عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

فيما إذا كانت الجمل المتكرّرة متغايرة موضوعا ومحمولا مثل أن يقال أكرم العلماء وجالس الأشراف واتّبع آباءك إلّا الفسّاق منهم فإنّ الظاهر أنّ الجمل المذكورة متغايرة والجمل المتغايرة كالمنفصلة ولا دليل لرجوع قيد بعض إلى الآخر إلّا إذا قامت قرينة مقاليّة أو حاليّة على ذلك.

وأمّا سائر الموارد فلم يثبت الظهور فيه لا بالنسبة إلى رجوع الاستثناء إلى الجميع ولا بالنسبة إلى الأخير بل اللازم هو ملاحظة خصوصيّات الموارد فلا تغفل.

٢٢١

الخلاصة :

الفصل الثامن : في الاستثناء المتعقّب للجمل

فقد وقع الكلام في أنّ الاستثناء ، ظاهر في استثناء جميع الجمل المتقدّمة ، أو ظاهر في خصوص الأخيرة ، أو لا ظهور له أصلا؟ يقع البحث في مقامين :

المقام الأوّل : في مقام الثبوت :

وقد ادّعي أنّ رجوع الاستثناء إلى الجميع مستلزم لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وهو غير ممكن.

يمكن منع ذلك ضرورة ، أنّ تعدّد المستثنى منه كتعدّد المستثنى في أنّه لا يوجب تفاوتا في ناحية الأداة بحسب المعنى ، وكان المستعمل فيه الأداة فيما كان المستثنى منه متعدّدا هو المستعمل فيه فيما كان واحدا كما هو الحال في المستثنى وعليه فدعوى أنّ رجوع الاستثناء إلى الجميع مستلزم لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد كما ترى.

ربّما يتوهّم تعدّد الإخراج بتعدّد الأطراف ، فلو لا لحاظ الوحدة في الجمل المتعدّدة أو المستثنيات المتعدّدة ، لا يكون الإخراج واحدا ، وشمولها حينئذ للمتعدّد بما هو متعدّد موجب للاستعمال في أزيد من معنى واحد ولا جامع مفهوميّ بناء على خصوصيّة الموضوع له.

ويمكن الجواب عنه بأنّ الاستعمال ليس إلّا جعل اللفظ آلة لإفادة المعنى ، فإن

٢٢٢

كان هذا هو المراد من جعله قالبا وفانيا فلا دليل على امتناع شيء واحد قالبا لشيئين أو أكثر ، وإن كان المراد شيئا آخر فلا بدّ من بيانه.

وعليه فإفادة المتكثّرات لا تستلزم تكثّر الإفادة ، فلا يلزم من رجوع الاستثناء إلى الجمل المتعدّدة إفادة الاستثناء للإخراجات المتعدّدة بل الاستثناء يفيد إخراج المتعدّدات ، فلا تغفل.

المقام الثاني : في مقام الاثبات

ولا يخفى أنّه يختلف بحسب تكرار الحكم أو الموضوع أو كليهما وعدمه ، أو بحسب ذكر الاسم الظاهر في الجملة الاولى وعطف سائر الجمل عليها مشتملة على الضمير الراجع إليه ، أو ذكر الاسم الظاهر في جميع الجمل ، وإلى غير ذلك من التفصيلات ، فالأولى هو الإشارة إلى بعضها.

أحدها : ما في نهاية النهاية من التفصيل بين ما إذا كان الاستثناء قيدا للموضوع لا إخراجا عن الحكم فهو ظاهر في الرجوع إلى الأخيرة.

وبين ما إذا كان الاستثناء إخراجا عن الحكم ، فقال فإن لم يتكرّر الحكم في الجمل ، فالظاهر بل المتعيّن هو رجوعه إلى الجميع بخلاف ما إذا تكرّر الحكم في الجمل.

ففي مثل أكرم العلماء والشرفاء والشعراء إلّا الفسّاق ، يرجع الاستثناء إلى الجميع ، لأنّ المستثنى منه هو الحكم وهو واحد غير متعدّد.

وفي مثل أكرم العلماء وأكرم الشرفاء وأكرم الشعراء إلّا الفسّاق ، فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى الأخيرة مدّعيا بأنّ الظاهر بمقدّمات الحكمة إذا كان المتكلّم في مقام البيان ولم يقم قرينة على الرجوع إلى غير الأخيرة هو الرجوع إليها ، فإنّ رجوعه إلى غير الأخيرة يحتاج إلى البيان.

٢٢٣

وفيه ما لا يخفى حيث إنّ البحث يعمّ الصورتين ولا وجه للتفرقة المذكورة. هذا مع إمكان منع كون الحكم واحدا في مثل أكرم العلماء والشرفاء والشعراء إلّا الفسّاق لأنّ مقتضى تعدّد الموضوع هو تعدّد الحكم كقوله عليه‌السلام اغسل للجمعة والجنابة.

وأيضا لا مجال للأخذ بالمقدّمات مع وجود ما يصلح للرجوع إلى الجميع في الكلام.

وثانيها : ما فصّله المحقّق النائيني قدس‌سره ، بين تكرار عقد الوضع ، فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى خصوص الأخيرة ، لأنّ تكرار عقد الوضع في الجملة الأخيرة مستقلا يوجب أخذ الاستثناء محلّه من الكلام ، فيحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة الأخيرة إلى دليل آخر وهو مفقود ، وبين عدم تكرار عقد الوضع واختصاص ذكره بصدر الكلام ، كما إذا قيل «أكرم العلماء وأضفهم وأطعمهم إلّا فسّاقهم» ، فلا مناص عن الالتزام برجوعه إلى الجميع.

وفيه أنّ استقلال الجملة لا يمنع من احتمال رجوع الاستثناء إلى السابق ، ودعوى لزوم رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع محلّ منع ، إذ ليس الاستثناء إلّا لإخراج الحكم ، كقولهم ما جاء في القوم إلّا زيد ، لظهوره في تخصيص مجيء زيد لا لتقييد الموضوع ثمّ تعليق الحكم عليه ، كأن يتصوّر القوم باستثناء زيد ، ثمّ علّق عليه عدم المجيء.

والشاهد على إمكان رجوع الاستثناء إلى الجميع ، أنّه لو علمنا أنّ المتكلّم أراد الاستثناء من الجميع لا يلزم منه خلاف أصل من الاصول ، أو ارتكاب تجوّز ، ومعه لا مجال لأصالة العموم ، لأنّ الاستثناء المذكور ممّا يصلح للمخصّصيّة.

وثالثها : ما فصّله السيد المحقّق الخوئي قدس‌سره بين تعدّد القضيّة بدون تكرار المحمول ، كما إذا قيل «أكرم العلماء والأشراف والشيوخ إلّا الفسّاق». منهم فالظاهر فيه هو رجوع الاستثناء إلى الجميع ، لأنّ القضيّة في الفرض المذكور في حكم

٢٢٤

قضيّة واحدة.

وبين تعدّد القضيّة مع تكرّر عقد الحمل ، كما إذا قيل : «أكرم العلماء والأشراف وأكرم الشيوخ إلّا الفسّاق منهم» ، فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة المتكرّر فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت لأنّ تكرار عقد الحمل قرينة على قطع الكلام عمّا قبله. وبذلك يأخذ الاستثناء محلّه من الكلام ، فيحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة المتكرّر فيها عقد الحمل إلى دليل آخر مفقود على الفرض.

وفيه أنّ القضيّة فيما إذا تعدّدت موضوعاتها تتعدّد بتعدّدها ، ومع التعدّد يمكن اختلاف الجمل المتعدّدة في الاستثناء وعدمه.

هذا مضافا إلى أنّ تعدّد القضايا عند تكرّر محمولاتها ، لا يمنع عن إمكان رجوع الاستثناء إلى جميع موضوعاتها ، والشاهد عليه جواز تصريح المتكلّم بذلك. نعم لا يبعد دعوى ظهور رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فيما إذا تغايرت الجمل موضوعا ومحمولا ، كقولهم أكرم العلماء وجالس الأشراف إلّا الفسّاق منهم.

ورابعها : هو التفصيل بين ما إذا اتّحد المحمول مع تكرّر الموضوعات ، مثل أن يقال أكرم العلماء والتجّار والادباء إلّا الفسّاق منهم فالاستثناء راجع إلى الجميع.

وبين ما إذا تكرّر المحمول بدون العطف ، سواء اتّحد أم اختلف ، مثل أن يقال ، أكرم العلماء أضف التجّار احترم الادباء إلّا الفسّاق منهم.

فالمتعيّن هو رجوع الضمير إلى الأخيرة ، إذ بيان كلّ حكم بجملة مستقلّة غير مرتبطة بسابقتها برابط يوجب كون الجملة السابقة في حكم المغفول عنها والمنتهى عن شئونها.

وبين ما إذا تكرّر المحمول مع العطف ، مثل أن يقال أكرم العلماء وأضف التجّار واحترم الادباء إلّا الفسّاق منهم.

وفي هذه الصورة يحتمل أن يكون استقلال الأخيرة موجبا لتعيّنه ، ويحتمل أن

٢٢٥

يكون ربط الأخيرة بغيرها بحرف العطف موجبا لعدم تعيّنه لكون الجميع بمنزلة الجملة الواحدة ، فيكون الكلام مجملا ولكن تخصيص الأخيرة قدر متيقّن.

وفيه أنّ دعوى تعيّن رجوع الاستثناء إلى الجميع في الصورة الاولى لا شاهد لها مع كون القضيّة متعدّدة بتعدّد موضوعاتها ، إذ عدم تعيّن رجوعه إلى الأخيرة لا يلازم تعيّن رجوعه إلى الجميع ، بل يمكن القول بالإجمال إن لم نقل بتعيّن رجوعه إلى الأخيرة. هذا مضافا إلى أنّ دعوى تعيّن رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة في الصورة الثانية كما ترى إذ لو سلّمنا هذا التركيب في الأدبيّات العربيّة لا نسلّم كون الجمل السابقة في حكم المغفول عنها ، وحينئذ إن كان نوع المحمول متّحدا فلا ظهور له في الرجوع إلى الأخيرة ولا إلى الجميع.

وإن كان نوع المحمول مختلفا فدعوى ظهور رجوع الاستثناء إلى الأخيرة غير بعيدة.

وأيضا دعوى الإجمال في الصورة الثالثة مندفعة ، بأنّ العطف لا يوجب وحدة الجمل بل الواو تدلّ على مغايرة الجمل بعضها مع بعض ، ولكن مع ذلك لا ينافي رجوع الاستثناء إلى الجميع. نعم لا يبعد دعوى ظهور الكلام في الرجوع إلى الأخيرة بعد تغايرها مع سائر الجمل موضوعا ومحمولا.

وخامسها : هو التفصيل بين ما إذا ذكر الاسم الظاهر في الجملة الاولى وعطف سائر الجمل عليها مشتملا على الضمير الراجع إليه واشتمل المستثنى أيضا على الضمير كقوله أكرم العلماء وسلّم عليهم وألبسهم إلّا الفسّاق منهم.

فإنّ الظاهر منه هو رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل.

والوجه في ذلك أنّ الضمير في المستثنى إشارة إلى شيء ولم يكن في الجمل شيء صالح للإشارة إليه إلّا الاسم الظاهر المذكور في صدرها ، وأمّا سائر الجمل فلا تصلح لإرجاع الضمير إليها لعدم عود الضمير إلى الضمير.

٢٢٦

بل لعلّ الأمر كذلك ، فيما إذا لم يكن المستثنى مشتملا على الضمير ، ولكن الجمل السابقة تكون مشتملة على الضمير ويعود إلى الاسم الظاهر في الجملة الاولى كما يقال في المثال السابق ، إلّا بني فلان ، لأنّ الضمير في سائر الجمل غير صالح لتعلّق الاستثناء به فإنّه بنفسه غير محكوم بشيء ، فلا محالة يرجع الاستثناء إلى ما هو صالح له.

فإذا عاد الضمير في المستثنى إلى الاسم الظاهر المذكور في صدر الجمل لا ينعقد الإطلاق في الجمل التالية بل يتّحد المراد بين الجمل.

وفيه أنّ تقييد الموضوع في الجملة الأخيرة باستثناء الفاسق من العلماء لا يستلزم تقييد الموضوع في الجمل السابقة ، لأنّ الجمل السابقة معطوفة على الاسم الظاهر في الصدر بما هو مستعمل في معناه اللغوي ، لا بما هو مراد جدّيّ ، ورجوع الضمير إلى الصدر لا يوجب رجوع الاستثناء إليه أيضا. وبالجملة تعريف المستثنى متوقّف على رجوع الضمير إلى الصدر ، لا نفس الاستثناء.

هذا مضافا إلى إمكان منع عدم صحّة تخصيص الضمير ، إذ الضمير قائم مقام مرجعه ، فإن كان عامّا فهو بمنزلة العامّ فيجوز تخصيصه.

وكيف كان ، فتحصّل صحّة القول برجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة إذا كانت الجمل المتكرّرة متغايرة موضوعا ومحمولا ، لأنّ الجمل المتغايرة كالجمل المنفصلة ، فلا دليل على رجوع قيد في بعضها إلى الآخر إلّا إذا قامت قرينة مقاليّة أو حاليّة على ذلك.

وأما سائر الموارد ، فلا ظهور فيها ، والمتّبع هو خصوصيّات الموارد فتدبّر.

٢٢٧

الفصل التاسع : في وجه تقديم الخاصّ على العامّ

ولا يخفى عليك أنّ تقديم الخاصّ على العامّ يكون من باب كون الخاصّ أقوى وأظهر لا مجرّد الأخصّيّة ولذا لو عكس الأمر بأن كان العامّ أظهر لكونه واردا مكرّرا في مورد الحاجة مع كون المتكلّم في مقام بيان الخصوصيّات قدّم العامّ على الخاصّ بأن يتصرّف في هيئته ويحمل على الكراهة أو على الاستحباب كما إذا ورد أكرم أيّ عالم مكرّرا ثمّ ورد ولا تكرم النحوي فإنّ ورود العامّ البدليّ مكرّرا يوجب قوّة دلالته بالنسبة إلى مورد لا تكرم النحوي فيحمل النهي المذكور على الكراهة ومن المعلوم أنّ كراهة فرد تجتمع مع الوجوب بنحو العموم البدليّ وإن لم تجتمع مع الوجوب بنحو العموم الاستغراقي إذ طلب كلّ فرد بعينه لا يجامع طلب تركه بخلاف العموم البدلي فإنّ المستفاد منه هو جواز ترك كلّ فرد مع الاتيان بفرد آخر وهو يجامع مع طلب ترك فرد بعينه.

وهكذا إذا ورد أعتق أيّ رقبة في مواضع متعدّدة في مقام بيان الحاجة من دون تخصيصه بخصوصيّة ثمّ ورد أعتق رقبة مؤمنة فالمطلوب وإن كان واحدا ومقتضى القاعدة هو تخصيص العموم البدلي ولكن لقوّة الظهور في العموم البدلي يرفع اليد عن ظاهر هيئة الأمر ويحمل على الاستحباب فيجوز الاكتفاء بأيّ فرد من الرقبة ولكنّ المستحبّ هو أن تكون الرقبة مؤمنة.

فاتّضح من ذلك إنّ الملاك في تقديم الخاصّ على العامّ هو الأظهريّة لا الأخصّيّة وعليه فإذا كانت الأظهريّة في طرف العامّ فهو مقدّم على الخاصّ وإذا كانت

٢٢٨

الأظهريّة في طرف الخاصّ فهو المقدّم وهو الغالب فتدبّر جيّدا.

ولو شكّ في كون الخاصّ أظهر أو العامّ فمقتضى القاعدة هو التوقّف والرجوع إلى الأصل العملي فإن كان الخاصّ دالّا على الحرمة والعامّ دالّا على الوجوب فالأصل هو التخيير لدوران الأمر بين المحذورين وإن كان الخاصّ دالّا على عدم الوجوب والعامّ دالّا على الوجوب أو كان الخاصّ دالّا على عدم الحرمة والعامّ دالّا على الحرمة فمقتضى الأصل هو البراءة فتدبّر.

٢٢٩

الخلاصة :

الفصل التاسع : في وجه تقديم الخاصّ على العامّ

ولا يخفى عليك أنّ الملاك في تقديم الخاصّ على العامّ هو الأظهريّة لا الأخصيّة ، ولذا إن كانت الأظهريّة في طرف العامّ كما إذا ورد متكرّرا في مقام الحاجة فهو مقدّم ، وإن كانت الأظهريّة في طرف الخاصّ كما هو الغالب فالمقدّم هو الخاصّ.

ولو شكّ في أظهريّة العامّ والخاصّ ، فمقتضى القاعدة هو التوقّف والرجوع إلى الأصل العملي.

ثمّ إنّ تقديم الخاصّ على العامّ يوجب التخصيص ، كما هو معلوم. وأمّا تقديم العامّ على الخاصّ يوجب التصرّف في هيئة الخاصّ ، فإن كان الخاصّ أمرا يحمل على الاستحباب ، كما إذا ورد مكرّرا في مقام الحاجة ـ أعتق رقبة ـ من دون تخصيصه بخصوصيّة ، ثمّ ورد ـ أعتق رقبة مؤمنة ـ فيحمل على أنّ عتق المؤمنة مستحبّ.

وإن كان الخاصّ نهيا ، يحمل على الكراهة ، كما إذا ورد مكرّرا في مقام الحاجة ـ أكرم أيّ عالم ـ ، ثمّ ورد ـ لا تكرم النحويّ ـ ، فيحمل النهي على الكراهة.

ولا مانع من اجتماع كراهة إكرام فرد مع الوجوب بنحو العموم البدلي. نعم لا يجتمع مع الوجوب بنحو العموم الاستغراقي إذ طلب كلّ فرد بعينه لا يجامع مع طلب تركه ، بخلاف العموم البدليّ ، فإنّ المستفاد منه هو جواز ترك كلّ فرد مع الإتيان بفرد آخر ، ومن المعلوم أنّه يجتمع مع طلب ترك فرد بعينه.

٢٣٠

الفصل العاشر

في أنّ التخصيص فيما إذا لم يكن العامّ آبيا عن التخصيص وإلّا فلا مجال له مثلا عنوان الظلم يأبى عن التخصيص فلا يصحّ أن يقال يحرم الظلم ثمّ يخصّص ذلك في مورد كذا ولعلّه من هذا القبيل عنوان إطاعة الربّ أو النبيّ أو الوليّ.

وهكذا عنوان التعاون على الإثم والعدوان فإنّه ممّا يستنكر فيه التخصيص وعليه فإذا ورد خاصّ ينافي تلك العمومات يكون بمنزلة المباين لها فيكون مردودا.

نعم ربّما يتزاحم العنوانان فحينئذ إن كان أحدهما عند العقل أقوى فهو المقدّم وإلّا لزم التخيير ومعناه ليس تخصيص المادّة ولذا بقيت الامور على ما عليها مع التزاحم هذا بخلاف التخصيص فإنّ العامّ بعد التخصيص لا يبقى له اقتضاء بالنسبة إلى مورد التخصيص كما لا يخفى فانقدح ممّا ذكر وجه تقديم حفظ الإسلام على حفظ دماء بعض المسلمين ممّن تترّس بهم الكفّار فإنّ تجويز القتال ولو مع تترّس بعض المسلمين ليس من باب التخصيص بل هو من باب تزاحم حفظ الإسلام مع حفظ بعض نفوس المسلمين وأهمّيّة حفظ الإسلام بالنسبة إلى حفظ نفوس جماعة من المسلمين.

وهذا أيضا يؤكّد ما ذكرناه آنفا من أنّ ما اشتهر من أنّه ما من عامّ إلّا وقد خصّ منظور فيه فلا تغفل.

٢٣١

الخلاصة :

الفصل العاشر

في أنّ التخصيص ، فيما إذا لم يكن العامّ آبيا عن التخصيص وإلّا فلا مجال له مثلا عنوان الظلم يأبى عن التخصيص فلا يصحّ أن يقال يحرم الظلم إلّا في مورد كذا.

نعم ربّما يتزاحم العنوانان ، فحينئذ يقدّم الأقوى إن كان ، وإلّا فيحكم بالتخيير ، ومرجع التزاحم ليس إلى التخصيص في المادّة ، لأنّها بقيت على ما عليها ، فمثل حفظ الإسلام إذا تزاحم مع حفظ دماء المسلمين ممّن تترّس بهم الكفار يقدّم على حفظ دماء المسلمين من باب كونه أقوى ملاكا ، لأهمّيّة حفظ الإسلام بالنسبة إلى حفظ نفوس جماعة من المسلمين.

٢٣٢

الفصل الحادي عشر

في أنّ الخبر الواحد بناء على حجّيّته كما هو الحقّ يكون كالخبر المحفوف بالقرينة القطعيّة أو الخبر المتواتر في جواز تخصيص الكتاب به فكما لا إشكال لرفع اليد عن عموم الكتاب بمثل الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة القطعيّة فكذلك لا إشكال في الخبر الواحد وذلك لبناء العقلاء على حجّيّة الخبر في قبال العموم من دون فرق بين أن يكون واحدا أو متواترا.

ودعوى أنّ الكتاب قطعيّ السند والخبر ظنّيّ السند فكيف يجوز رفع اليد عن القطعيّ بالظنّي.

مندفعة بأنّ القطعيّ هو سند الكتاب والخبر لا ينافيه ودلالة الكتاب على العموم ليست بقطعيّة ضرورة احتمال عدم إرادة العموم منه ومع هذا الاحتمال لا تكون دلالته قطعيّة فيجوز رفع اليد عنه بالخبر وإلّا فلا يجوز تخصيصه بالمتواتر أو الخبر المحفوف أيضا فإنّ دلالتهما ظنّيّة أحيانا.

هذا مضافا إلى أنّ أدلّة اعتبار الخبر الواحد قطعيّة وهي بناء العقلاء أو الادلّة النقليّة نعم لو كانت دلالة الكتاب قطعيّة لم يمكن رفع اليد عنها بالخبر الظنّيّ الدلالة بل لا بدّ من طرحه أو تأويله في قبالها كما لا يخفى.

وبالجملة فالخبر حجّة في عرض حجّيّة العامّ ومقتضى أقوائيّة الحجّيّة في طرف الخاصّ هو تقدّمه على العامّ كما عليه بناء العقلاء ولا فرق في ذلك بين كون العامّ كتابيّا أو غير كتابيّ وقد استدلّ في الكفاية بسيرة الأصحاب على العمل بالأخبار الآحاد في

٢٣٣

قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام (١).

ويمكن أن يقال إنّ مع احتمال أن تكون السيرة المذكورة من باب أنّهم من العقلاء لا دليل على كونها من باب سيرة المتشرّعة.

ثمّ إنّه لا فرق في تقديم الخاصّ على العامّ بين أن تكون أصالة العموم من الاصول الوجوديّة كما هو الحقّ في المنفصلات فإنّ الظهورات منعقدة فيكون تقديم الخاصّ على العامّ من باب تقديم أقوى الحجّتين وبين أن تكون أصالة العموم من الاصول العدميّة أي أنّ الأصل هو العموم ما لم تقم قرينة على خلافه وذلك لأنّ الخاصّ مقدّم على كلتا الصورتين.

ففي الأوّل من باب الأقوائيّة وفي الثاني من باب أنّه لا مورد للاصل مع وجود القرينة.

ثمّ إنّ تقديم الخبر الواحد على العامّ الكتابي لا ينافي الأخبار الدالّة على المنع من العمل بما خالف كتاب الله كقوله عليه‌السلام فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه (٢).

وكقوله عليه‌السلام كلّ حديث مردود إلى الكتاب والسنّة وكلّ شيء لا يوافق كتاب الله فهو زخرف (٣).

وكقوله عليه‌السلام إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب بمنى قال يا أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله (٤).

وذلك لاختصاص تلك الأخبار بالمخالفة التباينيّة أو مخالفة العموم والخصوص

__________________

(١) الكفاية : ١ / ٣٦٦.

(٢) جامع الأحاديث : ١ الباب ٦ من أبواب المقدّمات ح ٢٨.

(٣) جامع الأحاديث : ١ الباب ٦ من أبواب المقدّمات ح ٩ و ١٠ و ١١ و ١٢ و ١٣ و ١٤.

(٤) جامع الأحاديث : ١ الباب ٦ من أبواب المقدمات ح ١٥ و ١٧ و ١٩.

٢٣٤

من وجه لما عليه بناء العقلاء من الجمع بين العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد إذ لم يروا المخالفة بينهما إلّا المخالفة البدويّة كما لم يروا بين القرينة وذيها مخالفة هذا مضافا إلى أنّه مقتضى الجمع بين القطع بصدور الأخبار الكثيرة المخالفة للكتاب بنحو مخالفة العموم والخصوص وإباء الأخبار الدالّة على أنّ المخالف زخرف وباطل عن التخصيص فيعلم من ذلك أنّ المخالفة بنحو العموم والخصوص خارجة عن موضوع تلك الأخبار تخصّصا وإن كانت مرادة في الأخبار العلاجيّة كما ورد عن أبي عبد الله عليه‌السلام إذا أتاكم عنّا حديثان مختلفان فخذوا بما وافق منهما القرآن (١).

إذ الأخبار العلاجيّة تدلّ على تقديم أحد الخبرين على الآخر بعد الفراغ عن حجّيّتهما ذاتا ففي الأخبار العلاجيّة لا يؤخذ بمخالف العموم الكتابي فلا تغفل.

وأمّا الروايات الواردة في تطبيق الآيات الكريمة على المصاديق الخفيّة بعنوان الجري فهي ليست مخالفة مع الكتاب لأنّها في مقام تعميم الظاهر لا المخالفة مع الظاهر فلا تكون مشمولة للأخبار الدالّة على طرح المخالف للكتاب.

__________________

(١) جامع الأحاديث الباب ٦ من أبواب المقدمات : ح ٤ و ٣ و ١ و ١٦ و ٢٠ و ٢٦.

٢٣٥

الخلاصة :

الفصل الحادي عشر

في تخصيص الكتاب بالخبر الواحد

ولا يخفى جوازه ، فإنّه بعد ما قرّر في محلّه من حجّيّته يكون كالخبر المحفوف بالقرينة القطعيّة ، أو الخبر المتواتر ، في جواز رفع اليد عن عموم الكتاب به. ودعوى أنّ الكتاب قطعيّ ، السند ، والخبر ظنّي السند ، فكيف يجوز رفع اليد عن القطعيّ بالظنّي.

مندفعة بأنّ الخبر لا ينافي الكتاب إلّا في الدلالة ، والدلالة في موارد التخصيص ليست بقطعيّة. ضرورة أنّ دلالة الكتاب على العموم مبتنية على أصالة العموم ، فيجوز رفع اليد عن ذلك بالخبر ، ولو لم يجز ذلك لما جاز رفع اليد عن العموم بالمتواتر أو الخبر المحفوف بالقرينة القطعيّة أيضا لأنّ دلالتهما ظنيّة والمعلوم خلافه.

نعم لو كانت دلالة الكتاب قطعيّة ، لم يمكن رفع اليد عنها بالخبر الظنّيّ ، بل لا بدّ من طرح المخالف أو تأويله كما لا يخفى.

لا يقال إنّ تقديم الخبر الواحد على العامّ الكتابي ينافي الأخبار الدالّة على المنع من العمل بما خالف كتاب الله.

لأنّا نقول إنّ تلك الأخبار مختصّة بالمخالفة التباينيّة ، أو المخالفة على نحو العموم والخصوص من وجه ولا يشمل المخالفة بنحو العموم والخصوص المطلق.

٢٣٦

نعم يكون المراد من عنوان المخالفة في الأخبار العلاجيّة هو العموم والخصوص ، ولكنّه في مقام تقديم أحد الخبرين على الآخر بعد الفراغ عن حجّيّتهما ذاتا فيرجّح موافق العموم الكتابي على المخالف كما هو مقرّر في محلّه.

٢٣٧

الفصل الثاني عشر في الدوران بين التخصيص والنسخ

ولا يذهب عليك أنّه إذا ورد عامّ وخاصّ في الشريعة ودار الأمر بين التخصيص والنسخ ففيه صور.

أحدها : أن يكون الخاصّ متّصلا بالعامّ في الكلام الواحد أو كان مقارنا مع العامّ في الكلامين ففي هذه الصورة لا مورد لكليهما لعدم انعقاد الظهور الجدّيّ في العموم مع اشتمال الكلام على الخاصّ أو مع مقارنته مع الخاصّ إذ أصالة الجدّ لا تجري فيه ومع عدم الانعقاد المذكور لا حكم بالنسبة إلى مورد الخاصّ حتّى يقع النزاع في أنّ رفعه من باب التخصيص أو من باب النسخ فلا يعقل النسخ لأنّه رفع الحكم الثابت والمفروض أنّ الحكم غير ثابت كما لا يعقل التخصيص لأنّه أيضا فرع العموم والشمول والمفروض أنّه لا عموم ولا شمول مع اشتمال الكلام على الخاصّ وممّا ذكر يظهر ما في كلام بعض الأعلام حيث قال إنّهما لو وردا في كلام واحد كان الخاصّ قرينة على تخصيص العامّ نعم يكون المورد المذكور محكوما بحكم الخاصّ إذ لا حكم في مورد الخاصّ إلّا الحكم المستفاد من الخاصّ فلا تغفل.

وثانيها : أن يكون الخاصّ واردا قبل حضور وقت العمل بالعامّ وفي هذه الصورة فقد يقال بدوران الأمر بين أن يكون الخاصّ ناسخا أو مخصّصا ولكن ذهب صاحب الكفاية إلى الثاني واستوجه ذلك بأنّ النسخ غير معقول إذ بناء على أنّ معنى النسخ هو رفع الحكم الثابت المولوي بانتهاء أمده لا مورد للنسخ لأنّه لا حكم قبل حضور وقت العمل بالعامّ.

٢٣٨

وأجاب عنه المحقّق النائيني قدس‌سره بما حاصله بأنّ ما ذكروه في المقام إنّما نشأ من عدم تمييز أحكام القضايا الخارجيّة من أحكام القضايا الحقيقيّة وذلك لأنّ الحكم المجعول لو كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقيّة لصحّ ما ذكروه وأمّا إذا كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقيّة الثابتة للموضوعات المقدّر وجودها كما هو الواقع في أحكام الشريعة المقدّسة فلا مانع من نسخها بعد جعلها ولو كان ذلك بعد زمان قليل كيوم واحد أو أقلّ لأنّه لا يشترط في صحّة جعله وجود الموضوع له في العالم أصلا إذ المفروض أنّه حكم على موضوع مقدّر الوجود نعم إذا كان الحكم المجعول في القضيّة الحقيقيّة من قبيل الموقّتات كوجوب الصوم في شهر رمضان المجعول على نحو القضيّة الحقيقيّة كان نسخه قبل حضور وقت العمل به كنسخ الحكم المجعول في القضايا الخارجيّة قبل وقت العمل به في الكشف عن عدم كون الحكم المنشأ أوّلا حكما مولويّا مجعولا بداعي البعث أو الزجر.

فيختصّ النسخ بمعنى ارتفاع الحكم المولوي بانتهاء أمده بالقضايا الحقيقيّة غير الموقّتة وبالقضايا الخارجيّة أو القضايا الحقيقيّة الموقّتة بعد حضور وقت العمل بها وأمّا القضايا الخارجيّة أو الحقيقة الموقّتة قبل حضور وقت العمل بها فيستحيل تعلّق النسخ بالحكم المجعول فيها من الحكيم الملتفت (١).

اورد عليه المحقّق الأصفهاني قدس‌سره بأنّ القضيّة الحقيقيّة وإن لم يكن منوطة بوجود موضوعها خارجا لكنّها حيث كانت متكفّلة لإنشاء الحكم بداعي جعل الداعي فلا محالة يترقّب منها الدعوة عند وجود موضوعه وما كان بهذا الداعي يستحيل منه جعل آخر ولو بنحو القضيّة الحقيقيّة بحيث يكون مقتضاه عدم فعليّة الحكم سواء كان العمل موقّتا بوقت مخصوص كصوم شهر رمضان أو كان وقته حين فعليّة موضوعه

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ١ / ٥٠٧ ـ ٥٠٨.

٢٣٩

باستجماعه لشرائط فعليّة الحكم.

فلا مانع من كون الناسخ والمنسوخ متقارنين زمانا في مقام جعلهما بنحو القضيّة الحقيقة وإنّما الممنوع هو كون الناسخ بمضمونه مقتضيا لرفع الحكم في وقته المقرّر له أو عند فعليّة موضوعه (١).

فالمهمّ هو استحالة النسخ مع ما كان الداعي من جعله هو جعل الداعي في نفوس المكلّفين وهذه الاستحالة لا ترتفع بسبب كون القضيّة حقيقيّة كما لا يخفى.

وممّا ذكر يظهر ما في نهاية الأفكار أيضا حيث أنّه قال لا فرق فيما ذكر بين أن قلنا في المشروطات بعدم فعليّة التكليف فيها إلّا بعد حصول الشرط خارجا.

أو قلنا بفعليّة الإرادة والتكليف بجعل المنوط به هو الشيء في فرضه ولحاظه طريقا إلى الخارج أو قلنا برجوع المشروطات إلى المعلّقات بارجاع القيود الواقعة في الأحكام إلى الواجب والمأمور به كما في نهاية الأفكار (٢).

لأنّ الإشكال وهو الاستحالة واجتماع المتنافيين باق على جميع الصور فلا مورد للنسخ مع هذا الاشكال وإن كان إشكال عدم ثبوت الحكم مرتفعا ببعض الوجوه المذكورة.

وبعبارة اخرى لا يصدر من الحكيم إنشاء الحكم بداعي جعل الداعي مع إنشاء آخر فيه يؤول إلى عدم فعليّة الحكم المذكور ضرورة أنّه مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليّة حكمه كان جعله لغوا محضا حيث أنّ الغرض من جعله إنّما هو صيرورته داعيا للمكلّف نحو الفعل.

فإذا علم بعدم بلوغه إلى هذه المرتبة لانتفاء شرطه فلا محالة يكون جعله بهذا

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ٢٠٩.

(٢) نهاية الأفكار : ١ / ٥٢٢.

٢٤٠