عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

وبذلك يظهر أنّ بناء جواز الاكتفاء وعدمه على اعتبار قصد الوجه والتمييز في المأمور به شرعا وعدم حصولهما إلّا بالعلم التفصيلي أو عدم اعتبارهما وأنّ أصالة الإطلاق أو أصالة البراءة هل يرجع إليهما عند الشك في اعتبار هذه الامور أولا ، خروج عن محطّ البحث ومصبّ النزاع ، فإنّه ممحّض في المسألة العقليّة وأنّ الامتثال الإجمالي هل هو كالامتثال التفصيلي مع اشتراكهما في الإتيان بالمأمور به على ما هو عليه بشراشر شرائطه وأجزائه أولا. وأمّا البحث عن لزوم قصد الوجه والتمييز وعدمهما كلّها بحث فقهيّ لا يرتبط بالمقام ، فالقول باحتمال دخالة القيد شرعا في المأمور به وأنّه لا يحصل إلّا بالعلم التفصيلي أجنبيّ عن المقام. (١)

وربّما يقال : والتحقيق أنّ ما ذهب إليه القوم من عدم كفاية الامتثال الإجمالي المستلزم للتكرار حقّ لا محيص عنه بتقريب أنّ في مورد دوران الواجب بين عملين يحتمل في كلّ منهما أن يكون هو الواجب يمتنع أن يؤتى بكلّ منهما بداعي احتمال الأمر ؛ إذ احتمال الأمر كالعلم به سابق على العمل غير مترتّب عليه خارجا ، فلا يصلح للداعويّة مع أنّ الداعي يكون متأخّرا بوجوده الخارجيّ عن العمل ومترتّبا عليه ولكنّه بوجوده التصوّري العلمي سابق على العمل ، ولا يمكن الإتيان بكلّ منهما بداعي تحقّق الموافقة ؛ إذ لا علم بتعلّق الأمر به ، فيستلزم ذلك التشريع المحرّم. نعم أحد الفعلين موافق للأمر قطعا ، ولكنّه لا يعلمه بعينه ، فهو حين يأتي بالفعلين يدعوه داعيان : أحدهما تحصيل الموافقة والآخر التخلّص من تعب تحصيل العلم مثلا ، والأوّل داع الهيّ قربيّ ، والآخر غير قربيّ وإن كان عقلائيا.

ومن الواضح أنّ الداعيّ الإلهي لا يتعيّن واقعا لموافق الأمر وغيره لمخالفه كي يصدر العمل عن داع قربيّ خالص ، بل نسبة الداعيين إلى كلّ من الفعلين على حدّ

__________________

(١) (تهذيب الاصول ٢ / ٥٥)

٥٤١

سواء ، بمعنى أنّه لا تمييز لأحدهما على الآخر في مقام الداعويّة. وعليه فيصدر كلّ من الفعلين عن داعيين أحدهما إلهيّ والآخر دنيويّ ، وهو ينافي المقربيّة. (١)

وفيه : أنّ التكرار بداعي الموافقة لا يوجب التشريع ؛ لوجود الأمر بينهما ، ويتطلّب الأمر الموافقة وهي تصلح للداعويّة وإن لم يعلم بأنّ الموافق أيّهما كان ولا ينافي ذلك كون التخلّص من تعب تحصيل العلم التفصيلي داعيا لاختيار كيفيّة الامتثال الإجمالي.

وبعبارة اخرى : الأمر يدور بين أحد التعبين المتضادّين : أحدهما تحصيل العلم التفصيلي والآخر هو الاحتياط الإجمالي ، والمكلّف إذا اختار تعب الاحتياط الإجمالي يتخلّص من تعب تحصيل العلم التفصيلي ، لأنّ كلّ ضدّ ملازم لعدم الآخر كما لا يخفى. وعليه فالداعي بالنسبة إلى أصل الامتثال هو الموافقة للأمر الواقعي وهو داع إلهيّ وبالنسبة إلى كيفيّة الامتثال يكون داعيه غير إلهيّ ولا إشكال في ذلك بعد ما عرفت من عدم لزوم قصد القربة في خصوصيّات الامتثال وكيفيّته فلا تفعل.

الجهة الثالثة : فيما إذا لم يتمكّن المكلّف من الامتثال العلميّ التفصيلي ودار الأمر بين الامتثال العلميّ الإجماليّ والامتثال الظنّيّ التفصيلي.

ولا يخفى عليك أنّه إن كان الامتثال الظنّيّ التفصيلي ممّا قام دليل خاصّ على اعتباره ، فإن كانت حجّيّته مترتّبة على عدم إمكان الامتثال العلميّ الإجمالي فالمتعيّن هو الامتثال الإجمالي ، وإن لم تكن حجّيّته مترتّبة فالامتثال الظنّيّ التفصيلي كالعلم التفصيلي ، فكما نقول بجواز الامتثال العلميّ الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي ، فكذلك نقول بجواز الامتثال الإجمالي مع التمكّن من الامتثال الظنّيّ التفصيلي المعتبر بالدليل الخاصّ حرفا بحرف.

__________________

(١) (منتقى الاصول ٤ / ١٢٨ ـ ١٢٩)

٥٤٢

وأمّا إذا لم يكن الامتثال الظنّيّ التفصيلي ممّا قام دليل خاصّ على اعتباره بل يكون من الظنّ الانسدادي المعبّر عنه بالظن المطلق فقد فصّل في مصباح الاصول تبعا لصاحب الكفاية بين القول بالكشف فيقدّم الامتثال الظنّيّ التفصيلي الانسدادي على الاحتياط بالامتثال الإجمالي ؛ فإنّ الكشف مبنيّ على عدم جواز الاحتياط ، لكونه مخلا ومعه يستكشف أنّ الشارع جعل لنا حجّة ثمّ العقل يعيّنها بالسبر والتقسيم في الظنّ دون المشكوكات والموهومات ؛ لكون الظنّ أقرب إلى الواقع من الشكّ والوهم ، وعليه فلا مجال للاحتياط مع التمكّن من الامتثال بالظنّ المطلق ؛ لأنّ الكشف مبنيّ على ممنوعيّة الاحتياط.

وبين القول بالحكومة فإنّه مبنيّ على عدم وجوب الاحتياط لكونه عسريّا فلا يستكشف منه حجّيّة الظنّ المطلق شرعا ، والعقل لا يحكم بحجّيّة الظنّ المطلق أيضا بل العقل يحكم حينئذ بتضييق دائرة الاحتياط في المظنونات دون الموهومات والمشكوكات (لرفع العسر). وعليه فلا مانع من الاحتياط والاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع التمكّن من الامتثال الظنّيّ المطلق. (١)

وممّا ذكر يظهر إمكان القول ببطلان عبادة تارك طريقى التقليد والاجتهاد والآتي بالاحتياط فيما إذا كان الاحتياط ممنوعا ؛ لكونه مخلا بالنظام ، كما ذهب إليه في الكفاية ، فاللازم عليه هو الأخذ بالظنّ ، فالعدول عنه إلى الاحتياط يوجب البطلان هذا.

ولكنّه محلّ تأمّل ونظر ؛ لأنّ غايته هو اجتماع الأمر والنهي ، وحيث نقول بجوازه لا مجال للحكم ببطلان العبادة ، مع أنّ مركب النهي هو كيفيّة الامتثال لا أصل الامتثال ، والنهي متوجّه إليها من جهة كونها موجبة للإخلال بالنظام ، لا من جهة خصوص العبادة.

__________________

(١) راجع مصباح الاصول ٢ : ٨٦ ـ ٨٧.

٥٤٣

الخلاصة :

الجهة العاشرة في العلم الإجماليّ

يقع الكلام في أمور :

الأمر الأوّل ، أنّ العلم الإجمالي كالتفصيلي ، في كونه موجبا لحرمة المخالفة القطعيّة ، لأنّ المعتبر في حكم العقل بقبح المخالفة هو وصول التكليف ، والوصول كما يتحقّق بالتفصيلي فكذلك بالإجمالي ، وعدم تميّز مصداق المكلّف به في أطراف المعلوم بالإجمال لا ينافي وصول أصل المكلّف به ، ألا ترى أنّه لا فرق بين ما إذا عرف المكلّف خمرا بعينها ، وبين علمه بوجودها في أحد الكأسين في حكم العقل بوجوب الاجتناب وقبح المخالفة.

الأمر الثاني : أنّ العلم الإجمالي كالتفصيلي أيضا في كونه موجبا لوجوب الموافقة القطعيّة ، إذ التكليف يتنجّز بالإجمالي كالتفصيلي ، ومقتضى تنجيز التكليف ، هو وجوب الامتثال ، وهو لا يتحقّق إلّا بالاحتياط التامّ في الأطراف ، لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.

ودعوى التفصيل بين الشبهة الحكميّة وكفاية الإتيان بأحد الأطراف ، وبين الشبهة الموضوعيّة ولزوم الإتيان بجميع الأطراف ، مستدلا بأنّ المعلوم الوجوب في الأوّل هو الجامع ، وهو الصلاة مثلا ، وترددت بين الجمعة والظهر ، فحصلت الموفقة القطعيّة في مثله بالإتيان بالجامع ، وهو يتحقّق بإتيان أحد الفردين ، لأنّ الجامع يوجد بوجوده هذا بخلاف ما إذا كان المعلوم الوجوب هو الفرد وتردّد بين الطرفين فإنّ الإتيان بأحدهما لا يكفي في الامتثال.

٥٤٤

مندفعة بأنّ وجوب الجامع بما هو جامع لا يقبل الترديد ويكون خارجا عن محلّ الكلام ، لأنّ مقتضاه هو العلم التفصيليّ بالجامع.

بل محلّ الكلام ، هو ما إذا علمنا بنوع خاصّ من الصلاة وتردّدنا في كونها هي الجمعة أو الظهر ، فلا إشكال حينئذ في أنّه يوجب الاحتياط التامّ.

الأمر الثالث : أنّ العلم الإجمالي يكون مقتضيا بالنسبة إلى المنجّزيّة والمعذّريّة ، وليس بعلّة تامّة ، وذلك لشوبه بالشكّ ، إذ مع هذا الشوب بالشكّ يحكم العقل ، أو العقلاء ، بجواز أن يمنّ الشارع برفعه ، ويسهّل الأمر على المكلّفين ، ويجعل الجهل التفصيلي بالخطاب ، سببا لجواز الترخيص في ترك الموافقة القطعيّة ، أو فعل المخالفة القطعيّة فيما إذا كان لمصلحة التسهيل أرجح بنظر الشارع من بقاء التكليف على ما هو عليه ، ولا يلزم من ذلك مناقضة ، ولا ترخيص في المعصية ، لأنّهما فيما إذا لم يكن فعليّة المعلوم بالإجمال مرفوعة ، ولا يلزم أيضا من ذلك ظلم في حقّ المولى ، لأنّ ذلك متفرّع على بقاء التكليف ، ومع الرفع لا موضوع للظلم ، كما لا يخفى. وعليه فالرفع في المعلوم بالإجمال كالرفع في الشبهات البدويّة ، والشبهات غير المحصورة ، فكما أنّ الرفع فيهما لا يوجب المناقضة ، مع أنّ الأحكام الواقعيّة في الشبهات البدويّة مشتركة بين العالم والجاهل ومع أنّ الأحكام المعلومة في الشبهات غير المحصورة واصلة بالعلم الإجمالي ، فكذلك في المعلوم بالإجمال ، في الشبهات المحصورة ، والملاك في الكلّ ، هو وجود الموضوع للحكم الظاهريّ وهو الشكّ ، أو الشوب به.

الأمر الرابع : أنّ بعد ما عرفت من إمكان جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي ، يقع النوبة إلى مقام الإثبات ، والبحث عن شمول أدلّة الاصول العمليّة لأطراف المعلوم بالإجمال وعدمه.

وهذا البحث يناسب باب البراءة والاشتغال ، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

أنّ مقتضى الأدلّة العامّة ، هو جواز الأخذ بالاصول في أطراف المعلوم

٥٤٥

بالاجمال أيضا ، ولكن يمنع عن ذلك الأدلّة الخاصّة ، والجمع بين الأدلّة العامّة والخاصّة ، يقتضي الحكم بعدم جواز الأخذ بالاصول في أطراف المعلوم بالإجمال مطلقا ، فيحرم المخالفة القطعيّة والاحتماليّة ، ويجب الموافقة القطعيّة. نعم الموارد التي تكون خارجة عن مدلول الأخبار الخاصّة ، ولو مع إلغاء الخصوصيّة ، يرجع فيها إلى عمومات البراءة ، كموارد الشبهات غير المحصورة ، والخارج عن محلّ الابتلاء ، فتدبّر جيّدا.

الأمر الخامس : في جواز الاكتفاء بالعلم الإجمالي في مقام الامتثال مع التمكن من الامتثال التفصيلي.

ويقع الكلام في جهات :

الجهة الأولى : أنّه لا إشكال في جواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي في التوصّليّات ، لوضوح سقوط الأمر والتكليف بإتيان المأمور به كيفما اتّفق ، والمأمور به يؤتى به بالامتثال الإجمالي.

ودعوى أنّ التوصّليّات تعمّ الإيقاعات والعقود ، والإتيان بها احتياطا يوجب الإخلال بالجزم المعتبر في الإنشاءات ، إذ الترديد ينافي الجزم ، ولذا ذهبوا إلى عدم صحّة التعليق في الإنشاءات.

مندفعة بإمكان أن يأتي بكلّ طرف جازما ، من دون تعليق وترديد في الإنشاء. فلا فرق بين الإجمالي والتفصيلي في جواز الاكتفاء ، سواء كان في الإنشائيّات ، أو غيرها. ودعوى اعتبار الجزم في الإنشائيّات لا تنافي مع الاكتفاء بالإجمالي ، لإمكان أن ياتي بكلّ طرف جازما لا معلّقا ، فلا تغفل.

الجهة الثانية : في جواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي في العباديّات ، ولا يذهب عليك أنّ الاحتياط فيها ، إما لا يوجب التكرار ، كما إذا دار الأمر بين الاقلّ والأكثر ، وإما يوجب التكرار ، كما إذا دار الأمر بين المتباينين.

٥٤٦

وفي كلّ واحد منهما يجوز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي ، لصلاحيّة احتمال الأمر للامتثال.

ودعوى أنّ التكرار مستلزم للعب ومعه لا يصدق الامتثال.

مندفعة أوّلا بمنع الاستلزام المذكور ، لإمكان أن يترتّب غرض عقلائيّ على اختيار الامتثال الإجمالي.

وثانيا : بأنّ مع تسليم لزوم اللعب ، لا يضرّ ذلك ، لأنّه في كيفيّة الامتثال وخصوصيّاته ، لا في أصل الامتثال. ولا إشكال في عدم لزوم قصد القربة في الخصوصيات ، كما إذا اختار المصلّي محلا حارّا أو باردا لصلاته ، فلا إشكال في صحّة صلاته.

لا يقال إنّ التكرار والاحتياط ينافي قصد الوجه والتميز.

لأنّا نقول لا دليل على وجوب مراعاتهما. هذا مضافا إلى إمكان مراعاة قصد الوجه بأن يأتي بالاحتياط والتكرار ، لغاية وجوب العبادة.

ودعوى أنّ الداعي على التكرار ، ليس هو احتمال الأمر ، لأنّه سابق على العمل ، وليس مترتّبا عليه ، خارجا مع أنّ الداعي يكون متأخّرا عن العمل بوجوده الخارجيّ.

وليس الداعي على الإتيان بكلّ واحد منهما تحقّق الموافقة مع الأمر ، إذ لا علم بتعلّق الأمر بكلّ واحد منهما ، بل قصد الأمر بكلّ واحد ، تشريع محرّم. نعم أحد الفعلين موافق للأمر قطعا ولكنّه لا يعلمه بعينه. وعليه فالداعي لإتيان الفعلين أمران ، أحدهما تحصيل الموافقة ، والآخر التخلّص من تعب تحصيل العلم مثلا ، والأوّل داع قربىّ ، والآخر غير قربىّ ، وإن كان عقلائيّا.

ونسبة هذين الداعيين إلى كلّ واحد من الفعلين على حدّ سواء ، بمعنى أنّه لا تمييز لأحدهما على الآخر في مقام الداعويّة ، وعليه فيصدر كلّ من الفعلين عن داعيين

٥٤٧

أحدهما إلهيّ والآخر دنيويّ ، وهو ينافي المقرّبيّة.

مندفعة بأنّ التكرار بداعي تحصيل الموافقة ، لا يكون تشريعا محرّما ، لوجود الأمر بين الأطراف ، والأمر المعلوم بينها يتطلّب الموافقة ، وهي تصلح للداعويّة وإن لم يعلم بأنّ الموافق أيّهما كان.

والتخلّص من تعب تحصيل الامتثال التفصيليّ ، من فوائد الامتثال الإجمالي ، لا من أسبابه ودواعيه. هذا مع أنّه لو سلّم ، ذلك فالداعي المذكور يكون داعيا لكيفيّة الامتثال ، لا لأصل الامتثال ، فلا دليل على كون كيفيّة الامتثال قربيّا ، فلا تغفل.

الجهة الثالثة : فيما إذا لم يتمكّن المكلّف من الامتثال العلميّ التفصيلي ، ودار الأمر بين الامتثال العلميّ الإجمالي ، والامتثال الظنّيّ التفصيلي.

ولا يخفى عليك أنّه إن كان الامتثال الظنّيّ التفصيلي ، ممّا قام على اعتباره دليل خاصّ ، فإن كان حجّيّته مترتّبة على عدم إمكان الامتثال العلميّ الإجمالي ، فالمتعيّن ، هو الامتثال العلميّ الإجمالي.

وإن لم تكن كذلك ، فالامتثال الظنّيّ التفصيليّ المعتبر ، كالعلم التفصيلي ، فكما نقول بجواز الامتثال العلميّ الإجمالي مع التمكّن من العلميّ التفصيلي ، فكذلك نقول بجواز الامتثال العلميّ الإجمالي مع التمكّن من الامتثال الظنّيّ التفصيليّ المعتبر بالدليل الخاصّ حرفا بحرف ، وأمّا إذا لم يكن الامتثال الظنّيّ التفصيليّ ممّا قام دليل خاصّ على اعتباره ، بل يكون من الظنّ الانسداديّ المعبّر عنه بالظنّ المطلق.

فقد فصّل فيه ، بين القول بالكشف ، فيقدّم الامتثال الظنّيّ التفصيليّ الانسدادي على الاحتياط بالامتثال الإجمالي.

فإنّ الكشف مبنيّ على عدم جواز الاحتياط ، لكونه مخلّا بالامور ، ومعه يستكشف أنّ الشارع جعل لنا حجّة ، والعقل يعيّنها بالسبر والتقسيم في الظنّ المطلق ، دون المشكوكات والموهومات ، لكون الظنّ ، أقرب إلى الواقع من الشكّ والوهم.

٥٤٨

وعليه فلا مجال للاحتياط مع التمكّن من الامتثال الظنّي ، بعد ما عرفت من أنّ الكشف مبنيّ على ممنوعيّة الاحتياط.

وبين القول بالحكومة ، فإنّه مبنيّ على عدم وجوب الاحتياط ، لكونه عسرا ، ومعه فلا يستكشف منه حجّيّة الظنّ المطلق شرعا ، ولا يحكم العقل بحجّيّته أيضا ، بل العقل يحكم بتضييق دائرة الاحتياط في المظنونات ، لرفع العسر دون الموهومات والمشكوكات. وعليه فلا مانع من الاحتياط والاكتفاء بالامتثال الإجمالي ، مع التمكّن من الامتثال الظنّيّ المطلق التفصيلي.

ويتفرّع على التفصيل المذكور ، بطلان عبادة تارك طريقي التقليد والاجتهاد ، والآتي بالاحتياط فيما إذا كان الاحتياط ممنوعا ، لكونه مخلّا بالنظام فاللازم عليه هو الأخذ بالظنّ ، فالعدول عنه إلى الاحتياط يوجب البطلان ، ولكنّه محلّ تأمّل ونظر ، لأنّ غايته هو اجتماع الأمر والنهي ، وحيث نقول بجواز اجتماع الأمر والنهي ، لا مجال للحكم ببطلان العبادة. مع أنّ مركب النهي هو كيفيّة الامتثال ، لا أصل الامتثال ، والنهي متوجّه إليها من جهة كونها موجبة للإخلال بالنظام ، لا من جهة خصوص العبادة ، فتدبّر جيّدا.

٥٤٩

الباب الثاني في الظنّ

وفيه فصول :

الفصل الأوّل في إمكان التّعبد به ذاتا

ولا يخفى عليك أنّ الظنّ ليس كالقطع في كونه علّة أو مقتضيا للحجّيّة ، إذ الظنّ لا يكون كشفا تامّا حتّى يثبت به موضوع حكم العقل ، هذا بخلاف القطع فإنّ به يثبت موضوع حكم العقل ، ويترتّب عليه الحجّيّة ، مثلا إذا قطعنا بالوجوب كانت مخالفته مصداقا للظلم ، والظلم موضوع لحكم العقل بالقبح واستحقاق العقوبة. وأمّا إذا حصل لنا الظنّ بالوجوب لم يتحقّق به موضوع الحكم العقلي ما لم ينضمّ إليه حكم الشرع والتعبّد به ؛ إذ الموضوع هو المخالفة مع التكليف التي تكون مصداقا من مصاديق عنوان الظلم ، وهو لا يثبت بالانكشاف الناقص من دون تعبّد به. وعليه فلا مانع من أن يرد التعبّد به ويجعل الحجّيّة له من الشارع سواء كان الكاشف عن حجّيّته ظواهر الآيات والسنّة أو الإجماع أو مقدّمات الانسداد الموجبة لكشف العقل أنّ الشارع جعل الظنّ حجّة ؛ إذ التعبّد به وجعل الحجّيّة له ليس بتناقض ، ولا باجتماع المثلين لعدم ثبوت شيء من الأحكام بنفس الظنّ فيصحّ أن يقال : جعل الحجية للظنّ ممكن ذاتا ولا فرق فيما ذكر بين مقام الإثبات وبين مقام سقوط التكليف ، فكما أنّ بالظنّ لا يثبت حكم ، فكذلك لا يكتفى بالظنّ في مقام الامتثال ، بل اللازم هو القطع بالفراغ بعد اليقين بالاشتغال.

٥٥٠

وربّما ينسب إلى المحقّق الخوانساري قدس‌سره التفصيل بين مقام الإثبات ومقام السقوط حيث قال في باب الاستصحاب : إذا كان أمر أو نهي عن فعل إلى غاية معيّنة مثلا فعند الشكّ في حدوث تلك الغاية لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل الظنّ بالامتثال ، والخروج من العهدة وما لم يحصل الظنّ لم يحصل الامتثال.

فإنّ ظاهره هو كفاية الظنّ بسقوط الواقع بعد العلم بثبوته (في الامتثال) وإلّا لقال لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل القطع بالخروج عن العهدة ، كما في نهاية الدراية (١).

ولكنّه لا وجه له ؛ إذ مع الاشتغال اليقينيّ بالتكليف لا مجال للاكتفاء بالامتثال الظنّيّ غير المعتبر مع احتمال أن لا يمتثل التكليف وتحصل المخالفة وتستحقّ العقوبة والمفروض أنّه لم يرد دليل على جواز الاكتفاء به والقول بأنّ دفع الضرر المحتمل ليس بواجب ممنوع بأنّ الضرر إن كان دنيويّا يحكم العقل بنحو الاقتضاء بوجوب دفعه نعم لو حصل عارض يرجّح على تحمّل الضرر الدنيوي فيقدّم عليه لأنّ الحكم بالوجوب في الضرر الدنيوي يكون اقتضائيّا ويسقط عن الفعلية عند تزاحمه بالأهمّ ولكن المفروض في المقام عدم عروض عنوان راجح.

وإن كان الضرر اخرويا يحكم العقل بنحو العلّيّة بوجوب دفعه والضرر في المقام ضرر اخرويّ فلا مجال للاكتفاء بالامتثال الظني مع القطع بالتكليف.

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٤١.

٥٥١

الخلاصة :

الفصل الأوّل

في أنّ التعبّد به ممكن ذاتا ولا محذور فيه

لأنّ الظنّ في نفسه ليس كالقطع في كونه علّة أو مقتضيا للحجّيّة لوضوح أنّ الظنّ لا يكون كشفا تامّا عن التكليف حتّى يثبت به موضوع حكم العقل بقبح مخالفة التكليف واستحقاق العقوبة على المخالفة. نعم لو انضمّ إليه التعبّد الشرعي به فهو صار كالقطع في كونه موضوعا للحكم العقلي بقبح المخالفة واستحقاق العقوبة عليها.

فالتعبّد بالظنّ وجعل الحجّيّة له ممكن ذاتا إذ لا يستلزم من ذلك التناقض ولا اجتماع المثلين لعدم ثبوت حكم في الواقع بنفس الظنّ حتّى يلزم المحذورات المذكورة ولا فرق في ذلك بين أن يستفاد التعبّد بالظنّ من ظواهر الكتاب والسنّة أو الإجماع أو مقدّمات الانسداد على تقدير الكشف.

ثمّ لا تفاوت في عدم حجّيّة الظنّ بين مقام إثبات التكليف وبين مقام سقوطه.

ودعوى كفاية الظنّ في مقام سقوط الواقع بعد العلم بثبوته في مقام الامتثال.

مندفعة بأنّ مع الاشتغال اليقينيّ بالتكليف لا مجال للاكتفاء بالامتثال الظنّيّ ما لم يرد دليل على جواز الاكتفاء به شرعا.

لا يقال يجوز الاكتفاء بالظنّ في مقام سقوط الواقع إذ بعد الإتيان بالظنّ غير المعتبر لا يبقى إلّا احتمال الضرر ودفعه ليس بواجب. لأنّا نقول عدم وجوب دفع

٥٥٢

الضرر المحتمل ممنوع لأنّ الضرر إن كان دنيويّا يحكم العقل بنحو الاقتضاء بوجوب دفعه ما لم يعرض عنوان راجح على تحمّل الضرر الدنيوي وإلّا فيقدّم عليه. لأنّ الحكم بوجوب دفع الضرر الدنيويّ اقتضائيّ وتعليقيّ ويرتفع هذا الحكم بعروض عنوان راجح.

ولكن مفروض الكلام فيما إذا لم يعرض عنوان راجح ومعه يجب دفع احتمال الضرر ومعناه عدم جواز الاكتفاء بالظنّ في مقام السقوط.

وإن كان الضرر أخرويّا يحكم العقل بوجوب دفعه بنحو العلّيّة فلا يجوز الاكتفاء بالامتثال الظنّي الذي لا دليل على اعتباره مع القطع بالتكليف كما هو واضح وبالجملة فيمكن التعبّد بالظنّ ذاتا ولا يلزم من ذلك محذور أصلا.

٥٥٣

الفصل الثاني : في أنّ التعبّد بالظنّ وجعل الحجّيّة له ممكن وقوعا إذ لا يلزم منه محذور كصدور القبيح من الحكيم المتعال ، وأدلّ الدليل على الإمكان ذاتيّا كان أو وقوعيّا هو قيام الأدلّة المتواترة القطعيّة الصدور والقطعيّة الدلالة على حجّيّة بعض الظنون كحجّيّة الظنون الحاصلة من الألفاظ ولو شككنا في الإمكان والامتناع عند ورود تعبّد بظنّ من الظنون فهل هنا أصل يرجع إليه في الإمكان وعدمه أولا؟.

فالظاهر هو الأوّل ، قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : واستدلّ المشهور على الإمكان ـ أي إمكان التعبّد بالظن ـ بأنّا نقطع بأنّه لا يلزم من التعبّد به محال ، ثمّ قال : وفي هذا التقرير نظر ؛ إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة وعلمه بانتفائها ، وهو غير حاصل فيما نحن فيه ، فالأولى أن يقرّر هكذا إنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمّل ما يوجب الاستحالة ، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان. (١)

ظاهره أنّ إمكان الشيء ثابت عند العقلاء بعدم وجدان الدليل على الامتناع ، ولا يحتاج إلى القطع بعدم المحذور ، ففي فرض عدم القطع بعدم المحذور نكتفي بعدم وجدان ما يوجب الاستحالة في الحكم بالإمكان وترتّب آثاره عليه.

أورد عليه في الكفاية بوجوه : أحدها : أنّه لم يثبت بناء من العقلاء على ترتيب آثار الإمكان عند الشك فيه. وثانيها : أنّه على تقدير ثبوت البناء المذكور نمنع حجّيّة هذا البناء ، لعدم قيام دليل قطعيّ عليها ، والظنّ بالاعتبار والحجّيّة على فرض

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢٤ ط ـ قديم.

٥٥٤

وجوده لا يفيد الاعتبار والحجّيّة ؛ إذ الكلام في الحال في إمكان التعبّد بالظنّ وامتناعه ، ولا يمكن إثبات إمكان التعبّد بالظنّ بنفس الظنّ.

وثالثها : أنّه على تقدير حجّيّة بناء العقلاء على ترتيب آثار الإمكان عند الشكّ فيه لا حاجة إليه مع وجود أدلّة وقوع التعبّد بالظنّ ، كما لا فائدة في هذا البحث أصلا بدون أدلّة وقوع التعبّد بالظنّ ؛ إذ مع عدم الدليل على الوقوع لا يترتّب فائدة على البحث عن الإمكان ، مع أنّ البحث الاصولي لا بدّ فيه من ترتّب ثمرة عليه.

أجاب عنه في مصباح الاصول بأنّ الانصاف تماميّة ما ذكره الشيخ رحمه‌الله ، ولا يرد عليه شيء من هذه الإشكالات ؛ وذلك لأنّ ما ذكره صاحب الكفاية مبنيّ على أن يكون مراد الشيخ رحمه‌الله هو البناء على الإمكان مطلقا ، ولكنّ الظاهر أنّ مراده هو البناء على الإمكان عند قيام دليل معتبر على الوقوع ، كما إذا دلّ ظاهر كلام المولى على حجّيّة الظنّ ، ولا أقلّ من احتمال ذلك في كلام الشيخ رحمه‌الله.

وحينئذ تترتّب الثمرة على البحث عن الإمكان والاستحالة ؛ إذ على تقدير ثبوت الإمكان لا بدّ من الأخذ بظاهر كلام المولى والعمل بالظنّ. وعلى تقدير ثبوت الاستحالة لا مناص من رفع اليد عن الظهور ؛ للقرينة القطعيّة العقليّة ، ولا ينبغي الشكّ في أنّ بناء العقلاء في مثل ذلك على الإمكان والعمل بالظاهر ما لم تثبت الاستحالة ، فلو أمر المولى عبده بشىء وشكّ العبد في إمكان وجوبه واستحالته ؛ لاحتمال أن يكون ذا مفسدة ، واستحال أن يأمر المولى العالم الحكيم بما فيه المفسدة ، فاحتمل أن لا يكون ظاهر الكلام مراده ويكون أمره للامتحان أو غيره ممّا ليس فيه طلب جدّيّ ، فهل يشكّ أحد في بناء العقلاء على الأخذ بظاهر كلام المولى وعدم الاعتناء باحتمال الاستحالة؟! وهل يشكّ أحد في إمضاء الشارع لهذا البناء من العقلاء؟!

٥٥٥

فاندفع جميع ما ذكره صاحب الكفاية من الوجوه الثلاثة. (١)

وحاصله : أنّ مرجع كلام الشيخ إلى مقتضى أصالة الظهور ، وهو الأخذ بالظهورات ما لم يثبت الاستحالة ، لا أنّ للعقلاء حكما جديدا في الحكم بالإمكان ما لم يقم في الوجدان على استحالته برهان.

لا يقال : إنّه لا يعقل الجزم بثبوت شيء إلّا مع الجزم بإمكانه ، وعليه فالجزم بالثبوت لا يجامع احتمال الاستحالة.

لأنّا نقول كما أفاده المحقّق الأصفهاني قدس‌سره : نعم لو كان المطلوب هو الجزم بالشيء كما في اصول العقائد والمعارف اليقينيّة ، وأمّا إذا كان المطلوب فيه هو الجري العملي على وفقه والعمل على طبقه دون الجزم بتحقّقه كالحكم العملي ومنه التعبّد بالظنّ فإنّه لا يعتبر فيه الجزم بثبوته لئلّا يجامع احتمال استحالته ، فمثله يكفي فيه مجرّد وجود الحجّة على ثبوته ، فالدليل المتكفّل لحجيّة الخبر مثلا سواء كان ظاهر الكتاب أو الأخبار المتواترة معنى أو سيرة العقلاء مع عدم ردع الشارع عنها يكون حجّة على حجّيّة الخبر من دون منافاة لاحتمال الاستحالة ؛ إذ الحجّة لا يزاحمها الّا الحجّة ، واحتمال الاستحالة ليس بحجّة ، فاتّضح أنّ الوجه في الحكم بالإمكان هو الأخذ بالحجّة ، وهي أصالة الظهور ، وعدم الاعتناء باحتمال الاستحالة في مقام الجري العملي.

لا البناء الجديد من العقلاء في الحكم بالإمكان ما لم يقم في الوجدان على استحالته برهان ؛ لعدم دليل على وجود بناء جديد.

ولا ما حكي عن الشيخ الرئيس من أنّه كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان ؛ لإمكان أن نقول : إنّ الإمكان الذي

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٩٠ ـ ٩١.

٥٥٦

هو يكون محلّ الكلام هو الإمكان الذاتيّ أو الوقوعيّ المقابلين للامتناع ، بخلاف الإمكان بمعنى الاحتمال المقابل للقطع بالعدم كما هو ظاهر كلام الشيخ الرئيس. ولا مجال للنزاع في الإمكان بهذا المعنى ؛ إذ لا موطن له إلّا الوجدان ، والمرجع فيه هو الوجدان ، ولا حاجة فيه إلى إقامة بيّنة وبرهان ؛ إذ الشيء إذا كان وجدانيّا ليس أمرا قابلا للنزاع والشكّ لأنّ الترديد والشكّ إنّما يكونان في الترديد تحقّق شيء حاصل لبعض وغير حاصل للآخر ، لا ما هو حاصل للجميع ، كما هو مقتضى الوجدان.

٥٥٧

الخلاصة :

الفصل الثاني

في إمكان التعبّد بالظنّ وقوعا لعدم لزوم محذور منه كصدور القبيح عن الحكيم المتعال إذ لا قبح في التعبّد به كما هو الظاهر بل أدلّ الدليل على وقوعه هو قيام الأدلّة القطعيّة على حجّيّة بعض الظنون كحجّيّة الظنّ الحاصل من الألفاظ إذ لو لم يكن التعبّد به ممكنا لما صدر عن الشارع اعتبار الظنّ كما لا يخفى.

ولو شكّ في أنّ التعبّد بالظنّ ممكن أو ممتنع عند ورود التعبّد بالظنّ ذهب المشهور إلى الإمكان بدعوى أنّا نقطع بأنّ التعبّد المذكور لا يلزم منه محال.

أورد عليه الشيخ الأعظم قدس‌سره بأنّ دعوى القطع بعدم لزوم المحال موقوف على إحاطة العقل وهي غير حاصل فالأولى هو أن يقال لا نجد في عقولنا ما يوجب الاستحالة وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان.

وحاصل ذلك أنّ في فرض عدم القطع بعدم المحذور نكتفي بعدم وجدان ما يوجب الاستحالة في الحكم بالإمكان.

واستشكل عليه بأنّ ثبوت البناء من العقلاء على ذلك أوّل الكلام. اللهمّ إلّا أن يقال إنّ مراد الشيخ الأعظم قدس‌سره هو قيام البناء على الإمكان عند قيام دليل معتبر على الوقوع كما إذا دلّ ظاهر كلام المولى على حجّيّة الظنّ.

ولا ينبغي الشكّ حينئذ في ثبوت بناء العقلاء في مثل ذلك على الإمكان والعمل

٥٥٨

بالظواهر ما لم تثبت الاستحالة.

لا يقال أنّه لا يعقل الجزم بثبوت الشيء إلّا مع الجزم بإمكانه وعليه فالجزم بالثبوت لا يجامع احتمال الاستحالة.

لأنّا نقول ليس المطلوب في المقام الجزم بالشيء كما في العقائد الدينيّة بل المطلوب هو الجري العملي على وفق الظنّ والعمل على طبقه من دون حاجة إلى الجزم بتحقيق المظنون ومن المعلوم أنّ ذلك يكفي فيه وجود الحجّة على اعتباره فالدليل المتكفّل لحجّيّة الظنّ كالظنّ الخبري يكفي في حجّيّة الخبر ما لم يقم حجّة على خلافه واحتمال الاستحالة لا ينافي حجّيّة الظنّ بقيام الحجّة عليه إذ الحجّة لا يزاحمها إلّا الحجّة واحتمال الاستحالة ليس بحجّة.

٥٥٩

الفصل الثالث : في الوجوه التي استدلّ بها لاستحالة التعبّد بغير العلم من الأمارات والاصول. وهي متعددة :

أحدها : أنّ التعبّد بغير العلم محال ؛ لأنّ مرجعه إلى اجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين مثلا فيما إذا أصاب أو اجتماع ضدّين من إيجاب وتحريم أو إرادة وكراهة أو مصلحة ومفسدة ملزمتين بلا كسر وانكسار في البين لبقائهما على ما عليهما فيما إذا أخطأ بناء على القول بالتخطئة وإلّا يلزم من التعبّد بغير العلم أن لا يكون هناك أحكام غير مؤدّيات الأمارات ، وهو التصويب.

وثانيها : أنّه يلزم من التعبّد بغير العلم تكليف بالمحال ، وهو طلب الضدّين فيما إذا أخطأ وأدّى إلى وجوب ضدّ الواجب ، وهو لا يقع من الحكيم المتعال.

وثالثها : أنّه يلزم من التعبّد بغير العلم تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فيما إذا أدّى إلى عدم وجوب ما هو واجب في الواقع أو عدم حرمة ما هو حرام في الواقع وكونه محكوما بسائر الأحكام.

ورابعها : أنّ الأمارة ربّما تقوم على وجوب ما هو مباح واقعا أو على حرمة ما هو مباح كذلك ، ولازم حجّيّة الأمارة حينئذ هو الإلزام بشيء من الفعل أو الترك من دون أن تكون فيه مصلحة ملزمة ، أو مفسدة ملزمة ، مع أنّا نقول بتبعيّة الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد ، ولعلّ هذا هو مراد من يقول : إنّ حجّيّة الأمارة تستلزم تحريم الحلال أو إيجابه.

٥٦٠