عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

الطريق إليه ، لا بسبب القطع بالخلاف. (١)

ويمكن أن يقال : إنّ الجهل بالواقع في صورة عدم إصابة القطع للواقع متّحد مع القطع ، ولذا يكون القطع المذكور جهلا مركّبا ، ومع الاتّحاد لا مانع من استناد المعذّريّة إلى القطع كما تستند المنجّزيّة إليه فتدبّر جيّدا.

وثانيها : ما ذهب إليه المحقّق الأصفهاني قدس‌سره من أنّ استحقاق العقاب ليس من الآثار القهريّة واللوازم الذاتيّة لمخالفة التكليف المعلوم قطعا ، بل من اللوازم الجعليّة من العقلاء لما سيأتي عمّا قريب إن شاء الله تعالى أنّ حكم العقل باستحقاق العقاب ليس ممّا اقتضاه البرهان ، وقضيّته غير داخلة في القضايا الضروريّة البرهانيّة ، بل داخلة في القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء لعموم مصالحها ، ومخالفة أمر المولى هتك لحرمته وهو ظلم عليه والظلم قبيح أي ممّا يوجب الذمّ والعقاب عند العقلاء ، فدخل القطع في استحقاق العقوبة على المخالفة الداخلة تحت عنوان الظلم بنحو الشرطيّة جعلي عقلائيّ لا ذاتيّ قهريّ كسائر الأسباب الواقعيّة والآثار القهريّة ... إلى أن قال : وحيث عرفت أنّ الحجّيّة بمعنى المنجّزيّة من اللوازم الجعليّة العقلائية فبناء على أنّ جعل العقاب من الشارع يصحّ القول بجعل المنجّزيّة للقطع شرعا من دون لزوم محذور. (٢)

ويمكن أن يقال : إنّ المشهورات بالمعنى الأخصّ هي القضايا التي لا عمدة لها في التصديق إلّا الشهرة وعموم الاعتراف بها ، فلا واقع لها وراء تطابق الآراء عليها بحيث لو خلّي الإنسان وعقله المجرّد لا يحصل له حكم بهذه القضايا كاستهجان إيذاء الحيوان لا لغرض. وهذا ممّا لا يمكن المساعدة عليه في مثل المقام ؛ لأنّ استحقاق

__________________

(١) معتمد الاصول : ٣٧٣.

(٢) نهاية الدراية ٢ : ٥.

٣٦١

العقاب على مخالفة التكليف المعلوم من جهة كونها هتكا للمولى لا يحتاج إلى تطابق الآراء ، بل العقل مدرك لذلك ولو لم يكن اجتماع ، كما أنّ حسن العدل وقبح الظلم ثابت ولو لم يكن اجتماع أو لم يلزم اختلال للنظام لملاءمة العدل مع القوّة العاقلة ومنافرة الظلم معها.

والملاءمة والمنافرة للقوّة العاقلة تكفي في إدراج القضيّة في اليقينيّات. وعليه فعدم الاحتياج إلى تطابق الآراء ممّا يشهد على أنّه ليس من القضايا المشهورة بالمعنى الأخصّ ، وأمّا بالمعنى الأعمّ فلا مانع منه ، لأنّها هي التي تطابقت على الاعتقاد بها آراء العقلاء كافّة وإن كان الذي يدعو إلى الاعتقاد المذكور كون القضيّة من اليقينيّات.

هذا ، مضافا إلى ما في مصباح الاصول من أنّ الأوامر الشرعيّة ليست بتمامها دخيلة في حفظ النظام ؛ فإنّ أحكام الحدود والقصاص وإن كانت كذلك والواجبات الماليّة وإن أمكنت أن تكون كذلك إلّا أنّ جلّا من العبادات كوجوب الصلاة التي هي عمود الدين لا ربط لها بحفظ النظام أصلا. (١)

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه يكفي في بناء العقلاء ترتّب حفظ النظام على رعاية نفس القطع دون الظنّ والوهم والاحتمال. وعليه فلا وجه لملاحظة ارتباط المقطوع مع حفظ النظام ، فتأمّل فالعمدة في ردّ هذا القول هو ما ذكرناه.

ثالثها : هو ما ذهب إليه في مصباح الاصول من أنّ الصحيح هو أن يقال : إنّ حجّيّة القطع من لوازمه العقليّة ، بمعنى أنّ العقل يدرك حسن العمل به وقبح مخالفته ويدرك صحّة عقاب المولى عبده المخالف لقطعه وعدم صحّة عقاب العامل بقطعه ولو كان مخالفا للواقع من دون حكم العقل بإلزام أو تحريك وبعث. وإدراك العقل ذلك

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ١٦.

٣٦٢

لا يكون بجعل جاعل أو بناء من العقلاء لتكون الحجّيّة من الأمور المجعولة أو من القضايا المشهورة ، بل من الامور الواقعيّة الأزليّة كما هو الحال في جميع الاستلزامات العقليّة.

والفرق بين القول الثالث والأوّل في حكم العقل وعدمه ، فإنّ القول الأوّل يشتمل على الحكم دون القول الثالث ، ولذا قال في مصباح الاصول : أنّ العقل شأنه الإدراك ليس إلّا ، وأمّا الإلزام والبعث التشريعي فهو من وظائف المولى. نعم الإنسان يتحرك نحو ما يراه نفعا له ويحذر ممّا يراه ضررا عليه. وليس ذلك بإلزام من العقل ، بل المنشأ فيه حبّ النفس ، ولا اختصاص له بالإنسان ، بل الحيوان أيضا بفطرته يحبّ نفسه ويتحرّك إلى ما يراه نفعا له ويحذر ممّا أدرك ضرره. وبالجملة حبّ النفس وإن كان يحرّك الإنسان إلى ما قطع بنفعه إلّا أنّه تحريك تكوينيّ لا بعث تشريعي (١).

ولا يخفى عليك أنّ العقل يدرك قبح مخالفة المولى في أوامره ونواهيه كما يدرك حسن الإطاعة والعمل بها ، وهذا الإدراك من جهة إدراكه حسن العدل وقبح الظلم ؛ إذ المخالفة هتك للمولى والهتك ظلم كما أنّ الإطاعة والعمل بأوامره ونواهيه مراعاة لحقوق المولى وعدل.

التحسين والتقبيح لا يصدران إلّا من العاقل بما هو عاقل ، فإذا قطع العاقل بخطاب من خطابات المولى يدرك استحقاق العقوبة لمخالفته وضرورة ترتّبه عليها ، وهذا الإدراك التقبيحي او التحسيني يوجب تحريكه نحو الإطاعة وترك المخالفة. ولا فرق في ذلك بين أن يأمر العقل بذلك ويبعث ويحرّك أو لا ، فإنّ نفس التقبيح والتحسين يفعل ما يفعل الإلزام والبعث ولا حاجة إليهما ، ولكن ذلك على كلّ تقدير

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ١٦.

٣٦٣

لا يشابه حركة الحيوان بفطرته وغريزته ؛ فإنّ الإطاعة وترك المخالفة بعد التقبيح والتحسين مسبوقتان بالإدراك العقلي ، بخلاف حركة الحيوان فإنّها ليست كذلك ، فلا وجه لتشبيه المقام بالحركات الغريزيّة الحيوانيّة ؛ فإنّها ليست منبعثة عن القوّة العقلائيّة ، بل حركة الإنسان نحو الإطاعة وترك المخالفة حركة إدراكيّة لسبق إدراكه ضرورة ترتّب استحقاق العقوبة للمخالفة. ولا ضير بعد درك ضرورة الترتّب في أنّ العقل يأمر وينهى أولا يأمر ولا ينهى ، بل يترتّب على درك الضرورة فائدة الأمر والنهي أيضا ، فلا تغفل.

الجهة الثالثة : فى أنّه هل يجوز للشارع أن ينهى عن العمل بالقطع أولا؟

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره ولا يجوز للشارع أن ينهى عن العمل به ؛ لأنّه مستلزم للتناقض ، فإذا قطع بكون مائع بولا من أيّ سبب كان فلا يجوز للشارع أن يحكم بعدم نجاسته أو عدم وجوب الاجتناب عنه ؛ لأنّ المفروض أنّه بمجرّد القطع يحصل له صغرى وكبرى ، أعني قوله هذا بول وكلّ بول يجب الاجتناب عنه فهذا يجب الاجتناب عنه ، فحكم الشارع بأنه لا يجب الاجتناب عنه مناقض له ، إلّا إذا فرض عدم كون النجاسة وحرمة الاجتناب من أحكام نفس البول بل من أحكام ما علم بوليّته على وجه خاصّ من حيث السبب أو الشخص أو غيرهما ، فيكون مأخوذا في الموضوع وحكمه أنّه يتّبع في اعتباره مطلقا أو على وجه خاصّ دليل ذلك الحكم الثابت الذي أخذ العلم في موضوعه ، (١) انتهى موضع الحاجة

قال المحقّق الخراساني بعد جعل تأثير القطع في التنجيز أمرا لازما للقطع : ولذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضا مع أنّه يلزم منه اجتماع الضدّين اعتقادا

__________________

(١) فرائد الاصول : ٣. ط ـ قديم.

٣٦٤

مطلقا أي أصاب أو لم يصب وحقيقة في صورة الإصابة كما لا يخفى (١).

وقال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره : أنّ الردع عن العمل بالقطع غير ممكن لا للزوم اجتماع الضدّين لأنّ الضدين أمران وجوديّان والوجوب والحرمة وغيرهما من الامور الاعتباريّة ، بل للزوم اجتماع الإرادتين المختلفتين على مراد واحد والإرادتان أمران واقعيّان (٢).

هذا مضافا إلى لزوم لغويّة الحكم الأوّل لو نهي عن العمل بالقطع وأنّه يلزم نقض الغرض كما لا يخفى. (٣)

وخالفهم في الوقاية بقوله : أقول لا يخلو هذا التناقض المدّعى لزومه من أن يكون بحسب الواقع أو عند الشارع أو القاطع.

أمّا الأوّلان فلا شكّ في عدم لزومه فيهما على نحو الكلّيّة ، وما أكثر القطع الذي لا يصادف الواقع ويعلم خطأه الشارع فلا يصحّ الحكم على كلّيّ القطع بعدم جواز الردع عنه من هذه الجهة ، على أنّه لا مانع عنه حتّى في صورة إصابة الواقع كما ستعرف إن شاء الله. وأمّا عند القاطع فلا يلزم المحال عنده إلّا إذا تعلّق الردع عمّا قطع عليه ، وهو الحكم الواقعي بأن يقال كلّ خمر محرّمة واقعا من غير تخصيص وهذه الخمر حلال واقعا ، ومثل هذا لا يجوز حتّى في قبال الظن بل الاحتمال أيضا ؛ لأنّ امتناع الظّنّ بالتناقض واحتماله كالقطع به ، فلا يعقل أن يقال إنّ هذا حلال ومظنون الحرمة أو محتملها (أي لا يعقل أن يقال إنّ مظنون الحرمة أو محتملها حلال).

وأمّا إذا كان مفاد الأمارة المعذوريّة في شربها أو رفع تنجّز حرمتها ونحو ذلك من المذاهب الآتية في جعل الأحكام الظاهريّة وتصوّر جعل الأمارات فلا تناقض أصلا ،

__________________

(١) الكفاية ٢ : ٨.

(٢) تهذيب الاصول ٢ : ٩.

(٣) تنقيح الاصول ٣ : ١٨.

٣٦٥

ولا دليل على الإمكان أقوى من الوقوع ، وقد وقع ذلك في ترخيص الشارع في ارتكاب مشكوك الحرمة بل ومظنونها في موارد البراءة والبيّنة القائمة على حلّيّة مظنون الحرمة ؛ إذ الترخيص لا يختص بصورة عدم المصادفة مع الحرام ، بل مشكوك الحرمة حلال مطلقا إذا كان مورد البراءة ومفاد الأمارة ، فالتناقض المدّعى وجوده موجود فيها بأقسامه الثلاثة ؛ إذ من المعلوم وجود محرّمات كثيرة ونجاسات واقعيّة بين هذه المشكوكات التي تجري فيها قاعدتا البراءة والطهارة ويعلم إجمالا بمخالفة الأمارة مع الواقع في كثير من المواقع ، فكيف يجوّز ذلك الشارع؟! ام كيف يصدّق المكلّف بحلّيّة ما يظنّ بحرمته؟! ومن الواضح جدّا أنّ التصديق باجتماع الضدّين ولو على بعض التقادير محال ، والحكم بأن هذا المائع وإن كان حراما فهو حلال تهافت.

وبالجملة فالإشكال مشترك ، وطريق الحلّ واحد ، وهو : أنّ متعلّق القطع والظنّ هو الحرمة الواقعيّة ، والردع لا يكون عنها أبدا ، بل الإذن يكون مؤمّنا من عقابها أو رافعا لتنجّزها ونحو ذلك من الوجوه الآتية ، فقطع المكلّف بأنّ هذه خمر يجب الاجتناب عنها قطع بالحرمة الواقعيّة ولم يردع عنه قطّ ، ورفع التنجّز أو العقاب لم يتعلّق به القطع أبدا ... إلى أن قال : فتحصّل أنّه لا مانع من جعل الأمارات في قبال القطع إذا اقتضت المصلحة ولا من التصرّف فى حجّيّته بالردع عن الحاصل عن سبب خاصّ أو لشخص خاصّ كذلك.

فينبغي أن يكون الكلام في حجّيّة القطع الحاصل عن غير الكتاب والسنّة إن كان كلام فيه وفي قطع القطّاع وعدم جواز حكم الحاكم بعلمه ونحوها في مقام الإثبات لا الثبوت وأن يطالب بالدليل على ما يدّعيه ، ولا يصعب إقامته في بعض الموارد ، فإنّك إذا عرفت من غلامك عدم معرفته بجيّد المتاع وغلبة خطئه على إصابته وتسرّعه في قطعه فلا بدّ لك من جعل قول من تثق به حجّة عليه وتخبره بأنك تقبل منه الرديء مكان الجيد إذا كان مؤدّى قوله من غير أن تمسّ الواقع بشيء أو

٣٦٦

تغالطه وتقول لا اريد الجيّد بل اريد ما قال الثقة إنّه جيّد ، ومالك أن تركت العبد على قطعه إلّا نقض غرضك وتضييع مالك. (١)

وقال أيضا : ودعوى أنّ مرتبة الحكم الظاهري محفوظة مع الظنّ والشكّ ؛ لوجود الساتر على الواقع ، فيكون بما هو مجهول الحكم حلالا ، بخلاف القطع الذي هو الانكشاف التامّ الّذي لا يدّع مجالا للإذن ولا موضوعا لحكم آخر.

مندفعة بأنّه لا ينحصر جعل الحكم الظاهري في وجود الساتر ، بل ليس الوجه في إمكان أخذ الجهل موضوعا إلّا تأخّر مرتبة هذا الحكم عن الواقع بسببه ، وهذا موجود مع القطع أيضا ، فكما أنّ الشيء بعنوان أنّه مجهول الحكم متأخّر عنه ، فكذلك متأخّر بعنوان أنّه مقطوع الحكم. (٢)

ويمكن أن يقال :

أوّلا : إنّ الترخيص في ارتكاب فعل مقطوع الحرمة ترخيص في المعصية بنظر القاطع ؛ إذ القطع بالحرمة علّة تامّة لتحقّق عنوان المخالفة ، عند الإتيان بفعل مقطوع الحرمة وهو قبيح عقلي لا يجوز كالظلم. وعليه فالإذن في الفعل والتأمين من العقاب يخالف القبح العقلي الفعلي.

ودعوى إمكان رفع التنجّز لا يساعد مع كون التنجّز ذاتيّا ؛ لوجود القطع كما مر ، ولذا قال في الدرر : إنّ العلم بالتكليف موجب لتحقّق عنوان الإطاعة والمخالفة ، والأوّل علّة تامّة للحسن كما أنّ الثاني علّة تامّة للقبح ، وهما كعنواني الإحسان والظلم ، فكما أنّه لا يجوز المنع عن الإحسان والأمر بالظلم عقلا ، فكذلك لا يجوز المنع عن الإطاعة والأمر بالمعصية والمخالفة.

__________________

(١) الوقاية : ٤٤٧ ـ ٤٥١.

(٢) الوقاية : ٤٤٩.

٣٦٧

ولا فرق عند العقل في تحقّق هذين العنوانين بين أسباب القطع ، بخلاف الظنّ بالتكليف فإنّه بعد لم يصل إلى حدّ يصلح لأن يبعث المكلّف إلى الفعل ؛ لوجود الحجاب بينه وبين الواقع ، فلم يتحقّق عنوان المخالفة والإطاعة.

نعم ، لو حكم العقل بوجوب الإتيان بالمظنون من جهة الاحتياط وإدراك الواقع كما في حال الانسداد فعدم الإتيان به على تقدير إصابة الظنّ للواقع في حكم المعصية ، لكن لا إشكال في أنّ هذا الحكم من العقل ليس إلّا على وجه التعليق ، بمعنى كونه معلّقا على عدم منع الشارع عن العمل بذلك الظنّ ، لا على وجه التنجيز كالإتيان بالمعلوم ، ومن ثم لو حكم الشارع بترك العمل بالظن في حال الانسداد لا ينافي حكم العقل.

ومحصّل ما ذكرنا من الوجه : أنّ المخالفة لكونها قبيحة بقول مطلق لا تقبل الترخيص والإطاعة لكونها حسنة كذلك لا تقبل المنع ، لا أنّ المنع عن العمل بالعلم مستلزم للتناقض (١).

وعليه فلا يفيد تأخّر مرتبة الترخيص عن مرتبة الحكم الواقعي في جواز الترخيص ورفع المحذور.

لا يقال : إنّ الترخيص في المعصية المحتملة بلا عذر ولا مؤمّن قبيح أيضا فضلا عن المظنونة ، ومفروض الكلام جواز الترخيص في الحرام الواقعي والفراغ عن (شبهة) ابن قبة ، فلا مانع من الإذن مع المصلحة ولا معصية مع الإذن فلا ظلم فيبقى السؤال عن الفرق بينهما على حاله. (٢)

لأنّا نقول : الفرق بين المقطوع وغيره موجود ؛ لأنّ الاحتمال بل الظنّ غير

__________________

(١) الدرر : ٣٢٧ ـ ٣٢٩.

(٢) الوقاية : ٤٤٨.

٣٦٨

المعتبر لا يوجب أن يكون التكليف واصلا ، ومعه فلا مجال لتحقّق الإطاعة والمخالفة. نعم يمكن أن يحكم العقل في حال الانسداد بوجوب الإتيان بالمظنون من باب الاحتياط على وجه التعليق ؛ بمعنى كونه معلّقا على عدم ورود الحكم الشرعي بترك العمل به ، وهو لا ينافي ورود الحكم الشرعى بترك العمل بالظنّ في حال الانسداد ، كما عرفت توضيحه في كلام صاحب الدرر

وهذا بخلاف القطع ؛ لما عرفت من أنّ التكليف يكون به واصلا ومعه يتحقّق عنوان الإطاعة والمخالفة ، فيكون القطع علّة للتنجيز ، فلا يقاس المقام بالمظنون أو المحتمل ، فالترخيص في المظنون يكشف عن عدم حجّيّة الظنّ وعدم كونه منجّزا فضلا عن المحتمل ، فلا تناقض ولا معارضة. ولا يلزم من الترخيص في المظنون أو المحتمل الترخيص فى المعصية ، بخلاف الترخيص في المقطوع فإنّه يستلزم ذلك وهو قبيح. وبالجملة قياس المقطوع بالمظنون أو المحتمل يتوقّف على عدم كون القطع علّة تامّة للتنجيز حتّى يترتّب عليه ما يترتّب على المظنون أو المحتمل من جواز الترخيص على خلاف المظنون أو المحتمل ورفع التنجيز بالحكم الشرعي.

وقد عرفت أنّ القطع علّة تامّة لحكم العقل باستحقاق المذمّة والعقاب لمخالفة التكليف المعلوم وعليه فلا مخلص عن إشكال لزوم الترخيص في المعصية حتّى على مذاق من يجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ بالطوليّة ويقول إنّ الحكم الواقعي متعلّق بنفس الشيء والحكم الظاهريّ متعلّق بعنوان مجهول الحكم ، فيمكن في المقام أيضا أن يكون لمقطوع الحكم حكم آخر غير حكم نفس الشيء ؛ فإنّ القطع بالحكم علّة تامّة لحكم العقل باستحقاق المذمّة والعقاب لمخالفة التكليف ، فلا يقبل الحكم الشرعي بالعدم او المخالف. هذا مضافا إلى أنّ القطع طريقيّ ولا يوجب حكما آخر.

وثانيا : إنّ ذلك يستلزم التناقض في مرحلة الغرض كما أفاده شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره لأنّ الغرض الداعي إلى جعل التكليف فعليّ مطلق حتّى في موارد الشكّ ،

٣٦٩

والتجرّد ليس دخيلا فيه وإن قلنا بدخالته (١) في إنشاء التكليف ، وعلى هذا فيلزم التناقض في مرحلة الغرض الفعليّ الخالي عن المزاحم في المتعلّق في نظر القاطع ؛ فإنّ المفروض ثبوت هذا الغرض في متعلّق التكليف الفعلي على ما هو المفروض من عدم كونه حكما حيثيّا ، فلم يبق إلّا رفع اليد عن الغرض الفعلي من جميع الجهات بلا جهة ، فإنّ باب احتمال المخالفة مسدود في نظر القاطع ، وهذا بخلاف الشاكّ والظانّ فإنّهما محتملان لمخالفة مشكوكهما ومظنونهما مع الواقع ، فيحدث في نظرهما وجود غرض آخر داع إلى الترخيص ولو لم يكن في الفعل إلّا المصلحة الواقعيّة. (٢)

فتحصّل : أنّه لا مجال للترخيص لأنّه ترخيص فى المعصية وهو قبيح ، كما لا مجال لرفع التنجيز ؛ لأنّه ينافي كون القطع علّة تامّة للتنجيز.

هذا ، مضافا إلى أنّ الترخيص أو رفع التنجّز لا يخلو عن المناقضة أيضا ؛ لأنّ لازمها هو عدم بقاء الحكم الواقعي على ما هو عليه من الوجوب واللزوم مع أنّ القاطع يرى بقائه على ما هو عليه ، فيلزم التناقض في نظر القاطع ، فتدبّر.

ودعوى : أنّ المنجّزيّة للقطع حكم عقلائي له وليست من ذاتياته ولوازمه فيجوز المنع الشرعي عن العمل بالقطع كما يجوز منع الشارع عن بعض البناءات العقلائيّة.

مندفعة : بما مرّ من أنّ المنجّزيّة وإن لم تكن من ذاتيّات القطع ولا من لوازم ماهيّة القطع ولكنّها تكون من لوازم وجود القطع كسائر اللوازم الواقعيّة ، فيحكم العقل بالمنجّزيّة بمجرّد وجود القطع ورؤية الحكم الواقعي والكشف عنه.

والقول بأنّ القطع مقتض للتنجّز لا علّة والترخيص ترخيص في مخالفته كما

__________________

(١) بنحو القضيّة الحينيّة.

(٢) اصول الفقه لشيخنا الاستاذ ٣ : ٤٠٥.

٣٧٠

في موارد الجهل ، فلا يصل مرتبة التنجّز لكي تكون مخالفته معصية ويكون ترخيصا في المعصية.

غير سديد بعد ما عرفت من أنّ التنجيز من لوازم وجود القطع بالحكم الواقعى ، ولا يقاس بموارد الجهل ؛ إذ لا يتوقّف حكم العقل بالتنجيز بعد القطع بشيء على شيء آخر له المدخليّة في تماميّة المقتضي حتّى يقال إنّ القطع مقتضي لحكم العقل بالتنجيز لا علّة ، فيتوقّف على تماميّة اقتضائه.

لا يقال : إنّ لازم ما ذكر من عدم إمكان الترخيص في ترك المقطوع أو رفع التنجيز أو المنع عن العمل بالمقطوع هو عدم جواز تصرّف الشارع في حجّيّة بعض أقسام القطع كالقطع الحاصل من الوسواس أو من القياس أو القطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة كالرمل والأسطرلاب أو القطع الحاصل من القطّاع ، مع أنّ المعلوم خلافه ؛ إذ ليس القطع في هذه الموارد حجّة شرعا.

لأنّا نقول : إنّ حكم العقل بقبح مخالفة التكليف المقطوع واستحقاق العقوبة يكون من باب أنّ المخالفة هتك للمولى وهو مصداق للظلم ، وهذا الحكم يكون ثابتا مع قطع النظر عن عروض عنوان آخر على المقطوع وإلّا فإذا صار المقطوع معنونا بعنوان أهمّ آخر يوجب ذلك خروجها عن مصداقيّة الظلم كعنوان الوسواس أو القياس ونحوهما فلا مانع حينئذ من الحكم بعدم الحجّيّة والحكم بعدم المعذوريّة. قال فى المستمسك فالردع عن العمل بعلم الوسواسى بالنسبة إلى عمل نفسه لا بدّ أن يكون من جهة طروء عنوان يستوجب تبدّل الواقع عن حكمه إلى حكم أخر فيكون الواقع موضوعا للحكم إلّا فى حال الوسواس فيكون له حكم آخر نظير العناوين الماخوذة موضوعات للأحكام الثانويّة فشرب النجس مثلا فى نفسه حرام لكن كما أنّه إذا اضطرّ إليه يجب كذلك إذا كان المكلّف وسواسيّا فإنّه يجب عليه أن يشرب

٣٧١

النجس وإن علم أنّه نجس (١).

ففي هذه الصور يجوز للشارع أن يحكم بعدم الحجّيّة وعدم المعذوريّة من جهة طروء العناوين المذكورة ، فيحكم بعدم وجوب الاجتناب عن النجس للوسواسي أو يحكم بسقوط الشرط أو المانع عن الشرطيّة أو المانعيّة للوسواسي ، كما يرفع اليد عن تنجيز الحكم الواقعي بطروء الاضطرار ، فالوسواسي وإن حكم بتنجيز الحكم الواقعي في حقّ نفسه ، ولكن يمكن للشارع أن يرخّصه في تركه ؛ لما يرى من تبدّل عنوان المقطوع الموجب لرفع التنجّز واقعا والوسواسي والقطّاع وإن حكما بقطعهما على تنجيز الواقع ولكن لا اعتبار به عند العقل بعد إحراز طروء العناوين المذكورة المبدّلة للحكم الواقعي ؛ إذ ليس الحكم المذكور مناقضا للحكم الواقعي ، لأنّ حكم الشارع متعلّق بالمعنون بعنوان الوسواس أو القياس ، والحكم المقطوع يكون متعلّقا بعنوان نفس الشيء من دون ملاحظة العناوين المذكورة ، وفي مورد الاجتماع فالفعلي هو الأهمّ ، وعليه فلا يلزم من الحكم المذكور الترخيص في المعصية ؛ إذ الواقع بعد تبدّل عنوانه لا يبقى على ما هو عليه ، فلا تناقض ، كما لا معصية حتّى يلزم من المنع عنه الترخيص فيها ، ولا يلزم من ذلك رفع التنجيز ؛ لأنّ العقل لا يحكم بالتنجيز بعد تبدّل عنوان المقطوع بعنوان آخر أهمّ ؛ وعنوان المخالفة والإطاعة ليستا كعنوان الظلم والعدل من العناوين الذاتيّة الموجبة للحكم بالحسن أو القبح ، بل يكون ممّا يختلف بالوجوه والاعتبارات ، فمع اختلاف الوجه والاعتبار لا يبقى حكم العقل بالتنجيز على فعليّته.

ثمّ إنّ الوسواسي والقطّاع ومن اعتمد على القياس ونحوهم إن توجّهوا إلى العنوان الطارئ فلا يبقى لهم القطع بالحكم بعد الالتفات المذكور ؛ لأنّ العنوان الطارئ

__________________

(١) المستمسك ١ / ٤٢٥

٣٧٢

من العناوين المبدّلة وإن لم يتوجّهوا إلى ذلك فهم وإن كانوا من القاطعين ولا يمكن منعهم عن العمل بالمقطوع حال كونهم قاطعين ولكنّهم لم يكونوا معذورين إن منعوا قبل حصول القطع من سلوك هذه الطرق ؛ لتمكّنهم من الرجوع إلى الطرق المقبولة للشارع ، فخالفوا فصاروا مقصّرين ، فلا يكونون معذورين عند عدم الموافقة مع الواقع.

نعم لو لم يصل إليهم المنع عن الاعتماد على هذه الطرق وقطعوا من ناحية هذه الطرق وكان قطعهم مخالفا للواقع كانوا معذورين لو لم يكشف لهم أنّ قطعهم مخالف للواقع ، وإلّا فبعد كشف الخلاف لزم عليهم أن يأتوا بالواقع عند بقائه على ما هو عليه. وعليه فلا منافاة بين لزوم متابعة القطع بنظر القاطع وبين عدم حجّيّة القطع المذكور ؛ لجواز أن لا يعتمد الشارع في وصول أحكامه وامتثالها على قطع القطّاع أو الوسواسي ومن أخذ بالقياس ونحوهم لطروء العناوين المبدّلة. وهذا أمر واقعيّ يدركه العقلاء بما أنّهم مدركون الواقعيّات ويحكمون بها ، لا بما أنّهم جاعلون للاحكام.

قال في المنتقى : الإنصاف عند ملاحظة حال العقلاء ومعاملاتهم فيما بينهم ومع عبيدهم التي هي الطريق لتشخيص أصل حجّيّة القطع في الجملة هو عدم معذوريّة القاطع إذا كان قطعه من غير طريق متعارف ، فمن أمر وكيله بشراء خاصّة له بالقيمة السوقيّة ، فاشتراها الوكيل بأزيد منها استنادا إلى قطعه بأنّ الثمن يساوي القيمة السوقيّة ، لكنّه ملتفت إلى أنّ قطعه غير ناش عن سبب متعارف فللموكّل أن لا يعذر وكيله ويعاتبه وليس هذا أمرا بعيدا بعد التزام الفقهاء بمعاقبة الجاهل المركّب المقصّر في اصوله وفروعه ، وليس ذلك إلّا لعدم كون قطعه معذّرا بعد تقصيره في المقدّمات التي تسبّب القطع ... إلى أن قال : وبالجملة عدم إمكان إثبات حكم للقاطع ينافي ما قطع به في حال قطعه لا يتنافى مع عدم حجّيّة القطع ، بمعنى عدم كونه معذورا لو

٣٧٣

انكشف أنّ قطعه مخالف للواقع ؛ إذ عدم المعذوريّة إنّما يحكم به بعد زوال القطع ، فلا محذور فيه (١).

ولا يخفى عليك ما فيه ؛ فإنّ الحجّيّة والحكم بالتنجيز عقليّ لا جعليّ عقلائي. هذا ، مضافا إلى أنّ حكم الشرع بعدم حجّيّة قطع الوسواسي أو القطّاع أو من أخذ بالقياس لا يتوقّف على صورة كشف الخلاف ، بل يكفي عدم مطابقته مع الواقع في غالب الموارد لأن يحكم الشارع بعدم حجّيّته حتّى في مورد المطابقة تعبّدا ، نعم لا يعلم القاطع بأنّ قطعه غير معذّر إلّا بعد كشف الخلاف ، ولا محذور ، فتدبّر جيّدا.

وثالثا : إنّ عدم حجّيّة قطع القطّاع أو قطع من أخذ بالقياس أو قطع من أخذ بغير الكتاب والسنّة عند العقلاء أو الشرع لا يكون من شواهد عدم كون القطع علّة تامّة للتنجيز ؛ لأن الحجّيّة من مدركات العقل بوجود القطع ، وهذا الإدراك لا يتوقّف على شيء آخر غير وجود القطع. وعدم اعتبار القطع في هذه الموارد عند العقلاء أو الشرع لا يرجع إلى رفع التنجّز بنظر القاطع حتّى يقال إنّ التنجّز مرفوع ، بل التنجّز في نظر القاطع موجود كما في غير الموارد المذكورة لو اختلف العقلاء في المسائل ، كما إذا ادّعى بعض حصول القطع بشيء من ترتيب مقدّمات خاصّة في مقابل بعض آخر ادّعى القطع بالخلاف. ومن المعلوم أنّ ادّعاء المخالف لا يرفع التنجّز ، بل قطع كلّ واحد منهم يوجب التنجّز بحكم عقل القاطع ويكون حجّة عليه ، وهكذا في موارد القطع بالقياس والقطّاع ونحوهما. وعليه فدعوى رفع التنجّز في أمثالها كما ترى.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ الحكم بالتنجيز من القاطع لا يعتبر في الموارد الّتي يرى المولى كثرة خطأ القاطع ، فيجوز للمولى أن يقول للقاطع لا تعمل بقطعك كموارد قطع القطّاع أو قطع من أخذ بغير الكتاب والسنّة أو قطع من ابتلي بالقياس في

__________________

(١) المنتقى ٤ : ١١٨.

٣٧٤

الأحكام فتحصّل أنّه لا يجوز النهي عن العمل بالقطع ما لم يطرأ عنوان أخر يسوّغ النهي عنه كالوسواس والقطّاع ونحوهما.

تنبيه فى حقيقة الحكم ومراتبه

ولا يخفى عليك أنّ القطع لا يوجب التنجّز إلّا إذا تعلّق بالتكليف الفعلي ؛ إذ الحكم الإنشائي الذي لم يأت زمان فعليّته لا يوجب القطع به التنجّز ، ولذا لا يستحقّ العقوبة بتركه ؛ إذ الحكم ما لم يبلغ مرتبة الفعليّة لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي ولا مخالفته عن عمد بعصيان وإن كان ربما يوجب موافقته استحقاق الانقياد لا مثوبة الحكم الوجوبي أو الاستحبابي ؛ لأنّ المفروض عدم فعليّتهما.

ثمّ إنّ الحق في مراتب الحكم أنّها بين الإنشاء والفعليّة. وأمّا مرتبة الاقتضاء أو التنجيز الذين جعلهما المحقّق الخراساني من مراتب الأحكام ليستا من مراتبها ؛ إذ مرتبة الاقتضاء ليست إلّا الاستعداد وهو ليس بحكم ، ومرتبة التنجيز لا يوجب انقلاب الحكم عمّا هو عليه ، فلا وجه لأن يعدّ من مراتب الحكم كما لا يخفى

وتوضيح ذلك كما في نهاية الدراية : أنّ مراتب الحكم عند صاحب الكفاية أربع :

إحداها : مرتبة الاقتضاء وربما يعبّر عنها بمرتبة الشأنيّة ، وجعل هذه المرتبة من مراتب ثبوت الحكم لعلّه بملاحظة أنّ المقتضى له ثبوت في مرتبة ذات المقتضي ثبوتا مناسبا لمقام العلّة لا لدرجة المعلول ... إلى أن قال : والطبيعة (١) في مرتبة نفسها حيث إنّها ذات مصلحة مستعدّة باستعداد ماهويّ للوجوب ، وحيث إنّ المانع موجود ، فهو واجب شأنيّ وواجب اقتضائيّ. وليس هذا معنى ثبوت الحكم في هذه المرتبة ؛ إذ لا ثبوت بالذات للمصلحة حتّى يكون للحكم ثبوت بالعرض ، بل له شأنيّة

__________________

(١) كنظافة البيت

٣٧٥

الثبوت ... إلى أن قال :

ثانيتها : مرتبة إنشائه ، وقد بيّنّا أنّ الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ إيجادا لفظيا بحيث ينسب الوجود الواحد إلى اللفظ بالذات وإلى المعنى بالعرض ، لا إليهما بالذات فإنّه غير معقول ، كما أنّ وجود المعنى حقيقة منفصلا عن اللفظ بآليّته غير معقول. وعليه ينبغي تنزيل ما قيل من أنّ الإنشاء قول قصد به ثبوت المعنى في نفس الأمر ، وإنّما قيّد بنفس الأمر مع أنّ وجود اللفظ خارجي ، وهو المنسوب إلى المعنى بالعرض ؛ لأنّ المعنى بعد الوضع كأنّه ثابت في مرتبة ذات اللفظ ، فيوجد بوجوده في جميع المراحل (١).

ثالثتها : مرتبة الفعليّة ، وفي هذه المرحلة يبلغ الحكم درجة حقيقة الحكميّة ، و

__________________

(١) ولا يخفى عليك أنّ ما ذكره المحقّق الاصفهاني قدس‌سره فى بيان حقيقة الإنشاء بعيد عن ظاهر الكلمات ، فإنّ الظاهر منها أنّ وجود الإنشائيّات منحاز عن وجود الألفاظ الإنشائيّة ، وإنّما اعتبر وجودها بآليّة الألفاظ الإنشائيّة. ودعوى عدم معقوليّة الوجود المنحاز كما ترى إذا الاعتبار خفيف المئونة وما ذكره من الوجود العرضي ليس هو معنى إنشائيّ بل هو موجود في كلّ لفظ استعمل في معناه استعمالا لغويّا إذ الموجود هو وجود الألفاظ ووجود المعنى وجود عرضيّ بوجود اللفظ الموضوع له وهذا أجنبيّ عن المعنى الإنشائيّ الذي يوجد بآلية ألفاظ الإنشاء في عالم الاعتبار عند العقلاء كسائر موارد الإنشاءات كإنشاء الوزارة والصدارة والنيابة والوكالة وغير ذلك والمراد من نفس الأمر هو عالم الاعتبار هذا مضافا إلى إمكان أن يقال إنّ وجود المعنى في الألفاظ المستعملة أيضا ليس وجودا عرضيّا فإنّ المقصود منه هو الوجود الانتقالي التبعي فإنّ من علم بالوضع إذا استعمل لفظ عنده انتقل من وجوده خارجا إلى المعنى اللغوي وهذا الوجود الانتقالي ليس وجودا خارجيّا وليس أيضا وجودا عرضيّا بل هو وجود ذهني منحاز عن وجود اللفظ في خارج والفرق بينه وبين الإنشاء أنّ المعنى في الإنشاء يوجد بوجود الألفاظ المستعملة بخلاف معنى الألفاظ فإنّه ينتقل من استماع الألفاظ إلى الأذهان فتدبّر جيّدا. وهذا هو الذي ينبغي أن يكون مرتبة من مراتب الأحكام لا الوجود العرضي الذي ليس هو في الحقيقة شيء كما لا يخفى.

٣٧٦

يكون حكما حقيقيّا وبعثا وزجرا جدّيّا بالحمل الشائع الصناعي ، وإلّا فمجرّد الخطاب من دون تحريم وإيجاب إنشاء محض ... إلى أن قال : وإذا بلغ الإنشاء بهذه المرتبة تمّ الأمر من قبل المولى ، فيبقى الحكم وما يقتضيه عقلا من استحقاق العقاب على مخالفته تارة وعدمه اخرى. وما لم يبلغ هذه المرتبة لم يعقل تنجزه واستحقاق العقاب على مخالفته وإن قطع به ، لا لقصور في القطع وفيما يترتّب عليه عقلا ، بل لقصور في المقطوع حيث لا إنشاء بداعي البعث ، وجعل الداعي حتّى يكون القطع به مصحّحا لاستحقاق العقاب على مخالفته.

رابعتها : مرتبة التنجّز وبلوغه إلى حيث يستحق على مخالفته العقوبة ، وجعلها من درجات الحكم ومراتبه مع أنّ الحكم على ما هو عليه من درجة التحصّل ومرتبة التحقّق بلا ارتقاء إلى درجة اخرى من الوجود إنّما هو بملاحظة أنّ بلوغه إلى حيث ينتزع عنه هذا العنوان نشأة من نشآت ثبوته ، انتهى موضع الحاجة.

ثم أورد عليه بقوله هذا على مختاره دام ظلّه في مراتب الحكم ، وسيجيء إن شاء الله تعالى ما عندنا من أنّ المراد بالفعلي ما هو الفعلي من قبل المولى لا الفعلي بقول مطلق ، فمثله ينفكّ عن المرتبة الرابعة ، لكنّه عين مرتبة الإنشاء حيث إنّ الانشاء بلا داع محال ، وبداع آخر غير جعل الداعي ليس من مراتب الحكم الحقيقي ، وبداعي جعل الداعي عين الفعلي من قبل المولى ، وإن اريد من الفعلي ما هو فعلي بقول مطلق فهو متقوّم بالوصول ، وهو مساوق للتنجّز ، فالمراتب على أيّ حال ثلاث (١).

ولا يذهب عليك أنّ اقتضاء الطبيعة بملاحظة اقتضاء ما يترتّب عليها من الفائدة للوجوب اقتضاء ماهويّ ومساوق للاستعداد ، فلا ثبوت للحكم في هذه المرتبة إلّا بمعنى شأنيّة الحكم. ومن المعلوم أنّ شأنيّة الحكم ليست بحكم حقيقة ، فلا يصلح لأن يكون مرتبة من مراتب الحكم ، والقطع به قطع بشأنيّة الحكم. ومن

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٦ ـ ٧.

٣٧٧

المعلوم أنّه لا يوجب التنجيز ؛ إذ لا حكم حتّى يتنجّز بالقطع.

وعليه فمراتب الحكم اثنتان : إحداهما مرتبة الإنشاء وثانيتهما مرتبة الفعليّة من قبل المولى ؛ إذ مرتبة التنجّز أيضا ليست من مراتب الحكم حيث إنّ علم المكلّف وجهله لا يوجب تغييرا فى ناحية الحكم ، بل يمكن أن يقال : حيث إنّ الفعلي من قبل المولى عين الإنشاء بداعي جعل الداعي فليس في البين إلّا مرتبة واحدة ، وهو الفعليّ من قبل المولى ، وهو عين مرتبة الإنشاء بداعي جعل الداعي ، وأمره يدور بين الوجود والعدم ؛ فإنّه إمّا موجود أو ليس بموجود ، ولكن يكفى فى وجود الإنشائي ما صدر من الشارع ولم يأمر بابلاغه أو ما انشأ لأن يعمل به بعد شهر أو سنة وتحقّق موضوعه ، فإنّه قبل مجيء الوقت المذكور ليس فعليا ومع ذلك يصدق عليه الحكم الإنشائي.

وأمثال هذه الإنشائيّات ليست بفعليّة من قبل المولى ؛ فإنّها لم تنشأ بداعي جعل الداعي ، فتدبّر جيّدا.

وممّا ذكر يظهر ما في تعليقة المحقّق الأصفهاني حيث جعلهما واحدا

ولقد أفاد وأجاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال : إنّ مرتبة الاقتضاء ليست من مراتب الحكم ؛ لأنّه ليس في هذه المرتبة حكم أصلا ... إلى أن قال : وأمّا مرتبة التنجّز فهي أيضا ليست من مراتب الحكم ، فإنّ علم المكلّف وجهله لا يوجبان تغيّرا فى الحكم ومزيد حالة فيه لتكون مرتبة اخرى غير المرتبة التي قبلها ، بل العلم والجهل ممّا لهما دخل في معذوريّة المكلّف وعدمها عند المخالفة ، فليس للحكم إلّا مرتبتان : مرتبة الإنشاء مثل (أوفوا بالعقود) و (أحلّ الله البيع) ونحوهما ممّا له مقيّدات ومخصّصات تذكر تدريجا ، واستعمل اللفظ في جميع العقود بالإرادة الاستعماليّة لكنّه غير مراد بالإرادة الجدّيّة ، وليست هذه أحكاما فعليّة ، وكما في الأحكام الصادرة من الشارع المقدّس لكن لم يأمر بإبلاغها لمصالح فيه ... إلى أن قال :

٣٧٨

ومرتبة الفعليّة كوجوب الصلاة ونحوها. (١)

ولا يخفى ما في بعض الأمثلة المذكورة لمرتبة الإنشاء ؛ لأنّ تدريجيّة بيان القيود لا ينافي فعليّة حكم العامّ أو المطلق ، فتدبّر جيّدا.

الجهة الرابعة : في التجرّي ، وقد عرفت أنّه لا ريب في أنّ القطع يوجب التنجيز واستحقاق العقوبة على المخالفة في صورة الإصابة ، وإنّما الكلام في أنّه هل يوجب في صورة التجري وعدم الإصابة استحقاق العقوبة أو لا يوجب شيئا ويقع البحث في أمور :

الأمر الأوّل : أنّه استدلّوا على الاستحقاق بوجوه :

منها : الاتّفاق كما في فرائد الاصول حيث قال : ظاهر الكلمات الاتّفاق على الأوّل ، ويؤيّده دعوى جماعة الإجماع على أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاة عصى وإن انكشف بقاء الوقت وتعبيرهم بظنّ الضيق من باب بيان أدنى فردي الرجحان ، فيشمل القطع بما يضيق ، نعم حكى عن النهاية التوقّف في العصيان ، وعن التذكرة عدم العصيان ، وعن المفاتيح أنّه جعل العدم أقرب.

ويؤيّده أيضا عدم الخلاف بينهم ظاهرا في أنّ سلوك الطريق المظنون الخطر أو مقطوعه معصية يجب إتمام الصلاة فيه ولو بعد انكشاف عدم الضرر فيه. ثمّ تأمّل فيه ، ولعلّ وجه التأمّل هو احتمال أن يكون الحكم بوجوب الإتمام ليس للضرر ، بل هو لخوفه الناشئ حقيقة من نفس الظن او القطع بالضرر ولو لم يكن ضرر في الواقع ؛ ولذا تصحّ الصلاة قصرا مع الأمن من الضرر ولو كان الضرر موجودا في الواقع وانكشف الخلاف.

وكيف كان فقد أورد شيخنا الأعظم قدس‌سره على الاستدلال بالاتّفاق بأنّ المحصّل

__________________

(١) تنقيح الاصول ٣ : ١٩ ـ ٢٠.

٣٧٩

من الاجماع غير حاصل. هذا ، مضافا إلى أنّ المسألة عقليّة والمنقول من الإجماع ليس حجّة في المقام. (١)

ومنها : حكم العقل ، وتقريبه كما في تعليقة الأصفهاني قدس‌سره أنّه لا ينبغي الشبهة في استحقاق العقاب على التجرّي ؛ لاتّحاد الملاك فيه مع المعصية الواقعيّة. بيانه أنّ العقاب على المعصية الواقعيّة ليس لأجل ذات المخالفة مع الأمر والنهي ولا لأجل تفويت غرض المولى بما هو مخالفة وتفويت ولا لكونه ارتكابا لمبغوض المولى بما هو ؛ لوجود الكلّ في صورة الجهل ، بل لكونه هتكا لحرمة المولى وجرأة عليه ؛ إذ مقتضى رسوم العبوديّة إعظام المولى وعدم الخروج معه عن زيّ الرقّيّة ، فالإقدام على ما أحرز أنّه مبغوض المولى خلاف مقتضى العبوديّة ومناف لزيّ الرقّيّة ، وهو هتك لحرمته وظلم عليه. (٢)

وهذا الحكم عقليّ بديهيّ يشهد له الوجدان ؛ لأنّ النفس تشمئز عن الظلم. ومن المعلوم أنّ الهتك ظلم ، وهو يتحقّق بالإقدام على المخالفة عن عمد والتفات ، والاشمئزاز يكون عن القبيح كما أنّ الابتهاج يكون من الحسن ، والاشمئزاز والابتهاج من كيفيّات النفس يحصلان عن موجبهما محبوبا أو مبغوضا ، والنفس تشمئزّ عن الظلم وتبتهج بالعدل. وهذا هو الذي يحكم به العقل مع قطع النظر عن مدخليّة ذلك في حفظ النظام.

ومن هذا يظهر ما في نهاية الدراية حيث جعل حكم العقل داخلا في القضايا المشهورة المسطورة في علم الميزان في باب الصناعات الخمس ، وقال : أمثال هذه القضايا ممّا تطابقت عليه آراء العقلاء ؛ لعموم مصالحها وحفظ النظام وبقاء النوع

__________________

(١) راجع فرائد الاصول : ٥ ، ط ـ قديم.

(٢) نهاية الدراية ٢ : ٨.

٣٨٠