عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

الدور كما إذا كان القطع جزء الموضوع أو تمام الموضوع بنحو الكاشفية والمصادفة أو من جهة الخلف كما إذا كان القطع تمام الموضوع بنحو الوصفيّة ، فلا يحصل من القضيّة الحقيقيّة علم بالحكم إلّا من باب الاتّفاق والجعل فيه أيضا لغو ؛ لعدم ترتّب غرض البعث عليه من البعث والزجر بعد وحدة الحكم ، كما لا يخفى.

فإذا عرفت عدم إمكان تقيّد موضوع الأحكام بالعلم ، فلا تقييد لموضوع الأحكام بالقطع لاستحالته ، كما لا تقييد له بالجهل. وعليه فذات الموضوع لعدم تقيّدها بحال من الأحوال تكون مطلقة ومنحفظة في جميع الحالات بالبرهان ، لا بمقدّمات الإطلاق ، فإنّها جارية فيما إذا أمكن التقييد ، فمع عدم إمكان ذلك لا مجال للمقدّمات.

ثمّ إنّ لزوم الدور لا يختصّ بالتقييد ، بل هو كذلك إذا قلنا بنتيجة التقييد ؛ إذ حاصل التقييد أو نتيجته هو اختصاص الحكم بالعالم بالحكم. ومعناه توقّف الحكم ، على العلم بالحكم مع أنّ العلم بالحكم متوقّف على وجود الحكم ، وهو دور

وممّا ذكر يظهر ما في فوائد الاصول حيث قال : يمكن أن يكون العلم بالنسبة إلى نفس ذلك الحكم موضوعا بنتيجة التقييد وإن لم يمكن بنحو التقييد.

وتقريب ذلك ـ كما في فوائد الاصول ـ : أنّ العلم بالحكم لمّا كان من الانقسامات اللاحقة للحكم فلا يمكن فيه الإطلاق والتقييد اللحاظي ؛ لاستلزامه الدور ، كما هو الشأن في الانقسامات اللاحقة للمتعلّق باعتبار تعلّق الحكم به كقصد التعبّد والتقرّب في العبادات ، فإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق أيضا ، لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، ولكنّ الإهمال الثبوتي أيضا لا يعقل ، بل لا بدّ إمّا من نتيجة الإطلاق أو من نتيجة التقييد ، فإنّ الملاك الذي اقتضى تشريع الحكم إمّا أن يكون محفوظا في كلتي حالتي الجهل والعلم فلا بدّ من نتيجة الإطلاق ، وإمّا أن يكون محفوظا في حالة العلم فقط فلا بدّ من نتيجة التقييد ، وحيث لم يمكن أن يكون

٤٦١

الجعل الأوّلي متكفّلا لبيان ذلك ، فلا بدّ من جعل آخر يستفاد منه نتيجة الإطلاق أو التقييد ، وهو المصطلح عليه بمتمّم الجعل.

فاستكشاف كلّ من نتيجة الإطلاق والتقييد يكون من دليل آخر ، وقد ادّعى تواتر الأدلّة على اشتراك الأحكام في حق العالم والجاهل ، ولكن تلك الأدلّة قابلة للتّخصيص ، وقد خصّصت في غير مورد كما في مورد الجهر والإخفات والقصر والاتمام حيث قام الدليل على اختصاص الحكم في حقّ العالم ، فقد أخذ العلم شرطا في ثبوت الحكم واقعا ، وكما يصحّ أخذ العلم بالحكم شرطا في ثبوت الحكم كذلك يصحّ أخذ العلم بالحكم من وجه خاص وسبب خاص مانعا عن ثبوت الحكم واقعا بحيث لا حكم مع العلم به من ذلك السبب ، كما في باب القياس حيث إنّه قام الدليل على أنّه لا عبرة بالعلم بالحكم الحاصل من طريق القياس ... إلى أن قال : وبعد الالتفات إلى هذا التصرّف لا يمكن أن يحصل للمكلّف علم بالحكم من طريق القياس ؛ إذ الحكم الواقعي قيّد بغير ما أدّى إليه القياس ، فكيف يمكن أن يحصل له العلم بالواقع من ذلك الطريق؟! ... إلى أن قال : وبذلك يمكن أن توجّه مقالة الاخباريّين من أنّه لا عبرة بالعلم الحاصل من غير الكتاب والسنّة بأن يقال : إنّ الأحكام الواقعيّة قيّدت بنتيجة التقييد بما إذا أدّى إليها الكتاب والسنّة ، ولا عبرة بغير ذلك ، فلا يرد عليهم أنّ ذلك غير معقول ، بل شيخنا الاستاذ مدّ ظله نفى البعد عن كون الأحكام مقيّدة بما إذا لم يكن المؤدّي إليها مثل الجفر والرمل والمنام وغير ذلك من الطرق الغير المتعارفة ... إلى أن قال : فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ العلم إذا تعلّق بموضوع خارجيّ فالعلم بالنسبة إلى ذلك الموضوع يكون طريقا محضا ، وبالنسبة إلى أحكام ذلك الموضوع يمكن أن يكون طريقا ويمكن أن يكون موضوعا ، وإذا تعلّق بحكم شرعيّ فيمكن أن يكون بالنسبة إلى حكم آخر موضوعا كما أنّه يمكن أن يكون موضوعا بالنسبة إلى نفس ذلك الحكم لكن بنتيجة التقييد ، فتأمّل في أطراف ما

٤٦٢

ذكرناه حتّى لا تبادر بالإشكال (١).

أورد عليه سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بما حاصله :

أوّلا : أنّ الانقسامات اللاحقة على ضربين : أحدهما ما لا يمكن تقييد الأدلّة به ، بل ولا يمكن فيه نتيجة التقييد ، مثل أخذ القطع موضوعا بالنسبة إلى نفس الحكم ، فإنّه غير معقول لا بالتقييد اللحاظي ولا بنتيجة التقييد ؛ فإنّ حاصل التقييد ونتيجته أنّ الحكم مختصّ بالعالم بالحكم ، وهذا دور.

وحاصله توقّف الحكم على العلم به ، وهو متوقّف على وجود الحكم ، وهذا الامتناع لا يرتفع لا بالتقييد اللحاظي ولا بنتيجة التقييد.

وثانيا : أنّ امتناع التقييد في هذا المورد من موارد قصور المتعلّق وعدم قابليّته للتقييد من جهة الأمر الخارجي وهو لزوم الدور لا يلازم امتناع الإطلاق ؛ إذ المحذور مختصّ بالتقييد ، ولا يجري في الإطلاق ؛ فإنّ المفروض أنّ وجه الامتناع لزوم الدور عند التقييد أي تخصيص الأحكام بالعاملين بها ، وأمّا الاطلاق فليس فيه أيّ محذور من الدور وغيره ، فلا بأس حينئذ فى الإطلاق وإن كان التقييد ممتنعا لأجل محذور خارجيّ ، لا لعدم الإمكان الذاتيّ كتقييد زيد بفرد دون فرد فإنّ الإطلاق فيه أيضا غير ممكن ؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

والشاهد على صحة الإطلاق ووجوده هو جواز تصريح المولى بأنّ الخمر حرام شربه على العالم والجاهل وصلاة الجمعة واجبة عليهما بلا محذور بل التحقيق أنّ الإطلاق في المقام لازم ولو لم تتمّ مقدّماته ؛ لأنّ الاختصاص بالعالمين بالحكم مستلزم للمحال ، والاختصاص بالجهّال وخروج العالمين به خلاف الضرورة ، فلا محيص عن الاشتراك والإطلاق ، فلا إهمال في الواقع ، كما لا يخفى.

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٥ ـ ٦.

٤٦٣

نعم هذا غير الإطلاق الذي يحتاج إلى المقدّمات ويكون بعد تمامها حجّة ؛ لأنّ هذا الاطلاق مستفاد من البرهان لا المقدّمات ، وهو ما عرفت من استلزام المحال لو اختصّ بالعالمين ، وخلاف الضرورة لو اختصّ بالجهّال ، وعدم معقوليّة الإهمال.

وثالثا : أنّ عدم الإعادة فيما لو خافت في موضع الجهر أو جهر في موضع المخافتة أو أتمّ في موضع القصر أو قصّر في موضع التمام لا يتوقّف على الالتزام بما ذكره من الاختصاص ، بل يحتمل أن يكون عدم الإعادة من باب التقبّل والتخفيف أو من باب عدم قابليّة المحلّ للقضاء والإعادة بعد الإتيان بما كان خلاف الوظيفة ، وله نظائر في التكوين.

ورابعا : أنّ توصيف الإطلاق والتقييد باللحاظي مع القول بأنّ تقابلهما تقابل العدم والملكة جمع بين أمرين متنافيين ؛ لأنّ الإطلاق على هذا متقوّم باللحاظ كالتقييد ، واللحاظان أمران وجوديّان لا يجتمعان في مورد واحد فيصير التقابل بينهما تقابل التضادّ لا العدم والملكة.

نعم لو قلنا بما أوضحناه في محلّه من عدم تقوّم الإطلاق باللحاظ وأنّه لا يحتاج إلى لحاظ السريان بل هو متقوّم بعدم لحاظ شيء في موضوع الحكم مع كون المتكلّم في مقام البيان

يرد عليه إشكال آخر : وهو أنّ امتناع الإطلاق حينئذ ممنوع ، فيصير ما ادّعاه من أنّه كلّما امتنع التقييد امتنع الإطلاق قولا بلا برهان. والحقّ أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة أو شبه ذلك التقابل ، لكن لا يترتّب عليه ما رتّبه من إنكار مطلق الإطلاق في الأدلّة الشرعيّة حتّى احتاج إلى دعوى الإجماع والضرورة ؛ لاشتراك التكليف بين العالم والجاهل. (١)

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٢٨ ـ ٣١.

٤٦٤

وخامسا : أنّ العلم الحاصل من القياس ومنع العمل به ليس لأجل أنّه مانع عن ثبوت الأحكام به بل لأجل قصور عقول البشر عن الاطّلاع على الأحكام الواقعيّة وكذلك الاستحسانات ولذا ورد في بعض الأخبار أنّه قال لأبي حنيفة «أتزعم أنّك تقيس قال : نعم فقال عليه‌السلام : البول أشدّ نجاسة أو المنيّ؟ قال : البول. فقال عليه‌السلام : فلم لا يوجب البول الغسل ويوجبه المنيّ (١).

وأمّا ما ذكره من تقييد العلم بعدم حصوله من الرمل والجفر ونحوهما ففيه أنّ العلم طريق إلى الواقع وحجّة مطلقا من أيّ سبب حصل (٢).

يمكن أن يقال إنّ حجّيّة القطع وحكم العقل بقبح مخالفة التكاليف المقطوع ما دام لم يعرض على المقطوع عنوان آخر يخرجه عن مصداقيّة الظلم وإلّا فعروض العنوان المذكور يوجب تعنون المخالف بعنوان آخر أهمّ كالاحتراز عن الوسوسة أو الاجتناب عن القياس فيحكم العقل حينئذ بعدم الحجّيّة وعدم المعذوريّة لو أتى بموافق المقطوع (٣).

وأمّا الثاني أي أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم المماثل فقد صرّح في الكفاية بأنّ ذلك لا يمكن ؛ للزوم اجتماع المثلين (٤).

وتقريب امتناع اجتماع المثلين ـ فيما إذا قيل إن قطعت بحرمة الخمر حرمت عليك بحرمة أخرى ـ بأن يقال اجتماعهما في موضوع واحد إمّا بالتزام تعدّدهما أو بالتزام تأكّدهما ، وكلاهما مستحيل.

أمّا استحالة الأوّل ؛ فلأنّ الأحكام كالأعراض بلحاظ موضوعاتها ، فكما أنّ

__________________

(١) الوسائل : الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٧.

(٢) تنقيح الاصول : ٣ / ٤٣.

(٣) راجع الجهة الثالثة من الجهات السابقة.

(٤) الكفاية ٢ : ٢٥.

٤٦٥

اجتماع الأعراض في الموضوع الواحد مستحيل ، فكذلك اجتماع الأحكام المنزّلة منزلتها.

وأمّا استحالة الثاني ؛ فلما في نهاية الدراية من أنّ التحريك التنزيلي المنتزع عن الإنشاء بداعي جعل الداعي وإن كان يصحّ اعتبار الشدّة والضعف فيه كما في التحريك الخارجي ، لكن لا بنحو الحركة والاشتداد ؛ بداهة أنّ الإنشاءين الصادرين لجعل الداعي ليس بينهما اتّصال في الوجود الوحداني كي يجري فيهما الحركة والاشتداد ، وإن كان يختلف حمل الطبيعة على أفراد التحريك التنزيليّ بالشدّة والضعف ، فيقال : إنّ وجوب الصلاة أشدّ وأقوى من وجوب غيرها ، ولو فرض فيما نحن فيه تأكّد الداعي وتأكّد الإرادة وصدور التحريك المنزّل منزلة التحريك الشديد وسقوط الإنشاء السابق عن كونه محرّكا كان خلفا ، وإلّا لكان من اجتماع المثلين

وأمّا دعوى : انتزاع البعث الأكيد عقلا من مجموع الإنشاءين ، فلا يلزم الخلف ولا اجتماع المثلين فهي : غير صحيحة ؛ لأنّ خارجيّة الأمر الانتزاعي بخارجيّة منشإ انتزاعه ، ومجموع الإنشاءين واحد بالاعتبار لا بالحقيقة ، فلا منشأ انتزاع للبعث الأكيد حقيقة حتّى يتحقّق البعث الأكيد انتزاعا ، وانتزاع معنى من منشئه ليس جزافا بل لاقتضاء المنشأ ، فكأنّ المعنى الانتزاعي موجود بالقوّة ومنشأه موجود بالفعل ، ونحو وجود الأمر الانتزاعي نحو وجود المقبول بوجود القابل خارجا وفعليّته بحيث يكون له نحو وجود يختصّ به بفعليّة الاعتبار والانتزاع. وبهذه الملاحظة يكون من الاعتباريّات ، لا من الواقعيّات ، والمفروض أنّ المنشأ ليس إلّا الإنشاء بداعي جعل الداعي فقط ، وحيث لا منشأ حقيقة لانتزاع البعث الأكيد ، فلا هو موجود بوجوده ، و

٤٦٦

لا يعقل انتزاع ما لا منشأ له ، فتدبّر جيّدا (١).

ويمكن الجواب عن الأوّل بأنّا لا نسلّم كون الأحكام كالأعراض ؛ فإنّ الأعراض من الواقعيّات والأحكام من الاعتباريّات. فإن كان الكلام بلحاظ عالم الجعل فلا يلزم محذور اجتماع المثلين بعد كونهما من الاعتباريّات ، وهي خفيفة المئونة ويعتبرها العقلاء عند وجود المصحّح لذلك. وإن كان الكلام بحسب مبادئ الحكم من الإرادة والكراهة ففيه أنّ تعدد المصلحة لا يوجب تعدّد الإرادة المستقلّة في الداعويّة ، بل يصير منشأ لحصول إرادة أكيدة ، والإرادة الأكيدة توجب إنشاء البعث المؤكّد أو توجب الإنشاءين اللذين يفيدان تأكّد البعث. وإن كان الكلام بحسب المنتهى أعني مقام الامتثال امتنع تحقّق داعيين مستقلّين نحو فعل واحد لعدم قابليّة المحلّ ، بل يؤول الخطابان إلى تأكّد الداعي والحكم ، كما يشهد له تأكّد الداعي والحكم في مجمع العنوانين كقولهم أكرم العالم وأكرم الهاشمي ، ولذا لم يقل أحد في المجمع بلزوم الإكرامين ، ولم يذهب أحد إلى خروج المورد عن كلا الحكمين ؛ لاستلزام اجتماع المثلين

ودعوى استحالة توحّد الحكمين الطوليين وتأكّدهما ؛ لأنّ ذلك يوجب تأخّر المتقدّم وتقدّم المتأخّر بحسب عالم الرتبة ، وهو مستحيل

مندفعة بما أفاد في مباحث الحجج والاصول من أنّ التأخّر والتقدّم بين الحكمين في المقام من التقدّم والتأخّر بالطبع لا بالعلّيّة ؛ لوضوح أنّ الحكم الأوّل ليس علّة للحكم الثاني ، وتوحّد المتأخّر بالطبع مع المتقدّم بالطبع لا محذور فيه ، كما هو الحال في الجزء والكلّ والجنس والنوع (٢).

وممّا ذكر يظهر أنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون القطع تمام الموضوع أو جزء

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) مباحث الحجج والاصول ١ : ١٠١.

٤٦٧

الموضوع بعد رجوع تعدّد الإرادتين إلى الإرادة الأكيدة والحكمين إلى تأكّد الحكم والداعي.

وعليه فما حكي عن سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره من التفصيل المذكور منظور فيه ، حيث قال ـ على ما هو المحكيّ ـ : والحقّ هو التفصيل بين ما إذا كان القطع تمام الموضوع فاجتماع المثلين أو الضدّين ممكن ؛ لأنّ موضوع حكم المتعلّق هو عنوان الخمر أو الصلاة وموضوع الحكم المماثل أو المضادّ هو القطع بهما ، وهما عنوانان متغايران ، لكن بينهما عموم من وجه ، ولا يستلزم ذلك اجتماع المثلين أو الضدّين في موضوع واحد ؛ لتعدّد العنوانين في عالم العنوانيّة. وأمّا في الخارج فهما وإن تصادقا في مورد الاجتماع ، لكنّ الخارج ليس متعلّقا للحكم كما تقدّم بيانه في باب اجتماع الأمر والنهي.

وبين ما إذا كان القطع جزء الموضوع فالحق هو عدم الإمكان ، فإنّه لا يمكن حرمة طبيعة الخمر وحرمة الطبيعة المقيّدة بالقطع بها أو حلّيتها ؛ لأنّ المقيّد عين المطلق بزيادة فيه إليها ، وليس عنوانين متغايرين على وجه الطريقية (١).

وذلك لما عرفت من إمكان التأكّد في الصورتين ، وفي مورد الاجتماع يؤول الخطابان إلى التأكّد في الحكم سواء كان القطع تمام الموضوع أو جزء الموضوع ؛ لأنّ الملاك في مورد الاجتماع أقوى منه في مورد الافتراق.

ويمكن الجواب عن الثاني بأنّ التأكيد حاصل من تصادق العنوانين على مورد الاجتماع سواء كان من قبيل العموم من وجه أو العموم المطلق وتوجّه الطلبين إلى مورد الاجتماع يوجب تأكّد الحكم والطلب ، ولا يلزم فى التأكّد إمكان الحركة والاشتداد ، بل يكفيه تراكم الطلب ، بل لا يلزم في التأكّد شدّة الطلب ، بل تعدّد الطلبين

__________________

(١) تنقيح الاصول ٣ : ٣٩.

٤٦٨

يفيد في مورد الاجتماع تأكّد الطلب وهو يوجب تأكّد الداعي ، كما هو كاشف عن تأكّد الإرادة.

فتحصّل : أنّ اجتماع المثلين مع التزام التأكّد في المبدأ أو المنتهى لا يكون مستحيلا ، وإنّما المستحيل هو التزام التعدّد بنحو الاستقلال.

وأمّا ما أفاده المحقّق الأصفهاني من عدم إمكان انتزاع البعث المؤكّد من مجموع الإنشاءين. فهو منقوض باستفادة ذلك من اجتماع أكرم العالم وأكرم الهاشمي في مورد الاجتماع ، إذ لم يقل أحد بأنّ اللازم في مثله هو الإكرامان لعدم جواز اجتماع المثلين ، كما لم يقل أحد بخروج مورد الاجتماع عنهما ، بل ذهبوا إلى أنّ البعث صار أكيدا بسبب كون المورد مجمع العنوانين ولعلّ تحليل ذلك بأنّ الإرادة إذا كانت مؤكّدة من جهة تعدّد المصالح ، فالآمر إمّا بعث بالبعث المشدّد من أوّل الأمر وإمّا بعث بالبعثين وهو كاشف عن تأكيد الإرادة وأنّ البعثين يقومان مقام البعث المؤكّد وكأنّه بعث من أوّل الأمر بالبعث المشدّد تبعا لشدّة الإرادة وتأكّدها.

وعليه فلا حاجة في استفادة البعث المؤكّد إلى منشأ الانتزاع خارجا حتّى يقال لا منشأ حقيقة بحسب الإنشاء بل هو مستفاد من تعدّد البعث ؛ لكشفه عن تأكّد الإرادة ، وتأكّد الإرادة يكفي لإفادة كون البعثين بمنزلة البعث المشدّد.

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره ـ على ما حكي عنه ـ : وأمّا أخذ القطع بحكم في موضوع حكم آخر مثله كما إذا قال المولى إن قطعت بوجوب الصلاة تجب عليك الصلاة بوجوب آخر فالصحيح إمكانه ، ويرجع إلى التأكّد ؛ وذلك لأنّ الحكمين إذا كان بين موضوعيهما عموم من وجه كان ملاك الحكم في مورد الاجتماع أقوى منه في مورد الافتراق ويوجب التأكّد ولا يلزم اجتماع المثلين أصلا ؛ لتعدّد موضوع الحكمين في مقام الجعل ، وكذا الحال لو كانت النسبة بين الموضوعين هي العموم المطلق ، فيكون الحكم في مورد الاجتماع آكد منه في مورد الافتراق كما إذا تعلّق النذر بواجب

٤٦٩

مثلا فإنّه موجب للتأكّد لا اجتماع المثلين.

والمقام من هذا القبيل بلحاظ الموضوعين ، فإنّ النسبة بين الصلاة بما هي والصلاة بما هي مقطوعة الوجوب هى العموم المطلق ، فيكون الحكم في مورد الاجتماع آكد منه في مورد الافتراق. ومن قبيل العموم من وجه بلحاظ الوجوب والقطع به ؛ إذ قد لا يتعلّق القطع بوجوب الصلاة مع كونها واجبة في الواقع ، والقطع المتعلّق بوجوبها قد يكون مخالفا للواقع ، وقد يجتمع وجوب الصلاة واقعا مع تعلّق القطع به ، ويكون الملاك فيه أقوى ، فيكون الوجوب بنحو آكد. (١)

فتحصّل : أنّ أخذ القطع بالحكم في موضوع حكم آخر مثله بنحو التأكيد لا مانع منه لا في مقام الجعل ولا في المبدأ ولا في المنتهى ، فلا تغفل.

وأمّا الثالث وهو أخذ القطع بالحكم في موضوع ضدّه ، كما إذا قال المولى إن قطعت بوجوب الصلاة تحرم عليك الصلاة فقد ذهب في مصباح الاصول إلى استحالته بدعوى أنّ لازمه هو اجتماع الضدّين ؛ إذ الحرمة وإن تعلّقت بالصلاة بما هي مقطوعة الوجوب في مفروض المثال ، إلّا أنّ الوجوب قد تعلّق بها بما هي ، وإطلاقه يشمل ما لو تعلّق القطع بوجوبها ، فلزم اجتماع الضدّين ؛ فإنّ مقتضى إطلاق الوجوب كون الصلاة واجبة ولو حين تعلّق القطع بوجوبها والقطع طريق محض ، ومقتضى كون القطع بالوجوب مأخوذا في موضوع الحرمة كون الصلاة حراما في هذا الحين ، وهذا هو اجتماع الضدّين (٢).

أورد عليه بأنّ الأحكام من الاعتباريّات لا الواقعيّات ، فاجتماع الحكمين المتضادّين في الاعتباريّات لا استحالة فيه ، وقياسها بالأعراض ليس في محلّه ؛ لأنّ

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ٤٥.

٤٧٠

الأعراض من الواقعيّات.

وعليه فاجتماع الضدّين في الأحكام لا استحالة فيه ذاتا ، وإنّما الإشكال في مقام الإثبات ؛ فإنّ جعل الضدّين في الأحكام لا داعي له عند العقلاء ، بل هو نقض للغرض هذا مضافا إلى دعوى استحالة ذلك بالنسبة إلى المبدأ ؛ إذ لا يمكن اجتماع الإرادة والكراهة في موضوع واحد ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الموضوع ليس بواحد فيما إذا كان القطع تمام الموضوع ؛ فإنّ موضوع حكم المتعلّق هو عنوان الخمر أو الصلاة وموضوع الحكم المضادّ هو القطع بهما ، وهما عنوانان متغايران.

ولكنّه أيضا مستحيل لما في مباحث الحجج والاصول من أنّه جعل حكم رادع عن طريقيّة القطع وكاشفيّته ، وقد تقدم أنّه لا يعقل لا على أن يكون حكما ظاهريا لعدم معقوليّة ملاكه في مورد القطع ، ولا واقعيّا للزوم التضادّ ونقض الغرض. (١)

كما يستحيل ذلك بالنسبة إلى المنتهى ، أعني مقام الامتثال لما في منتقى الاصول : من أنّه يمتنع امتثال الحكم الزاجر الباعث في عرض واحد ؛ لامتناع تحقّق الانزجار والانبعاث في آن واحد ... إلى أن قال : وعليه فأخذ القطع بالحكم موضوعا لحكم مضادّ لمتعلّقه ممتنع. (٢) فتأمّل.

فتحصّل : أنّ أخذ القطع بالحكم موضوعا لحكم مضادّ وإن لم يكن بحسب مقام الجعل ممتنعا ، إلّا أنّه ممتنع بحسب مقام المبدأ والمنتهى ، فافهم.

وأمّا الرابع وهو أخذ القطع بحكم في موضوع حكم مخالف له كما إذا قيل : إن قطعت بوجوب الصلاة يجب عليك الصوم مثلا فلا إشكال في إمكانه ، كما لا يخفى.

__________________

(١) مباحث الحجج والاصول ١ : ٩٩.

(٢) منتقى الاصول ٤ : ٩٢.

٤٧١

ثم لا يخفى عليك أنّ الظاهر من الكفاية هو صحّة أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة اخرى من نفس الحكم أو من مثله أو ضدّه ، ويجوز حينئذ أخذ القطع بحكم إنشائيّ محض في موضوع حكم فعليّ من دون فرق بين أن يكون الحكم الفعلي هو نفس الحكم الإنشائيّ الواصل إلى مرتبة الفعلية أو يكون مثله أو ضدّه أو مخالفه.

وقد مرّ الكلام في مراتب الحكم في الجهة الثالثة من هذه الرسالة ، وقلنا بأنّ مرتبة الاقتضاء ليست من مراتب الأحكام ؛ لأنّها ممّا يقتضي الحكم ، وليس بحكم ، ومرتبة التنجيز ليست من مراتب الحكم ؛ لأنّ الحكم لا يتغيّر ولا يتبدّل بتعلّق العلم. نعم صحّة العقوبة مترتّبة على العلم.

فانحصرت مراتب الحكم : في الإنشاء لأن يعمل به بعد تحقّق موضوعه في الآتي ، وهو الفعليّ من قبل المولى ، وهو الإنشاء بداعى جعل الداعي بنحو القضيّة الحقيقيّة ، وفي الفعلي وهو الإنشاء بداعي جعل الداعي مع تحقّق موضوعه. والعلم به قبل تحقّق موضوعه لا يوجب الفعليّة ، بل هو علم بالحكم الإنشائي ، والعلم به بعد تحقّق موضوعه لا ينفكّ عن الفعليّة. وعلى كلا التقديرين لا يصحّ جعل العلم بالحكم الإنشائي موضوعا لمرتبة الفعليّة من نفس الحكم ، مثلا العلم بقوله عزوجل (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قبل تحقّق الاستطاعة علم بالحكم الإنشائي ، ولا يصلح لأن يترتب عليه الحكم ، وإلّا لزم الخلف في اعتبار الاستطاعة كما لا يخفى ، وبعد تحقّق الاستطاعة علم بالحكم الفعلي. والعلم في الصورة الأولى لا يوجب فعليّة الحكم بعد ما فرض من عدم تحقّق الاستطاعة. والعلم في الصورة الثانية لا ينفكّ عن الفعلية.

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية على مختاره أيضا ؛ فإنّ العلم بالحكم الاقتضائي لا يوجب الفعليّة ، بل هو علم بالحكم الاقتضائي ، والعلم بالحكم الإنشائي قبل تحقّق موضوعه أيضا لا يوجب فعليّة الحكم وإلّا لزم الخلف في اعتبار الموضوع ، وبعد

٤٧٢

تحقّق الموضوع لا ينفكّ عن الفعليّة ، فلا يصحّ جعل العلم بمرتبة من الحكم موضوعا لمرتبة اخرى من نفس الحكم سواء قلنا بالمراتب أو لم نقل.

نعم يجوز أن يجعل الشارع العلم بمرتبة من الحكم موضوعا للحكم الفعلي المماثل أو المضادّ أو المخالف ، فإنّه تابع لجعل الشارع كما لا يخفى.

والعجب ممّا في مصباح الاصول حيث قال : ما ذكره صاحب الكفاية صحيح على مسلكه من أنّ للحكم مراتب أربع الاقتضاء والإنشاء والفعليّة والتنجّز ؛ إذ لا محذور في أخذ القطع بحكم إنشائي محض في موضوع حكم فعلي ، بلا فرق بين أن يكون الحكم الفعلي هو نفس الحكم الإنشائي الواصل إلى مرتبة الفعليّة أو يكون مثله أو ضدّه ، ولا يتصوّر مانع من أن يقول المولى : إذا قطعت بأنّ الشيء الفلاني واجب بالوجوب الإنشائيّ المحض وجب عليك ذلك الشيء فعلا أو حرم عليك فعلا (١).

لما عرفت من أنّ الموضوع إن لم يتحقّق في المقطوع الإنشائي لا يترتّب عليه نفس الحكم ، وإلّا لزم الخلف في اعتبار الموضوع ، وإن تحقّق الموضوع لا ينفكّ العلم به عن الفعليّة ، فلا حاجة إلى ترتّب الفعليّة عليه ، فلا تغفل.

والمثال المذكور أيضا كذلك ، فإنّ الشيء الفلاني يجب على من يكون كذا وكذا ، والعلم بالحكم الإنشائي إمّا قبل أن يكون كذا وكذا أو بعده فيجئ فيه الكلام المذكور كما لا يخفى.

فتحصّل : أنّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة اخرى من نفسه غير معقول ، وأمّا أخذ مرتبة من الحكم في مثله أو ضدّه ممكن ؛ لإمكان أن يكون الإنشاء بداعي جعل الداعي المقطوع به منوطا شرعا بأمر هو غير حاصل ، ولذلك لم يبلغ إلى مرتبة الفعليّة ، ولذا يجتمع مع الحكم الفعلي المماثل أو المضادّ له فعلا ، فإنّ

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٤٦.

٤٧٣

المفروض أنّ مجرّد القطع بالإنشاء المزبور سبب تامّ لأحدهما شرعا فلا يلزم من ترتّب المماثل أو المضادّ اجتماع المثلين أو اجتماع الضدّين لا في الجعل ولا في المبدأ ولا في المنتهى. (١)

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٢٤.

٤٧٤

الخلاصة :

الجهة السادسة : في إمكان أخذ القطع في موضوع نفسه ، أو مثله ، أو ضدّه أو مخالفه وعدمه.

أمّا الأوّل فقد يقال إنّه لا يكاد يمكن للزوم الدور ، إذ القطع المتعلّق بحكم يكون طريقا إليه ، ومعنى كونه طريقا إلى الحكم هو فعليّة الحكم مع قطع النظر عن تعلّق القطع به ، ومعنى كون القطع مأخوذا في موضوع نفسه هو عدم كون الحكم فعليّا إلّا بعد تعلّق القطع به ، إذ فعليّة الحكم تابعة لفعليّة موضوعه ، فيلزم توقّف فعليّة الحكم على القطع به مع أنّ شأن طريقيّة القطع يقتضي فعليّة الحكم في رتبة سابقة عليه ، وهذا هو الدور.

اورد عليه بأنّ الدور لازم لو كان القطع مأخوذا لحكم نفسه على نحو الجزئيّة ، بمعنى أنّ القطع مع نفس الواقع أعني الحكم الشرعيّ الخارجي موضوع لحكم نفسه ، فالقطع حينئذ يتوقّف على وجود الحكم ، ولو توقّف الحكم على القطع لزم الدور.

هذا بخلاف ما إذا كان القطع تمام الموضوع لحكم نفسه فإنّه لا يلزم الدور ، لأنّ ما هو الموضوع هو القطع ، سواء طابق للواقع أو لم يطابق. لأنّ الإصابة وعدمها خارجتان من وجود الموضوع ، وعليه فلا يتوقّف حصول القطع على الواقع ، المقطوع به. وإن توقف على المقطوع بالذات أعني الصورة الذهنيّة من الحكم. وأمّا المقطوع بالعرض الذي هو مقطوع به في الخارج فلا يتوقّف القطع على وجوده فلا يلزم الدور.

وبالجملة أنّ التوقّف من طرف واحد ، إذ الحكم متوقّف على القطع بالحكم ، ولكن القطع بالحكم لا يتوقّف على الحكم الخارجي ، ومن المعلوم أنّ التوقف من

٤٧٥

طرف واحد لا يلزم الدور.

وأجيب عنه بأنّ الدور وإن سلّم انتفائه فيما إذا كان القطع تمام الموضوع ، ولكن مع ذلك يلزم من أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه الخلف ، وهو محال ، لأنّ فرض تعليق وجوب طبيعيّ الصلاة ، على العلم بوجوب طبيعيّ الصلاة مثلا يساوي فرض عدم الوجوب لطبيعيّ الصلاة وفرض نفس القيد وهو العلم بوجوب الصلاة هو فرض تعلّق الوجوب لطبيعيّ الصلاة ومن المعلوم أنّ فرض تعلق الوجوب لطبيعيّ الصلاة خلف في فرض عدم الوجوب لطبيعي الصلاة عند تعليق وجوب الطبيعيّ من الصلاة على العلم بوجوبه.

وعليه فجعل الوجوب على المعلوم الوجوب بنحو القضيّة الحقيقيّة حتّى يصير الحكم فعليّا بفعليّة موضوعه يستلزم الخلف.

وجعل الوجوب واقعا على طبق ما اعتقده القاطع من الوجوب ، من باب الاتّفاق ، لا بنحو القضيّة الحقيقيّة ، بحيث لا يكون وجوب واقعا قبل حصول القطع به ، فلا يلزم منه محذور الخلف.

ولكنّه يشكل مضافا إلى كونه ممّا يشبه بالتصويب ، وهو خلاف المذهب من جهة أنّ جعل الحكم بعثا وزجرا لجعل الداعي ، ومع فرض علم المكلّف بالحكم لا يفيد الجعل أثرا في ذلك وهو لغو.

فتحصّل أنّ أخذ القطع في موضوع نفس الحكم محال ، إمّا من جهة الدور ، أو من جهة الخلف ، أو من جهة اللغويّة.

فموضوع الحكم لا يكون مقيّدا بالعلم به ، ولا بالجهل به ، بل هو مطلق ومحفوظ في جميع الحالات بالبرهان ، لا بالمقدّمات. فإنّها تجري فيما إذا أمكن التقييد. وقد عرفت عدم إمكان التقييد في مثل المقام ، ثمّ إنّ محذور الدور لا يختصّ بالتقييد ، بل هو لازم فيما إذا قلنا بنتيجة التقييد ، إذ مرجعهما إلى اختصاص الحكم بالعالم به ، ومعناه

٤٧٦

توقّف الحكم على العلم به مع أنّ العلم بالحكم متوقّف على وجود الحكم ، وهو دور.

ودعوى أنّ الإهمال الثبوتيّ لا يعقل ، فلا بدّ إما من نتيجة الإطلاق أو من نتيجة التقييد. فإنّ الملاك الذي اقتضى تشريع الأحكام ، إمّا يكون محفوظا في كلتي حالتي الجهل والعلم. فلا بدّ من نتيجة الإطلاق ، وإمّا أن يكون محفوظا في حالة العلم فقط ، فلا بدّ من نتيجة التقييد ، وحيث لم يمكن أن يكون الجعل الأوّلي متكفّلا لبيان ذلك ، فلا بدّ من جعل آخر يستفاد منه نتيجة الإطلاق أو التقييد ، وهو المصطلح عليه بمتمّم الجعل.

فاستكشاف كلّ من نتيجة الإطلاق والتقييد يكون من دليل آخر. وقد ادّعى تواتر الأدلّة على اشتراك الأحكام في حقّ العالم والجاهل ، ولكن تلك الأدلّة قابلة للتخصيص ، وقد خصّصت في غير مورد ، كما في مورد الجهر والإخفات والقصر والإتمام ، حيث قام الدليل على اختصاص الحكم في حقّ العالم ، فقد أخذ العلم شرطا في ثبوت الحكم واقعا.

مندفعة بأنّ الانقسامات اللاحقة على ضربين أحدهما ما لا يمكن تقييد الأدلّة به ، بل ولا يمكن فيه نتيجة التقييد ، مثل أخذ القطع موضوعا بالنسبة إلى نفس الحكم ، فإنّه غير معقول لا بالتقييد اللحاظي ولا بنتيجة التقييد ، فإنّ حاصل التقييد ونتيجته أنّ الحكم مختصّ بالعالم بالحكم ، وهذا دور.

وحاصله توقّف الحكم على العلم به ، وهو متوقّف على وجود الحكم ، وهذا الامتناع لا يرتفع لا بالتقييد اللحاظي ولا بنتيجة التقييد.

وعدم الإعادة في موضع الجهر والإخفات ، أو القصر والإتمام ، لا يستلزم اختصاص الحكم بالعالم ، لاحتمال أن يكون ذلك من جهة تقبّل مصداق الجهر مكان الإخفات ، أو من جهة التخفيف ، أو من جهة عدم قابليّة المحلّ ، للقضاء والاعادة بعد الإتيان بما كان خلاف الوظيفة.

٤٧٧

وأمّا الثاني أي أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم المماثل ، فقد يقال إنّ ذلك غير ممكن. وبيان ذلك أنّه إذا قيل «إن قطعت بحرمة الخمر حرّمت عليك الخمر بحرمة اخرى» ، فإن قلنا بتعدّد الحكمين في موضوع واحد فهو مستحيل ، لأنّ الأحكام كالأعراض بلحاظ موضوعاتها ، فكما أنّ اجتماع الأعراض في الموضوع الواحد مستحيل ، فكذلك الأحكام التي نزلت منزلتها.

وإن لم نقل بتعدّد ، بل قلنا بالتأكّد ، ففيه أنّ التحريك التنزيليّ المنتزع عن الإنشاء بداعي جعل الداعي وإن كان يصحّ اعتبار الشدّة والضعف فيه ، لكن ليس ذلك بنحو الحركة والاشتداد ، بداهة أنّ الإنشاءين الصادرين لجعل الداعي ليس بينهما اتّصال في الوجود الوحداني كي يجري فيها الحركة والاشتداد ، وإن كان يختلف حمل الطبيعة على أفراد التحريك التنزيلي بالشدّة والضعف فيقال إنّ وجوب الصلاة أشدّ وأقوى من وجوب غيرها.

ولو فرض فيما نحن فيه ، تأكّد الداعي ، وتأكّد الإرادة ، وصدور التحريك المنزل منزلة التحريك الشديد ، وسقوط الإنشاء السابق عن كونه محرّكا ، كان خلفا ، وإلّا لكان من اجتماع المثلين.

ودعوى إمكان انتزاع البعث الأكيد عقلا من مجموع الإنشاءين ، فلا يلزم الخلف ولا اجتماع المثلين غير صحيحة ، لأنّ خارجيّة الأمر الانتزاعي بخارجيّة منشأ انتزاعه ، ومجموع الإنشاءين واحد بالاعتبار لا بالحقيقة ، فلا منشأ انتزاع للبعث الأكيد حقيقة حتّى يتحقّق البعث الأكيد انتزاعا.

ويمكن الجواب ، أمّا عن الأوّل ، بأنّا لا نسلّم كون الأحكام ، كالأعراض ، فإنّ الأعراض من الواقعيات ، والأحكام من الاعتباريّات.

فإن كان الكلام بلحاظ عالم الجعل فلا يلزم من أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم المماثل محذور اجتماع مثلين بعد كونهما من الاعتباريّات الّتي تكون خفيفة

٤٧٨

المئونة ، وإن كان الكلام بلحاظ مبادئ الحكم من الإرادة والكراهة ، ففيه أنّ تعدّد المصلحة لا يوجب تعدّد الإرادة المستقلّة في الداعويّة ، بل يصير منشأ لحصول إرادة أكيدة ، والإرادة الأكيدة توجب إنشاء البعث المؤكّد ، أو توجب الإنشاءين اللذين يفيدان تأكّد البعث.

وإن كان الكلام بحسب المنتهى أعني مقام الامتثال ، امتنع تحقّق داعيين مستقلّين ، نحو فعل واحد لعدم قابليّة المحلّ ، بل يؤول الخطابان إلى تأكّد الداعي ، والحكم ، كما يشهد له تأكّد الداعي والحكم في مجمع العنوانين ، كقولهم «أكرم العالم وأكرم الهاشمي» ، ولذا لم يقل أحد في المجمع بلزوم الإكرامين ، ولم يذهب أحد إلى خروج المورد عن كلا الحكمين بدعوى استلزام اجتماع المثلين.

وأمّا الجواب عن الثاني ، بأنّ التأكيد حاصل من تصادق العنوانين على مورد الاجتماع ، سواء كان من قبيل العموم من وجه ، أو العموم المطلق ، وتوجّه الطلبين الى مورد الاجتماع يوجب تأكّد الحكم والطلب ، ولا يلزم في التأكّد إمكان الحركة والاشتداد ، بل يكفيه تراكم الطلب ، بل لا يلزم في التأكّد شدة الطلب ، بل تعدّد الطلبين يفيد في مورد الاجتماع تأكّد الطلب وهو يوجب تأكّد الداعي ، كما هو كاشف عن تأكّد الإرادة.

فتحصّل أنّ اجتماع المثلين مع التزام التأكّد في المبدأ ، أو المنتهى ، لا يكون مستحيلا ، بل المستحيل ، هو التزام التعدّد بنحو الاستقلال.

وعليه فأخذ القطع لحكم في موضوع حكم آخر مثله ممكن ، ويرجع إلى التأكّد ، ولا مانع منه ، لا في مقام الجعل ، ولا في المبدأ ، ولا في المنتهى.

وأمّا الثالث وهو أخذ القطع بالحكم في موضوع ضدّه ، كما إذا قال المولى إذا قطعت بوجوب الصلاة تحرم عليك الصلاة.

فقد يقال إنّ ذلك مستحيل لأنّ لازمه هو اجتماع الضدّين ، لأنّ الحرمة وإن

٤٧٩

تعلّقت بالصلاة بما هي مقطوعة الوجوب في مفروض المثال ، إلّا أنّ الوجوب قد تعلّق بها بما هي ، وإطلاقه يشمل ما لو تعلّق القطع بوجود بها ، فلزم من ذلك اجتماع الضدين. فإنّ مقتضى إطلاق الوجوب ، كون الصلاة واجبة ولو حين تعلّق القطع بوجوبها ، والقطع طريق محض ومقتضى كون القطع بالوجوب مأخوذا في موضوع الحرمة كون الصلاة حراما في هذا الحين ، وهذا هو اجتماع الضدّين.

واجيب عن ذلك بأنّه ، لا استحالة في اجتماع الضدّين في الأحكام بعد ما عرفت من كونها من الاعتباريّات ، ولا تقاس الأحكام بالأعراض.

نعم يشكل ذلك من جهة مقام الإثبات ، فإنّ جعل الضدّين لا داعي له عند العقلاء ، بل هو نقض للغرض.

هذا مضافا إلى استحالة ذلك بالنسبة إلى مقام الامتثال لامتناع الامتثال في الحكم الزاجر الباعث في عرض واحد لعدم إمكان تحقّق الانزجار والانبعاث في آن واحد ، فتأمّل.

وأمّا الرابع وهو أخذ القطع بحكم في موضوع حكم مخالف له كما إذا قيل إن قطعت بوجوب الصلاة وجب عليك الصوم ، فلا إشكال في إمكانه.

٤٨٠