عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

ولا مجال لإنكار حكم العقل في أمثال هذه الموارد ولو لا ذلك لما كان طريقا إلى إثبات النبوّة والشريعة ولو لا حكم العقل بقبح الإغراء لم يمكن تصديق النبيّ بعد إقامة المعجزة ، لاحتمال الكذب في ادّعاء النبوّة. ففي هذه الموارد يصحّ دعوى الملازمة بين الحكم العقل والشرع.

نعم حكم العقل بحسن الطاعة ، وقبح المعصية يكون في طول الحكم الشرعي وفي مرتبة معلوله ، إذ الموضوع مقدّم على الحكم ، وهو الطاعة والمعصية ، وهما بعد صدور أمر مولويّ من الشارع فلا يمكن في مثل هذا المورد أن يكشف الحكم العقليّ عن الحكم الشرعيّ ، كما لا يخفى.

لا يقال إنّ دعوى الملازمة وإن كانت ممكنة ، ولكن مع إمكان اكتفاء الشارع بالحكم العقلي البديهي بما هو عاقل ، لا ملزم عليه أن يحكم به بما هو شارع.

لأنّا نقول ، إنّ الإنصاف ، أنّ الحكم العقلي كثيرا ما لا يكفي في إمكان جعل الداعي في أوساط الناس ، وعليه فمقتضى قاعدة اللطف والحكمة ، هو أن يحكم الشارع بما هو شارع أيضا ، فما نسب إلى المشهور من وجود الملازمة صحيح عند إحاطة العقل بالعلل وعدم وجود المزاحمات ، وكون حكمه في ناحية العلل والمناطات ، أو الواقعيّات التي تكون من المقدّمات والمبادي.

والثالث : أنّ العقل يدرك أمورا واقعيّة ، مع قطع النظر عن ثبوت شرع وشريعة ، نظير إدراكه استحالة اجتماع النقيضين ، أو الضدّين ، أو تقدّم المعلول على وجود العلّة وغير ذلك ، ويسمّى إدراكه بالنسبة إلى هذه الامور عقلا نظريّا.

وهذه الامور كثيرا ما تنضمّ بصغريات شرعيّة ، وبعد تماميّة الصغرى والكبرى يستكشف بها الحكم الشرعيّ ولا كلام ولا خلاف في ذلك.

وأمّا الملازمة الثانية ، أعني قاعدة كلّ ما حكم به الشرع ، حكم به العقل ، فهي صحيحة ، إن اريد من الحكم الشرعيّ ، الحكم الشرعيّ الحقيقي ، واريد من العقل هو

٥٢١

العقل المحيط على مناطات شرعيّة.

وذلك لما عليه العدليّة من ابتناء الأحكام على المصالح والمفاسد ، فكلّ ما حكم به الشرع بحكم حقيقيّ يدركه العقل المحيط بالمصالح والمفاسد ، بلا كلام.

فلا يرد عليه أنّ الأوامر الامتحانيّة ، أو الصادرة تقيّة ، كانت من الأحكام الشرعيّة ، ومع ذلك لا يحكم العقل بها فدعوى الملازمة غير تامّة ، لأنّ الأوامر الامتحانيّة والصادرة تقيّة ليست بأحكام حقيقة بل هي إمّا تورية ، أو تؤوّل إلى الأوامر المتعلّقة بالمقدّمات ، دون ذيها.

ودعوى أنّ الحكم الشرعيّ لا يكشف عن المصلحة والمفسدة إلّا إجمالا والعقل لا يمكن له الحكم بحسنه ، أو قبحه تفصيلا.

وأمّا الحكم بحسنه أو قبحه إجمالا ، بدعوى اندراجه تحت القضايا المشهورة فلا دليل له ، لأنّ المصالح والمفاسد التي هي ملازمات الأحكام الشرعية المولويّة لا يجب أن يكون من المصالح العموميّة التي يحفظ بها النظام ، ويبقى بها النوع.

كما أنّ الأحكام الشرعيّة غير منبعثة عن انفعالات طبيعيّة من رأفة ، أو ألفة ، أو غيرها. ولا ملاك للحسن والقبح العقليّين إلّا أحد الأمرين. نعم العقل يحكم بأنّ الأحكام الشرعيّة لم تنبعث إلّا عن حكم ومصالح خاصة راجعة إلى المكلّفين بها فالحكم بالعلّة لمكان إحراز المعلول ، أمر ، والحكم بالحسن والقبح العقلائيّين ، أمر أخر.

مندفعة أوّلا : بأنّ العقل يحكم بالحسن والقبح ، ولو لم يكن نظام واجتماع ، مثلا العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم ولا يتوقّف حكمه بذلك مع وجود الاجتماع وتطابق آرائهم على حسن المصالح وقبح المفاسد التي يحفظ النظام أو يختلّ بها.

بل العقل يبتهج من العدل ، ويشمئزّ من الظلم قبل الاجتماع ، وتطابق الآراء.

والوجه فيه ، أنّ الظلم نقص والعدل كمال ، وعليه فلا وجه لتخصيص التحسين ،

٥٢٢

والتقبيح العقليّين ، بموارد القضايا المشهورة المتقوّمة بوجود الاجتماع وتطابق آرائهم.

وثانيا : أنّ حكم العقلاء بالتحسين والتقبيح في موارد القضايا المشهور ينتهي إلى صفتي النقص أو الكمال ، طبقا لقاعدة كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذّات ، وإلّا لزم التسلسل ، فتحصّل أنّ العقل إذا كان محيطا على مناطات شرعيّة حكم بما حكم به الشرع لتماميّة المناطات الشرعيّة ، وعليه ففي الفرض المذكور صحّت الملازمة الثانية أعني قاعدة كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل ، فلا تغفل.

موارد النهي عن العمل بالقطع

بعد ما عرفت من إمكان ورود النهي عن العمل بالقطع فيما إذا كانت مقدّماته وأسبابه غير صحيحة ، أو عرض على المقطوع عنوان أهمّ ، آخر ، يطلب حكما غير حكم المقطوع. تصل النوبة إلى مقام الإثبات ويمكن أن يقال إنّ الروايات تنهى عن العمل بالقطع في بعض الموارد :

منها الروايات الواردة في العمل بالقياس والاستحسان ، فإنّ إطلاقها ، أو ظاهرها يشمل صورة حصول القطع أيضا ، وإليك جملة منها :

ففي الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام يقول : إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقائيس ، فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلّا بعدا ، وإنّ دين الله لا يصاب بالمقائيس (١).

وفي الكافي عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام تردّ علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنّته فننظر فيها ، قال : لا ، أما أنّك إن اصبت لم تؤجر وإن

__________________

(١) جامع الأحاديث : ١ / ٢٧٠.

٥٢٣

أخطأت كذبت على الله عزوجل (١).

وفي الكافي أيضا عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال إنّ من أبغض الخلق إلى الله عزوجل لرجلين ، رجل يكله الله إلى نفسه فهو حائر (جائر) عن قصد السبيل ... إلى أن قال : وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيّأ لها حشوا من رأيه ثمّ قطع به ، فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت ، لا يدري أصاب أو أخطأ لا يحسب العلم في شيء ممّا أنكر ولا يرى أنّ وراء ما بلغ فيه مذهبا (٢). الحديث.

وإلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على النهي عن القياس مطلقا ولو كان موجبا للقطع ، وحملها على خصوص القياس الظنّيّ ينافي إطلاقها. هذا مضافا إلى دلالة بعض الأخبار على ملاك النهي ، وهو قصور العقل عن الإصابة ، وهو يعمّ الظنّ والعلم.

على أنّ قوله عليه‌السلام إنّ أهل القياس طلبوا العلم بالمقائيس ، يشهد على أنّ المراد هو النهي عن مطلق القياس.

وهكذا إنّ تعجّب أبان بن تغلب من بيان الإمام ، أنّ دية قطع إصبع المرأة عشرة من الإبل ، ودية قطع إصبعين عشرون ، ودية قطع ثلاثة أصابع ثلاثون ، ودية قطع أربعة أصابع عشرون ، يحكي عن كونه قاطعا قبل بيان الإمام ، بحيث قال ، إنّ هذا كان يبلغنا ، ونحن بالعراق ، فنتبرّأ ممّن قاله ، ونقول إنّ الذي جاء به شيطان ، ومع ذلك نهى الإمام إيّاه عن القياس.

ودعوى أنّ الإطلاقات المذكورة معارضة مع ما دلّت عليه النصوص من لزوم اتّباع العلم ويتساقطان ، لأنّ النسبة بينهما هي العموم من وجه ، ومع التساقط لا يبقى

__________________

(١) جامع الأحاديث : ١ / ٢٧٥.

(٢) جامع الأحاديث : ١ / ٣٠٢.

٥٢٤

نهي بالنسبة إلى القطع الحاصل من القياس.

مندفعة بأنّ الأخبار الناهية عن العمل بالقياس ولو مع إفادته العلم مرجّحة ، لأنّها معلّلات ، بأنّ السنّة ، إذا قيست محقّ الدين ، وبأنّ العقول قاصرة عن الإصابة ونحو ذلك. هذا لو لم نقل بانصراف الأخبار الدالّة على لزوم اتّباع العلم عن مورد القياس المنهيّ.

ثم إنّ الأخذ بالعلل المنصوصة أو الحكم المنصوص ، أو الدلالات الظاهرة من ألفاظ الكتاب والسنّة ، خارج عن مورد القياس ، ولا تشمله النواهي الواردة في القياس ، لأنّ بناء ذلك على دلالات النصوص لا المشابهة والمقايسة.

وهكذا إلغاء الخصوصيّة ، أو إدراج القيود في الموضوع ليس بقياس ، بل هو تنقيح موضوع الدليل.

وأما تنقيح المناط فهو على قسمين : أحدهما ، مبنيّ على المشابهة والمقايسة ، فهو قياس ومشمول للمطلقات ، كما عرفت.

وثانيهما ، مبنيّ على كشف العلل الواقعيّة الشرعيّة بالعقل المحيط ، فهو ليس بقياس ، ولكنّه قليل التحقّق والوقوع ، وكيف كان لا يشمله الأدلّة الناهية عن القياس.

ومنها الروايات الواردة في النهي عن اعتناء الوسواسيّ بوسواسه ، فإنّ إطلاقها يشمل ما إذا كان قاطعا.

ففي صحيحة ابن سنان ذكرت لأبي عبد الله عليه‌السلام ، رجلا مبتلى بالوضوء والصلاة ، قلت هو رجل عاقل ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : وأيّ عقل له ، وهو يطيع الشيطان؟ فقلت له وكيف يطيع الشيطان؟ فقال عليه‌السلام : سله هذا الذي يأتيه من أيّ شيء هو ، فإنّه يقول لك من عمل الشيطان (١).

__________________

(١) الوسائل الباب ١٠ من أبواب مقدّمات العبادات ح ١.

٥٢٥

وغير ذلك من الأخبار الدالّة عن النهي ، عن العمل بالوسواس ، وإن كان قاطعا في ذلك هذا مضافا إلى عموم التعليلات الواردة في كثير الشكّ ، مع أنّه لم يبلغ حدّ الوسواس كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إذا كثر عليك السهو فامض على صلاتك فإنّه يوشك أن يدعك إنّما هو من الشيطان (١).

وصحيحة زرارة قال : يمضي على شكّه ، ثمّ قال : لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه ، فإنّ الشيطان خبيث معتاد لما عوّد ، فليمض أحدكم في الوهم ولا يكثرن نقض الصلاة ، فإنّه إذا فعل ذلك مرّات لم يعدّ إليه الشكّ (٢).

ومن المعلوم أنّ المستفاد من هذه التعليلات هي ممنوعيّة الإطاعة عن الشيطان ، وهي أمر لا يقبل التخصيص ، ومع الممنوعيّة المذكورة وإطلاقها لا يكون القطع منجّزا ولا معذّرا ، لأنّ تلك الممنوعيّة تكشف عن عروض عنوان يمنع ذلك عن فعليّتهما وأمّا قطع القطّاع ، فلم أر نصّا فيه نعم لا يحكم العقل ، أو العقلاء بعد كون القاطع قطّاعا بالتنجيز ، أو التعذير ، لموهونيّة قطعه وكشفه عندهم ، ومع الموهونيّة لا وقع لقطعه ، كما لا وقع لقطع من لم يتعلّم المقدّمات المقرّرة للعلوم والفنون ، ولم يكتسب خبرويّة عند العقلاء ، ومع ذلك حصل له القطع ، بل ينهونه عن العمل به ، خصوصا إذا كان موجبا لتضييع مال الغير أو نفسه ، فلا تغفل.

__________________

(١) الوسائل : الباب ١٦ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح ١.

(٢) الوسائل : الباب ١٦ من أبواب الخلل ح ٢.

٥٢٦

الجهة العاشرة : في العلم الإجمالي يقع الكلام في أمور :

الأمر الأوّل : في أنّ العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي في حرمة المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ المعتبر في حكم العقل بقبح المخالفة هو وصول التكليف ، والوصول كما يتحقّق بالعلم التفصيليّ فكذلك يتحقّق بالعلم الإجمالي ، وعدم تمييز مصداق المكلّف به في أطراف المعلوم بالإجمال لا ينافي وصول أصل المكلّف به ، ومع الوصول المذكور يحكم العقل بقبح المخالفة القطعيّة.

ويشهد له الوجدان ، ألا ترى أنّه لا فرق بين ما إذا عرف المكلّف خمرا بعينها وبين علمه بوجودها في أحد الكأسين في حكم العقل بقبح المخالفة ، فكما أنّ من شرب الخمر المعيّنة استحقّ العقوبة ، فكذلك من شرب الكأسين استحقّ لها ؛ لصدق المخالفة مع التكليف. فالعلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في حرمة المخالفة القطعيّة.

ودعوى اعتبار العلم التفصيلي بحرمة الشيء حين الارتكاب في استحقاق العقوبة يكذبها الوجدان.

وقياس المقام بما إذا يحصل العلم الإجمالي بعد ارتكاب الأطراف تدريجا فإنّه لا يستحقّ العقوبة قياس مع الفارق ؛ إذ لا علم تفصيلا ولا إجمالا حين الارتكاب في المقيس عليه ، بخلاف المقيس ؛ فإنّ العلم الاجمالي موجود فيه حين الارتكاب ، وهو كاف في تحقّق الوصول وحرمة المخالفة القطعيّة.

فتحصل : أنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في إفادة حرمة المخالفة القطعيّة.

الأمر الثاني : في أنّ العلم الاجمالي كالتفصيلي في وجوب الموافقة القطعيّة.

ولا يخفى عليك أنّ التكليف بعد الوصول بالعلم الاجمالى يكون منجّزا ، و

٥٢٧

مقتضى كونه منجّزا هو وجوب الامتثال والإطاعة ، والإطاعة في مثله ليست إلّا بالاحتياط والموافقة القطعية. نعم يمكن الفرق بين العلم الاجمالي والتفصيلي بأن يقال : إنّ مع شوب العلم بالإجمال والترديد في العلم الإجمالي يمكن للشارع ـ كما سيأتي ـ أن يتصرّف في حكمه بأن يرفع اليد عنه ويجعل للمكلّف فيه الترخيص ، هذا بخلاف العلم التفصيلي فإنّ معه لا موجب لرفع اليد ولا مجال للترخيص فيه. نعم لو تزاحم عنوان المقطوع بعنوان آخر يقدّم الأهمّ بحكم العقل للتزاحم كما مرّ تفصيل ذلك.

ثمّ لا فرق فيما ذكرنا بين الشبهة الحكميّة والشبهة الموضوعيّة ؛ فإنّ الاشتغال اليقيني يقتضي في كليهما الفراغ اليقيني ، فإذا علم بوجوب إكرام عالم مثلا وتردّد بين زيد وعمرو لزم الاحتياط بإكرام كلّ واحد منهما حتّى تحصل الموافقة القطعيّة بالعلم بالفراغ ، وهكذا إذا علمنا بوجوب نوع صلاة وشككنا في أنّها هل هي الجمعة أو الظهر لزم الاحتياط بإتيانهما ليحصل الموافقة القطعيّة بعد العلم بالاشتغال بنوع خاصّ من الصلاة ولكن ظاهر عبارة الشهيد الصدر قدس‌سره هو التفصيل بين الشبهة الموضوعيّة والحكميّة حيث قال : وأمّا الشبهة الحكميّة كما إذا علم بوجوب الجامع وهو الصلاة وتردّد بين الجمعة والظهر حصلت الموافقة القطعيّة في مثله بالإتيان بالجامع ، وهو يتحقّق بإتيان أحد الفردين أو الأفراد ؛ لأنّ الجامع يوجد بوجود فرده ، فتكون موافقة قطعيّة للمقدار المنجّز المعلوم. وبعبارة اخرى : أنّ المقدار المعلوم هو إضافة الوجوب إلى الجامع بين الظهر والجمعة لا الظهر بحدّها ولا الجمعة بحدّها ، فتكون إضافته إلى كلّ من الحدّين تحت تأمين القاعدة ، وأمّا إضافته إلى الجامع بينهما فتحصّل موافقته القطعيّة بإتيان أحدهما. (١)

__________________

(١) مباحث الحجج ١ / ١٦٢.

٥٢٨

ولا يخفى عليك أنّ وجوب الجامع بما هو جامع لا يقبل الترديد ، ويكون خارجا عن محلّ الكلام ؛ إذ مقتضى كون الواجب هو الجامع هو العلم التفصيلي بأنّ الجامع هو الواجب ، وحيث إنّ الجامع يصدق على كلّ واحد من أفراد الجامع ، فيجوز له الإتيان بكلّ واحد منهما ؛ لمعلوميّة كونه من مصاديقه ، والترديد إنّما يحصل فيما إذا علمنا بوجوب نوع خاصّ من الصلاة وتردّد بين الجمعة والظهر بحيث ترددنا في أنّ الواجب لنا هل هو الجمعة أو الظهر فلا إشكال حينئذ في أنّ العلم الاجمالي بذلك يقتضي الاحتياط بإتيان كلّ واحد منهما كالشبهة الموضوعيّة.

وبعبارة أخرى : المعلوم هو الواقع الخارجي ، وهو مردّد بين النوعين من الصلاة دون الجامع بينهما ، وإلّا يلزم أن يكون المعلوم بالإجمال معلوما تفصيليّا ، فلا تغفل.

الأمر الثالث : أنّ العلم الإجمالي يكون مقتضيا للمنجّزيّة والمعذّريّة ، وليس بعلّة تامّة ؛ لشوبه بالشكّ ، إذ مع الشوب بالشك يحكم العقل او العقلاء بجواز أن يمنّ الشارع ويسهل الأمر على المكلّفين ، ويجعل الجهل التفصيلي بالخطاب سببا لجواز الترخيص في ترك الموافقة القطعية أو فعل المخالفة القطعية فيما إذا كان مصلحة التسهيل أرجح بنظر الشارع من بقاء التكليف على ما هو عليه. ولا يلزم من الرفع المذكور مناقضة ولا ترخيص في المعصية ؛ لأنّ المناقضة والترخيص في المعصية فيما إذا لم يكن المعلوم بالإجمال مرفوعا ، كما لا يلزم ظلم في حقّ المولى ؛ لأنّه متفرّع على بقاء التكليف. هذا بخلاف العلم التفصيلي ؛ فإنّ الترخيص فيه مع بقاء المعلوم بالتفصيل على حاله من دون عروض الطوارئ لا يمكن بالإمكان الوقوعي ؛ لأنّه خلاف الحكمة ، بخلاف الترخيص في العلم الإجمالي ؛ فإنّ الشوب بالشكّ ربّما يقتضي الترخيص تسهيلا ، والترخيص أمر يساعده الحكمة كما لا يخفى.

وعليه فالرفع في المعلوم بالإجمال كالرفع في الشبهات البدويّة ، فكما أنّ الرفع

٥٢٩

فيها لا يوجب المناقضة بحسب الواقع ، مع أنّ الأحكام الواقعيّة مشتركة بين العالم والجاهل وصادرة من المولى وتكون فعليّة ؛ لأنّها مجعولة بداعي جعل الداعي ، فكذلك في المعلوم بالإجمال يجوز رفعه بالترخيص الشرعي ، ومع الرفع لا يلزم المناقضة ولا الترخيص في المعصية ولا الظلم من جهة المخالفة مع تكليف المولى ؛ إذ مع رفع فعليّة التكليف لا مخالفة.

هذا مضافا إلى تسلّم إمكان الترخيص ورفع اليد عن المعلوم بالإجمال في الشبهة غير المحصورة فيما إذا كانت خالية عن جميع ما يوجب المنع عن تأثير العلم الإجمالي كالعسر والحرج والاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف أو خروجه عن مورد الابتلاء ؛ فإنّ العلم الاجمالي فيها باق على حاله ، ومع ذلك لا يلزم من حكم الشرع بجواز ارتكاب بعض الأطراف أو جميعها المناقضة ولا الترخيص في المعصية ؛ لأنّ مرجع حكم الشرع بالترخيص إلى رفع المعلوم بالإجمال ، ومع الرفع لا يلزم هذه المحذورات.

والقول بسقوط العلم الإجمالي في غير المحصورة غير سديد ؛ إذ لا وجه لسقوطه بعد فرض كون الشبهة غير المحصورة خاليه عن جميع ما يوجب المنع عن التاثير كالعسر والحرج والاضطرار.

وتخصيص غير المحصورة بما إذا لزم من الاحتياط فيه عسر مخلّ بالنظام أو كان بعض أطرافها خارجا عن مورد الابتلاء وغيرهما من الموارد التي لا يبقى العلم الإجمالي فيها كما ترى ؛ إذ لا وجه للتخصيص المذكور.

وكيف كان فيصحّ أن يقال : إنّ العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرّد الاقتضاء ، لا في العلّيّة التامّة ؛ لإمكان الترخيص في العلم الإجمالي دون التفصيلي ، فالعلم الإجمالي يوجب التنجّز لو لم يمنع عنه مانع ، وأمّا مع وجود المانع فلا يوجب شيئا من دون فرق بين الموافقة القطعيّة والموافقة الاحتماليّة.

٥٣٠

وممّا ذكرناه يظهر أنّا لا ننكر أنّ الوصول الّذي هو شرط التنجيز هو الأعمّ من التفصيلي والإجمالي ، ولا نقول بتوقّف التنجيز على العلم التفصيلي ؛ إذ لا عذر مع العلم الإجمالي في مخالفة المعلوم بالإجمال ، ولكن مع ذلك نقول : يصحّ للشارع أن يمنّ على المكلّفين برفع تكليفه في المعلوم بالإجمال ؛ لشوبه مع الشك دون العلم التفصيلي ، ولا يلزم من الامتنان المذكور خلف ؛ فإنّه لا يؤوّل إلى جعل العلم التفصيلى شرطا في التنجيز حتّى يكون خلفا في كون العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في التنجيز ، بل هو رفع المنجّز امتنانا كما لا يخفى.

وينقدح ممّا ذكر ما في نهاية الدراية حيث قال : لا يعقل جعل الجهل التفصيلي عذرا عقلا ولا شرعا إلّا مع التصرّف في المعلوم ، وهو خلف. ومرجعه إلى جعل العلم التفصيلي شرطا في بلوغ الإنشاء الواقعي إلى درجة الحكم الفعليّ الحقيقي أو جعل الجهل التفصيلي مانعا عن بلوغه كذلك ، وهو في حدّ ذاته أمر معقول لا يخصّ العلم الإجمالي ، بل يمكن إجراؤه في العلم التفصيلي أيضا بأن يكون العلم التفصيلي الخاص شرطا في بلوغ الحكم إلى درجة الفعليّة ، وإلّا فالوصول الذي هو عند التحقيق شرط البعث الحقيقي هو الأعمّ من التفصيلي والإجمالي. (١)

وذلك لما عرفت من أنّ للشارع أن يمنّ على المكلّف برفع تكليفه مع تنجيزه تسهيلا عليه ، فلا يرجع ذلك إلى جعل العلم التفصيلي شرطا في التنجيز أو الجهل التفصيلي مانعا بل الشارع يرفع المنجّز أو الفعلي من باب الامتنان لمصلحة التسهيل بعد عروض الشكّ ، هذا بخلاف العلم التفصيلي ؛ فإنّ العقل لا يجوز الترخيص فيه ، لعدم عروض الشكّ ، والترخيص من دون وجود مصلحة خلاف الحكمة ولا يصدر من الحكيم المتعال.

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٣٢.

٥٣١

ودعوى الفرق بين ما نحن فيه وبين الشبهة البدويّة وغير المحصورة بأنّ المفروض تعلّق العلم الإجمالي فيما نحن فيه بتكليف فعليّ واقعي مردّد بين الأطراف ، ومعه لا يمكن منع الشارع من العلم به كما في العلم التفصيلي ، وإلّا لزم التناقض فلا يجوز الترخيص مطلقا ؛ إذ لا فرق بين الموافقة العمليّة القطعيّة والمخالفة القطعيّة في أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لهما. (١)

مندفعة بأنّ التكليف في الشبهة الغير المحصورة التي تكون خالية عن طروّ العوارض المانعة عن تأثير العلم الإجمالي أيضا فعليّ مع العلم الإجماليّ بوجوده في تلك الدائرة ، فكما أنّ رفع اليد عن فعليّته بالترخيص الشرعي لا مانع منه ، فكذلك يجوز للشارع في الدائرة المحصورة أن يرفع اليد عن فعليّة المعلوم بالإجمال.

والتفرقة بين الشبهة الغير المحصورة والمحصورة لا وجه لها ؛ فإنّ العلم بالحكم الفعلي لو كان موجبا لعدم إمكان الترخيص في موردها للزوم التناقض ، فليكن كذلك في غير المحصورة أيضا ؛ لأنّ العلم باق في الشبهة غير المحصورة عند خلوّها عن العوارض المذكورة هذا مضافا إلى إمكان دعوى قيام بناء العقلاء أيضا على جواز ارتكاب بعض الأطراف أو جميعها في الشبهات غير المحصورة ورفع اليد عن المعلوم بالإجمال حيث ذهبوا إلى عدم وجوب الاجتناب عن بعض الأطراف أو جميعا (٢) في الشبهات غير المحصورة وهو يكفي للشهادة على أنّ العلم الإجمالي يكون مقتضيا فيها لا علّة تامّة ، فإذا تصوّرنا الاقتضاء في العلم الإجمالي في مورد الشبهات الغير المحصورة أمكن تصوّر ذلك أيضا في العلم الإجمالي في مورد الشبهات المحصورة ، فكما أنّ رفع اليد عن الفعليّة يرفع التناقض في الشبهة غير المحصورة ، فكذلك يرفع التناقض

__________________

(١) تنقيح الاصول ٣ ـ ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) قال السيّد في فصل الماء المشكوك مسألة ١ وإن اشتبه النجس أو المغصوب في غير المحصورة كواحد في ألف مثلا لا يجب الاجتناب عن شيء منه.

٥٣٢

برفع اليد عن الفعليّة في المحصورة أيضا.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّا نمنع وجود البناء على رفع اليد عن فعليّة المعلوم بالإجمال في أطراف غير المحصورة ، بل هو باق على فعليّته ، ومقتضاه هو وجوب الاحتياط. نعم لا يعتني العقلاء باحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ واحد من الأطراف ؛ لكثرة الأطراف ، فكلّ طرف وإن احتمل أن يكون هو النجس أو المغصوب إلّا أنّ العقلاء لا يعتنون بهذا الاحتمال من جهة موهوميّة الاحتمال المذكور بسبب كثرة الأطراف ، كما أنّهم لا يضطربون بوصول خبر موت أحد من أفراد البلد ، مع أنّ فيها أقرباءهم وغيرهم ممّن يتعلّق بهم ؛ وليس ذلك إلّا لعدم اعتنائهم باحتمال تطبيقه مع أنّ الاحتمال موجود فيه.

ومقتضى كون هذا البناء دليلا لبّيّا هو الاقتصار على القدر المتيقّن ، وهو عدم لزوم الموافقة القطعيّة في أطراف الشبهة غير المحصورة. وأمّا ارتكاب الجميع فلا بناء عليه ، بل مقتضى العلم الإجمالي هو عدم جواز ارتكاب الجميع لو أمكن ، ولا ارتكاب مقدار معتدّ به بحيث تصير نسبته إلى البقيّة نسبة المحصور إلى المحصور.

نعم لو قلنا بأنّ العلم فيها يصير كلا علم مطلقا من جهة قيام الاطمئنان في كلّ طرف على عدم كونه مصداقا للمعلوم بالإجمال ـ حيث قام الطريق العقلائي الذي هو الاطمئنان على عدم وجود المعلوم بالإجمال في غير المحصور فيكون العلم كلا علم ـ لجاز ارتكاب الجميع.

ولكنّه ممنوع ؛ لأنّ دعوى العلم الاجمالي في غير المحصور وقيام الطريق العقلائي وهو الاطمئنان على عدم وجود العلم أو المعلوم في غير المحصور متنافيان ومتناقضان.

فالأولى هو أن يقال : إنّ الشبهة المحصورة مع غير المحصورة متساويتان في إمكان رفع اليد شرعا عن فعليّة التكليف المعلوم بالإجمال ؛ لوجود المقتضي وهو

٥٣٣

الشوب بالشكّ ووجود مصلحة التسهيل سواء كان بناء العقلاء عليه أو لم يكن والبحث في مقام الثبوت ، ومن المعلوم أنّ رفع اليد عن التكليف المعلوم بالإجمال مع الشوب بالشكّ ووجود مصلحة التسهيل ممكن وقوعا بخلاف رفع اليد عن التكليف المعلوم بالتفصيل ؛ لأنّه خلاف الحكمة ، كما عرفت.

ثمّ إنّ التناقض مرتفع برفع اليد عن فعليّة الحكم ، وعليه فلا حاجة لرفع التناقض إلى ما ذهب إليه صاحب الكفاية من اختلاف مرتبة الحكم الظاهري مع الحكم المعلوم بالإجمال كاختلاف مرتبة الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي. هذا مضافا إلى ما فيه ؛ فإنّ الجمع في الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي يمكن أن يدّعى أنّه يبتني على أنّ الحكم الواقعي ليس فعليّا من جميع الجهات مع عدم العلم به.

ولكنّ هذا الجمع لا يأتي في المعلوم بالإجمال ؛ فإنّ مع العلم الإجمالي يصير الواقع فعليّا من جميع الوجوه ، فيقع المنافاة بين المعلوم بالإجمال والحكم الظاهري. نعم مع جواز رفع فعليّة الحكم من جهة شوب الشكّ لا يبقي الحكم الواقعي على فعليّته ، فلا مناقضة بين الحكم الواقعي والترخيص الوارد فيه حتّى يحتاج إلى اختلاف المرتبة ، كما لا إذن ولا ترخيص في المعصية ؛ لأنّه بعد رفع اليد عن الحكم الفعلي لا تكون المخالفة معصية ، بل هو رفع لموضوع المعصية ، لا ترخيص في المعصية.

ثم إنّ الظاهر من مصباح الاصول هو عدم إمكان الترخيص في أطراف الشبهة المحصورة المقرونة بالعلم الإجمالي ؛ للمنافاة بينهما بحسب مقام الامتثال دون الشبهة البدويّة وغير المحصورة حيث قال : إنّ جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي ينافي الحكم الواقعي الواصل بالعلم الإجمالي في مقام الامتثال ؛ لما تقدّم من عدم الفرق في حكم العقل بلزوم الامتثال بين وصول الحكم بالعلم التفصيلي والإجمالي ، فإن كان الحكم الظاهري على خلاف الحكم الواقعيّ المعلوم بالإجمال على ما هو المفروض لزم محذور اجتماع الضدين في مقام الامتثال.

٥٣٤

بخلاف الحكم الواقعي مع الحكم الظاهري في الشبهات البدويّة ؛ فإنّه لا تنافي بينهما لا من ناحية المنتهى ولا من ناحية المبدأ ، أمّا من ناحية المنتهى فلأنّ الحكم الظاهري موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي وعدم تنجّزه لعدم وصوله إلى المكلّف ، فما لم يصل الحكم الواقعي إلى المكلف لا يحكم العقل بلزوم امتثاله ، فلا مانع من امتثال الحكم الظاهري ، وإذا وصل الحكم الواقعي إلى المكلّف وحكم العقل بلزوم امتثاله لا يبقى مجال للحكم الظاهري لارتفاع موضوعه بوصول الواقع.

وأمّا ناحية المبدأ فلأنّ المصلحة في الحكم الظاهري إنّما تكون في نفس الحكم لا في متعلّقه كما في الحكم الواقعي سواء كان الحكم الظاهري ترخيصا لمجرد التسهيل على المكلّف أو إلزاميّا لغرض آخر من الأغراض ، فلا يلزم من مخالفته للحكم الواقعي اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد.

نعم يرد النقض بالشبهة غير المحصورة ؛ لوصول الحكم الواقعي فيها أيضا بالعلم الإجمالي ، ومجرّد قلّة الأطراف وكثرتها لا يوجب الفرق في حكم العقل بلزوم الامتثال ، ولكن حيث لم يقدر المكلّف على الإتيان بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبيّة أو على ترك جميع الأطراف في الشبهة التحريميّة أو كان فيه ضرر أو حرج على المكلّف لا يكون العلم الإجمالي منجّزا ؛ إذ لا يكون امتثال الحكم الواقعي حينئذ لازما لعدم التمكّن منه أو لكونه ضررا أو حرجا ومع عدم لزوم امتثاله لا مانع من جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي. (١)

ويمكن أن يقال : أوّلا : إنّا نمنع عدم الفرق في حكم العقل بلزوم الامتثال بين وصول الحكم بالعلم التفصيلي والإجمالي ؛ لشوب العلم الإجمالي بالشكّ دون العلم التفصيلي ، وهو يوجب أن يكون التنجيز فى الحكم الإجمالى بنحو الاقتضاء دون

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٧٣ ـ ٧٤.

٥٣٥

العلم التفصيلي فإنّه بنحو العلّيّة. وعليه فلو كان الحكم الظاهري على خلاف الحكم الواقعيّ المعلوم بالإجمالي لا يلزم منه محذور اجتماع الضدّين في مقام الامتثال ؛ لأنّ مفاد الحكم الظاهري هو رفع اليد عن الحكم الفعلي الواقعيّ ، فلا يلزم منه محذور الاجتماع.

وثانيا : إنّ مفاد حديث الرفع في الحكم الظاهري هو رفع الحكم الفعلي ، ولا فرق فيه بين الشبهة البدويّة أو المقرونة بالعلم الإجمالي فكما أنّ الحكم الواقعيّ في المقرونة فعلي ، فكذلك في البدويّة ؛ لاشتراك العالم والجاهل في الأحكام الواقعية ، فلا مانع من تنظير المقرونة بالبدوية من هذه الجهة ، وإن أمكن الفرق بينهما بأنّ المقرونة واصلة ومنجّزة بخلاف البدويّة فإنّها غير واصلة ؛ لعدم كون الفرق المذكور مانعا عن جواز رفع الفعليّة ، إذ غاية مقتضى الفرق المذكور هو أنّ التكليف صار منجّزا بالوصول في المقرونة بخلاف البدويّة ولكنّهما مشتركان في كونهما فعليّة ، وحديث الرفع يرفع الفعليّة في كليهما ؛ لعدم كون العلم الإجمالي علّة تامّة ، وتنجيزه لا يمنع عن إمكان الرفع بالدليل الشرعي.

وثالثا : إنّ التكليف في الشبهة غير المحصورة أيضا فعليّ واصل بالعلم الإجمالى فيما إذا كان خاليا عن العوارض المذكورة من الخروج عن محلّ الابتلاء أو الحرج والضرر ولكنّه قابل للرفع الشرعي فالنقض وارد. ولا وجه لتخصيص الشبهة غير المحصورة بما إذا وجدت العوارض المذكورة.

فتحصّل : أنّ كل هذه الموارد من الشبهة المحصورة المقرونة بالعلم الإجمالي وغير المحصورة والبدويّة تكون مشتركة في الفعليّة وجواز رفعها بحديث الرفع ، وإن كان بينها فرق من ناحية المنجّزيّة ، ولكنّ المنجّزيّة ثابتة ما دام لم يرد الترخيص الشرعيّ ـ الظاهريّ ، وإلّا فيكون حديث الرفع حاكما بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة الفعليّة ، ومع الرفع لا يلزم المضادّة في أيّ مورد من الموارد المذكورة ، كما لا يلزم منه

٥٣٦

الترخيص في المعصية ولا الظلم ؛ إذ مع الرفع لا حق حتّى يلزم الظلم من الترخيص.

وبالجملة : أنّ ترخيص الشارع في أطراف العلم الإجمالي بحسب مقام الثبوت أمر ممكن.

ودعوى : أنّ مع الإرادة القطعيّة على الامتثال مطلقا لا يصحّ الترخيص منه قطعا كما في تهذيب الأصول كما ترى ؛ إذ الإرادة القطعيّة بالنسبة إلى الحكم العامّ على نحو ضرب القانون صحيحة ، ولكن بالنسبة إلى موارد الشك لا تنافي الترخيص ، لما عرفت.

ثم لا فرق فيما ذكرناه من إمكان الترخيص شرعا في أطراف العلم الاجمالي بين المخالفة القطعيّة والمخالفة الاحتمالية ؛ لوجود الملاك فيهما ، وهو شوب العلم بالشكّ ووجود مصلحة التسهيل فيما إذا كانت أرجح وعليه فالتفصيل بينهما بأنّ العلم الإجمالي بالنسبة إلى المخالفة الاحتماليّة بنحو الاقتضاء وبالنسبة إلى المخالفة القطعيّة بنحو العلّة التامّة ؛ بدعوى أنّ الترخيص في الأولى لا يلزم منه إلّا احتمال ثبوت المتناقضين بخلاف الترخيص في الصورة الثانية فإنّه يوجب القطع بثبوتهما في غير محلّه ؛ لما عرفت من أنّ المناقضة مع رفع المعلوم بالإجمال لا مورد لها لا في الصورة الاولى ولا في الصورة الثانية. هذا مضافا إلى أنّ احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة ، ومقتضاه هو عدم تجويز الترخيص مطلقا ، فلا وجه للتفصيل المذكور على أيّ تقدير.

نعم حيث إنّ التصرّف بيد الشارع ، فاللازم هو مراعاة مفاد الترخيص ، فإن رخّص الشارع في المخالفة الاحتماليّة لزم على المكلّف أن يأتي ببعض الأطراف قضاء للعلم الإجمالي ؛ لأنّه يقتضي الامتثال ، والمفروض أنّ الترخيص الشرعي مختصّ بالمخالفة الاحتماليّة. وإن رخّص الشارع في المخالفة القطعيّة فلا يلزم على المكلّف شيء ؛ إذ العلم الإجماليّ مع الترخيص المطلق لا يقتضي شيئا.

الأمر الرابع : أنّه بعد ما عرفت من إمكان جعل الترخيص في أطراف العلم

٥٣٧

الإجمالي يصل النوبة إلى مقام الإثبات وشمول أدلّة الاصول العمليّة لأطراف العلم الإجمالي وعدمه ، ولكنّ هذا البحث يناسب باب البراءة والاشتغال بعد الفراغ هاهنا عن أنّ تاثير العلم الإجماليّ في التنجيز بنحو الاقتضاء ، ولذلك أحيل البحث والتفصيل فيه إلى ذلك الباب إن شاء الله تعالى.

الأمر الخامس : في جواز الاكتفاء بالعلم الاجمالي في مقام الامتثال مع التمكّن من الامتثال التفصيلي ؛ ويقع الكلام في جهات :

الجهة الاولي : أنّه لا إشكال في جواز الاكتفاء بالامتثال الاجمالي في التوصّليّات ؛ لوضوح سقوط الأمر والتكليف بإتيان المأمور به كيفما اتّفق ، والمأمور به يتحقّق بالامتثال الإجمالي ، مثلا إذا علم أنّه مأمور بإعطاء شيء لزيد أو عمرو واحتاط بإعطائه لكلّ منهما حصل له العلم بالفراغ ؛ لأنّ المأمور به هو إعطاء شيء لزيد أو عمرو ، وقد امتثل ذلك بالاحتياط المذكور.

ثمّ إنّ التوصّليّات تشمل الأحكام الوضعية كالطهارة والنجاسة والعقود والإيقاعات ، ولا وجه للتعبير بإلحاقها بالتوصّليّات مع كونها منها ، فمع الاحتياط يعلم بحصول الطهارة وبوقوع المنشأ في العقود والإيقاعات لا محالة والمحكيّ عن الشيخ الانصاري قدس‌سره الإشكال في الاحتياط في العقود والإيقاعات من جهة استلزام الاحتياط للإخلال بالجزم المعتبر في الإنشاء ؛ إذ الترديد ينافي الجزم ، ولذا لا يصحّ التعليق في الإنشائيّات إجماعا.

وفيه : منع الاستلزام المذكور ؛ لإمكان أن يأتي بكلّ واحد جازما من دون تعليق وترديد في الإنشاء.

أورد عليه في مصباح الأصول بأنّ المراد بالجزم المعتبر في الإنشاء هو الجزم بالاعتبار النفسانيّ من قبل المنشئ بأن يكون جازما بالاعتبار من قبل نفسه لا متردّدا فيه ، والتعليق في الإنشاء يوجب الترديد من قبل المنشئ في اعتباره

٥٣٨

النفساني ، فإذا قال وهبتك هذا المال إن كنت ابن زيد مثلا لم يتحقّق الاعتبار منه ؛ إذ علّقه على أمر لا يدري حصوله ، فهو لا يدري أنّه تحقّق منه الاعتبار النفساني أم لا ، وهذا هو الترديد المنافي لقصد الإنشاء إجماعا.

وأمّا التردد في أنّ السبب الممضى شرعا هو هذا أو ذاك كما في موارد الاحتياط في العقود والإيقاعات فلا إشكال فيه ؛ إذ لا ترديد في الإنشاء الصادر من المنشئ ، بل هو جازم به غاية الأمر كونه متردّدا في أنّ السبب الممضى شرعا هذا أو ذاك ، فيجمع بينهما. (١)

ولا يخفى عليك أنّ البحث ليس مختصّا باحتمال دخالة قيد شرعيّ في المأمور به بخصوصه ، بل البحث أعمّ منه ، بمعنى أنّ مع احتمال قيد عرفيّ أيضا يأتي الكلام في أنّه يكفي التكرار والامتثال الإجماليّ أو يلزم الاطّلاع التفصيليّ على دخالة القيد وعدمها ثمّ الامتثال التفصيلي ، فالبحث ممحّض في أنّ الامتثال الإجمالي هل يكون كالامتثال التفصيلي مع اشتراكهما في الإتيان بالمأمور به على ما هو عليه من دون فرق أو لا يكون؟.

والحقّ : أنّه لا فرق بينهما سواء كان في الإنشائيّات أو غيرها. ودعوى اعتبار الجزم في الإنشائيّات لا تتنافى مع الاكتفاء بالإجمالي ؛ لإمكان إتيان كلّ واحد من الأطراف جازما لا معلّقا ، فتدبّر جيّدا.

الجهة الثانية : في جواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي في العباديّات ، ولا يخفى عليك أنّ الاحتياط فيها إمّا لا يستلزم التكرار كما إذا دار الامر بين الأقلّ والأكثر ، أو يستلزم ذلك كما إذا دار الأمر بين المتباينين. وفي كلّ منهما يمكن الاكتفاء بالامتثال الإجمالي ؛ لصلاحية احتمال الأمر للامتثال لو لم نقل بأنّ الامتثال بمجرّد الاحتمال

__________________

(١) (مصباح الاصول ٢ / ٧٨)

٥٣٩

أحسن من الامتثال التفصيلي. والقول بتقدّم الامتثال التفصيلي على الإجمالي ممنوع بحكم العقل ؛ لعدم الفرق.

ودعوى أنّ التكرار فيما يستلزم التكرار لعب بأمر المولى ، ومع اللعب لا يصدق الامتثال.

مندفعة أوّلا بمنع الاستلزام المذكور ؛ لإمكان أن يترتّب غرض عقلائيّ على اختيار الامتثال الإجمالي.

أورد عليه في مصباح الاصول بأنّ هذا الجواب غير واف بدفع الإشكال ؛ لأنّ اللعب إن سرى إلى نفس الامتثال لا يجدي كونه بغرض عقلاني إذ الكلام في العبادة المتوقّفة على قصد القربة ، ولا يجدي في صحّتها مطلق اشتمالها على غرض عقلائي ، بل لا بدّ من صدورها عن قصد التقرّب ، واللعب لا يوجب القرب ، فلا يصحّ التقرّب به.

ولكنّه كما ترى إذ محلّ الكلام هو ما إذا لم يوجب الامتثال الإجماليّ إخلالا في قصد القربة المعتبرة.

وثانيا : بأنّ مع تسليم اللعب لا يضرّ ذلك ؛ لأنّه في كيفيّة الامتثال أي في كيفيّة إحراز الامتثال لا في أصل الامتثال كما أنّ الصلاة في محلّ غير متعارف تجزي عن أصل الواجب وإن كان المصلّي لاعبا من جهة ضمائم الواجب كالمحلّ المزبور ، وضمّ اللعب الى الإتيان بمصداق المأمور به لا يوجب كون الواجب لعبا.

لا يقال : إنّ التكرار ينافي قصد الوجه والتمييز ؛ لإمكان منع اعتبارهما أوّلا لعدم دليل عليه ، مع أنّه ممّا يغفل عنه غالبا ، وفي مثله لزم على الشارع أن ينبّه على اعتباره ودخله في الغرض ، وإلّا لكان مخلّا بالغرض ، وهو غير واقع من الشارع الحكيم كما لا يخفى. ومنع المنافاة في قصد الوجه ثانيا ؛ لإمكان التكرار لوجوب العبادة.

هذا مضافا إلى ما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره من أنّ محلّ النزاع إنّما إذا كان الاختلاف بين الامتثالين من جهة الإجمال والتفصيل ، فالمسألة عقليّة محضة.

٥٤٠