عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

الجهة السابعة : في أخذ الظنّ في موضوع الحكم ولا يذهب عليك أنّ الظنّ إن اخذ في موضوع نفسه فهو غير ممكن ؛ لما مرّ في القطع من الدور أو الخلف سواء اخذ الظنّ على نحو الجزئيّة أو تمام الموضوع وسواء كان الظنّ معتبرا أو غير معتبر.

وإن اخذ في موضوع حكم مخالف ، كما إذا قيل إن ظننت بوجوب الصلاة يجب عليك التصدّق فهو تابع للتعبّد الشرعي ، فإن كان الظنّ تمام الموضوع سواء كان معتبرا أو غير معتبر ترتّب عليه الحكم ؛ لتحقّق الموضوع على المفروض ، وإن كان الظنّ جزء الموضوع والآخر هو الواقع وكان الظنّ معتبرا بالتعبّد الشرعي ترتّب عليه الحكم أيضا ؛ لتحقّق جزء الموضوع بالوجدان وهو الظنّ وتحقّق الواقع بالتعبد بالظنّ ، وإن لم يكن الظنّ معتبرا فلا يترتّب عليه الحكم إلّا إذا أحرز الواقع بأمارة أو أصل.

وإن اخذ الظنّ بحكم في موضوع حكم مضادّ وكان الظنّ معتبرا فلا يمكن أن يترتّب عليه الحكم المضادّ ؛ لعدم إمكان اجتماع الانبعاث نحو عمل مع الانزجار عنه في مقام الامتثال ، كما لا يمكن اجتماع الإرادة والكراهة بالنسبة إلى عمل واحد ، بحسب المبادي وبتبع استحالة مقام الامتثال أو المبادئ لم يتعلّق الجعل بهما من المولى الحكيم.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الإشكال وارد فيما إذا اخذ الظنّ جزء الموضوع بأن يجعل الموضوع هو الظنّ بالخمريّة مع كونه خمرا في الواقع ، فإنّه حينئذ لا يمكن أن يكون حكم الخمر الحرمة وحكم المظنون الخمريّة الحلّيّة أو حرمة اخرى ؛ لعدم إمكان تعلّق حكمين مشتملين على مصلحتين أو مصلحة ومفسدة إحداهما تتعلّق بالطبيعة والثانية بالطبيعة المقيّدة ، هذا بخلاف ما إذا كان الظنّ تمام الموضوع ، فإنّ عنوان الخمر

٤٨١

حينئذ غير عنوان الظنّ المضاف إلى الخمر بجعل الإضافة جزء الموضوع والمضاف إليه خارجا بأن يجعل الظنّ تمام الموضوع ، فإنّ بينهما عموما من وجه لتصادقهما في صورة الإصابة وتفارقهما في صورتي حصول الظنّ به مع عدم كونه خمرا في الواقع وفي عدم حصول الظنّ مع كونه خمرا في الواقع.

والأحكام أيضا متعلّقة بالعناوين لا بالخارج ، ومع اختلاف متعلّقهما لا يلزم اجتماع المثلين ولا الضدّين ولا المصلحة والمفسدة في موضوع واحد ، ولا يمتنع انقداح الإرادة بأحدهما والكراهة في الآخر وإن تصادقا في بعض المصاديق ويصير ذا مفسدة ومصلحة باعتبار العنوانين ، وأمّا الإشكال بأنّه أمر بالمحال فيدفعه بأنّ كلّ واحد منهما في نفسه ممكن ، فهو ليس كالأمر بالطيران إلى السماء كي يقال إنّه ممتنع.

نعم قد يتّفق عدم إمكان امتثالهما في صورة التصادق على واحد ، لكنّه حينئذ مثل باب التزاحم ، فيجب الأخذ بالأهمّ ، ومع عدمه فالتخيير (١).

ولكن لا يخفى عليك أنّ ذلك لا يناسب أخذ الظنّ بنحو الكشف عن الواقع ، بل يناسب أخذ الظنّ على نحو الوصفيّة ، وهو كما ترى ؛ إذ ليس ذلك محلّ الكلام ومع كون الظنّ مأخوذا بنحو الكشف فالموضوع هو الواقع ومعه فالإشكال باق.

وكيف كان فهذا واضح فيما إذا كان الظنّ المأخوذ في موضوع حكم المضادّ معتبرا. وأمّا إذا لم يكن كذلك فقد ذهب في الكفاية إلى إمكانه ؛ بدعوى أنّ الظنّ غير المعتبر في حكم الشك ، فتكون مرتبة الحكم الظاهري محفوظة ، فلا يلزم من جعل الحكم المضادّ في فرض الجهل بالواقع اجتماع الضدّين ، وإلّا فلا يمكن الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري في جميع موارد الجهل بالواقع.

اورد عليه في مصباح الاصول بأنّ ذلك لا ربط له بالمقام ؛ إذ ليس الكلام في

__________________

(١) تنقيح الاصول ٣ : ٥٦ ـ ٥٧.

٤٨٢

إمكان جعل الحكم الظاهري وعدمه ، بل البحث إنّما هو في الحكم الواقعي من حيث إنّه يمكن أخذ الظنّ بحكم في موضوع حكم (واقعيّ) آخر يضادّه أم لا ، كما هو الحال في القطع ، فإنّ الكلام فيه كان في إمكان أخذه في موضوع حكم (واقعيّ) مضادّ لمتعلّقه باعتبار الحكم الواقعي ؛ إذ لا يتصوّر فيه حكم ظاهريّ.

والصحيح أنّ أخذ الظنّ بحكم في موضوع حكم آخر مضادّ له غير ممكن وإن كان الظنّ غير معتبر ، وذلك لأنّ إطلاق الحكم الذي تعلّق به الظنّ يشمل صورة الظنّ به ، فلا يمكن أن يجتمع مع ضدّه المترتّب على الظنّ بالحكم.

وتوهّم أنّه يحتمل أن يكون الظنّ مخالفا للواقع ، فلا يكون هناك إلّا حكم واحد وهو ما أخذ الظنّ في موضوعه مدفوع بأنّه يكفي في الاستحالة احتمال مطابقته للواقع ، فإنّ احتمال اجتماع الضدّين أيضا محال كما هو ظاهر (١).

ويمكن أن يقال : إنّ وجه الاستحالة حيث كان استحالة اجتماع الانبعاث والانزجار بالنسبة إلى فعل واحد بحسب المنتهى أو استحالة اجتماع الإرادة والكراهة بالنسبة إلى فعل واحد بحسب المبادئ أمكن القول بعدم استحالة أخذ الظنّ غير المعتبر في موضوع حكم آخر مضادّ له ؛ إذ مع عدم اعتبار الظنّ لا حكم فعليّ للمظنون ، وعليه فلا يلزم اجتماع الإرادة والكراهة ، ولا اجتماع الانبعاث والانزجار ، بحسب المبادئ أو المنتهى. واجتماع الضدّين في مقام الجعل مع عدم لزوم استحالة في المبادئ أو مقام الامتثال ليس بمحال ؛ لما عرفت من أنّ الأحكام من الاعتباريّات لا الواقعيّات ، والاستحالة في مقام الجعل إنّما يكون باعتبار المبادئ أو مقام الامتثال ، والمفروض عدم اجتماعهما بحسبهما.

ودعوى كفاية احتمال المطابقة في الاستحالة مع عدم اعتبار الظنّ وفعليّة

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٤٩ ـ ٥٠.

٤٨٣

الحكم.

مندفعة بأنّ مع الاحتمال المذكور لا فعليّة للحكم ، فلا تأثير للواقع مع عدم وصوله بالطريق المعتبر ، كما لا يخفى.

وإن أخذ الظنّ بحكم في موضوع حكم يماثله فهو ممكن بنحو التأكيد كما مرّ في القطع ؛ لأنّ توجّه الطلبين إلى مورد الاجتماع يوجب تأكّد الطلب ، وهو كاشف عن تأكّد المبادئ من الإرادة والمحال هو اجتماع الإرادتين المستقلّتين. والمفروض هو الكشف عن تأكّد الإرادة كما في جميع موارد اجتماع العامّين من وجه أو العام والخاص المطلق المحكومين بحكمين متماثلين.

ولا فرق في ذلك بين أنّ النسبة بين ثبوت الواقع والظنّ به عموم من وجه أو عموم وخصوص مطلق.

كما لا فرق فيه بين أن يكون الظنّ معتبرا أو غير معتبر. نعم الظنّ غير المعتبر لا تأثير له بالنسبة إلى الحكم : لعدم اعتباره ، فلا إشكال في أخذه في موضوع الحكم المماثل ، كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى أنّه بناء على اختلاف مراتب الحكم يمكن أن يكون الإنشاء بداعي جعل الداعيّ المظنون به منوطا شرعا بأمر غير حاصل ، فلا يبلغ إلى مرتبة الفعليّة وإن كان الظنّ به معتبرا ، بخلاف الحكم الفعلي المماثل ، فإنّ مجرّد الظنّ بالإنشاء المزبور سبب تامّ لفعليّته ، وعليه فلا يلزم من ذلك اجتماع المثلين.

نعم بناء على عدم اختلاف المراتب لا مرتبة للحكم حتّى يكون الظنّ بمرتبة منه موضوعا لمثله

فتحصّل إلى حدّ الآن : أنّ أخذ الظنّ بمرتبة من مراتب الحكم لا يمكن أن يكون موضوعا بالنسبة إلى نفس الحكم ؛ للزوم الدور أو الخلف.

وهكذا لا يمكن أن يكون الظنّ المعتبر موضوعا بالنسبة إلى الحكم المضادّ ؛ لما

٤٨٤

عرفت من استلزام ذلك اجتماع الانبعاث والانزجار بالنسبة إلى عمل واحد أو اجتماع الإرادة والكراهة بالنسبة إلى عمل واحد بعد كون الظنّ مأخوذا على وجه الطريقيّة ، لا الوصفيّة. هذا مضافا إلى استلزام ذلك أن يكون الحكم المضادّ رادعا عن طريقيّة الظنّ ، ولكنّه محلّ تأمّل ، فإنّ الممنوع هو ردع القطع عن طريقيّته فإنّ الطريقيّة ذاتيّة له دون الظنّ ، فإنّ الطريقيّة ليست ذاتية له ؛ لاحتمال الخلاف معه ؛ كما لا يخفى.

نعم يمكن أن يكون الظنّ بمرتبة من مراتب الحكم مأخوذا في الحكم المخالف ، فإنّه تابع للجعل الشرعي ، كما يمكن أن يكون مأخوذا كذلك في الحكم المماثل ؛ لعدم استلزام اجتماع المثلين بل غايته هو التأكيد.

٤٨٥

الخلاصة :

الجهة السابعة : في أخذ الظنّ في موضوع الحكم ، ولا يذهب عليك أنّ أخذ الظنّ في موضوع نفسه فهو غير ممكن لما مرّ في القطع من الدور أو الخلف ، سواء أخذ الظنّ على نحو الجزئيّة أو تمام الموضوع وسواء كان الظنّ معتبرا أو لم يكن.

وهكذا ، لا يمكن أخذ الظنّ المعتبر نحكم في موضوع حكم مضادّ لعدم إمكان اجتماع الانبعاث ، نحو عمل مع الانزجار عنه في مقام الامتثال ، كما لا يمكن اجتماع الإرادة والكراهة ، بالنسبة إلى عمل واحد بحسب المبادي ، وبتبع عدم إمكان الاجتماع بحسب مقام الامتثال والمبادي لم يتعلّق الجعل بالحكمين من المولى الحكيم. نعم لو لم يكن الظنّ المأخوذ معتبرا فقد يقال أمكن أخذه بدعوى أنّ الظنّ غير المعتبر في حكم الشكّ ، ومعه تكون مرتبة الحكم الظاهريّ محفوظة ، فلا يلزم من جعل الحكم المضادّ ، في فرض الجهل بالواقع اجتماع الضدّين ، وإلّا فلا يمكن الجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ في جميع موارد الجهل بالواقع.

اورد عليه ، بأنّ الكلام ليس في إمكان جعل الحكم الظاهريّ وعدمه ، بل الكلام في إمكان جعل الحكم الواقعيّ من حيث إنّه يمكن أخذ الظنّ بحكمه في موضوع حكم واقعيّ آخر يضادّه أم لا. والصحيح أن يقال : إنّ أخذ الظنّ في موضوع حكم آخر مضادّ له غير ممكن وإن كان الظنّ غير معتبر ، والوجه في ذلك ما مرّ في القطع من أنّ إطلاق الحكم الّذي تعلّق به الظنّ يشمل صورة الظنّ به ، فلا يجتمع مع ضدّه المترتّب على الظنّ بالحكم حسب الفرض.

وتوهّم أنّ الظنّ يحتمل أن يكون مخالفا للواقع ، ومعه لا يكون إلّا حكم واحد

٤٨٦

وهو ما أخذ الظنّ في موضوعه.

مدفوع بأنّه يكفي في الاستحالة احتمال مطابقة الظنّ للواقع ، فإنّ احتمال اجتماع الضدّين أيضا محال.

ولكنّ التحقيق هو إمكان الأخذ ، لأنّ مع عدم اعتبار الظنّ لا يكون في الواقع حكم فعليّ ، ومع عدم فعليّة المظنون لا يجتمع الإرادة والكراهة ، ولا الانبعاث والانزجار بحسب المبادي والمنتهى ، فلا وجه لدعوى الاستحالة وأمّا اجتماع الضدّين في مقام الجعل فقد عرفت أنّه ليس بمحال ، لأنّ الأحكام في نفسها من الاعتباريّات والاستحالة فيها باعتبار المبادي والمنتهى. والمفروض عدم اجتماع الإرادة والكراهة ، ولا الانبعاث والانزجار بحسبهما.

ثمّ إنّ أخذ الظنّ بحكم في موضوع حكم يماثله ممكن ويفيد التأكيد كما مرّ في القطع وهكذا يمكن أخذ الظنّ في موضوع حكم مخالف ، كما إذا قيل إن ظننت بوجوب الصلاة ، يجب عليك التصدّق ، وهو تابع للتعبّد الشرعيّ في كون الظنّ تمام الموضوع ، أو جزئه.

٤٨٧

الجهة الثامنة : في وجوب موافقة القطع التزاما ، والمراد من الالتزام هو الالتزام القلبيّ بالوجوب أو الحرمة المعبّر عنه بعقد القلب أو الخضوع القلبي للحكم بحيث يكون كلّ حكم على تقدير ثبوته منحلّا إلى أمرين : أحدهما هو وجوب الإتيان أو حرمته بحسب العمل في الخارج ، وثانيهما هو وجوب الخضوع القلبي والالتزام بالعمل به في الجنان.

ثمّ إنّ عقد القلب أو الخضوع القلبيّ المذكور من الأفعال الاختياريّة القلبيّة وهو أمر وراء العلم واليقين ؛ لجواز تفكيكهما عنه ، ولذلك كان بعض الكفّار عالمين بالمبدإ أو النبوّة ولم يكونوا مؤمنين بهما مع أنّهم مكلّفون بالإيمان. ومن المعلوم أنّ التكليف شاهد على أنّ الإيمان وهو عقد القلب على ما علمه أمر اختياريّ ، وهكذا عقوبتهم على عدم الإيمان والاستكبار شاهد على اختيارية الإيمان والكفر أو الاستكبار.

والذي يترتّب قهرا على مقدّمات الاستدلال والبرهان هو نتيجة البرهان وهو العلم لا عقد القلب أو الخضوع القلبي ، بل هو أمر اختياريّ يترتّب أو لا يترتّب بالاختيار وممّا ذكر يظهر ما في تهذيب الاصول حيث قال : إنّ التسليم القلبي والانقياد الجناني والاعتقاد الجزمى لأمر من الامور لا تحصل بالإرادة والاختيار من دون حصول مقدّماتها ومباديها ، ولو فرضنا حصول عللها وأسبابها يمتنع تخلّف الالتزام والانقياد القلبي عند حصول مباديها ويمتنع الاعتقاد بأضدادها ، فتخلّفها عن المبادئ ممتنع ، كما أنّ حصولها بدونها أيضا ممتنع ... إلى أن قال : فمن قام عنده البرهان الواضح بوجود المبدأ المتعال ووحدته لا يمكن له عقد القلب عن صميمه بعدم وجوده

٤٨٨

وعدم وحدته ، ومن قام عنده البرهان الرياضى على أنّ زوايا المثلّث مساوية لقائمتين يمتنع مع وجود هذه المبادئ عقد القلب على عدم التساوي ، فكما لا يمكن الالتزام على ضدّ أمر تكوينيّ مقطوع به ، فكذلك لا يمكن عقد القلب على ضدّ أمر تشريعيّ ثبت بالدليل القطعي.

نعم لا مانع من إنكاره ظاهرا وجحده لسانا ، لا جنانا واعتقادا ، وإليه يشير قوله عزوجل : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)(١).

وما يقال من أنّ الكفر الجحوديّ يرجع إلى الالتزام القلبي على خلاف اليقين الحاصل في نفسه فاسد جدّا. (٢)

وذلك ؛ لأنّ ما لا يكون اختياريا هو العلم لا عقد القلب ، فمن قام البرهان عنده على أنّ زوايا المثلّث مساوية لقائمتين لا ينفكّ ذلك عن العلم بأنّ زوايا المثلّث كذلك ، فهو مع هذا العلم إمّا يبني عليه في أموره وإمّا لا يبني عليه ، وعلى الأوّل هو يعقد القلب عليه ويخضع ، وعلى الثاني لا يفعل ذلك ، وكلّ منهما يقع بالاختيار ؛ ولذلك قد نرى بعض الأطبّاء أنّه مع علمه بضرر بعض الاشياء كالخمر أو التتن ونحوهما لا يعقد قلبه عليه ويعمل على خلافه ويكون مبتلى بالأمور المذكورة ، وهكذا نرى بعض الناس مع علمه بأنّ الميّت لا يضرّ بالإنسان لا يخضع لذلك العلم ويفرّ عنه ويخاف منه ، وليس ذلك إلّا لأنّه لا يخضع قلبه بعلمه. وعليه فالمراد من الكفر الجحوديّ هو عدم الالتزام القلبي وعدم خضوعه لعلمه كما لا يخفى.

والحاصل : أنّ الكلام في أنّ القطع بالتكليف كما يقتضي وجوب الموافقة العمليّة هل يقتضي وجوب الالتزام القلبي وخضوعه على العمل به في الفروعات كالأصول

__________________

(١) نمل : ١٤.

(٢) تهذيب الاصول ٢ : ٤٥ ـ ٤٦.

٤٨٩

الاعتقاديّة أو لا يقتضى؟

والحقّ : أنّه لا دليل على الاقتضاء المذكور ؛ إذ الامتثال في الأحكام حاصل بالإتيان ولو مع عدم الالتزام القلبي به ، والواجب هو الامتثال ، ولا دليل على أزيد منه ، ويشهد له حكم الوجدان بعدم استحقاق العقوبتين على فرض مخالفة التكليف عملا والتزاما وعدم استحقاقه للعقوبة مع العمل بلا التزام ، واستحقاقه لمثوبة واحدة مع العمل والالتزام. (١)

لا يقال إنّ ما دلّ على لزوم تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما جاء به يقتضي وجوب الموافقة الالتزاميّة أيضا ؛ إذ تصديق النبيّ لا ينفكّ عن البناء القلبي على موافقته.

لأنّا نقول : إنّ غاية ما يقتضيه تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما جاء به هو تصديقه في أنّ ما جاء به وأخبر به هو واجب من قبل الله تعالى ، وهذا المعنى يجتمع مع عدم البناء والالتزام القلبي على العمل به.

وممّا ذكر يظهر ما فى كلام شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره من لزوم التسليم القلبي في تحقّق الإيمان (٢).

وذلك ؛ لأنّ التسليم المذكور هو عين الإيمان ، والذى يبحث عنه هو الالتزام القلبي على العمل به ، فلا تغفل.

ثمّ إنّه يكفي في اختياريّة الالتزام القلبي وخضوعه تمكّنه من عدمه ، كما يكشف عنه عدم الالتزام العملي ولا يتوقّف ذلك على التمكّن من الالتزام القلبي بضدّه ، مثلا إذا قامت الحجّة عند المكلّف على نجاسة شيء كالغسالة يكفي في اختياريّة الالتزام القلبي عليه تمكّنه من عدم الالتزام ، ولا يتوقّف ذلك على تمكّنه من الالتزام بطهارته

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٤٩.

(٢) اصول الفقه ٣ : ٤٣٤.

٤٩٠

حتّى يقال يمتنع أن يعقد القلب على خلاف النجاسة ، فتدبّر جيّدا وممّا ذكر يظهر ما في تهذيب الاصول ، فراجع. (١)

ثمّ إنّ ما ذكروه من الثمرة من أنّ وجوب الالتزام القلبيّ المذكور على تقدير ثبوته ينافي جعل حكم ظاهري في مورد الدوران بين المحذورين وفي أطراف العلم الإجمالي منظور فيه ـ كما في مصباح الأصول ـ من جهة أنّ المراد من وجوب الموافقة الالتزامية إن كان هو وجوب الالتزام بما هو الواقع على الإجمال فلا ينافي ذلك جريان الأصل في الموارد المذكورة ؛ إذ مفاد الأصول أحكام ظاهريّة ووظائف عمليّة عند الجهل بالواقع ، ولا منافاة بينها وبين الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه ، فإذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة فلا منافاة بين الالتزام بالإباحة الظاهريّة للأصل والالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه من الوجوب أو الحرمة ، وكذا الحال في جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي فإنّه لا منافاة بين الالتزام بنجاسة الإناءين ظاهرا والاجتناب عنهما للاستصحاب مع الالتزام بطهارة أحدهما واقعا إجمالا.

وإن كان المراد من وجوب الالتزام وجوب الالتزام بكلّ حكم بعينه وشخصه فهو ساقط ؛ لعدم القدرة عليه في الموارد المذكورة ، لعدم معرفته شخص التكليف حتّى يلتزم به ، وبعد سقوطه لا مانع من جريان الأصل.

وإن كان المراد من وجوب الالتزام وجوب الالتزام بأحدهما على نحو التخيير فهو معلوم البطلان ؛ إذ كلّ تكليف يقتضي الالتزام به ، لا الالتزام به أو بضدّه على نحو التخيير.

مضافا إلى أنّ الالتزام بالوجوب مع عدم العلم به أو الالتزام بالحرمة مع عدم

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٤٦ ـ ٤٧.

٤٩١

العلم بها تشريع محرّم.

فتحصّل : أنّه لا مانع من جريان الأصل في موارد دوران الأمر بين المحذورين وفي أطراف العلم الإجمالي من ناحية وجوب الموافقة الالتزاميّة. (١)

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ / : ٥١ ـ ٥٣.

٤٩٢

الخلاصة :

الجهة الثامنة : في وجوب موافقة القطع بحسب الالتزام القلبيّ المعبّر عنه بعقد القلب على ما علمه والخضوع القلبي له ، بحيث يكون كلّ حكم علم به على تقدير ثبوته منحلا إلى أمرين : أحدهما هو وجوب الإتيان ، أو الاجتناب عنه ، بحسب الخارج ، وثانيهما ، هو وجوب الخضوع القلبي ، والالتزام بالعمل به في الجنان.

ثمّ إنّ عقد القلب والخضوع القلبي من الأفعال الاختياريّة القلبيّة وراء نفس العلم واليقين ، لجواز تفكيكهما عن العلم ، ولذلك كان بعض الكفّار غير مؤمنين في عين كونهم عالمين بالمبدإ والمعاد ومع ذلك كانوا مكلّفين بالايمان ، وهو شاهد على أنّ الايمان وهو عقد القلب على ما كانوا عالمين به ، أمر اختياريّ.

وأيضا يعتضد ذلك بالوعيد بالعقوبة عند التخلّف عن الإيمان ومقدّمات البرهان ، لا تفيد إلّا العلم ، وهو قهريّ. وأما عقد القلب ، فهو لا يكون قهريّا ، بل يحتاج إلى إرادة العالم.

ودعوى أنّ التسليم القلبي لا يحصل بالإرادة والاختيار ، فمن قام عنده البرهان على شيء ، لا يمكن له عقد القلب عن صميمه بعدم وجوده.

مندفعة بأنّ ما لا يكون اختياريّا هو العلم لا عقد القلب.

فإذا عرفت ذلك ، فاعلم ، أنّه لا دليل على وجوب الالتزام القلبيّ بالنسبة إلى الاحكام المعلومة ، إذ الامتثال في الأحكام المعلومة حاصل بالإتيان بها أو الاجتناب عنها في الخارج ، ولو مع عدم الالتزام القلبيّ بها والواجب هو الإتيان بها ، أو الاجتناب عنها في الخارج ، ولا دليل على أزيد منه.

والشاهد لذلك حكم الوجدان بعدم استحقاق العقوبتين لو خالف ولم يمتثل.

٤٩٣

لا يقال يكفي في ذلك وجوب تصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما جاء به ، فإنّه يقتضي وجوب الموافقة الالتزاميّة ، إذ تصديق النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينفكّ عن البناء القلبي على موافقته.

لأنّا نقول إنّ غاية ما يستفاد من وجوب تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو وجوب تصديقه في «أنّ ما جاء به ، وأخبر عنه هو واجب ، صادر من قبل الله تعالى» ، وهذا المعنى لا يرتبط بالالتزام القلبيّ على العمل بما علمه من الأحكام.

ثمّ إنّه على تقدير تسليم ثبوت وجوب الالتزام القلبيّ بالعمل بالأحكام ، لا ينافيه جعل حكم ظاهريّ في مورد الدوران بين المحذورين ، أو مورد أطراف المعلوم بالإجمال.

إذ المراد من وجوب الموافقة الالتزامية ، إمّا وجوب الالتزام بما هو الواقع على الإجمال ، ولا منافاة بين الإباحة الظاهريّة ، للأصل ، والالتزام بالحكم الواقعيّ على ما هو عليه من الوجوب أو الحرمة.

أو المراد من وجوب الالتزام ، هو وجوب الالتزام بكلّ حكم بعينه وشخصه ، فلا إشكال في سقوط هذا الواجب في موارد الدوران بين المحذورين ، أو أطراف المعلوم بالاجمال ، لعدم إمكان معرفة شخص التكليف ، ومع سقوط هذا التكليف فلا مانع من جريان الحكم الظاهريّ ، كما لا يخفى.

أو المراد من وجوب الالتزام وجوب الالتزام بأحدهما على نحو التخيير ، ولا كلام في بطلان ذلك ، إذ كلّ تكليف يقتضي الالتزام به على تقدير ثبوت وجوب الالتزام ، لا الالتزام ، به أو بضدّه على نحو التخيير.

فتحصّل أنّه لا مانع من جريان الأصل في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، وفي موارد العلم الإجمالي من ناحية الموافقة الالتزاميّة.

٤٩٤

الجهة التاسعة : في قطع القطّاع والوسواس ونحوهما. وقد مرّ تفصيل ذلك في الجهة الثالثة. ومحصّله : أنّ حكم العقل بالتنجيز وقبح مخالفة التكليف المقطوع واستحقاق العقوبة يكون من باب أنّ المخالفة مع التكليف المعلوم مصداق الهتك للمولى ، وهو مصداق للظلم. وهذا الحكم متفرّع على المخالفة مع التكليف المعلوم من حيث هي المخالفة ، ولا ينافي ذلك أن ينطبق على المخالفة حكم آخر من جهة طروّ عنوان آخر أهمّ يزاحمه كالتحرّز عن الوقوع في كثير من الموارد في خلاف الواقع أو التحرّز عن إطاعة الشيطان المخالف لله تعالى وسلطته ؛ إذ مع طرو العنوان الأهم المذكور لا يبقى حكم العقل بالقبح على فعليّته ؛ لوجود التزاحم بالأهمّ.

وعليه فلا مانع من أن يحكم الشارع بالمنع عن العمل بالمقطوع المذكور من جهة علمه بطروّ عنوان أهمّ عليه يقتضي الحكم بالمنع. بل كلّ عاقل لا يحكم بفعليّة القبح لو التفت إلى طروّ العنوان الأهمّ. نعم من لم يلتفت إليه رأى أنّ وظيفته هو الأخذ بما حكم به عقله ، ولا يمكن ردعه عن ذلك إلّا بتنبيهه إلى طروّ العنوان المذكور أو النهي عن سلوك مقدّمات القطع ، ولكن لا يكون معذورا لو قصّر في ذلك ، كما لا يكون الجاهل المقصّر معذورا بل لا تنجيز للقطع المذكور ؛ لأنّ التنجيز ليس كالكشف أمرا ذاتيّا قهريّا للقطع ، بل هو حكم العقل. ومن المعلوم أنّ العقل يراعي في أحكامه المصالح والمفاسد والمزاحمات ، ففي صورة تزاحم مصلحة الإطاعة لله تعالى مع مفسدة مثل تعوّد إطاعة الشيطان وسلطته لا حكم له بالإطاعة بالفعل للتزاحم المذكور.

وممّا ذكر يظهر ما في كلمات الأعلام في المقام حيث ذهبوا إلى تنجّز التكليف

٤٩٥

بالقطع ولو كان حاصلا ممّا لا ينبغي حصوله ما دام كونه قاطعا ؛ مستدلا بأنّ القاطع بالحكم لا يمكن إرجاعه إلى أحكام الشكّ من الاصول العمليّة ، لعدم شمولها له (١) ، أو مستدلا بضرورة أنّ العقل يرى تنجّز التكليف بالقطع الحاصل ممّا لا ينبغي حصوله وصحّة مؤاخذة قاطعه على مخالفته وعدم صحّة الاعتذار عنها بأنّه حصل كذلك وعدم (٢) صحّة المؤاخذة مع القطع بخلافه وعدم حسن الاحتجاج عليه بذلك ولو مع التفاته إلى كيفيّة حصوله.

نعم ربّما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعا والمتّبع في عمومه وخصوصه دلالة دليله في كلّ مورد ، فربّما يدلّ على اختصاصه بقسم في مورد وعدم اختصاصه به في آخر على اختلاف الأدلّة واختلاف المقامات بحسب مناسبات الأحكام والموضوعات وغيرها من الأمارات

وبالجملة : القطع فيما كان موضوعا عقلا لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع ولا من حيث المورد ولا من حيث السبب لا عقلا وهو واضح ولا شرعا ؛ لما عرفت من أنّه لا تناله يد الجعل نفيا ولا إثباتا. (٣)

وذلك لما عرفت من أنّ حكم العقل أو العقلاء بالتنجيز أو التعذير ما لم يلتفت إلى طروّ عنوان أهمّ ، وإلّا فلا حكم له بالفعل كما لا يخفى.

وعليه فإذا منع الشارع عن ذلك وحصل الالتفات إلى العنوان الأهمّ المزاحم لم يحكم العقل بذلك ؛ لوجود عنوان أهمّ مزاحم ، بل الكشف الإجمالي أيضا يكفي في رفع فعليّة الحكم العقلي ؛ لاحتمال كون مقطوعه معنونا بالأهمّ ، وهكذا العقلاء لا يحكمون بذلك فيما إذا احتملوا كونه معنونا بالأهمّ الذي يزاحم حكم المقطوع ، بل لو

__________________

(١) فرائد الاصول : ١٣.

(٢) اي أنّ القطع إذا أخطأ كان عذرا في فوات الواقع ، ولا يصحّ مؤاخذته لأنّه قطع بخلافه.

(٣) الكفاية ٢ : ٣١ ـ ٣٢.

٤٩٦

لم ينكشف إلّا بعد العمل لم يكن معذورا عند العقلاء لو كان مقصّرا في ذلك كالجاهل المقصّر لتقصيره في سلوكه بعد كونه منهيّا عنه.

ولذلك صرّح بعض الأعلام بعدم اعتبار علم الوسواسي في الطهارة والنجاسة وغيرهما وليس الوجه في ذلك مع أنّ العلم حجّة بذاته عقلا إلّا أنّ طروّ العنوان المذكور يوجب تبدّل الواقع عن حكمه إلى حكم آخر فيكون ، الواقع موضوعا للحكم المقطوع إلّا في حال كذا وكذا فيعرضه حكم آخر عند كذا وكذا لتبدّل عنوان الواقع المقطوع كما لا يخفى.

لا يقال : إنّ حجّيّة القطع من ذاتيّاته ، فلا يمكن تخلّفها عن القطع ولو عن القطّاع.

لأنّا نقول : بعد تسليم ذلك إنّ حجّيّة القطع وإن كانت ذاتيّة بمعنى أنّه لا يحتاج إلى جعل شرعيّ ولكن فعليّتها منوطة بما إذا لم يتعنون المقطوع بعنوان أهمّ مزاحم ، وإلّا فلا يكون القطع منجّزا ومعذّرا ولو في حال قطعه وإن رأى القاطع لزوم متابعة قطعه ، كالجاهل المركّب المقصّر فإنّه في حال علمه لا يمكن ثبوت أحكام الشكّ له ولكن مع ذلك لا يكون قطعه منجّزا ومعذّرا له في مخالفته للواقع بعد فرض كونه مقصّرا مع أنّه بالفرض يكون قاطعا ؛ لما عرفت من أنّه مع تزاحم العنوانين وتقدّم الأهمّ فلا حكم فعلي للعقل للمقطوع بما هو مقطوع.

وممّا ذكر يظهر ما في الفرائد ؛ فإنّ عدم شمول أحكام الشكّ في حال كون القاطع قاطعا لا ينافي عدم المعذّريّة في الجاهل المركّب المقصّر والوسواسي والقطّاع ونحوهم.

وهكذا يظهر ضعف ما في الكفاية ؛ لعدم ثبوت المنجّزيّة والمعذّريّة مع تعنون المقطوع بعنوان أهمّ وعدم صحّة الاعتذار والاحتجاج بعد كون المقطوع معنونا بعنوان أهمّ مزاحم.

٤٩٧

ولعلّه لذلك حكم عرف العقلاء بعدم معذوريّة الجاهل المركّب والوكيل الذي اشترى شيئا بأزيد من قيمته السوقيّة مستندا إلى قطعه بأنّ الثمن يساوي القيمة السوقيّة مع التفاته بأنّ قطعه غير ناش عن سبب متعارف. وهكذا لا وقع عند عرف العقلاء لقطع غير ذي خبرة في الفنّ ، بل يرونه مقصّرا لو عمل بقطعه مع علمه بكونه غير ذى خبرة في الفنّ ، وليس هذه الامور إلّا لعدم تنجيز القطع فيما إذا كان سببه موهونا أو منهيّا عنه وقصّر فيه.

وقد انقدح من جميع ما ذكر جواز أن يمنع الشارع عن المنجّزيّة أي اتباع القطع الطريقي فيما إذا كان المقطوع معنونا بعنوان مزاحم أهمّ كما أنّ الأمر كذلك بالنسبة إلى القطع إذا كان حاصلا من الوسوسة أو القياس لورود أخبار دالّة على نهي الوسواسي عن العمل بوسواسه أو نهي القياسي عن العمل بالقياس والاستحسانات ، كما أنّ القاطع المقصّر لا يكون معذورا بعد سلوكه طريقا من الطرق المنهيّة ، فالقطع الطريقي إذا كان مع عنوان مزاحم لا منجّز ولا معذّر.

فإذا عرفت ذلك فلا وجه للتفصيل بين جهة المعذوريّة وجهة المنجّزيّة ، كما يظهر من نهاية الأفكار حيث قال : ليس حكم العقل بلزوم اتّباع القطع ، إلّا على نحو التنجيز الغير القابل للمنع عنه بشهادة ارتكاز المناقضة الكاشف إنّا عن كون حكمه بلزوم اتّباع القطع على نحو التنجيز والعلّيّة التامّة نظير كشف التبادر عن ثبوت الوضع ؛ إذ المناقضة المزبورة الارتكازيّة ثبوتا من توابع تنجيزيّة حكم العقل. وعلى ذلك فمتى حصل القطع يتّبعه حكم العقل التنجيزيّ بوجوب الموافقة سواء كان حصوله من المقدّمات العقليّة النظريّة أو الضروريّة أو الأدلّة السمعيّة وسواء كان القاطع قطّاعا أو غيره ؛ لاستواء الجميع بنظر العقل.

نعم يمكن أن يفرق بين القطع الناشئ عن تقصير المكلّف في مقدّمات حصول قطعه وبين غيره في جهة معذوريّته عند مخالفة قطعه للواقع ؛ بدعوى عدم معذوريّة

٤٩٨

من يقصّر في مقدّمات قطعه خصوصا إذا كان ذلك من جهة الخوض في المقدّمات العقليّة التي نهى عن الخوض فيها.

ولكن مثل هذه الجهة غير مرتبطة بجهة منجّزيّته وعلّيّته لحكم العقل بوجوب الحركة على وفقه ؛ إذ لا تلازم بين عدم معذوريّة قطعه ذلك عند تخلّفه عن الواقع وبين عدم منجّزيّته في مقام إثبات الاشتغال بالتكليف وصحّة الردع عن العمل على وفقه ... إلى أن قال : ولعلّه إلى ما ذكرنا نظر القائل بعدم اعتبار قطع القطّاع فيراد من ذلك عدم اعتباره في مقام المعذّرية ولو بملاحظة تقصيره في مقدّمات قطعه من الأوّل الناشئ من جهة قلّة مبالاته وعدم تدبّره الموجب لخروجه بذلك عمّا عليه متعارف الناس من الاستقامة الاعوجاج في السليقة بنحو يحصل له القطع من كلّ شيء ممّا لا يكون مثله سببا عاديا لحصول الظنّ بل الشكّ لمتعارف الناس ، لا عدم اعتباره في مقام المنجزيّة ومرحلة إثبات التكليف والاشتغال. بل ويمكن أن يحمل عليه أيضا مقالة الأخباريّين في حكمهم بعدم اعتبار القطع الناشئ من غير الأدلّة السمعيّة ... إلى آخره (١).

وذلك لما عرفت من أنّ حكم العقل بالتنجيز والتعذير ثابت ما دام لم يعرض على المقطوع عنوان آخر أهمّ ، ومع عروض هذا العنوان لا يحكم العقل أو العقلاء بالفعل لا بالتنجيز ولا بالتعذير وإن كان القاطع رأى وظيفته العمل بقطعه ما لم يلتفت إلى عنوان مزاحم أهمّ.

ودعوى ارتكاز المناقضة كما ترى ؛ لأنّها فرع حكم العقل بالتنجيز وهو أوّل الكلام مع عروض العنوان المذكور ، بل يزول حكمه الفعلي بورود الحكم الشرعي لأنّه كاشف عن تعنون المقطوع بعنوان أهمّ.

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٤٣ ـ ٤٤.

٤٩٩

وكيف كان فإذا رأى الشارع أو العقلاء أنّ مقطوع قاطع معنون بعنوان مزاحم أهمّ فلم لا يجوز له أولهم أن يمنعوه عن الاتّباع والتنجيز مع تعنون المقطوع بعنوان يقتضي ذلك. ومن المعلوم أنّ حكم العقل والعقلاء ليس أمرا قهريّا بل هو بملاحظة المصالح والمفاسد والمزاحمات. نعم إذا نهي القاطع المذكور عن العمل بقطعه فهو إمّا يلتفت إلى ذلك أي عروض عنوان أهمّ معه لا يحكم العقل بالتنجيز والتعذير فلا مجوّز له للعمل بقطعه ، وإمّا لا يلتفت فحينئذ رأى وظيفته هو العمل بقطعه ، ولكن لا يكون معذورا عند المخالفة ولو في حال قطعه فيما إذا نهي عن مقدّماته ، بل اللازم عليه هو أن يترك العمل بقطعه بعد علمه بأنّ قطعه حاصل من طريق منهي ؛ لأنّ مقطوعه حينئذ معنون بعنوان معه لا يكون منجّزا ولا معذّرا ، كما نقول بذلك في القطع الوسواسيّ أو القطع القياسيّ أو القطع الحاصل من دون تعلّم العلوم وتحصيل الخبرويّة.

وبالجملة فدعوى استحالة المنع عن العمل بالقطع صحيحة في ما إذا كان القطع طريقيّا ولم يعرض عنوان مزاحم أهمّ ، وإلّا فهي ممنوعة ، فيجوز للشارع أو العقلاء أن يمنعوه عن العمل ، كما أنّه لو عمل به ثمّ انكشف الخلاف فلا عذر له.

تعاضد الدين والعقل البديهيّ

ثمّ لا يخفى أنّه لا تعارض بين الدليل العقليّ البديهيّ ، الفطري وبين الأدلّة النقليّة ؛ بل كلّ واحد مكمّل للآخر لوضوح كون الدين مبنيّا على الفطرة ، ولا يمكن المنع الشرعيّ عن الدليل العقليّ البديهي ، وإلّا لزم المناقضة. وهذه الكبرى ممّا لا ينبغي الكلام فيها.

ولكنّ المستفاد من كلام المحدّث الجزائري والبحراني هو منع الكبرى المذكورة ؛ فإنّهما ذهبا إلى أنّ النقلي عند تعارضه بالعقلي مقدّم ، ولا التفات إلى ما حكم

٥٠٠