعبّد بغير العلم ولو في زمان الانفتاح.

إذ إلزام الناس في زمان الانفتاح على العمل بالعلم والسؤال عن أئمّتهم عليهم‌السلام يوجب ازدحام الشيعة على بابهم وتجمعهم حول دارهم وهو ممّا يوجب ازدياد بغض الأعداء وعزمهم على قتل الأئمّة عليهم‌السلام وهدمهم بحيث لم يبق معه مجال لنقل الأحكام منهم.

كما أنّه لا مجال لوجوب الاحتياط لكون فساده أظهر لأنّه مستلزم لاختلال النظام أو الحرج الشديد ورغبة الناس عن الدين.

ففي هذه الصورة لا مجال لدعوى القبح في التعبّد بالأمارات ولو مع انفتاح باب العلم.

والأحكام الواقعية في هذه الموارد تسقط عن الفعلية إذ لا يمكن التحفّظ التامّ بالنسبة إليها مع تزاحمها مع الأفسد في مقام الامتثال.

ثانيها : أنّه يلزم من التعبّد بغير العلم تكليف بالمحال وهو طلب الضدّين عند عدم الإصابة.

والجواب عنه واضح بعد ما عرفت من سقوط الأحكام الواقعيّة عن الفعليّة عند عدم الإصابة.

ثالثها : أنّه يلزم من التعبّد بغير العلم تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فيما إذا أدّى التعبّد بغير العلم إلى عدم وجوب ما هو واجب في الواقع أو عدم حرمة ما هو حرام في الواقع.

والجواب عنه أنّه لا مانع منه بعد تزاحمه بما هو أفسد.

٥٩٥

رابعها : أنّ الأمارة ربّما تقوم على وجوب ما هو مباح واقعا أو على حرمة ما هو مباح كذلك ولازم حجّيّة الأمارة هو الإلزام بشيء من الفعل أو الترك من دون أن تكون فيه مصلحة أو مفسدة ملزمة مع أنّا نقول بتبعية الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد ولعلّ هو مراد من يقول إنّ حجّيّة الأمارات تستلزم تحريم الحلال أو ايجابه.

والجواب عنه أيضا بأنّ العقل يحكم بلزوم ذلك بعد تزاحم المفاسد والمصالح الواقعيّة بالأفسد منها ودوران أمر المكلّف بين إدراك الواقع والوقوع في الأفسد وبين عدم إدراك الواقع وعدم الوقوع في مفسدة أعظم.

وذلك لما عرفت من سقوط الواقع عن الفعليّة عند مزاحمته مع وجود المانع. هذا كلّه بناء على عدم القول بالإجزاء في الأمارات والاصول.

وأمّا على القول بالإجزاء فلا مجال للجواب المذكور من أنّه ليس في متن الواقع إلّا الحكم الواقعي لأنّ الظاهر من أدلّة اعتبار الأمارات أنّ موردها يكفي لتحقّق امتثال التكاليف المعلومة بالإجمال فمع انكشاف الخطأ يحكم بصحّة ما أتى به طبقا للأمارات والأصول وهذا لا يساعد مع كون الأمارات لإرشاد المحض فإنّ مقتضى كونها للإرشاد أنّ مع التخلّف لا مجال للحكم بالصحّة إذ الواقعيّات باقية على ما عليها فيجب الإتيان بها ما دامت باقية.

ولكن الذي يسهّل الخطب أنّ المستفاد من أدلّة اعتبار الأمارات حينئذ هو حكومة مفادها على الواقع والحاكم والمحكوم ممّا يجتمعان ولا مضادّة بينهما وإن كانا مولويين.

ومع الحكومة لا يبقى الواقع على الفعليّة بل الحكم الظاهري الذي هو حاكم بالنسبة الى الواقع فعلي في ظرف الشكّ ويكون العمل على وفقه مجزيّا ومع سقوط الواقع عن الفعليّة فلا يرد المحاذير المذكورة على القول بالإجزاء أيضا.

وخلاصة الجواب في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بناء على الطريقيّة

٥٩٦

واعتبار الأمارات بلسان أنّها هي الواقعيّات سواء قلنا بالإجزاء أو لم نقل هو أنّ الواقعيات لا تبقى على الفعليّة.

والمراد من هذا الجمع ليس أنّ الحكم الواقعي واقف في مرحلة الإنشاء فيما لو خالفته الأمارات حتّى يقال إنّ هذا لا يساعد اشتراك الجاهل والعالم في الأحكام الواقعيّة إذ الحكم الواقعي الواقف في مرحلة الإنشاء ليس محرّكا ولو حصل العلم به.

بل المراد أنّ الحكم الواقعي بلغ مرتبة الفعليّة كحكم العالم ولكن بعد تزاحمه بمفاسد اخرى أو بعد ابتلائه بالأدلّة الحاكمة تسقط عن الفعليّة بحيث لو علم به وارتفعت المفاسد أو ارتفع الحاكم كان مأخوذا ولو فيما سيأتي من الأعمال. وعليه فحديث الاشتراك في الأحكام بين العالم والجاهل باق على قوّته ولا منافاة بينه وبين الجمع المذكور.

هذا كلّه أيضا بناء على اعتبار الأمارات من باب الطريقيّة المحضة كما عليه بناء العقلاء وأمضاه الشارع لأنّه لم يجعل طريقا خاصّا في إحكامه ولم يلاحظ في التعبّد بالأمارات إلّا الإيصال الى الواقع فلا مصلحة في سلوك هذه الأمارات والطرق وراء مصلحة الواقع.

أجوبة الوجوه المذكورة بناء على السببيّة واختلاف المرتبة :

وأمّا الجواب عن محذورات التعبّد بالأمارات بناء على السببيّة بدعوى أنّ التعبّد بالطرق الظنّيّة يكون من جهة وجود المصلحة فيها في الجملة إمّا في الفعل أو في سلوك الطريق فهو موقوف على تصوّر السببيّة وهي على وجوه :

منها أن يكون الحكم سواء كان فعليّا أو شأنيّا تابعا للأمارات بحيث لا يكون في حقّ الجاهل مع قطع النظر عن قيام الأمارات وعدمه حكم في الواقع وهذا هو التصويب الباطل عند أهل الصواب من التخطئة وقد تواترت الأخبار بوجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل وعليه فلا يمكن الجواب عن وجوه استحالة التعبد

٥٩٧

بالأمارات بهذا الوجه بدعوى أنّ الحكم عليه واحد وهو مفاد الأمارات فلا يلزم من التعبّد بالأمارات اجتماع الضدّين أو المثلين لا في الأحكام ولا في مباديها ولا في ملاكاتها.

ومنها أن يكون الحكم الفعلي تابعا للأمارات بمعنى أنّ لله في كلّ واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل لو لا قيام الأمارات على خلافها بحيث يكون قيامها مانعا عن فعليّة الأحكام لكون مصلحة سلوك الأمارات غالبة على مصلحة الأحكام الواقعيّة.

وعليه فالأحكام الواقعيّة شأنيّة في حقّ الظانّ بخلافه وفعلي في حقّ غير الظانّ بخلافه.

وهذا أيضا تصويب مجمع على خلافه لأنّ الحكم الواقعي ليس بحيث لو علم به لتنجّز لأنّه شأنيّ محض واللازم في الاشتراك هو الذي لو علم به لتنجّز.

ومنها أن يكون العمل على طبق الأمارة والالتزام به في مقام العمل بعنوان أنّه هو الواقع وترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة عليه واقعا مشتملا على مصلحة سلوكيّة من دون احداث مصلحة في نفس الفعل فأوجبه الشارع ومعنى إيجاب العمل على الأمارة وجوب تطبيق العمل عليها لا وجوب إيجاد عمل على طبقها إذ قد لا تتضمّن الأمارة إلزاما على المكلّف كما إذا تضمّنت استحباب شيء.

وتلك المصلحة لا بدّ أن يكون ممّا يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع لو كان الأمر بالعمل به مع التمكّن من العلم وإلّا كان تفويتا لمصلحة الواقع وهو قبيح.

وهذا الوجه ليس بتصويب إذ المصوّبة لا يقولون بوجود حكم الله في الواقع وفي هذا الوجه الحكم الواقعي موجود واللازم هو وجوب تطبيق العمل على الأمارة بعنوان أنّها طريقة الى الواقع فإذا كانت الأمارة مخالفة للواقع كان الحكم الواقعي موجودا بحيث لو علم به لما كان معذورا ومما ذكر من المصلحة السلوكية يمكن

٥٩٨

الجواب عن المحذورات المذكورة.

إذ الحكم الواقعي موجود معها وإنّما كان متزاحما بما يمنع عن تأثيره وهو في الواقع يكون بحيث لو علم به لا يعذر فيه إلّا بإتيانه.

فلا يلزم من القول بمصلحة سلوكيّة التصويب كما لزم ذلك من الوجه الأوّل والثاني لعدم حكم فعلي فيهما غير مؤدّى الأمارة.

لا يقال إنّ السلوك ليس أمرا وراء نفس الفعل الذي يوجده المكلّف ويكون محكوما بالحكم الواقعي كصلاة الجمعة مثلا وفي مقام التحقّق لا ينفكّ عنه فصلاة الجمعة التي يوجدها المكلّف هي بعينها محقّقة للسلوك ومصداق له وليس تحقّق السلوك إلّا بنفس هذا الفعل.

والقول بالسببيّة إنّما يتمّ إذا كان هناك عنوان ذو مصلحة وراء العناوين الواقعيّة حتّى يقال بأنّ المسألة من مصاديق اجتماع الأمر والنهي وليس الأمر كذلك فإنّ العنوان المتوهّم هنا هو سلوك الأمارة وليس السلوك إلّا عبارة أخرى عن العمل بمؤدّى الأمارة فلو قامت الأمارة على وجوب الجمعة ولو فرضت حرمته واقعا لزمت المحذورات ولو فرض كون قيام الأمارة سببا لحدوث ملاك فيها وجب الكسر والانكسار بين الملاك الذاتيّ والطاري وكان الحكم تابعا لأقواهما فهذا البيان لا يصحّح الجمع بين الحكمين.

لأنّا نقول نمنع عدم كون السلوك عنوانا آخر وراء العناوين الواقعيّة إذ السلوك هو اعتناء بقول العادل وتصديق عملي له بتطبيق العمل على وفق قوله وحصر الأعمال فيما أخبر به العادل وهذا العنوان غير عنوان أصل العمل والمفروض أنّه مشتمل على مصلحة ملزمة.

فكما أنّ التقليد أمر وراء نفس العمل فكذلك اتّباع العادل في قوله عنوان آخر غير الإتيان بالمؤدّى. وعليه فلا يجتمع الحكمان المتضادّان في عنوان واحد والحكمان

٥٩٩

المذكوران لو وصلا يتزاحمان. وأمّا مع عدم وصول أحدهما وهو الحكم الواقعيّ فلا يتزاحمان.

لا يقال إنّ السببيّة بهذا المعنى ممّا لا يمكن الالتزام به لكونه مستلزما لتبدّل الحكم الواقعي بنوع من التصويب إذ لو فرض كون سلوك الأمارة مشتملا على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة لا يعقل تعلّق الإيجاب بالواقع يقينا لكونه ترجيحا بلا مرجّح بل لا بدّ من تعلّق الايجاب بالواقع وسلوك الأمارة تخييرا وهذا نوع من التصويب ويدلّ على بطلانه الإجماع والروايات الدالّة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل.

لأنّا نقول ويمكن الجواب عنه بأنّ الأمارات واعتبارها وسلوكها في طول الأحكام الواقعية والتخيير فرع كون سلوك الأمارة في عرض الأحكام الواقعيّة والمفروض خلافه فتحصّل أنّ التعبّد بالأمارات بناء على السببية أيضا ممكن بعد ما عرفت المراد من المصلحة السلوكيّة فالحكم الواقعي على هذا المبنى أيضا موجود وإنّما سقط الأمر به عن التأثير لمزاحمته مع المصلحة السلوكيّة فيصير شأنيّا ولكن يكون بحيث لو علم به لا يعذر في تركه فيجمع بين الحكم الواقعي والظاهري باختلاف المرتبة لصيرورة الحكم الواقعي شأنيّا والحكم الظاهري فعليّا.

أجوبة الوجوه المذكورة بتعدّد الموضوع واختلاف الرتبة :

ثمّ لا يذهب عليك أنّ الشيخ الأعظم قدس‌سره أجاب عن المحذورات بتعدّد الموضوع حيث قال يعتبر في التضادّ ما يعتبر في التناقض من الوحدات الثمانيّة ومن الوحدات المعتبرة في التناقض هي وحدة الموضوع وعليه فلا تضادّ بين الحكم الواقعي والظاهري لتعدّد موضوعهما فإنّ موضوع الأحكام الواقعية هي الأشياء بعناوينها الأوّليّة وموضوع الأحكام الظاهريّة هي الأشياء بعناوينها الثانويّة أي بعنوان أنّها مشكوك فيها فلا تضادّ بين الحكم الواقعي والظاهري بعد اختلاف الموضوع فيهما.

٦٠٠