عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

المذكور في طرف الضمير بين إرجاع الضمير إلى بعض ما هو المراد من مرجعه أو إلى تمامه مع التوسّع اذ هو راجع إلى تمام ما هو المراد الاستعماليّ من مرجعه بدون توسّع ومجاز في الكلمة ولا في الاسناد ولذلك لا مجال لدعوى الاستخدام أيضا بعد استعمال العامّ في معناه والضمير في معناه والتصرّف في الإرادة الجدّيّة من الضمير كما لا يخفى.

لا يقال لو لم يكن استخدام لزم المحذور وهو أن يرجع الضمير عند تخصيص العامّ الأوّل إلى المستعمل فيه العامّ أيضا وهو كما ترى مثلا لو قيل أكرم العلماء وأضف أصدقائهم وخصّص العلماء بالعدول لزم أن يكون الاضافة واجبة بالنسبة إلى جميع العلماء مع أنّه لا يجب إكرام جميعهم إذ كيف يمكن أن يكون الإكرام مختصّا بالعدول من العلماء والاضافة واجبة بالنسبة إلى أصدقاء جميع العلماء ولو لم يكونوا عادلين فهذا يكشف عن كون المرجع هو العامّ المخصّص لا العامّ المستعمل فيه ، لأنّا نقول في مثل المثال المذكور إنّ العامّ الثاني أيضا مخصّص بالعدول أيضا لأنّ الإضافة عين الإكرام والمفروض أنّه مختصّ بالعدول وفي غيره لا محذور في الرجوع إلى العامّ المستعمل فيه كما لا يخفى.

ولقد أفاد وأجاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال وما في كلامهم من كون المقام من قبيل الدوران من التخصيص والاستخدام في الضمير من غريب الأمر لأنّه يخالف مذاق المتأخّرين في باب التخصيص من عدم كونه تصرّفا في ظهور العامّ فقوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) مستعمل في العموم وضمير بعولتهنّ أيضا يرجع إليها من غير استخدام وتجوّز والمخصّص الخارجي في المقام ليس حاله إلّا كسائر المخصّصات من كشفه عن عدم تعلّق الإرادة الجدّيّة إلّا ببعض الأفراد في الحكم الثاني أي الأحقّيّة وذلك لا يوجب أن يكون الحكم الأوّل كذلك بوجه بل هذا أولى بعدم

١٨١

رفع اليد عنه من العامّ الواحد إذا خصّص بالنسبة إلى البقيّة (١).

وممّا ذكر يظهر أيضا أنّ وجه عدم رفع اليد عن ظهور العامّ في العموم هو استقلال الحكم الأوّل وعدم وجود المعارض لأصالة التطابق بين الإرادة الاستعماليّة والإرادة الجدّيّة في الاسم الظاهر فإنّ تخصيص الضمير في الحكم الثاني لا يوجب تخصيص الاسم الظاهر في الحكم الأوّل فإذا عرفت عدم صحّة دعوى الإجمال والاستخدام والمجاز فالأظهر أنّ العامّ المتعقّب بالضمير المذكور ظاهر في العموم ولا دليل على رفع اليد عن أصالة التطابق فيه فلا إجمال ولا تخصيص بالنسبة إليه.

هذا كلّه فيما إذا كان الدالّ على اختصاص الحكم الثاني ببعض الأفراد في ناحية الضمير منفصلا.

وأمّا إذا كان الحكم الثاني مقترنا عقلا أو لفظا بما يجعل الحكم خاصّا ببعض الأفراد فقد قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره إنّ الظاهر طروّ الإجمال في الغالب لعدم إحراز بناء العقلاء على إجراء أصالة التطابق في مثل ما إذا احتفّ الكلام بما يصلح للاعتماد عليه فصحّة الاحتجاج بمثل أهن الفسّاق واقتلهم لإهانة غير الكفّار مشكلة (٢).

ولقائل أن يقول إنّ اقتران قوله واقتلهم بقرينة تدلّ على اختصاصه بالكفّار لا يوجب رفع اليد عن إطلاق قوله أهن الفسّاق لأنّ المفروض استقلال الحكمين وعدم اقتران الحكم الأوّل بتلك القرينة واحتفاف الثاني بالقرينة المذكورة كتخصيصه فكما أنّ تخصيص الثاني لا يوجب التخصيص الأوّل فكذلك احتفافه بالقرينة لا يوجب الإجمال في الأوّل لملاك واحد وهو استقلال الحكمين كما لا يخفى.

نعم لو كانت القرينة حافّة بالنسبة إلى كليهما تمنع عن الأخذ بأصالة التطابق في

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ٢٩٥.

(٢) مناهج الوصول : ٢ / ٢٩٤ ـ ٢٩٦.

١٨٢

العامّ أيضا كما لا يخفى.

ثمّ ينقدح ممّا ذكر إلى حدّ الآن أنّ ما ذهب إليه في المحاضرات من أنّ الظاهر بحسب ما هو المرتكز في أذهان العرف في أمثال المقام هو تقديم أصالة عدم الاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم (١).

غير سديد لما عرفت من أنّ الاستخدام لا مجال له إذ الضمير مستعمل في المعنى العامّ وإنّما دلّ الدليل الخارجي على عدم الإرادة الجدّيّة فيه إلّا الرجعيّات فلا دوران بين أصالة عدم الاستخدام وأصالة العموم هذا مضافا إلى منع تقديم أصالة عدم الاستخدام على أصالة العموم إذ لا مرجّح ولذا عدل عن ذلك في أواخر كلماته وادّعى دعوى اخرى وهي أنّ المرتكز العرفي في أمثال المقام هو الأخذ بظهور الكلام في اتّحاد المراد من الضمير مع ما يرجع إليه ورفع اليد عن ظهور العامّ في العموم يعني أنّ ظهور الكلام في الاتّحاد يكون قرينة عرفيّة لرفع اليد عن أصالة العموم إذ من الواضح أنّ أصالة العموم إنّما تكون متّبعة فيما لم تقم قرينة على خلافها ومع قيامها لا مجال لها (٢).

وهي أيضا مندفعة بأنّ الاتّحاد محفوظ بحسب الإرادة الاستعماليّة اذ الضمير متّحد مع العامّ في الإرادة الاستعماليّة والجدّيّة وإنّما يرفع اليد عن خصوص الإرادة الجدّيّة في ناحية الضمير في بعض الموارد بالدليل الخارجي وبقي اتّحادهما بحسب الإرادة الاستعماليّة والجدّيّة في سائر الموارد ومن المعلوم أنّه لا يستلزم التخصيص في العامّ بعد اختصاص الدليل الخاصّ بالثاني.

فدعوى قيام القرينة على عدم أصالة العموم دعوى بلا شاهد ولعلّ منشأ التوهّم هو تخيّل لزوم الاتّحاد بحسب المراد الجدّي لا المستعمل فيه فتدبّر جيّدا.

__________________

(١) المحاضرات : ٥ / ٢٨٨.

(٢) المحاضرات : ٥ / ٢٩١.

١٨٣

واستدلّ العضدي على تقديم الاستخدام بما حكي عنه من أنّ المقام من قبيل دوران الأمر بين تعدّد المجاز ووحدته حيث إنّ تخصيص العامّ يوجب التجوّز في الضمير للزوم مطابقته لما هو الظاهر من المرجع دون المراد بخلاف التصرّف في الضمير بالاستخدام ونحوه فإنّه لا يسري إلى العامّ (١).

وهو موهون لامكان منع المجاز مطلقا لا في العامّ ولا في الضمير بعد استعمالهما في المعنى العامّ على تقدير التخصيص أيضا فلا مجاز ولا استخدام لأنّ التصرّف ليس في المستعمل فيه بل الأمر يدور بين التخصيصين وبين التخصيص الواحد والمتعيّن هو الثاني إذ لا معارض لأصالة العموم في الأوّل.

ودعوى أنّ الضمير ليس من صيغ العموم حتّى يتصوّر فيه التخصيص بل التخصيص في الضمير باعتبار إخراج بعض أفراد المرجع كما في قولك أكرم العلماء وأضفهم بشرط العدالة ولو فرض كون ذلك تخصيصا في الضمير لا في المرجع فالفرق بين المقامين ظاهر فلا وجه لقياس أحدهما بالآخر فالأقرب أنّ المقام من قبيل تعارض الظاهرين أعني ظهور العامّ في العموم وظهور الضمير في رجوعه إلى تمام مدلول مرجعه دون بعضه وهو المراد بالاستخدام في المقام (٢).

مندفعة بأنّ الضمير الراجع إلى العامّ في حكم تكرار العامّ فكما أنّ العامّ من صيغ العموم فكذلك ما يقوم مقامه يفيد ما يفيده العامّ ودعوى الفرق بينهما كما ترى وعليه فيتصوّر التخصيص فيه كما يتصوّر التخصيص في العامّ اللفظي وعليه فالأمر كما ذكرنا يدور بين التخصيصين والتخصيص الواحد فلا مورد لتعارض الظاهرين ودعوى الإجمال.

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٢٠٦.

(٢) مطارح الأنظار : ٢٠٦.

١٨٤

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا يبقى مجال لما أفاده في الكفاية من الجواب عمّا ذهب إليه الشيخ قدس‌سره من تعارض الظاهرين من أنّ أصالة الظهور في طرف العامّ سليمة عن المعارض إذ لا أصالة الظهور في طرف الضمير بعد معلوميّة المراد وكون الشكّ في كيفيّة إرادة المراد من أنّه على نحو الحقيقة أو على نحو المجاز في الكلمة أو على نحو المجاز في الإسناد لعدم وجود بناء من العقلاء في هذه الصورة حتّى يؤخذ بها لاثبات أحد هذه الامور وعليه فمقتضاه هو تقديم الظهور في جانب العامّ لا تعارض الظاهرين وحصول الإجمال.

وذلك لأنّ الجواب المذكور يبتني على أنّ الدوران والتعارض بين الظاهرين مع أنّه ليس كذلك لأنّ الضمير مستعمل في المعنى العامّ وإنّما الكلام في أنّ التخصيص في الأخير والتصرّف في الإرادة الجدّيّة يوجب التخصيص في السابق أم لا فيدور الأمر بين التخصيصين والتخصيص الواحد والثاني هو القدر المتيقّن ولا وجه لرفع اليد عن ظهور العامّ في العامّ بعد كونه مستقلا وعليه فحديث كون أصالة الظهور لتعيّن المراد لا كيفيّة المراد أجنبيّ عن المقام وإن كان ما أفاده صحيحا في محلّه.

ثمّ ينقدح ممّا ذكرناه عدم صحة دعوى اكتناف الكلام بما يصلح للقرينيّة فيوجب الإجمال كما احتمله في الكفاية حيث قال بعد تقرير أنّ أصالة الظهور في طرف العامّ سالمة عن المعارض وتتقدّم على جانب الضمير لكنّه إذا عقد للكلام ظهور في العموم بأن لا يعدّ ما اشتمل على الضمير ممّا يكتنف به عرفا وإلّا فيحكم عليه بالإجمال ويرجع إلى ما يقتضيه الاصول (١).

وذلك لما عرفت من أنّ مفروض المقام هو ما إذا كان الكلام متكفّلا لحكمين مستقلّين كما في الآية الكريمة ومن المعلوم أنّ تخصيص الحكم الثاني لا يكون قرينة

__________________

(١) الكفاية : ١ / ٣٦٢ ـ ٣٦٣.

١٨٥

على تخصيص الحكم الأوّل به أيضا بعد عدم الارتباط بينهما من هذه الناحية وعليه فلا يقاس المقام بالموارد التي تقرن بما يصلح للقرينيّة كورود الأمر عقيب الحظر والمجاز المشهور لأنّ الاكتناف مخصوص بالأخير ولا يتجاوز عنه.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ تعقّب العامّ المستقلّ بضمير لا يراد منه إلّا بعض أفراد العامّ لا يوجب إجمالا بالنسبة إلى العامّ كما لا يوجب تخصيصا فيه ما لم تقم قرينة تصلح للتخصيص فيه أيضا ولا مجازا لا في العامّ ولا في الخاصّ ولا في الكلمة ولا في الإسناد لأنّ لفظ العامّ والخاصّ مستعملان في معناهما وإنّما التصرّف في أصالة التطابق كما لا يخفى.

١٨٦

الخلاصة :

الفصل السادس : أنّ تعقّب العامّ بضمير لا يراد

منه إلّا بعض أفراد العامّ ، هل يوجب تخصيص

العامّ ، أو يوجب الإجمال أو لا؟

وقد اختلف فيه الأعلام ، والمختار هو عدم لزوم التخصيص وعدم الإجمال في العامّ فيما إذا استقلّ العامّ.

وتوضيح ذلك ، أنّ محلّ الخلاف ما إذا وقع العامّ والضمير المذكور في كلامين أو كلام واحد مع استقلال العامّ بما حكم عليه.

بخلاف ما إذا لم يكن العامّ مستقلا بما حكم عليه ، بل الحكم واحد كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) فإنّه لا نزاع في تخصيص العامّ بعد معلوميّة أنّ حكم التربّص ليس لجميعهنّ ، وعليه فالمطلّقات وإن كانت شاملة لليائسة وغير المدخول بها ولكن يختصّ بغيرهما بقرينة التربّص ، فإنّه حكم بعض المطلّقات.

فإذا عرفت محلّ النزاع ، ذهب بعض إلى أنّ ذلك موجب للإجمال ، مستدلا بأنّ الأمر يدور بين التصرّف في العامّ بالتخصيص وبين التصرّف في الضمير بإرجاعه إلى البعض ، فيحصل الإجمال ، لوجود ما يصلح للقرينيّة في الكلام وهو الضمير الراجع إلى العامّ ، إذ الضمير المذكور يجعل القضيّتين بمنزلة كلام متّصل واحد.

ويمكن الجواب عنه ، بأنّ مجرّد القطع باختصاص الحكم المذكور في الثانية

١٨٧

ببعض أفراد العام ، لا يوجب التصرّف في إحدى القضيّتين في مدلولهما اللفظي ، بل يصحّ حمل كلتا القضيّتين على إرادة معناهما اللغوي في مرحلة الاستعمال ، والجدّ مع الالتزام بخروج بعض أفراد العامّ في الثانية عن الإرادة الجدّيّة.

وبعبارة اخرى : أنّ الضمير راجع إلى المراد الاستعماليّ من العامّ السابق ، وإرادة البعض في الارادة الجدّيّة تصرّف في اللّبّ ، لا في الاستعمال ، ورفع اليد عن أصالة التطابق بين الإرادة الاستعماليّة وبين الإرادة الجدّيّة في ناحية الضمير لا يوجب التخصيص في ناحية العامّ بعد استقلاله وانفصال الخاصّ عنه.

ذهب في الكفاية إلى الاستخدام أو المجاز مستدلا بأنّ الأمر يدور بين التصرّف في العامّ بإرادة خصوص ما اريد من الضمير الراجع إليه أو التصرّف في ناحية الضمير ، إمّا بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه ، أو إلى تمامه مع التوسّع في الإسناد ، بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقة إلى الكلّ توسّعا وتجوّزا.

ويمكن الجواب عنه بما عرفت من أنّ الضمير راجع إلى المراد الاستعماليّ من العامّ السابق ، والتصرّف في الضمير هو التصرّف في الإرادة الجدّيّة لا في الإرادة الاستعماليّة ، وعليه فلا مورد للدوران المذكور في طرف الضمير بين إرجاعه إلى بعض المراد حتّى يلزم الاستخدام وبين إرجاعه إلى تمام المراد مع التوسّع والتجوّز.

إذ الضمير على المختار راجع إلى تمام ما هو المراد الاستعمالي من مرجعه بدون توسّع وتجوّز ، لا في الكلمة ولا في الإسناد.

ودعوى أنّه لو لم يكن استخدام ، لزم المحذور ، وهو أن يرجع الضمير عند تخصيص العامّ الأوّل إلى المستعمل فيه العامّ أيضا وهو كما ترى مثلا لو قيل «أكرم العلماء» وأضف أصدقاءهم ، وخصّص العلماء بالعدول ، لزم أن يكون الإضافة واجبة ، بالنسبة إلى جميع العلماء مع أنّه لا يجب إكرام جميعهم ، إذ كيف يمكن أن يكون الإكرام مختصّا بالعدول من العلماء ، والإضافة واجبة بالنسبة إلى أصدقاء جميع العلماء ولو لم

١٨٨

يكونوا عادلين ، فهذا يكشف عن كون المرجع هو العامّ المخصّص لا العام المستعمل فيه.

مندفعة بأنّ العامّ الثاني في المثال المفروض مخصّص بالعدول أيضا ، لأنّ الإضافة عين الإكرام ، والمفروض أنّ الإكرام مختصّ بالعدول ، وفي غير المثال المذكور لا محذور في رجوع الضمير في العامّ الثاني إلى العامّ المستعمل فيه.

هذا كلّه فيما إذا كان الدالّ على اختصاص الحكم الثاني ببعض الأفراد في الإرادة الجدّيّة منفصلا ، وأمّا إذا كان الدالّ عليه مقترنا عقلا أو لفظا فقد ذهب سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره إلى أنّ الظاهر طروّ الإجمال في الغالب لعدم إحراز بناء العقلاء على إجراء أصالة التطابق في مثله.

ولكن لقائل أن يقول ، إنّ اقتران الحكم الثاني بذلك لا يوجب الإجمال في الحكم الأوّل مع فرض كونهما مستقلّين وعدم اقتران الحكم الأوّل بتلك القرينة.

والقول بأنّ المرتكز في المقام ، هو تقديم أصالة عدم الاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم.

غير سديد بعد ما عرفت من أنّه لا مجال للاستخدام ، إذ الضمير مستعمل في المعنى العام ، والدليل الخارجي يدلّ على عدم الإرادة الجدّيّة فيه ، فلا يدور الأمر بين أصالة عدم الاستخدام وأصالة العموم.

ودعوى أنّ المرتكز العرفيّ في أمثال المقام هو الأخذ بظهور الكلام في اتّحاد المراد من الضمير مع ما يرجع الضمير إليه ورفع اليد عن ظهور العامّ في العموم ، فهذا الظهور قرينة عرفيّة لرفع اليد عن أصالة العموم ، إذ أصالة العموم متّبعة فيما لم تقم قرينة على خلافها ومع قيامها لا مجال لها.

مندفعة بأنّ الاتّحاد بحسب الإرادة الاستعماليّة محفوظ ، إذ الضمير متّحد مع العامّ في الإرادة الاستعماليّة والجدّيّة ، وإنّما يرفع اليد عن خصوص الإرادة الجدّيّة في

١٨٩

ناحية الضمير بالنسبة إلى بعض الموارد بالدليل الخارجي ، وبقي اتّحادهما بحسب الإرادة الاستعماليّة والجدّيّة في سائر الموارد ، ورفع اليد عن الإرادة الجدّيّة في ناحية الضمير لا يستلزم التخصيص في العامّ بعد اختصاص الدليل الخاصّ بالثاني وانفصال الضمير عن العامّ.

ثم إنّ أصالة العموم متّبعة فيما لم تقم قرينة على خلافها كما في المقام ، لأنّ قرينة الخلاف مختصّة بالثاني.

وممّا ذكر يظهر ما في المحكيّ عن العضدي من أنّ الأمر في المقام يدور بين تعدّد المجاز ووحدته ، لأنّ تخصيص العامّ يوجب التجوّز في الضمير أيضا للزوم مطابقته لما هو الظاهر من المرجع دون المراد ، بخلاف التصرّف في الضمير بالاستخدام فإنّه لا يسري إلى العامّ.

وذلك لما عرفت من إمكان منع المجاز مطلقا لا في العامّ ولا في الضمير بعد استعمالهما في المعنى العامّ على تقدير التخصيص أيضا ، فلا مجاز ولا استخدام ، لأنّ التصرّف ليس في ناحية المستعمل فيه ، فالأمر إذا دار بين التخصيصين وبين التخصيص الواحد فالمتعيّن هو الثاني إذ لا معارض لأصالة العموم في الأوّل.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ تعقّب العامّ المستقلّ بضمير ، لا يراد منه إلّا بعض أفراد العامّ لا يوجب إجمالا بالنسبة إلى العامّ ، كما لا يوجب تخصيصا فيه ما لم تقم قرينة تصلح للتخصيص فيه أيضا ، ولا يوجب أيضا مجازا لا في العامّ ولا في الخاصّ ولا في الكلمة ولا في الإسناد ، لأنّ لفظ العامّ والخاصّ مستعملان في معناهما وإنما التصرّف في ناحية أصالة التطابق ، فلا تغفل.

١٩٠

الفصل السابع

في تعارض المفهوم مع العموم

والكلام فيه يقع في مقامات :

المقام الأوّل : في أنواع المفهوم : ولا يخفى أنّ المفهوم إمّا موافق أو مخالف والموافق ما دلّ اللفظ بحكم العقل على ثبوت الحكم في الأشدّ بطريق أولى (١).

والمخالف هو الذي دلّ العقل عليه بواسطة تعليق الحكم في خطاب الشرع على العلّيّة المنحصرة فإنّ مقتضى التعليق المذكور بحكم العقل هو الانتفاء عند الانتفاء وإلّا لزم الخلف في التعليق المذكور (٢).

والفرق بين المخالف والموافق كما أفاده المحقّق الأصفهاني قدس‌سره هو في عدم توسّط شيء بين ذلك اللازم العقليّ والملزوم الكلاميّ في المخالف بخلاف الموافق فإنّ المنطوق فيه مشتمل على ملاك الحكم فقط وليس هو بنفسه مستلزما لثبوت الحكم بالمساواة ولا بالأولويّة لموضوع إلّا بتوسّط أمر خارج وهو كون الموضوع الآخر ذا ملاك مساو أو ذا ملاك أقوى فيلزمه ترتّب الحكم المماثل أو بوجه أولى (٣).

هذا مضافا إلى اختلافها بالسلب والايجاب كما لا يخفى.

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٢٠٧.

(٢) راجع مطارح الأنظار : ٢٠٨.

(٣) نهاية الدراية : ٢ / ٢٠٤.

١٩١

أقسام المفاهيم الموافقة

ثمّ إنّ الموافق على أقسام كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره منها موارد إلغاء الخصوصيّة كقوله رجل شكّ بين الثلاث والأربع إذ لا شبهة في أنّ العرف يرى أنّ الحكم إنّما هو للشكّ بينهما من غير دخالة للرجوليّة فيه.

ومنها المعنى الكنائي الذي سيق الكلام لأجله مع عدم ثبوت الحكم للمنطوق كقوله : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) بناء على كونه كناية عن حرمة ايذائهما ولم يكن الأفّ محكوما بحكم (فالمعنى الكنائي مفهوم موافق للمنطوق).

ومنها ما إذا سيق الكلام لأجل إفادة حكم فأتى بأخفّ المصاديق مثلا للانتقال إلى سائرها مثل الآية المتقدّمة إذا كان الأفّ محكوما بالحرمة أيضا (فسائر المصاديق مفهوم موافق للمنطوق).

ومنها الحكم المستفاد من القضيّة التعليليّة كقوله الخمر حرام لأنّه مسكر (١).

والعلّة المنصوصة تدلّ بمفهوم الموافقة على مساواة غير المورد مع المنطوق ويعمّمه.

ولا يخفى عليك أنّ التعبير بالمفهوم الموافق في بعض هذه الأقسام كمورد إلغاء الخصوصيّة لا يخلو عن تأمّل ونظر إذ مرجع إلغاء الخصوصيّة إلى عموميّة المنطوق وكون المفهوم مدلولا مطابقيّا للمنطوق وهو بنفسه يعمّ الحكم فلا يتوسّط فيه شيء آخر مع أنّ اللازم في المفهوم الموافق هو توسّط شيء آخر وهكذا الأمر في التعليل فإنّ مثل قوله فإنّه مسكر يدلّ على الكبرى الكلّيّة وهي أنّ كلّ مسكر حرام وهو منطوق عامّ فتدبّر جيّدا.

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ٢٩٨.

١٩٢

المقام الثاني : في تقديم المفاهيم الموافقة.

ولا يذهب عليك أنّه لا كلام في تقديم المفاهيم الموافقة على العمومات فيما إذا كانت النسبة بينهما هي العموم والخصوص لما عليه بناء العقلاء من تقديم الخاصّ على العامّ بملاك الأظهريّة.

نعم لو فرض أظهريّة العامّ في بعض الأحيان من المفهوم الموافق فلا إشكال في تقديمه على المفهوم الخاصّ ويتصرّف في هيئة الخاصّ كما هو المتعارف في غير المفهوم الموافق من المخصّصات.

وأمّا إذا كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه ذهب بعض الأعلام إلى أنّه يعامل معهما معاملة المنطوقين من تساقطهما.

والرجوع إلى الأصل العملي إن لم يكن مرجّح في البين دون التخيير إذ لا مجال له في العامّين من وجه بعد اختصاص الأخبار العلاجيّة بالتعارض التبايني كما قرّر في محلّه.

ولكنّ الظاهر من مطارح الأنظار تقدّم المفهوم على العموم من دون فرق بين أن يكون النسبة عموما وخصوصا أو عموما من وجه حيث قال إنّ السّرّ في دلالة اللفظ على ثبوت الحكم في غير محلّ النطق مع أنّه ليس مدلولا مطابقيّا له هو أنّ المذكور في محلّ النطق إنّما دلّ عليه باللفظ توطئة للوصول إلى حكم غيره فكأنّ المذكور طريق إليه وإنّما قصد به مجرّد الإراءة فيكون دلالة اللفظ عليه أظهر من دلالة العامّ على العموم وإن لم يكن من مداليل اللفظ على وجه الصراحة والمطابقة حتّى أنّه يمكن أن يقال إنّ دلالة اللفظ على المفهوم أظهر من دلالته على المنطوق وإن كان مدلولا التزاميّا لأنّه المقصود بالإفادة إلى أن قال ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون النسبة بين المفهوم والعموم عموما من وجه كما في قولك لا تكرم الفسّاق وأكرم خدّام العلماء فالتعارض إنّما هو في العالم الواجب الإكرام بالمفهوم ومحرّم الإكرام بالعموم أو

١٩٣

كان المفهوم أخصّ كما إذا قيل أكرم خدّام العالم الفاسق (١).

ظاهره هو الحكم بتقديم المفاهيم الموافقة سواء كانت النسبة بينها وبين العمومات عموما وخصوصا أو عموما من وجه وملاكه هو قوّة الدلالة لأنّها مستفادة بالأولويّة.

وفيه أنّه حسن في المفاهيم بالأولويّة لا بالمساواة.

وفصّل المحقّق النائيني قدس‌سره في المفهوم الموافق بين ما يكون النسبة بين منطوق المفهوم والعموم عموما وخصوصا فيقدّم المفهوم وإن كانت النسبة بين المفهوم والعموم عموما من وجه وبين ما يكون النسبة بين منطوق المفهوم والعموم عموما من وجه فلا يحكم بتقديم المفهوم إلّا إذا كان مرجّح في البين.

حيث قال يقدّم المفهوم على العموم ولو كانت النسبة بينهما بالعموم من وجه إن كان منطوق المفهوم أخصّ مطلقا من العموم كما إذا ورد لا تكرم الفسّاق وورد أكرم فسّاق خدّام العلماء الدالّ بمفهومه على وجوب إكرام العلماء أنفسهم.

وذلك لأنّه لا يمكن التصرّف في المفهوم نفسه من دون التصرّف في المنطوق كما أنّه لا يمكن التصرّف في المنطوق لكونه أخصّ فينحصر الأمر في التصرّف في العموم وإبقاء المفهوم على عمومه.

فيكون المقام من جملة الموارد التي لا بدّ فيها من تقديم أحد العامّين من وجه لأجل وجود المرجّح فيه على الآخر الفاقد للترجيح.

وأما إذا كانت النسبة بين المنطوق والعموم أيضا نسبة العموم من وجه كما إذا كان المنطوق في مفروض المثال أكرم خدّام العلماء. فإن قدّم حينئذ المنطوق على العموم في مورد التعارض ودخل بذلك الخادم الفاسق للعالم في موضوع وجوب

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

١٩٤

الإكرام ، كان المفهوم الثابت بالأولويّة القطعيّة مقدّما على العموم أيضا.

وأمّا إذا قدّم العموم على المنطوق وخرج الخادم الفاسق عن موضوع وجوب إكرام خدّام العلماء واختصّ الوجوب بإكرام الخدّام العدول لم يثبت الأولويّة إلّا وجوب إكرام العدول من العلماء دون فسّاقهم هذا هو حقّ القول في المفهوم بالأولويّة (١).

اورد عليه أوّلا بأنّ الكلام مفروض فيما لم يكن منافاة بين المنطوق والعامّ بذاتيهما مثل ما إذا ورد لا تكرم العلماء ثمّ ورد أكرم خدّام الفقهاء غير العلماء فإنّه يدلّ بالأولويّة على وجوب إكرام الفقهاء مع عدم التنافي بين المنطوقين إذ الخدّام المقيّد بعدم كونهم علماء مغاير مع موضوع العلماء ولا منافاة مع مغايرتهما موضوعا ولكن مع ذلك يكون نسبة المفهوم إلى العموم المذكور نسبة الخاصّ إلى العامّ لأنّ الفقهاء بعض العلماء وأيضا إذا ورد أكرم جهّال خدّام النحويّين ثمّ ورد لا تكرم الصرفيّين فإنّ المنطوقين لا يعارضان لتغايرهما موضوعا ولكن يعارض مفهوم قوله أكرم جهّال خدّام النحويّين وهو أكرم النحويّين مع عموم لا تكرم الصرفيّين بنحو العموم من وجه ففي هذا المورد أيضا لا منافاة بين المنطوق والعموم ولكن مع ذلك يكون بين المفهوم والعموم منافاة بنحو العموم من وجه وحيث كان المفهوم مدلولا بالأولويّة كان مقدّما على العموم وإن كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه.

ويمكن الذبّ عنه بعد تسليم كون فرض الكلام فيما لم يكن منافاة بين المنطوقين بأنّ المنافاة وإن لم تكن بحسب ذات المنطوقين ولكن بسبب استلزام المنطوق للمفهوم يكون المنطوق أيضا منافيا مع العموم ومع منافاة المنطوق مع العموم فإن كان هو أقوى فهو المقدّم وإلّا فيتساقطان.

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ٥٠٠.

١٩٥

اللهمّ إلّا أن يقال إنّ العبرة بالمنافاة الأصليّة لا العرضيّة إذ المنافاة الأصليّة حينئذ تكون بين المفهوم والعموم ومنافاة المنطوقين من باب الوصف بحال المتعلّق.

وثانيا بأنّ ملاحظة التعارض أوّلا بين المنطوق والعموم دون المفهوم أو بالعكس فيما إذا كان كلّ واحد من المنطوق والمفهوم منافيا مع العموم ليس في محلّه بل اللازم حينئذ هو ملاحظة المنطوق والمفهوم معا بالنسبة إلى العموم لأنّهما متوافقان في التعارض مع العموم ولا وجه لتقديم المنطوق على المفهوم كما ذهب إليه المحقّق النائيني ومن تبعه أو بالعكس كما يظهر من بعض آخر.

بل هما في عرض واحد يكونان متنافيين مع العموم لأنّ التعارض بعد وجود القضيّة وتماميّة مدلولها منطوقا ومفهوما وبعد تماميّة مدلولهما يكون المنطوق والمفهوم متعارضين مع العموم في عرض واحد.

وعليه فيعمل في كلّ من المنطوق والمفهوم بالنسبة إلى العموم بحسب ما يقتضيه القاعدة فالمفهوم مقدّم على العموم لكونه أظهر منه من جهة كونه مستفادا بالأولويّة وإن كانت النسبة بينه وبين العموم هي العموم من وجه.

والمنطوق مقدّم على العموم إن كانت النسبة بينه وبين العموم هي العموم والخصوص وإلّا فيتساقطان إن لم يكن أحدهما أقوى كما في سائر موارد المعارضة ولا منافاة بين سقوط المنطوق وتقدّم المفهوم على العموم.

ولا دليل على ملاحظة المنطوق أوّلا ثمّ ملاحظة المفهوم بعد كونهما معارضين في عرض واحد مع العموم ولذا لم نقل بانقلاب النسبة في محلّه ثم إنّ التبعيّة في الدلالة لا توجب التبعيّة في الحجّيّة وعليه فالأقرب هو ما ذهب إليه الشيخ قدس‌سره من أنّ المفهوم مقدّم مطلقا لكونه أقوى من جهة دلالة اللفظ عليه بالأولويّة.

نعم يختصّ تقديم المفهوم الموافق على العامّ بما إذا كان المفهوم بالأولويّة كقولك لا تكرم الفسّاق وأكرم خدّام العلماء فإنّ الثاني يدلّ بالأولويّة على إكرام العلماء.

١٩٦

فإنّ أقوائيّة المفهوم فيما إذا كان المفهوم بالأولويّة توجب التقديم بخلاف ما إذا كان المفهوم بالمساواة لعدم وجود الأقوائيّة فيه مثلا إذا ورد لا تكرم الفسّاق وورد أكرم خدّام العلماء كان مفهوم الموافق بالمساواة للثاني هو أكرم خادمات العلماء والنسبة بينه وبين لا تكرم الفسّاق هي عموم من وجه وحيث لا يستفاد بالأولويّة لا وجه لتقديمه على العموم كما لا يخفى.

ودعوى أنّ اللازم هو تقديم المفهوم الموافق على العموم ولو كان المفهوم بالمساواة وإلّا فلا يمكن التصرّف في نفس المفهوم لأنّه قضيّة لبّيّة بل اللازم أن يتصرّف في المنطوق باخراجه عن الظاهر بالمرّة وهو بارد أو يتصرّف في العموم بالتخصيص وهو متعيّن ولو لم يكن شائعا لما عرفت من خصوصيّة المقام وهذا هو الوجه في كونه محلا للاتّفاق.

مندفعة بأنّ رفع اليد عن حكم المنطوق بمقدار ما ينافيه العموم ليس باردا بل هو لازم لو فرض كون العامّ أظهر من القضيّة في المفهوم كما أنّ التصرّف المذكور ليس بلا وجه إذ وجهه هو تقديم العامّ على المفهوم الكاشف عن عدم الحكم للمنطوق.

وبالجملة إن كان العامّ أظهر من المفهوم تقدّم عليه وإلّا فلا وجه لتعيّن التصرّف في العموم بل التصرّف ممكن في العموم والمفهوم ومقتضى كون النسبة هي العموم من وجه وعدم المرجّح هو الحكم بالتساقط.

وإذا كانت النسبة بينهما هي العموم والخصوص فالمفهوم مقدّم على العموم قضاء لتقديم الخاصّ على العامّ كما لا يخفى.

فتحصّل أنّ المفهوم الموافق المستفاد بالأولويّة مقدّم على العموم وإن كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه وأمّا المفهوم الموافق المستفاد بالمساواة فإن كانت النسبة بينهما هي عموم وخصوص فهو أيضا مقدّم وإلّا فلا وجه لتقديمه على العموم بل مقتضى القاعدة هو التساقط إن لم يكن مرجّح في أحد الطرفين وإلّا فالمقدّم هو ذو

١٩٧

الترجيح فتدبّر جيّدا.

المقام الثالث : في المفهوم المخالف ولا يخفى عليك أنّه اختلف في تقديمه على العامّ وإن كانت النسبة بينه وبين العامّ عموما وخصوصا.

ولعلّ منشأ الاختلاف هو توهّم كون العامّ أقوى بالنسبة إلى المفهوم لأنّ العامّ يدلّ بالوضع والمفهوم المخالف مستفاد من العلّيّة المنحصرة التي تكون مبتنية على الاطلاق الذي يزول بأدنى دلالة تنافيه.

وأجاب عنه صاحب الكفاية قدس‌سره بما توضيحه إنّه إذا ورد العامّ وما له المفهوم في كلام أو كلامين بنحو يصلح أن يكون كلّ منهما قرينة متّصلة للتصرّف في الآخر ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم فالدلالة على كلّ منهما إن كانت بمعونة مقدّمات الحكمة أو بالوضع فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم.

أمّا إذا كانت الدلالة فيهما بمقدّمات الحكمة فلعدم تماميّة مقدّمات الحكمة في كلّ واحد منهما لتوقّف تماميّة مقدّمات الحكمة في كلّ واحد منهما على عدم الآخر والمفروض أنّه يزاحمه وجود كلّ واحد منهما.

وأمّا إذا كانت الدلالة فيهما بالوضع فلمزاحمة ظهور كلّ واحد منهما وضعا مع استقرار الظهور للآخر.

فلا إشكال حينئذ في تساقط العامّ والمفهوم وصيرورتهما مجملين فاللازم حينئذ هو الرجوع إلى الاصول العمليّة نعم لو كان أحدهما أظهر فيما إذا كان الظهور فيهما وضعيّا يقدّم الأظهر لأنّ أظهريّة ماله الوضع يمنع عن قرينيّة الطرف الآخر.

وإذا لم يكن بين ما دلّ على العموم وما له المفهوم ذلك الارتباط الموجب لقرينيّة كلّ واحد للآخر ولو لم يكن بينهما أظهر فاللازم هو أن يعامل مع كلّ منهما معاملة المجمل لأنّ الظهور في كلّ منهما يسقط عن الاعتبار لأجل المعارضة فيجري عليهما حكم المجمل وهو الرجوع إلى الاصول العمليّة.

١٩٨

وإذا كان بينهما أظهر في الفرض المذكور فهو المعوّل والقرينة على التصرّف في الآخر بنحو لا يخالف الأظهر بحسب العمل كحمله على الكراهة مثلا إذا ورد أنّه يجوز إكرام الشعراء في دليل وورد في آخر أكرم الشعراء بشرط كونهم عدولا فمفهومه هو لا تكرم الفسّاق من الشعراء فلو كانت دلالة قوله يجوز إكرام الشعراء أظهر يحمل المفهوم على الكراهة حتّى لا ينافي جواز إكرام الشعراء بحسب العمل (١).

يمكن أن يقال أوّلا إنّ عمدة الوجه في ثبوت المفهوم هو الاطلاق في إفادة الانحصار لاختصاص الوضع بمجرّد الاناطة وعليه فترديده بين أن يكون المفهوم وضعيّا أو إطلاقيّا مستدرك كما أنّ التفصيل والتشقيق بين وجود الارتباط بين ما دلّ على المفهوم وما دل على العموم وعدمه لغو بعد كون حكمهما واحدا وهو الإجمال وما في حكمه.

وثانيا : إنّا نمنع الإجمال في المتّصلين إذا كان أحدهما وضعيّا والآخر إطلاقيّا لأنّ الوضعيّ تنجيزيّ والإطلاقيّ تعليقيّ وهكذا نمنع الإجمال في المنفصلين فيما إذا كانت النسبة بينهما هي العموم والخصوص لوضوح تقديم الخاصّ على العامّ وإن كان مستفادا عن مقدّمات الإطلاق لانعقاد الظهور فيهما بعد فرض كون الكلامين منفصلين فلا وجه لدعوى الإجمال والرجوع إلى الاصول العمليّة على تقدير الانفصال وكون النسبة هي العموم والخصوص المطلق وعليه فالمفهوم المخالف مع الانفصال وكون النسبة هي العموم والخصوص مقدّم على العموم كما هو مقتضى القاعدة في المنطوقين.

والعجب من الشيخ الأنصاري قدس‌سره فإنّه تردّد في ذلك من جهة الترديد في أنّ الجملة الشرطيّة أظهر في إرادة الانتفاء عند الانتفاء بينهما أو العامّ أظهر في إرادة

__________________

(١) الكفاية : ١ / ٣٦٣ ـ ٣٦٤.

١٩٩

الأفراد منه لعدم ضابطة نوعيّة يعتمد عليها في الأغلب ثمّ أحال تقديم أحدهما على الآخر إلى ما يقتضيه الموارد من الخصوصيّات والقرائن (١).

وفيه أنّ الضابطة هنا موجودة وهي كون النسبة بين المفهوم والعموم عموما وخصوصا فإنّه يوجب أظهريّة المفهوم بالنسبة إلى العامّ لكونه أخصّ فيتقدّم على العموم كسائر الموارد التي تكون النسبة هي العموم والخصوص فالترديد ليس في محلّه فالأقوى هو تقدّم المفهوم على العموم فيما إذا كانت النسبة هي العموم والخصوص ولذلك قال في المحاضرات وأمّا لو كانت النسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا فلا شبهة في تقديم الخاصّ على العامّ حيث إنّه يكون بنظر العرف قرينة على التصرّف فيه ومن المعلوم أنّ ظهور القرينة يتقدّم على ظهور ذيها وإن افترض أنّ ظهورها بالاطلاق ومقدّمات الحكمة وظهور ذلك بالوضع (٢).

نعم إن عكس الأمر بأن يكون المفهوم عامّا فمقتضى القاعدة المذكورة هو العكس أي تخصيص المفهوم مثلا إذا قيل أكرم الناس إن كانوا عدولا كان مفهومه أنّه لا يجب إكرام غير العادل سواء كان عالما أو غيره فإذا ورد أكرم العالم الفاسق كان منافيا مع عموم المفهوم ولكن يقدّم عليه لأخصّيّته بالنسبة إلى عموم المفهوم كما لا يخفى. ولا وجه لإلغاء المفهوم رأسا كما لا يخفى.

وأمّا إذا كانت النسبة بين المفهوم والعموم هي عموم من وجه فمقتضى القاعدة هو التساقط في مورد التعارض كما هو مقتضى القاعدة في المنطوقين بناء على عدم شمول الأخبار العلاجيّة للعامّين من وجه كما قرّر في محلّه.

ولكنّ المحكيّ عن الشيخ قدس‌سره أنّه قال إذا قيل أكرم العلماء بعد قولك أكرم الناس

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٢٠٨.

(٢) المحاضرات : ٥ / ٣٠٣.

٢٠٠