عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

كونه واجبا فإمّا أن ينظر إلى نفس الفعل وكيفيّة تأثيره في نفس المولى وكونه محبوبا له أو مبغوضا له ، وإمّا أن ينظر إلى جهة صدوره من الفاعل وجهة انتسابه إلى المولى ، فإن كان النظر على النحو الأوّل فنحن نسلّم تزاحم الجهات في حسن الفعل وقبحه ، ولعلّ الفعل بما هو يكون محبوبا للمولى مع كون العبد متجرّيا فيه لحصول قتل أعدى أعدائه ، ولكن لا ارتباط لهذا الحسن والقبح الفعلي وهذه المحبوبيّة والمبغوضيّة بباب الثواب والعقاب ، وأمّا إذا وقع النظر إلى هذا الفعل على النحو الثاني وأنّه وقع هتكا لحرمة المولى وخارجا به العبد عن رسم العبوديّة فلا محالة يحكم العقل باستحقاق العقوبة ، ولا يزاحمه في هذه الجهة جهة الواقعيّة. (١)

وقد أجاب الشهيد الصدر قدس‌سره أيضا عن صاحب الفصول بأنّ الحسن والقبح ليسا مجعولين من قبل العقلاء وبملاك حفظ المصلحة ودفع المفسدة ، بل هما بابان عقليّان مستقلّان عن المصلحة والمفسدة ، فربّ ما فيه مصلحة يكون إقدام المكلف عليه قبيحا ، وربّ ما فيه المفسدة يكون الإقدام عليه حسنا ، والبابان يختلفان موضوعا ومحمولا ؛ فإنّ المصلحة والمفسدة أمران واقعيّان وجوديّان ، بخلاف الحسن والقبح فإنّهما أمران ذاتيّان حقيقيّان في لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الوجود ، كما أنّ المصلحة والمفسدة لا يشترط في تحقّقهما وموضوعهما العلم أو الالتفات ، بخلاف الحسن والقبح فإنّهما متقوّمان بذلك على ما تقدّم مفصّلا ، فلا ينبغي الخلط بينهما نعم ربّما يكون إحراز المصلحة في مورد رافعا لموضوع القبح كما في ضرب اليتيم لمصلحة تأديبيّة.

ومنه يعرف أنّ ما صنعه صاحب الفصول من التعامل مع المصلحة والقبح كأمرين واقعيين يقع بينهما الكسر والانكسار مع قطع النظر عن إحراز المكلّف

__________________

(١) نهاية الاصول ٢ : ٤١٦.

٤٢١

للمصلحة غير سديد. (١)

وبالجملة ملاك القبح في التجرّي هو صدق الهتك والهتك صادق بإتيان ما علم أنّه محرّم أو ترك ما علم أنّه مأمور به ، والمصالح والمفاسد الواقعيّة لا دخل لها في صدق الهتك وعدمه نعم صدق الهتك موقوف على إحراز الخطاب في صقع النفس ، والمفروض أنّه متحقّق ، ولا تأثير لوجود المصالح في الواقع في رفع القبح أو عدم فعليّته عن الهتك ، فإذا عرفت أنّ الملاك هو صدق الهتك ولا دخالة للمصالح والمفاسد في الصدق ولا في رفع القبح أو رفع فعليّة القبح فلا وجه للتفصيل المحكيّ عن صاحب الفصول ؛ إذ على كلا التقديرين يصدق الهتك واستحقّ العقوبة ولا مجال للكسر والانكسار بالنسبة إلى الهتك الصادر عن الفاعل ، فتدبّر جيّدا. فالتجرّي قبيح من دون فرق بين كون الفعل المتجرّى به واجبا أو حراما أو مستحبّا أو مكروها أو مباحا.

التنبيه العاشر :

أنّ الفعل المتجرّى به فعل اختياريّ مقصود للفاعل وإن تخلّف قطعه بالخمريّة أو الحرمة ، فإنّ قطعه بالخمريّة أو الحرمة حيثيّة تعليليّة لا حيثيّة تقييديّة ؛ لأن القطع بأحد الأمرين يوجب تعلّق الإرادة بشرب المائع الخارجي بتخيّل تطبيقهما عليه. وعليه فشرب المائع الخارجيّ الشخصي تعلّق به القصد ويكفي ذلك في كونه مقصودا واختياريّا ، فلا وجه لما قيل من أنّ ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد ، ألا ترى أنّه إذا باع البائع فرسا خارجيّا بعنوان الفرس العربيّ ثمّ بان أنّه فرس غير عربيّ حكم بصحّة البيع مع خيار تخلّف الوصف مع أنّ غرض البائع والمشتري متعلّق بالفرس العربي لا غيره ، وليس ذلك إلّا لأنّ الإنشاء تعلّق بالخارج بتخيّل أنّه عربيّ ، وعليه فتخلّف العربيّة لا يضرّ بتعلّق الإنشاء على الخارج ، نعم غايته أنّ له خيار التخلّف.

__________________

(١) مباحث الحجج ١ : ٦٦.

٤٢٢

وأيضا ألا ترى أنّه يحكم بصحّة الاقتداء فيمن اقتدى بشخص بتخيّل كونه زيدا فبان أنّه عمرو لأنّ الخطأ في التطبيق لا يخرج الاقتداء بالشخص الخارجي عن كونه قصديّا.

وأيضا ألا ترى أنّه يحكم بجواز الدخول في الدار لزيد إذا أذن صاحب الدار له بالدخول بتخيّل أنّه عمرو وقال له أدخل لأنّ تخيّله حيثيّة تعليليّة للإذن بالدخول له لا حيثيّة تقييديّة ، بخلاف ما إذا قال يا عمرو أدخل فإنّه لا يجوز حينئذ لزيد الدخول لعدم الإذن بالنسبة إلى دخول زيد.

فاتّضح ممّا ذكر أنّ تعلّق القصد بفعل بتخيّل كونه مصداقا لعنوان حرام يكفي في كون الفعل مقصودا أو اختياريّا وإن تخلّف قطعه بكونه مصداقا لذلك العنوان المحرّم. وعليه فلا وجه لدعوى عدم كونه فعلا اختياريّا ومقصودا ومع عدم كونه فعلا اختياريّا ومقصودا لا يكون موضوعا للحسن والقبح ؛ لما عرفت من كونه مقصودا ومع القصد يكون اختياريّا وتخلّف القطع لا يضرّ بذلك ، فيصحّ اتّصافه بالحسن والقبح. فإذا عرفت اختياريّة الفعل فلا وجه لما في الكفاية من أنّ العقاب إنّما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان ، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار. (١)

نعم الفعل مجرّدا عن العزم على الطغيان لا يوجب الاستحقاق ؛ لأنّه ليس في نفسه قبيحا ، بل يكون قبيحا باعتبار صيرورته مصداقا للهتك بعد القطع بكونه خمرا أو حراما ، فالفعل مع القطع المذكور والعزم على المخالفة قبيح وارتكابه يوجب الاستحقاق ، وأيضا إنّ العزم مجرّدا عن الفعل لا يكون قبيحا ؛ إذ ليس العزم بما هو عزم مع قطع النظر عن متعلّقه وكونه عزما على المعصية فيه قبح ، بل قبحه من ناحية

__________________

(١) الكفاية ٢ : ١٤.

٤٢٣

المعصية ولو كانت المعصية معصية في زعمه ، فالقبيح هو الفعل المسبوق بالعزم على المعصية ولو في زعمه أو العزم المتعقّب بفعل المعصية ولو في زعمه ، فلا تغفل.

التنبيه الحادى عشر :

أنّ المعيار في اختياريّة الأفعال والتروك ونفي الجبر هو التمكّن من خلافهما بالتأمّل فيما يترتّب عليهما من المصالح أو المفاسد والعقوبة أو المثوبة ، والتمكن موجود بشهادة الوجدان ؛ لوجود القدرة على إيجاد الأضداد عند إرادة الأفعال أو التروك.

وهكذا الأمر في أفعال النفس من القصد والعزم والإرادة ، فإنّ اختياريّتها بالتمكّن من خلاف كلّ واحد منها لا بالإرادة وهي بالإرادة وهكذا ، بل القصد أو العزم أو الإرادة اختياريّ من دون حاجة إلى مسبوقيّة كلّ واحد بالإرادة.

فما قيل في تعريف الاختياريّ من أنّ الاختياريّ هو ما كان مسبوقا بالإرادة وهي ليست باختياريّة وإلّا لتسلسل منظور فيه ؛ لما عرفت من اختياريّة الأفعال والتروك سواء كانت أفعال الجوارح أو أفعال القلوب بالتمكّن من الخلاف وإيجاد الأضداد أو النقائض ، ولا حاجة في اختياريّتها إلى استنادها إلى الإرادة حتّى يقال : إنّ اللازم من مسبوقيّة الإرادة بالإرادة هو التسلسل. والتمكّن المذكور الذي هو معيار الاختيار أمر وجدانيّ يدركه الإنسان عند أفعاله مطلقا وهو السبب في استحقاق المؤاخذة عند الموالي والعبيد ، وهذا التمكّن من عطيّات الله سبحانه وتعالى.

ولا يضرّ بصدق الاختيار كون التمكّن المذكور مفاضا من ناحية المبدأ المتعال وكوننا واجبا بالغير بل هو مقتضى الأمر بين الأمرين. والمعيار في صدق الاختيار على أفعال الواجب المتعال هو التمكّن من الخلاف أيضا لا مسبوقيّة أفعاله بالإرادة والإرادة بالإرادة مع ما يلزم منه من استحالة حدوث الإرادة في ذاته تعالى ، فكما أنّ استناد التمكّن المذكور إلى الواجب المتعال لا يمنع عن صدق الاختيار بالنسبة إلى أفعاله سبحانه وتعالى ، فكذلك استناد التمكّن المذكور إلى الإنسان الواجب بالغير لا

٤٢٤

ينافي ذلك.

فإذا عرفت ذلك ظهر لك عدم تماميّة ما في الكفاية من تصديق تعريف الاختياري بما هو مسبوق إلى الإرادة وقبول التسلسل من اختياريّة الإرادة ، وذهابه إلى أنّ حسن المؤاخذة والعقوبة من تبعة بعده عن سيّده وسوء سريرته وذاته

لما ذكرناه من أنّ المعيار في الاختياريّة هو التمكّن من الخلاف ، وهو موجود في افعال الجوارح والجوانح بالوجدان ولا يلزم في اختياريّة الأفعال مسبوقيّتها بالإرادة حتّى يستلزم التسلسل. وعليه فالمباحث التي أوردها في الكفاية حول الإرادة ساقطة ؛ إذ الإنسان مختار في أفعاله ؛ لوجود التمكّن من الخلاف فيهما ، وأيضا لا تكون السعادة والشقاوة ذاتيين له ، بل هما مكتسبان بالاعمال والافعال. وما ورد في الشرع محمول على ما ذكرناه. وقد مرّ تفصيل ذلك في مباحث الأوامر ، وإن شئت المزيد ، فراجع.

٤٢٥

الخلاصة :

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : أنّ قبح العزم وحسنه تبع لما يتعلّقان به من المعصية والطاعة. وقبح المعصية بما أنّها هتك لحرمة المولى ذاتيّ ، وحسن الطاعة بما أنّها رعاية لحرمة المولى ذاتيّ. وعليه فقبح العزم في التجرّي مثلا ليس لما أنّه عزم بما هو عزم ، بل لما أنّه عزم للمعصية ومؤدّ إليها ، بالأخرة ، إذ المعصية الواقعيّة أو المعلومة مصداق للهتك ، والعزم على الهتك ليس مصداقا للهتك ، بل قبحه يكون من جهة تعلّقه بالهتك القبيح. ومقتضى ما ذكر ، أنّ القبيح ، هو العزم المتعقّب بالفعل الخارجي مع زعم كونه معصية لصدق الهتك حينئذ ، وإن لم يكن الفعل المذكور معصية في الواقع ، والهتك قبيح ذاتا ، ولا وجه لتخصيص القبح بمجرّد العزم ولو مع قطع النظر عن وجود متعلّقه. ودعوى أنّ القبيح يصدق على ما إذا صار بصدد الجري الخارجي فيما يخالف رضا المولى ، ولكن لم يتحقّق منه أيّ عمل خارجيّ أصلا لمانع أقوى منه ، كما لو أراد أن يسبّ المولى ، فوضع شخص يده على فمه ومنعه عن التفوّه بأيّ كلمة ، فلا إشكال في صدق التجرّي والهتك وغيرهما على مجرّد كون العبد في مقام الخروج عن العبوديّة ، وبصدد مخالفة المولى ومجرّد الجري النفسيّ على طبق الصفة الكامنة في النفس ، فإذا اتّضح صدق هذه العناوين على العمل النفسيّ في مورد كشف ذلك عن أنّ هذه العناوين ليست من عناوين الفعل الخارجي ، بل هي من عناوين النفس.

مندفعة بأنّ مجرّد العزم مع قطع النظر عن الفعل الخارجيّ ليس بهتك وقبيح ،

٤٢٦

والحكم بالقبح في المثال المذكور من جهة أنّ الإشارة تقوم فيه مقام الفعل مع وجود المانع ، فلا تغفل.

التنبيه الثاني : أنّه قد يقال بحرمة نفس القصد والعزم في التجرّي من جهة الأدلّة النقليّة.

أمّا من الآيات الكريمة فقوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(١) يدلّ على مبغوضيّة إرادة العلوّ والفساد.

وقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢) يدلّ على أنّ محبّة إشاعة الفحشاء سبب للعذاب.

وقوله تبارك وتعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(٣).

وإلى غير ذلك من الآيات الدالّة على استحقاق المؤاخذة بسبب العزم والإرادة.

وأمّا الروايات فموثّقة السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نيّة المؤمن خير من عمله ، ونيّة الكافر شرّ من عمله ، وكلّ عامل يعمل على نيّته» (٤) تدلّ على أنّ نيّة الكافر شرّ.

وخبر زيد بن علي ، عن آبائه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنة فالقاتل والمقتول في النار ، قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال

__________________

(١) القصص : ٨٣.

(٢) النور : ١٩.

(٣) البقرة : ٢٨٤.

(٤) الوسائل : الباب ٦ من أبواب مقدمة العبادات ح ٢.

٤٢٧

المقتول؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه أراد قتله» (١).

وخبر جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخمر عشرة ، غارسها ، وحارسها ، وعاصرها ، وشاربها ، وساقيها ، وحاملها ، والمحمولة له ، وبايعها ، ومشتريها ، وآكل ثمنها» (٢).

ومرفوعة محمد بن مسلم ، قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّما يجمع الناس الرضا والسخط فمن رضى أمرا فقد دخل فيه ، ومن سخطه فقد خرج منه» (٣).

وإلى غير ذلك ، من الأخبار الكثيرة الدالّة على حرمة نفس العزم ، واستحقاق المؤاخذة عليه.

ولكن في قبالها روايات اخرى ، تدلّ على العفو وعدم ترتّب العقاب والمؤاخذة.

منها صحيحة زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «إنّ الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذرّيّته ، أنّ من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له عشرا ، ومن همّ بسيّئة لم تكتب عليه ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيّئة» (٤).

ومنها صحيحة جميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا همّ العبد بالسيّئة لم تكتب عليه» (٥).

وغير ذلك من الأخبار الدالّة على عدم العقوبة والمؤاخذة على نفس العزم على المعصية.

ويمكن الجمع بين الطائفتين باختلاف الموضوع ، أي بحمل الأخبار الأخيرة

__________________

(١) الوسائل : الباب ٦٧ من أبواب جهاد العدو ح ١.

(٢) الوسائل الباب ٥٥ من أبواب ما يكتسب به ح ٤.

(٣) الوسائل الباب ٥ من أبواب الأمر والنهي ح ١٠.

(٤) الوسائل : الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ح ٥.

(٥) الوسائل الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ح ١٠.

٤٢٨

على صورة ارتداع المتجرّي عن قصده بنفسه ، وحمل الأخبار السابقة على من بقي على قصده ، حتّى عجز عن الفعل باختياره.

أو بحمل الأخبار الأخيرة على من اكتفى بمجرّد القصد ولم يشتغل بالمقدّمات والأسباب ، والأخبار السابقة على من اشتغل ببعض المقدّمات والأسباب.

أو بحمل الأخبار الأخيرة على العزم على فعل المعصية من نفسه والأخبار السابقة على الرضاية بفعل القوم ومعصية الغير وغير ذلك من المحامل التي توجب رفع التهافت. هذا مضافا إلى أنّ النسبة بين الأخبار الدالّة على مؤاخذة بعض النيّات كإرادة العلوّ والفساد وبين الأخبار الدالّة على العفو ، عموم وخصوص ، ومقتضاه هو تخصيص أخبار العفو بما دلّ على مؤاخذة إرادة العلوّ والفساد ، ونحوهما.

ولو سلّم أنّ النسبة بينهما هي التباين يمكن الجمع بينهما بحمل أخبار العفو على بيان عدم فعليّة استحقاق العقوبة تفضّلا من الله سبحانه وتعالى ، وإن أبيت عن الجمع بين الأخبار وقلت بالتعارض بينهما ، فيجري فيهما قواعد الأخبار المتعارضة. فإن قلنا بالتخيير فهو ، وإلّا فالتساقط ، والرجوع إلى حكم العقل ، وقد عرفت أنّ العقل لا يحكم باستحقاق العقوبة على مجرّد العزم ، فتحصّل أنّه لا دليل عقلا ولا نقلا على فعليّة حرمة نفس العزم عدا موارد خاصّة كالكفر ، ومحبّة إشاعة الفحشاء ، وإرادة العلوّ والفساد. فتختصّ عقوبة المتجرّي بما إذا أتى بالفعل فلا يكفى فيه مجرّد العزم.

التنبيه الثالث : أنّ موضوع البحث في التجرّي هو الحجّة ، غير المطابقة للواقع ، سواء كانت هي القطع ، أو العلم الإجمالي ، أو الظّنّ ، أو احتمال التكليف المنجّز ، كالشبهة البدويّة قبل الفحص ، وعليه فالموضوع لا يختصّ بالقطع.

فإذا قامت الحجّة المذكورة كان الحكم منجّزا عليه ، ولا مؤمّن له بالنسبة إليه ، ومع عدم المؤمّن فإذا خالفه وأصاب القطع ، أو الظنّ ، أو الاحتمال المنجّز للواقع فهو عاص حقيقة ، وإلّا فهو من التجرّي ، لأنّه لم يعمل بوظيفته ويخرج بارتكابه عن

٤٢٩

زىّ العبوديّة.

التنبيه الرابع : أنّه لو وجد مؤمّنا ، واستند إليه في ارتكاب المشتبه كان معذورا ، سواء طابق المؤمّن للواقع ، أو لم يطابق ، لأنّه اعتمد على الحجّة. وأمّا إذا لم يستند إلى الحجّة وارتكب المشتبه برجاء مصادفة الحرام ، فلو لم يصادف فهو من مصاديق التجرّي ، وإن صادف الحرام فهو عاص حقيقة ، ومطابقة عمله مع المؤمّن من دون استناد إليه لا يكفي في صحّة الاعتذار بالنسبة إلى ارتكاب الحرام.

التنبيه الخامس : أنّ العقل حاكم باستحقاق العقوبة عند مخالفة أوامر الله تعالى ونواهيه ، لأنّ المخالفة هتك لحرمة المولى ، وخروج عن زيّ العبوديّة ، ولكن لا حكم له باستحقاق المثوبة بالنسبة إلى موافقة أوامر الله تعالى ونواهيه ، لأنّ الموافقة من أداء الوظيفة ، كما أنّ إطاعة المملوك لمولاه لا يوجب استحقاق المثوبة ، لأنّه أتى بوظيفته. نعم غاية الأمر ، أنّ العبد يصير بذلك لائقا للتفضّل من مولاه ، ومقتضى ما ذكر هو حكم العقل باستحقاق العقوبة في التجرّي دون الانقياد وان حكم بلياقة المنقاد للتفضّل فلا تغفل.

التنبيه السادس : أنّ حكم التجرّي يختلف شدّة وضعفا ، مع اتّحاد المتجرّى به من ناحية اختلاف حال المتجرّي ، ومن ناحية اختلاف المنجّز احتمالا ، وظنّا وعلما.

فالتجرّي من العالم أو الشيخ المسنّ ، أشدّ من الجاهل أو الشابّ ، والمتجري مع الشك أقوى من التجرّي مع الاحتمال الضعيف ، وأضعف من الظّنّ ، إلّا إذا كان المتجرّى به مختلفا ، فيمكن أن يكون الإقدام الاحتمالي أشدّ من الإقدام الظنّي ، فالتجرّي بالإقدام الاحتماليّ على قتل المؤمن ، أشدّ من الإقدام الظنّيّ على قتل حيوان محترم كما لا يخفى.

التنبيه السابع : أنّه إذا عصى العبد مولاه بسبب غلبة شقوته ، استحقّ العقوبة بنفس المخالفة ، لصدق الهتك بالنسبة إلى مولاه ، وإن لم يقصد الهتك

٤٣٠

باللحاظ الاستقلالي.

وإذا قصد عنوان التجرّي والمعصية باللحاظ الاستقلالي ، يتعدّد سبب الاستحقاق للعقوبة. ومقتضى التعدّد هو تعدّد استحقاق العقوبة ، ولا مجال لدعوى التداخل ، إذا كان المسبّب قابلا للتكرار ، كما في المقام.

لا يقال إنّ من العناوين المبغوضة ما يكون مقدّمة لما هو أشدّ مبغوضا وقبحا ، فعلى تقدير ترتّبه عليها ، لا يلاحظ إلّا بلحاظ المقدّميّة المحضة ، ولا يوصف إلّا بالحرمة الغيريّة ، وتكون مبغوضيّتها مندكّة في الشديد ، اندماج الضعيف في الشديد ، ومع الاندماج المذكور ، فلا يعدّان إلّا فعلا واحدا ، بخلاف ما إذا لم يترتّب عليها ، فإنّها تستقلّ حينئذ بنفسها ، وتعدّ مبغوضا مستقلا يترتّب عليها ما أعدّ لها من العقاب.

وحيث إنّ المعصية الواقعيّة لا يمكن وقوعها إلّا بالتجرّي ، ولا ينفكّ عنه ، اكتفى في العقاب بالعقاب عليها.

لأنّا نقول ليس الكلام في التجرّي بالمعنى الآلي حتّى يصحّ القياس المذكور ، بل الكلام في التجرّي بالمعنى الاستقلالي بأن يقصد عنوان التجرّي على المعصية بالمعنى الاستقلالي زائدا على ما لا بدّ منه في المعصية من التجرّي بالمعنى الآلي. وحينئذ يجتمع سببان ، لاستحقاق العقوبة ، أحدهما هو المخالفة للأمر والنهي الواقعيّين عن عمد واختيار ، وثانيهما قصد المتجرّي على المعصية باللحاظ الاستقلالي.

ودعوى اتّحاد التجرّي على المعصية مع نفس الفعل المخالف للأمر أو النهي.

مندفعة بما مرّ من أنّ التجرّي ليس هو الفعل المجرّد عن العزم ، كما ليس هو العزم المجرّد عن الفعل ، بل هو العزم المتعقّب بالفعل الخارجي. ومن المعلوم أنّه مغاير مع الفعل المخالف للأمر والنهي. ومقتضى المغايرة هو التعدّد ، ومقتضى التعدّد هو تعدّد استحقاق العقوبة.

والقول بأنّ وحدة العقوبة معلومة بالبداهة ، مدفوع بأنّ ذلك فيما إذا لم يتجرّأ

٤٣١

على المعصية بقصد المعصية ، وإنّما أتى بالمعصية فقط ، وإلّا فلا وجه لوحدة العقوبة. نعم يمكن عفو الشارع عن ذلك ، وهو أمر آخر.

وقد ظهر ممّا مرّ ، أنّ في صورة التجرّي على المعصية باللحاظ الاستقلالي والمصادفة ، تحقّق السببان لاستحقاق العقوبة من دون تداخل. ومقتضاه هو تعدّد استحقاق العقوبة.

هذا بخلاف ما إذا عصى العبد واتّفق المصادفة ، فإنّ السبب للاستحقاق في هذه الصورة واحد.

فالمتحرّى المذكور أشدّ استحقاقا في صورة المصادفة من العاصي. اللهمّ إلّا أن يدلّ الدليل الشرعيّ على عفو إحدى العقوبتين ، ولكن لا ينافي ما ذكرناه ، بل هو مؤكّد للاستحقاق ، كما لا يخفى.

التنبيه الثامن : أنّ العقل حاكم في التجرّي باستحقاق العقوبة ، كما يكون حاكما به في المعاصي الواقعيّة. وأمّا تعيين نوع العقوبة أو مقدارها ، فهو موكول إلى تعيين الشارع ، لعدم إحاطة العقل بذلك.

نعم يحكم العقل بالشدّة والضعف ، تبعا للمعصية التي تجرّي عليها ، فالتجرّي على الزنا بالمحصنة يوجب استحقاق العقوبة ، بنحو أشدّ من التجرّي على الزنا بالخلّيّة وهكذا.

وبالجملة المعاصي مختلفة في شدّة استحقاق العقوبة وعدمها ، والتجرّي تابع لها في ذلك.

التنبيه التاسع : أنّه لا فرق في حكم العقل بقبح التجرّي بين كون الفعل المتجرّى به في الواقع واجبا ، أو حراما ، أو مستحبّا ، أو مكروها ، أو مباحا ، لأنّ ملاك القبح في التجرّى هو صدق الهتك ، وهو متحقّق بإتيان ما علم أنّه محرّم ، أو بترك ما علم أنّه مأمور به ، من دون دخل ، لمصادفته مع الواقع وعدمها. وإنّما اللازم هو إحراز

٤٣٢

الأمر والنهي في صقع النفس ، وهو حاصل ، ومعه فاستناد القبح إلى التجرّي ذاتيّ ، ولا تأثير لوجود المصالح في الواقع في رفع القبح ، أو عدم فعليّته عن الهتك ، إذ المصلحة والمفسدة أمران واقعيّان وجوديّان ، بخلاف الحسن والقبح ، فإنّهما أمران ذاتيّان حقيقيّان ، في لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الوجود. وعليه فلا وجه للتفصيل المحكيّ عن صاحب الفصول في التجرّي بين القطع بحرمة شيء غير واجب واقعا ، وبين القطع بحرمة واجب غير مشروط بقصد القربة ، فرجّح العقاب في الأوّل ، ونفي العبد عن عدم العقاب في الثاني مطلقا ، أو في بعض الموارد ، نظرا إلى معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة ، مستدلا بأنّ قبح التجرّي عندنا ليس ذاتيّا ، بل يختلف بالوجوه والاعتبار.

وذلك لما عرفت من اختلاف باب المصالح والمفاسد الواقعيّة مع باب الحسن والقبح ، فلا مجال للتعامل بينهما والكسر والانكسار. هذا مضافا إلى ما في كلامه ، من إنكار قبح التجرّي ذاتيّا مع أنّ قبح الهتك ذاتيّ ، ولا يختلف بالوجوه والاعتبار ، فتدبّر جيّدا.

التنبيه العاشر : أنّ الفعل الاختياري هو الذي أتى به مع القصد ، ويكفي في ذلك تعلّق القصد به ولو بتخيّل كونه مصداقا ، لعنوان من العناوين وإن تخلّف قطعه بكون الفعل الذي قصده مصداقا لذلك العنوان ، فإنّ قطعه بكونه مصداقا لذلك العنوان حيثيّة تعليليّة ، لتعلّق القصد بالفعل ، وليس حيثيّة تقيّديّة حتّى يستلزم تخلّفه عدم تعلّق القصد به ، كما إذا أذن صاحب الدار لدخول شخص في داره ، بتخيّل أنّه عمرو ، فإنّ الشخص المذكور مأذون في دخول الدار ولو تخلّف تخيّل صاحب الدار. وعليه فالقطع يكون مائع خمرا يوجب في المتجرّي أن يتعلّق إرادته بشرب هذا المائع الخارجي ، بسبب تخيّل تطبيق الخمر عليه ، ومع تعلّق إرادته بشرب المائع الخارجي ، فالشرب المذكور مقصود واختياريّ ، ولا مجال لما قيل من أنّ ما قصده المتجرّي لم يقع ، وما وقع

٤٣٣

لم يقصد ، ومع عدم كونه مقصودا ليس بفعل اختياريّ ، ولا يكون موضوعا للحسن والقبح.

ولعلّ الوجه في ذلك هو الخلط بين الحيثيّة التعليليّة وبين الحيثيّة التقييدية ، مع أنّ تخيّل المتجرّي لتطبيق عنوان حرام على الفعل الخارجي لم يؤخذ في الفعل بنحو التقييد ، بل هو يوجب إرادته ، نحو الفعل وليس ذلك إلّا الحيثية التعليليّة ، كما لا يخفى.

التنبيه الحادي عشر : أنّ المعيار في نفي الجبر ، واختياريّة الأفعال والتروك ، هو التمكّن الوجداني من خلافها بالتأمّل فيما يترتّب عليها من المصالح أو المفاسد ، والعقوبة أو المثوبة ، لوجود القدرة على إيجاد الأضداد والنقائض عند إرادة الأفعال ، أو التروك ، وهذا هو حقّ الكلام في إثبات الاختيار ونفي الجبر ، ولا فرق في ذلك بين أفعال الجوارح وأفعال النفس من القصد والعزم والإرادة. فإنّ اختيارية كلّ واحد منها بالتمكّن من الخلاف ، فما قيل في تعريف الفعل الاختياري من أنّه هو ما كان مسبوقا بالإرادة وهي ليست باختياريّة ، وإلّا لزم التسلسل منظور فيه ، لما عرفت من أنّ المعيار في اختياريّة الأفعال والتروك ونفي الجبر ، هو التمكّن من الخلاف وإيجاد الأضداد أو النقائض ، ولا حاجة مع وجود هذا المعيار في إثبات الاختيار إلى استناد الأفعال والتروك إلى الإرادة ، حتّى يقال إنّ الإرادة ليست باختياريّة ، وإلّا لزم التسلسل ، بل يكفي في الاختياريّة مجرّد التمكّن من الخلاف.

وعليه فالمباحث الّتي أوردها في الكفاية حول الإرادة ساقطة ، إذ الإنسان مختار في أفعاله وتروكه ، بالتمكّن من الخلاف فيهما ، والسعادة والشقاوة ليستا ذاتيين بل هما مكتسبتان بالأعمال والأفعال ، كما فصّل في محلّه ، فلا تغفل.

٤٣٤

الجهة الخامسة : في أقسام القطع :

ينقسم القطع إلى أقسام خمسة : أحدها هو القطع الطريقي المحض كالقطع بالواجبات والمحرّمات. وثانيها هو القطع الموضوعي ، وهو ينقسم إلى أربعة أقسام : فإنّه إمّا يكون تمام الموضوع أو جزءه ، وعلى التقديرين إمّا يؤخذ على وجه الصفتيّة أعني صفة خاصّة قائمة بالشخص وهي الكشف التامّ ـ وإمّا يؤخذ على وجه الكشف والطريقيّة من باب كونه أظهر أفراد الطرق وأتمّها. ولا يخفى عليك أنّ توضيح الأخذ على وجه الصفتيّة والطريقيّة بالنحو المذكور كما في الدرر أحسن ممّا في الكفاية من أنّه يجوز أخذ القطع في موضوع حكم آخر بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة بالغاء جهة كشفه كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلّقه وحاك عنه.

وذلك لأنّه لا يعقل جمع حفظ القطع بمرتبته الأخيرة التي يكون القطع بها قطعا وعدم ملاحظة كشفه ؛ لأنّ حفظ الشيء مع قطع النظر عمّا به هو هو مستحيل ، كحفظ الإنسان بما هو إنسان مع قطع النظر عن الإنسانيّة ، فملاحظة القطع بنفسه مع قطع النظر عن حيثيّة كشفه مساوقة لقطع النظر عن حقيقة القطع ؛ لأنّ حيثية القطع عين الكشف. هذا ، مضافا إلى بعد وقوع القطع بما هو صفة موضوعا لحكم من الأحكام.

ثمّ إنّه يقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل :

في قيام الأمارات مقام القطع عند فقدان القطع ، والذى يظهر من عبارة شيخنا الأعظم قدس‌سره هو إمكان قيامها مقام القطع الطريقيّ المحض والقطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقيّة دون ما أخذ القطع على وجه الصفتيّة حيث

٤٣٥

قال في الفرائد : ثمّ من خواصّ القطع الّذي هو طريق إلى الواقع قيام الأمارات الشرعيّة وبعض الاصول العمليّة مقامه في العمل.

بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعيّة فإنّه تابع لدليل الحكم ، فإن ظهر منه أو من دليل خارج اعتباره على وجه الطريقيّة للموضوع قامت الأمارات والاصول مقامه ، وإن ظهر منه اعتبار صفة القطع في الموضوع من حيث كونها صفة خاصّة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيره ، كما إذا فرضنا أنّ الشارع اعتبر صفة القطع على هذا الوجه في حفظ عدد الركعات الثنائيّة والثلاثيّة والأوليين ، فإنّ غيره كالظن بأحد الطرفين أو أصالة عدم الزائد لا يقوم مقامه إلّا بدليل خاصّ خارجيّ غير أدلّة حجّيّة مطلق الظنّ في الصلاة وأصالة عدم الأكثر. (١)

أورد عليه في الكفاية بما حاصله : هو الامتناع فيما إذا كان التنزيل بجعل واحد حيث قال : إنّ قيام الأمارات وبعض الاصول مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقيّة يوجب الجمع بين اللحاظين المتنافيين لحاظ الآلية ولحاظ الاستقلاليّة. وتقريب ذلك ـ كما أفاد ـ أنّ الدليل الدالّ على إلغاء الاحتمال لا يكاد يكفي إلّا بأحد التنزيلين حيث لا بدّ في كلّ تنزيل منهما من لحاظ المنزّل والمنزّل عليه ، ولحاظهما فى أحدهما آليّ وفي الآخر استقلالي بداهة أنّ النظر في حجّيّته وتنزيله منزلة القطع في طريقيّته في الحقيقة إلى الواقع ومؤدّى الطرق ، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما. ولا يكاد يمكن الجمع بينهما. نعم لو كان في البين ما بمفهومه جامع بينهما يمكن أن يكون دليلا على التنزيلين ، والمفروض أنّه ليس ، فلا يكون دليلا على التنزيل إلّا بذلك اللحاظ الآليّ ، فيكون حجّة موجبة لتنجّز متعلّقه وصحّة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته وخطأه بناء على استحقاق المتجرّي ، أو بذلك

__________________

(١) فرائد الاصول : ٣ ـ ٤.

٤٣٦

اللحاظ الآخر الاستقلالي ، فيكون مثله في دخله في الموضوع وترتيب ما له عليه من الحكم الشرعي ... إلى أن قال : ظهوره في أنّه بحسب اللحاظ الآلي ممّا لا ريب فيه ، وإنّما يحتاج تنزيله بحسب اللحاظ الأخر الاستقلالي من نصب دلالة عليه ... إلى أن قال : فتلخص ممّا ذكرنا إنّ الأمارة لا تقوم بدليل اعتبارها إلّا مقام ما ليس مأخوذا في الموضوع أصلا. (١)

وفيه :

أوّلا ـ كما أفاد سيّدنا الامام المجاهد قدس‌سره ـ أنّ الامتناع ممنوع ؛ لأنّ نظر القاطع والظانّ إلى المقطوع به وإن كان استقلاليّا وإلى قطعه وظنّه آليّا إلّا أنّ الجاعل والمنزّل ليس نفس القاطع حتّى يجتمع ما ادّعاه من الامتناع ، بل المنزّل غير القاطع ، فإنّ الشارع ينظر إلى قطع القاطع وظنّه ويلاحظ كلّ واحد استقلالا واسميّا وينزّل كلّ واحد منزلة الاخرى ، فكلّ واحد من القطع والظنّ وإن كان ملحوظا في نظر القاطع والظانّ على نحو الآليّة إلّا أنّ في نظر الشارع والحاكم ملحوظ استقلالا ، والشارع يلاحظ ما هو ملحوظ آليّ للغير عند التنزيل على نحو الاسميّة والاستقلال ويكون نظره إلى واقع المقطوع به المظنون بهذا القطع والظنّ وإلى نفس القطع والظنّ في عرض واحد بنحو الاستقلال

فما ذكره صاحب الكفاية من الامتناع من باب اشتباه اللاحظين فإنّ الحاكم المنزّل للظنّ منزلة القطع لم يكن نظره إلى القطع والظن آليّا بل نظره استقلاليّ قضاء لحقّ التنزيل ، كما أنّ نظره إلى المقطوع به والمظنون استقلاليّ. (٢)

وثانيا : أنّه لا حاجة إلى التنزيلين حتّى يستلزم المحذور المذكور ؛ فإنّ القطع إن

__________________

(١) الكفاية ٢ : ٢١.

(٢) تهذيب الاصول ٢ : ٣٣ ـ ٣٤.

٤٣٧

لوحظ موضوعا بعنوان أنّه صفة خاصّة كسائر الصفات أو بعنوان كونه كشفا تامّا ـ كما ـ في مثل إن قطعت بشيء يجب عليك الشهادة عليه ـ فلا يقوم مقامه سائر الأمارات والاصول ؛ لعدم إفادتها هذه الصفة أو الكشف التامّ ، والمفروض هو دخالة هذه الصفة أو الكشف التامّ في الموضوع كما لا يخفى.

وإن لوحظ موضوعا بعنوان أنّه أحد مصاديق الطريق المعتبر إلى الواقع فلا مانع من قيام الأمارات وبعض الاصول المحرزة كالاستصحاب مقام القطع ؛ لأنّ المفروض أنّ الذي هو له الدخالة هو الطريق ، والأمارات وبعض الأصول تكون طريقا إلى الواقع وذكر القطع في الموضوع أو الغاية لا خصوصيّة فيه ، بل يكون من باب كونه أفضل الأفراد وأتمّها ، كما هو الظاهر في مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» فإنّ المراد من قوله عليه‌السلام «حتّى تعلم» : حتّى يقوم طريق معتبر على أنّه قذر ؛ ولذا يكتفى في ترتيب أثر القذر بشهادة العدلين أو عدل واحد مع أنّهما لا يفيدان العلم ، وليس ذلك إلّا لكون ذكر العلم من باب كونه أفضل الأفراد وأتمّها من الطرق من دون خصوصيّة فيه ، فلا تغفل.

فاللازم هو اعتبار الطريق ، وهو حاصل بتنزيل المؤدّى منزلة الواقع من دون حاجة إلى تنزيل الظنّ بمنزلة القطع حتّى يلزم المحذور المذكور. ولقد أفاد وأجاد في الدرر في بيان ذلك حيث قال :

ثم اعلم أنّ القطع المأخوذ في الموضوع يتصوّر على أقسام : أحدها : أن يكون تمام الموضوع للحكم ، والثاني : أن يكون جزءا للموضوع بمعنى أنّ الموضوع المتعلّق للحكم هو الشيء مع كونه مقطوعا به. وعلى أيّ حال إمّا أن يكون القطع المأخوذ في الموضوع ملحوظا على أنّه صفة خاصّة ، وإمّا أن يكون ملحوظا على أنّه طريق إلى متعلّقه. والمراد من كونه ملحوظا على أنّه صفة خاصّة ملاحظته من حيث إنّه كشف تامّ ، ومن كونه ملحوظا على أنّه طريق ملاحظته من حيث إنّه أحد مصاديق الطريق

٤٣٨

المعتبر ، وبعبارة اخرى : ملاحظة الجامع بين القطع وسائر الطرق المعتبرة

فعلى هذا يصحّ أن يقال في الثمرة بينهما : إنّه على الأوّل لا يقوم سائر الأمارات والأصول مقامه بواسطة الأدلّة العامّة لحجّيّتها ، أمّا غير الاستصحاب من الاصول فواضح ، وأمّا الاستصحاب وسائر الأمارات المعتبرة فلأنّها بواسطة أدلّة اعتبارها توجب إثبات الواقع تعبّدا ، ولا يكفي مجرّد الواقع فيما نحن فيه ؛ لأنّ للقطع بمعنى الكشف التامّ دخلا في الحكم إمّا لكونه تمام الملاك وإمّا لكونه ممّا يتمّ به الموضوع ، وعلى الثاني فقيام الأمارات المعتبرة وكذا مثل الاستصحاب لكونه ناظرا إلى الواقع في الجملة ممّا لا مانع منه ، لأنّه فيما يكون القطع على هذا المعنى تمام الموضوع. ففي صورة قيام إحدى الأمارات أو الاستصحاب يتحقّق مصداق ما هو الموضوع حقيقة.

وفيما يكون المعتبر هو الواقع المقطوع ، فالواقع يتحقّق بدليل الحجّيّة تعبّدا والجزء الآخر وجدانا ؛ لأنّ المفروض عدم ملاحظة القطع في الموضوع من حيث كونه كشفا تامّا بل من حيث إنّه طريق معتبر ، وقد تحقّق مصداقه قطعا ... إلى أن قال : وحاصل الجواب أنّه بعد ما فرضنا اعتبار العلم طريقا بالمعنى الذي سبق ، فأدلّة حجّيّة الأمارة أو الاستصحاب وإن لم تتعرّض إلّا تنزيل المؤدّى منزلة الواقع تكفي في قيام كلّ منهما مقام العلم ؛ لإحراز الموضوع المقيّد بعضه بالتعبّد وبعضه بالوجدان كما عرفت. (١)

وأورد عليه المحقّق الاصفهاني بأنّه لا ريب أنّ للقطع جهات عديدة :

منها أنّه عرض ، فلو اعتبر في موضوع الحكم بهذا الاعتبار كان سائر الأعراض حالها حاله.

ومنها أنّه من مقولة الكيف ، وحينئذ يشاركه جميع أنواع مقولة الكيف إذا

__________________

(١) الدرر : ٣٣٠ ـ ٣٣٣.

٤٣٩

اعتبر في الحكم بهذه الحيثيّة. ومنها أنّه من نوع الكيف المختصّ بذوات الأنفس ، فتشاركه سائر الكيفيات القائمة بالأنفس.

ومنها أنّه كيف نفسانيّ له إضافة إلى طرفه إضافة إشراقيّة ، فحينئذ يشاركه الظنّ والاحتمال بل التصوّر المحض أيضا.

ومنها أنّه كاشف وطريق كشفا تصديقيّا ، فحينئذ يشاركه خصوص الظن.

ومنها أنّه كاشف تامّ بحيث لا يبقى بينه وبين المطلوب حجاب ، وهذا هو الذي يكون به القطع قطعا ، ولا شبهة في أنّ القطع المأخوذ من حيث الكاشفيّة والطريقيّة يراد به هذه المرتبة الأخيرة من الكشف دون مطلق الكاشف ، وإلّا لعمّ الدليل للظنّ من دون حاجة إلى التنزيل.

وأمّا ملاحظة القطع من حيث إنّه طريق معتبر فيكون موضوعيّا على وجه الكاشفيّة ، ومن حيث كشفه الخاصّ فيكون على وجه الصفتيّة كما عن بعض الأجلّة فمدفوعة بأنّ الظاهر تقسيم العلم بنفسه ولو بلحاظ حيثيّاته الذاتية كالامور المتقدّمة ، وهذا التقسيم بلحاظ حكمه وهو اعتباره عقلا مع أنّ لازمه ورود الأمارات على الأصول ، ومسلك الشيخ قدس‌سره حكومتها عليها ، فلا يصحّ حمل كلامه قدس‌سره عليه. (١)

وفيه :

أوّلا : أنّ الكلام في القطع المأخوذ في الأدلّة لا في تقسيم القطع بحسب ذاته ، وعليه فاللازم هو ملاحظة الأدلّة وموضوعاتها. ومن المعلوم أنّ العلم والقطع في بعض الأدلّة مأخوذ بعنوان الموضوع أو الغاية ويدور أمره بين أمرين أحدهما ملاحظة العلم من حيث إنّه طريق معتبر كقوله عليه‌السلام «كل شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ١٤.

٤٤٠