عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

به العقل وفيه ما لا يخفى.

ولعلّ نظرهما في ذلك إلى ما يستفاد من الأخبار مثل قولهم عليهم‌السلام : «حرام عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوا منّا» وقولهم عليه‌السلام : «لو أنّ رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية ولى الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله حقّ في ثوابه ، ولا كان من أهل الإيمان» ، وقولهم عليهم‌السلام : «من دان الله بغير سماع من صادق فهو كذا وكذا» إلى غير ذلك (١) ، من أنّ الواجب علينا هو امتثال أحكام الله التي بلّغها حججه عليهم‌السلام ، فكلّ حكم لم يكن الحجّة واسطة في تبليغه لم يجب امتثاله.

ولكن يمكن جوابهما :

أوّلا : بما أفاده شيخنا الأعظم قدس‌سره من أنّا نمنع مدخليّة توسّط تبليغ الحجّة في وجوب إطاعة حكم الله سبحانه ، كيف والعقل بعد ما عرف أنّ الله تعالى لا يرضي بترك الشيء الفلاني وعلم بوجوب إطاعة الله لم يحتجّ ذلك إلى توسّط مبلغ.

ودعوى استفادة ذلك من الأخبار ممنوعة ؛ فإنّ المقصود من أمثال الخبر المذكور هو عدم جواز الاستبداد بالأحكام الشرعيّة بالعقول الناقصة الظنّيّة على ما كان متعارفا في ذلك الزمان من العمل بالأقيسة والاستحسانات من غير مراجعة حجج الله بل في مقابلهم عليهم‌السلام ، وإلّا فإدراك العقل القطعي للحكم المخالف للدليل النقلي على وجه لا يمكن الجمع بينهما في غاية الندرة ، بل لا نعرف وجوده ، فلا ينبغي الاهتمام به في هذه الأخبار الكثيرة مع أنّ ظاهرها ينفي حكومة العقل ولو مع عدم المعارض الخ.

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٩ من أبواب مقدمة العبادات ، ح ٢ ، والباب ٦ من ابواب صفات القاضي وغير ذلك من الأبواب.

٥٠١

وثانيا : بما أفاده الشيخ الأعظم قدس‌سره أيضا من أنّا سلّمنا مدخليّة تبليغ الحجّة في وجوب الإطاعة لكنّا إذا علمنا إجمالا بأنّ حكم الواقعة الفلانيّة لعموم الابتلاء بها قد صدر يقينا من الحجّة مضافا إلى ما ورد من قوله عليه‌السلام في خطبة حجّة الوداع : «معاشر الناس ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم عن النار إلّا أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم إلى النار ويباعدكم عن الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه» ثم أدركنا ذلك الحكم إمّا بالعقل المستقلّ أو بواسطة مقدّمة عقليّة نجزم من ذلك بأنّ ما استكشفناه بعقولنا صادر عن الحجّة صلوات الله عليه ، فيكون الإطاعة بواسطة الحجّة (١) :

وثالثا بأنّ مع تسليم إطلاق الروايات المذكورة لإدراكات العقليّة البديهيّة يمكن أن يقال إنّها معارضة بما دلّ على لزوم اتّباع العلم. ومقتضى كون النسبة بينهما هي عموم من وجه هو التساقط ، ويرجع حينئذ إلى ما حكم به العقل من وجوب اتّباع القطع ، فلا تغفل. لا يقال : لا مجال للرجوع إلى ما حكم به العقل من وجوب اتّباع القطع ، لأنّ ما ورد في الشرع من باب الإرشاد إلى الحكم العقليّ ، فمع التعارض بين الأدلّة الشرعيّة الدالّة على الإرشاد إلى الحكم العقليّ لا بقاء للحكم العقليّ حتّى يرجع إليه لأنّا نقول : إنّ التعارض بين الإرشادين ، ومع التساقط يبقى الحكم العقليّ على ما هو عليه كأنّه لم يرشد إليه ، فيمكن الرجوع إليه :

فتحصّل أنّه لا مجال للنهي عن العمل بالقطع فيما إذا لم يعرض عنوان أهمّ يزاحم حكم العقل ، وإلّا لزمت المناقضة بين مكشوف القطع والنهي الوارد والترخيص في المعصية كما لا يخفى. نعم كثيرا ما لا يحكم العقل باعتبار مناطات الأحكام ؛ لعدم إحاطته بجميع جهات المصالح والمفاسد والمزاحمات والموانع.

وبالجملة : إن أراد الأخباريّون منع الصغرى أي وجود الحكم العقلي في كثير

__________________

(١) فرائد الاصول : ١١ ـ ١٢ ، ط قديم.

٥٠٢

من الموارد فلا بأس بمقالتهم.

وإن أرادوا منع الكبرى وتجويز النهي عن العمل بالقطع مع وجود حكم العقل بلزوم اتّباعه من دون عروض عنوان مزاحم ففيه منع ؛ لما عرفت من أنّ ذلك مستحيل ، للزوم المناقضة في الأحكام الشرعيّة. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ كلّ مورد ورد النهي عن العمل بالقطع نستكشف عروض عنوان معه لا يحكم العقل ولا العقلاء بفعليّة الحكم ليتزاحم العنوان المذكور مع المقطوع ، فتدبّر جيّدا.

ملاحظة الملازمة بين الحكم العقليّ والشرعيّ

ينبغي أن نتكلم هنا في ما اشتهر من أنّه كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، وكلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل. وهذا يحتوي الملازمتين. وقد تصدّى السيد المحقق الخوئي قدس‌سره لبيان الملازمة الأولى وتحقيقها حيث قال في توضيحها ونقدها : إنّ إدراك العقل يتصوّر على أقسام ثلاثة :

الأوّل : أن يدرك العقل وجود المصلحة أو المفسدة في فعل من الأفعال فيحكم بالوجوب أو الحرمة لتبعيّة الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد عند أكثر الإماميّة والمعتزلة.

والصحيح في هذا الفرض أنّ حكم العقل غير مستلزم لثبوت الحكم الشرعي ؛ إذ قد تكون المصلحة المدركة بالعقل مزاحمة بالمفسدة وبالعكس ، والعقل لا يمكنه الإحاطة بجميع جهات المصالح والمفاسد والمزاحمات والموانع ، فبمجرّد إدراك مصلحة أو مفسدة لا يمكن الحكم بثبوت الحكم الشرعي على طبقها. وإن كان مراد الأخباريّين من عدم حصول القطع بالحكم الشرعي من المقدّمات العقليّة هذا المعنى فهو الحقّ.

والثانى : أن يدرك العقل الحسن أو القبح كإدراكه حسن الطاعة وقبح

٥٠٣

المعصية ، فيحكم بثبوت الحكم الشرعي في مورده ؛ لقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وهو مما لا مساغ. لإنكاره ، فإنّ إدراك العقل حسن بعض الأشياء وقبح البعض الآخر ضروريّ ، ولولاه لما كان طريق إلى إثبات النبوة والشريعة ، فإنّه لو لا حكم العقل بقبح إجراء المعجزة على يد الكاذب لم يمكن تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لاحتمال الكذب في ادّعاء النبوّة ، إلّا أنّك قد عرفت في بحث التجرّي أنّ هذا الحكم في طول الحكم الشرعي وفي مرتبة معلوله ، فإنّ حكم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصية إنّما هو بعد صدور أمر مولويّ من الشارع ، فلا يمكن أن يستكشف به الحكم الشرعي.

والثالث : أن يدرك العقل أمرا واقعيّا مع قطع النظر عن ثبوت شرع وشريعة ، نظير إدراكه استحالة اجتماع النقيضين أو الضدّين ، ويسمّى بالعقل النظري ، وبضميمة حكم شرعيّ إليه يكون بمنزلة الصغرى يستكشف الحكم الشرعي في مورده. ولا ينبغي التوقّف في استتباعه الحكم الشرعي ، فإنّ العقل إذا أدرك الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته أو بين وجوب شيء وحرمة ضدّه وثبت وجوب شيء بدليل شرعيّ فلا محالة يحصل له القطع بوجوب مقدّمته وبحرمة ضدّه أيضا إذ العلم بالملازمة والعلم بثبوت الملزوم علّة للعلم بثبوت اللازم ، ويسمّى هذا الحكم بالعقلي غير المستقلّ ؛ لكون إحدى مقدّمتيه شرعيّ. (١)

ولا يخفى عليك أنّ الأصحّ أن يقال في القسم الأوّل : إنّ العقل كثيرا ما لا يحكم ؛ لعدم إحاطته بجهات المصالح والمفاسد والمزاحمات والموانع ، والظاهر من عبارة مصباح الأصول أنّ العقل يحكم ولكن لا يستلزم الحكم الشرعيّ ، وهو كما ترى ؛ فإنّه مع احتمال المزاحم كيف يحكم العقل؟!

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٥٥ ـ ٥٦.

٥٠٤

والتحقيق : أنّ العقل قد يكون محيطا بالنسبة إلى المناطات والعلل فحينئذ يكون حاكما ، وقد لا يكون كذلك فلا يكون حينئذ حاكما.

ثمّ إنّ تخصيص إدراك الحسن والقبح في القسم الثاني بدائرة المعلولات للاحكام كالطاعة والمعصية غير سديد ؛ لأنّ المستقلّات العقليّة لا تختصّ بتلك الدائرة ، بل تعمّ دائرة العلل كإدراك حسن العدل وقبح الظلم أو حسن شكر المنعم وقبح كفرانه أو حسن دفع الضرر المحتمل وقبح الإلقاء في التهلكة أو حسن تصديق النبي بعد إقامة المعجز وقبح الكفر به أو حسن الإرشاد إلى المصالح وقبح الإغراء إلى خلافها وهكذا. وعليه فدعوى الملازمة بين الحكم العقلي المحيط بالمناطات ودائرة العلل وبين حكم الشارع غير مجازفة.

لا يقال : إنّ أدلّة نفي الحرج وأدلّة نفي التكليف عن الصبيّ المراهق مع تماميّة حسن الفعل يكفي للاستدلال لعدم الملازمة بين الحكم العقليّ والحكم الشرعي ، حيث إنّ العقل يحكم بلزوم الفعل في الموردين مع أنّ الشرع لا يحكم به.

لأنّا نقول إنّا نمنع حكم العقل في مثلهما ؛ إذ مجرّد وجود المصلحة في المتعلّق لا يكفي ، بل اللازم هو ملاحظة حسن نفس التكليف وعدم وقوع المكلّفين في المشقّة أيضا ، وحسن التكليف في صورة المشقّة وقبل حصول البلوغ الشرعي غير محرز ، ومعه لم يثبت الحكم العقلي.

لا يقال : بعد حكم الشارع بما هو عاقل بالمدح أو الذمّ المستتبعان لاستحقاق المثوبة والعقوبة حصل الداعي من قبل الشارع بما هو عاقل ، فلا مجال بعد ذلك لجعل الداعي بعد ثبوت الداعي ؛ لأنّه تحصيل الحاصل واختلاف حيثيّة العاقليّة وحيثيّة الشارعيّة لا يرفع محذور ثبوت داعيين متماثلين مستقلّين في الدعوة بالنسبة إلى فعل

٥٠٥

واحد ؛ لأنّ الواحد لا يعقل صدوره عن علّتين مستقلّتين في الدعوة. (١)

لأنّا نقول : أوّلا : إنّ المدح والذمّ العقليين لا يلازمان الثواب والعقاب ولو بملاحظة أوساط الناس ، ويشهد لذلك صحّة المذمّة دون العقاب فيما إذا ألقى المولى لباس المولوية وأمر ونهى بحيثيّة الإرشاد ؛ فإنّ عصيانه حينئذ يوجب المذمة ، ولكن لا يوجب العقوبة ؛ لأنّ المفروض عدم ملاحظة حيثيّة المولويّة ، وحيث إنّ المفروض في المقام أنّ الشارع حكم بما هو عاقل لا بما هو شارع ، فلا يكون حكمه مستلزما للعقوبة. وعليه فمع حكم الشارع بما هو عاقل لا يحصل الداعي الذي يحصل من حكم الشارع بما هو شارع ، ومعه فلجعل الداعي من قبل الشارع مجال ، وحيث إنّ أوساط الناس لا يرتدعون إلّا بالعقوبة الشرعيّة ، فجعل الداعي من قبل الشارع بما هو شارع له فائدة تامّة.

ودعوى اجتماع الداعيين المتماثلين مندفعة بإمكان التأكيد ، كما أنّ الأمر في جمع العنوانين كذلك.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ دعوى الملازمة وإن كانت ممكنة والمناقشات الصغرويّة لا تضرّ بها ، ولكن بعد إمكان الاكتفاء بالدلالة العقليّة ـ أي حكم الشارع بما هو عاقل ـ لا دليل على لزوم حكم الشارع بما هو شارع بعد كونه حاكما بما هو عاقل.

إلّا أنّ الإنصاف أنّ الحكم العقلي كثيرا ما لا يكفي في إمكان جعل الداعي في أوساط الناس. وعليه فمقتضى قاعدة اللطف والحكمة هو أن يحكم الشارع بما هو شارع أيضا ، ولعلّه لذلك ذهب المشهور إلى وجود الملازمة ، وهو صحيح فيما إذا كان العقل محيطا وكان حكمه في ناحية العلل والمناطات أو الواقعيّات ، ولا يكون الحكم العقلي كافيا في التحريك والانبعاث.

__________________

(١) نهاية الدراية مبحث الانسداد ٢ : ١٢٩.

٥٠٦

ولكن لا يخفى عليك أنّ تحقّق القيود والشروط المذكورة في الحكم العقلي قليل الوقوع. هذا تمام الكلام في الملازمة الأولى.

واما الملازمة الثانية وهي قاعدة كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل فهي صحيحة أيضا إن اريد من الحكم الشرعيّ الحكم الشرعيّ الحقيقي واريد من العقل هو العقل المحيط على مناطات الشرعيّة بعد ما عليه العدليّة من ابتناء الأحكام على المصالح والمفاسد. وعليه فلا يرد أنّ الأوامر الامتحانيّة أو الأوامر الصادرة تقيّة من الأوامر الشرعيّة مع أنّ متعلّقاتها ليست محسنة بحيث يحكم العقل بها ، فدعوى الملازمة المذكورة من أنّ كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل غير صحيحة ؛ لأنّ الحكم الشرعي في تلك الموارد موجود ، ولا حكم للعقل.

وذلك لأنّ الأوامر الامتحانيّة ليست بأوامر حقيقة ، وعليه فتلك الأوامر خارجة عن محلّ الكلام ، بل هى إمّا تورية أو تؤوّل إلى الأوامر بالنسبة إلى مقدّماتها دون ذيها ، وهكذا الأوامر الصادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام تقيّة لحقن دمائهم ليست أوامر حقيقة بل هي أفعال صادرة لحفظ دمائهم ، ولا تفيد البحث.

هذا ، مضافا إلى إمكان أن يقال : إنّ الأوامر الامتحانيّة أو الصادرة عنهم تقيّة لحفظ دمائهم أو دماء الشيعة لا تخلو عن المحسّنات ولو كانت في نفس التكاليف ، والعقل بملاحظة تلك المحسّنات أيضا يحكم بها كما لا يخفى.

ولكن أورد عليه في نهاية الدراية بأنّ الحكم الشرعي لا يكشف عن المصلحة والمفسدة إلّا إجمالا ، فلا يعقل الحكم من العقل بحسنه أو قبحه تفصيلا ، وأمّا الحكم بحسنه أو قبحه إجمالا بأن يندرج تحت القضايا المشهورة فلا دليل له ؛ لأنّ المصالح والمفاسد التي هي ملازمات الأحكام الشرعيّة المولويّة لا يجب أن يكون من المصالح العموميّة التي يحفظ بها النظام ويبقى بها النوع ، كما أنّ الأحكام الشرعيّة غير منبعثة عن انفعالات طبيعية من رقّة أو رحمة أو ألفة أو غيرها ، ولا ملاك للحسن والقبح

٥٠٧

العقليين إلّا أحد الأمرين. نعم العقل يحكم بأنّ الأحكام الشرعيّة لم تنبعث إلّا عن حكم ومصالح خاصّة راجعة إلى المكلّفين بها ، فالحكم بالعلّة لمكان إحراز المعلول أمر والحكم بالحسن والقبح العقلائيين أمر آخر. (١)

يمكن أن يقال : إنّ العقل يحكم بالحسن والقبح ولو لم يكن نظام واجتماع ، ولا يتوقّف حكمه بحسن العدل وقبح الظلم على وجود الاجتماع وتطابق آرائهم على حسن المصالح العموميّة التي بها يحفظ النظام ويبقى بها النوع أو على قبح المفاسد التي بها يختلّ النظام وينعدم بها النوع.

بل العقل كان يبتهج من العدل ويشمئزّ من الظلم قبل الاجتماع وتطابق الآراء.

ووجه ذلك : أنّ الظلم نقص ، والنقص لا يكون سنخا لكمال العقل ولذا يتنفّر منه والعدل كمال والكمال يكون سنخا لكمال العقل ولذا يعجبه ، والاشمئزاز والابتهاج لا يختصّان بأفراد من الإحسان والإساءة والظلم والعدل ؛ لأنّهما يكونان بالنسبة إلى كليّ الظلم والعدل والإساءة والإحسان ، كما يشهد به الوجدان.

وعليه فلا وجه لتخصيص التحسين والتقبيح العقليين بموارد القضايا المشهورة ، بل يحكم العقل بهما إجمالا بعد اطّلاعه وكشفه الإجمالي عن وجود المصالح أو المفاسد الموجبة للحكم الشرعي ، ولا يلزم في التحسين والتقبيح العقليين وجود المصالح التي بها يحفظ النظام ويبقى بها النوع كما هو المقرّر في القضايا المشهورة.

هذا مضافا إلى أنّ مقتضى أصالة أنّ كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات أنّ التحسين والتقبيح في القضايا المشهورة يرجعان في النهاية إلى صفتي النقص أو الكمال الموجبة للملائمة مع النفس أو المنافرة لها المقتضيتين لصحّة المدح أو الذمّ ، وإلّا لزم

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ١٣١ ـ ١٣٢.

٥٠٨

التسلسل ، على أنّ لازم إنكار الحسن والقبح العقليين هو جواز الكذب في الوعد والوعيد ؛ إذ التخلّف فيهما لا يوجب اختلالا للنظام ؛ لأنّهما مربوطان بالآخرة ، واختلال النظام مربوط بعالم الدنيا ، والمفروض أنّ العقل لا يحكم بحسن ولا بقبح ، والتمسك بالتحسين والتقبيح شرعا يلزم منه الدور ؛ لعدم حكم العقل بقبح الكذب على الشارع ، فهذا القول يستلزم جواز الكذب على الله تعالى ، وهكذا جوازه على الأنبياء عليهم الصلوات والسلام ، ونعوذ بالله من ذلك.

فتحصّل صحّة الملازمة الثانية بالمعنى المذكور ، أي أنّ العقل بعد اطّلاعه وإحاطته على المصالح ومفاسد الأحكام ولو بالكشف الإنّي من ناحية نفس الأحكام الشرعية يحكم بما حكم به الشارع ؛ لأنّه يعلم أنّ الشارع لا يحكم بشيء من دون مصلحة أو مفسدة إذ الإسلام دين حكمة وصلاح.

موارد النهي عن العمل بالقطع

وقد عرفت ممّا مرّ إمكان ورود النهي عن العمل بالقطع فيما إذا اختلّ أسبابه أو عرض على المقطوع عنوان أهمّ آخر ؛ لأنّ الحجيّة من الأحكام العقليّة أو العقلائيّة ، وليست من الأمور القهريّة ، وليس لهم حكم في أمثال هذه الصور ، وهكذا إذا عرف الشارع اختلال الأسباب أو عروض عنوان أهمّ أمكن له أن ينهى عن العمل بالقطع في هذه الصور. هذا بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الإثبات فيمكن أن يقال : إنّ الروايات تنهى عن العمل بالقطع في بعض الموارد :

منها : الروايات الواردة في النهي عن العمل بالقياس فإنّ إطلاقها يشمل ما إذا أوجب القياس للقطع أيضا ، وإليك جملة منها :

روى في الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : يقول إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم

٥٠٩

بالمقائيس فلم تزدهم المقاييس من الحقّ ، إلّا بعدا وإنّ دين الله لا يصاب بالمقائيس. (١)

وروي في التوحيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : قال الله جلّ جلاله : ما آمن من فسّر برأيه كلامي وما عرفني من شبّهني بخلقي ، وما على ديني من استعمل القياس في ديني (٢).

وروي في إكمال الدين عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت : جعلت فداك إنّ أناسا من أصحابك قد لقوا آباءك وجدّك وقد سمعوا منهما الحديث وقد يرد عليهما الشيء ليس عندهم فيه شيء وعندهم ما يشبهه فيقيسوا على أحسنه؟ قال : فقال : ما لكم والقياس ، إنّما هلك من هلك بالقياس. (٣)

وروي في الكافي عن محمد بن حكيم قال قلت : ... ربّما ورد علينا الشيء لم يأتنا فيه عنك ولا عن آبائك (عنه) شيء فنظرنا إلى أحسن ما يحضرنا وأوفق الأشياء لما جاءنا عنكم فنأخذ به؟ فقال : هيهات هيهات ، في ذلك والله هلك من هلك يا بن حكيم. قال : ثم قال : لعن الله أبا حنيفة كان يقول : قال عليّ وقلت. قال : محمد بن حكيم لهشام بن الحكم : والله ما أردت إلّا أن يرخص لي في القياس. (٤)

وروي عن الكافي عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنّته فننظر فيها؟ قال : لا ، أما أنّك إن أصبت لم تؤجر وإن أخطأت كذبت على الله عزوجل. (٥)

__________________

(١) جامع الأحاديث ١ : ٢٧٠.

(٢) جامع الأحاديث ١ : ٢٧٢.

(٣) جامع الأحاديث ١ : ٢٧٣.

(٤) جامع المدارك ١ : ٢٧٤.

(٥) جامع الأحاديث ١ : ٢٧٥.

٥١٠

وروي في إكمال الدين عن علي بن الحسين عليهما‌السلام أنّ دين الله عزوجل لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة ، ولا يصاب إلّا بالتسليم ، الحديث. (١)

وروي في الدعائم عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال لأبي حنيفة : ما الذي تعتمد عليه فيما لم تجد فيه نصّا من كتاب الله ولا خبرا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : أقيسه على ما وجدت من ذلك. قال له : إنّ أوّل من قاس إبليس فأخطأ إذ أمره الله بالسجود لآدم فقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، فرأى أنّ النار أشرف عنصرا من الطين فخلّده ذلك في العذاب المهين ، الحديث. (٢)

وروي في تفسير فرات أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ولا رأي في الدين ، إنّما الدين من الربّ أمره ونهيه. (٣)

وروي في الكافي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّه قال إنّ من أبغض الخلق إلى الله عزوجل لرجلين رجل يكله الله إلى نفسه فهو حائر (جائر) عن قصد السبيل ... إلى أن قال : وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيّأ لها حشوا من رأيه ثمّ قطع به ، فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ ، لا يحسب العلم في شيء مما أنكر ، ولا يرى أنّ وراء ما بلغ فيه مذهبا الحديث. (٤)

وإلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على النهي عن القياس ولو كان مفيدا للقطع.

__________________

(١) جامع الأحاديث ١ : ٢٧٦.

(٢) جامع الأحاديث ١ : ٢٨٨.

(٣) جامع الأحاديث ١ : ٢٩٦.

(٤) جامع الأحاديث ١ : ٣٠٢.

٥١١

وحمل هذه الروايات على خصوص القياس الظنّيّ لا شاهد له ، بل هو مخالف لإطلاق الروايات. هذا مضافا إلى دلالة بعض الأخبار على أنّ ملاك النهي هو قصور العقل عن الإصابة إلى الدين ، وهو يعمّ كليهما ، ودلالة بعض آخر على أنّ أهل القياس طلبوا العلم بالمقائيس ولم يقربوا إلى الواقع ولو حصل العلم لهم ، ودلالة بعض آخر على أنّه لو فرضت الإصابة من ذلك الطريق لا توجب الأجر ، وصراحة الرواية الأخيرة في صورة القطع ، ودلالة قول أبان : «إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ونقول الذي جاء به شيطان» على أنّه حين قاس كان قاطعا وان زال يقينه بإرشاد الإمام عليه‌السلام ، ولكنّ الإمام عليه‌السلام نهى عن قياسه من دون تفصيل بين كونه موجبا للقطع وعدمه ، وإليك رواية أبان :

روي محمّد بن يعقوب عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه وعن محمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعا عن ابن أبي عمير عن عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبان بن تغلب قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة كم فيها؟ قال : عشرة من الإبل ، قلت قطع اثنين؟ قال : عشرون. قلت : قطع ثلاثا قال : ثلاثون. قلت : قطع أربعا قال : عشرون. قلت : سبحان الله يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون ، إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ونقول الذي جاء به شيطان. فقال : مهلا يا أبان ، هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية فإذا : بلغت الثلث رجعت إلى النصف ، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس والسنّة إذا قيست محقّ الدين. (١)

وكيف كان فمع قوّة الإطلاقات المذكورة وشمولها لصورة القطع لا مجال لدعوى

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٤ من ابواب باب الأعضاء ح ١.

٥١٢

معارضة الأخبار الناهية مع ما دلّ على لزوم اتّباع العلم لترجيح الأخبار الناهية عليها لو لم نقل بانصراف الأخبار الدالّة على لزوم اتّباع العلم عن مورد القياس.

وممّا ذكر يظهر ما في مباحث الحجج حيث ذهب إلى معارضة الأخبار الدالّة على النهي عن الرأي الذي يشمل بإطلاقه القطع بالدليل العقلي مع ما دلّت عليه الروايات والنصوص من لزوم اتّباع العلم وجواز القضاء أو العمل به وبراءة ذمّة العامل به من دون تقييد بالعلم الحاصل من دليل شرعيّ والتساقط ؛ لأنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، فلا يبقى دليل على النهي المذكور. (١)

وذلك لما عرفت من ترجيح الأخبار الناهية عن القياس على الأخبار الدالّة على لزوم اتّباع العلم ؛ لأنّها معلّلات لو لم نقل بانصرافها عن القطع القياسي ، فتدبّر جيّدا.

ثمّ إنّ المستفاد من الأخبار المذكورة أنّ القياس المنهيّ هو الذي يكون مبنيّا على الشباهة والمقايسة التي تكون في أغلب الموارد غير مفيدة لواقعيّة الحكم ؛ لأنّ الشباهة ليست دليل وحدة الحكم ، بل هو في الحقيقة إسراء الحكم من مورد إلى مورد آخر.

وعليه فالأخذ بالعلل المنصوصة أو الحكم المنصوصة ؛ أو الدلالات الظاهرة من ألفاظ الكتاب خارج عن مورد القياس ولا تشمله النواهي ؛ لأنّ بناء ذلك على دلالات النصوص لا المشابهة والمقايسة ، كما أنّ إلغاء الخصوصيّة أو إدراج القيود ليس بقياس ، بل هو تنقيح موضوع الدليل فإلغاء قيد الدلو مثلا في نزح البئر وجواز مقداره بغير الدلو إلغاء خصوصيّة الدلو وتنقيح أنّ موضوع الدليل مقداره وليس بقياس ، وهكذا إدراج شيء في الموضوع بالدلالة العرفيّة كإدراج استقرار الحياة في

__________________

(١) مباحث الحجج ١ : ١٤٠ ـ ١٤١.

٥١٣

الحيوان عند فري أوداجه الأربعة بقرينة أنّ فري الأوداج لإزهاق الروح ليس بقياس بل هو أيضا تنقيح موضوع الدليل.

وأمّا تنقيح المناط القطعي فإن كان مبنيّا على المشابهة والمقايسة فقد عرفت أنّه نفس القياس ، والقياس بإطلاقه منهيّ عنه ، وإن كان ظاهر بعض العبارات أنّه غير منهيّ لا سيّما قياس الأولويّة في المناط ، ولعلّه لذا قال الإمام الصادق عليه‌السلام لابي حنيفة ويحك أيّهما أعظم قتل النفس أو الزنا؟ قال : قتل النفس. قال : فإنّ الله عزوجل قد قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلّا أربعة ، ثمّ قال عليه‌السلام ـ : أيّهما أعظم الصلاة أو الصوم؟ قال : الصلاة. قال : فما بال الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة فكيف يقوم لك القياس؟! فاتّق الله ولا تقس (١).

وإن كان مبنيّا على كشف العلل الواقعية الشرعيّة بالعقل المحيط فهو ليس بقياس ، بل هو كشف العلّة ، ولكنّه قليل التحقّق والوقوع ، ولا أقلّ من الشكّ فلا تشمله الأدلّة الناهية عن القياس.

ثمّ إنّ علماء اهل السنّة سلكوا في الاستنباط مسالك تسعة :

الأوّل : النصّ على العلّة ، والثاني : الإيماء بأقسامه ، الثالث : الإجماع ، الرابع : المناسبة بين الوصف والحكم ، الخامس : الشبه ، السادس : الدوران كالدوران بين المعنى اللغوي والعرفي ونحوهما ، السابع : السّبر والتقسيم ، الثامن : الطّرد وهو إلحاق الشيء بالأعمّ الأغلب ، التاسع : تنقيح المناط. (٢)

وعلماءنا لا يسلكون المسالك المذكورة إلّا بمقدار ما استفادوه من النصوص ولو كان ظنّيّا ؛ لأنّ ظهور الألفاظ مقطوع الحجّيّة بخلاف غيرها فإنّها ظنّيّات غير

__________________

(١) جامع الأحاديث ١ : ٨٧.

(٢) المدخل : ١٧٥ ـ ١٧٦.

٥١٤

مستندة إلى الألفاظ أو مبنيّات على المشابهات والمقايسات. نعم لا بأس بتنقيح المناط القطعيّ الذي لا يكون مبنيّا على المشابهات ، ولكنّه قليل الوجود.

ثم إنّ المحكي عن العلّامة في النهاية أنّه قال : واعلم أنّ الجمع بين الأصل والفرع تارة يكون بإلغاء الفارق ويسمّى تنقيح المناط ، وتارة يكون باستخراج الجامع ، وهنا لا بدّ من بيان أنّ الحكم في الأصل معلّل بكذا ومن بيان وجود ذلك المعنى في الفرع ، ويسمّى الأوّل تخريج المناط ، والثاني تحقيق المناط. (١)

ولا يذهب عليك أنّه إن أراد بإلغاء الفارق إلغاء الخصوصيّة وتنقيح الموضوع فلا كلام ، وإلّا ففيه ما مرّ من التفصيل.

ومنها : الروايات الواردة في النهي عن اعتناء الوسواسي بوسواسه فإنّ إطلاقها يشمل ما إذا كان قاطعا ، ففي صحيحة ابن سنان : ذكرت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجلا مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت : هو رجل عاقل؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان؟! فقلت له : وكيف يطيع الشيطان؟ فقال عليه‌السلام : سله هذا الذي يأتيه من أيّ شيء هو ، فإنّه يقول لك : من عمل الشيطان. (٢)

فإنّ المراد من المبتلى بالوضوء والصلاة هو الوسواس فيهما ، وهو بإطلاقه يشمل صورة القطع ، والمستفاد من الرواية أنّ التكرار والعمل بالقطع في صورة الوسواس منهيّ عنه ؛ لأنّ المقطوع معنون بعنوان آخر يوجب تبدّل الحكم وهو عمل الشيطان ، وليس وجه النهي في فرض كون الوسواسي قاطعا إلّا كون مقطوعه معنونا بعمل الشيطان.

هذا مضافا إلى التعليلات الواردة في كثير الشكّ مع أنّه لم يبلغ حدّ الوسواس ،

__________________

(١) المدخل ، للشعرانى : ١٨٦.

(٢) الوسائل : الباب ١٠ من ابواب مقدمة العبادات ، ح ١.

٥١٥

كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إذا كثر عليك السهو فامض على صلاتك فإنّه يوشك أن يدعك ، إنّما هو من الشيطان. (١) وفي صحيحة زرارة وأبي بصير جميعا قالا : قلنا له : الرجل يشكّ كثيرا في صلاته حتّى لا يدري كم صلّى ولا ما بقي عليه؟ قال : يعيد. وقلنا : فإنّه يكثر عليه ذلك كلّما أعاد شكّ؟ قال : يمضي على شكّه ، ثمّ قال : لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه ، فإنّ الشيطان خبيث معتاد لما عوّد ، فليمض أحدكم في الوهم ، ولا يكثرن نقض الصلاة ، فإنّه إذا فعل ذلك مرّات لم يعدّ إليه الشكّ. قال زرارة : ثمّ قال : إنّما يريد الخبيث أن يطاع ، فإذا عصي لم يعدّ إلى أحدكم. (٢)

والمستفاد من هذه التعليلات ممنوعيّة الإطاعة للشيطان ، وهي أمر لا يقبل التخصيص ، فلا مجال لاحتمال أن يكون المنع عن التعوّد للخبيث مخصوصة بمورد كثير الشكّ دون علم الوسواسي ، فبعد إطلاق الممنوعيّة أو عمومها لعموميّة التعليل لا يكون القطع منجّزا ولا معذّرا ؛ لعروض عنوان يمنع عن فعليّة التنجيز ، والتعذير.

وأمّا قطع القطّاع ، فلم أر نصّا فيه. نعم لا يحكم العقل أو العقلاء بعد كون القاطع قطّاعا بكون قطعه منجّزا ومعذّرا لموهونيّة قطعه وكشفه عندهم ، ومع الموهونيّة لا يجب اتّباعه بل القاطع محجوج كما لا وقع لقطع من لم يتعلّم مقدّمات العلوم والفنون ولم يكتسب خبرويّة فيها عند العقلاء بل ينهونه عن العمل به خصوصا عند إعمال القطع في حق الغير.

فهل ترى أنّ العقلاء يجوّزون لمن لا خبروية له بأن يعمل على طبق علمه في حقّ نفسه أو غيره؟! بل لو عمل به مع اعترافه بأنّه لا تعلم ولا خبرويّة له كان

__________________

(١) الوسائل الباب ١٦ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح ١.

(٢) الوسائل الباب ١٦ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح ٢.

٥١٦

محجوجا كما لا يخفى.

وأمّا الأخبار الدالّة على لزوم الاتّباع عن العلم والعقل فقد مرّ ما فيها من انصرافها عن مثل قطع القطّاع أو الوسواسي بعد ما عرفت من عدم اعتبار قطع أمثالهم عند العقل والعقلاء فلا تغفل.

٥١٧

الخلاصة :

الجهة التاسعة : في قطع القطّاع والوسواس ونحوهما ، ولا يخفى عليك أنّ حكم العقل بالتنجيز ، وقبح مخالفة التكليف المقطوع واستحقاق العقوبة ، يكون من باب أنّ المخالفة مع التكليف المعلوم مصداق لهتك المولى ، وهو ظلم ، إلّا أنّ هذا الحكم يكون متفرّعا على المخالفة للتكليف من حيث هي هي.

فلا منافاة لأن ينطبق على المخالفة المذكورة حكم آخر من جهة طروّ عنوان آخر أهمّ يزاحمه كالتحرّز عن الوقوع في كثير من الموارد في خلاف الواقع ، أو التحرّز عن إطاعة الشيطان وتعوّده لذلك.

ومع أهمّيّة العنوان الآخر الطاري لا يبقى حكم العقل بالقبح على فعليّته ، لوجود تزاحم الأهمّ.

ولا إشكال حينئذ في أن يحكم الشارع المطّلع على العنوان الطاري بالمنع عن العمل بالمقطوع ، بل لا إشكال في ذلك لكل من يعلم بطروّ العنوان الأهمّ ، نعم ، القاطع الذي لم يلتفت إلى ذلك رأى أنّ وظيفته هو الأخذ بما حكم به عقله ، ولا يمكن ردعه عن ذلك إلّا بتنبيهه إلى طروّ العنوان الأهمّ ، أو يمنعه الشارع قبل صيرورته قاطعا عن سلوك مقدّمات توجب القطع فلو قصّر في المقدّمات المذكورة وحصل له القطع ، لا يكون معذورا في ذلك.

بل يمكن أن يقال لا تنجيز للقطع المذكور ، لأنّ التنجيز ليس كالكشف أمرا ذاتيّا قهريّا للقطع ، بل هو حكم العقل ، بملاحظة المصالح والمفاسد والمزاحمات ففي صورة تزاحم مصلحة الإطاعة لله تعالى مع مفسدة ، تعوّد إطاعة الشيطان في وسوسته

٥١٨

لا حكم للعقل بالطاعة.

بل لا حكم للعقل مع الالتفات الإجمالي واحتمال عروض بعض العناوين المزاحمة.

ودعوى أنّ القاطع بالحكم لا يمكن إرجاعه إلى أحكام الشكّ من الاصول العمليّة لعدم شمولها له.

مندفعة بأنّ عدم شمول أحكام الشكّ في حال كون القاطع قاطعا ، لا ينافى عدم المعذّريّة في الجاهل المركب المقصّر ، والوسواسي ، والقطّاع ونحوهم بعد عروض العناوين المزاحمة ، أو النهي عن سلوك بعض الطرق المؤدّية إلى القطع.

فيجوز للشارع أن يمنع عن اتّباع القطع الطريقي في الموارد المذكورة ، والقاطع في هذه الموارد إذا التفت إلى أنّ الشارع لا يحكم إلّا بملاحظة العناوين المزاحمة زال قطعه ، أو حكمه من المعذّريّة والمنجزيّة. وبالجملة ، فدعوى استحالة المنع عن العمل بالقطع صحيحة فيما إذا كان القطع طريقيّا ولم يعرض عنوان مزاحم آخر.

تعاضد الدين والعقل البديهيّ

ولا يذهب عليك أنّه لا تعارض بين الدليل العقل البديهيّ الفطري ، وبين الأدلّة النقليّة لأنّ كلّ واحد مكمّل للآخر لوضوح كون الدين مبنيّا على الفطرة. ولا يمكن صدور المنع الشرعيّ عن الدليل العقل البديهي ، وإلّا لزم المناقضة في الأحكام ، ولا كلام في ذلك إلّا ما عن بعض أصحابنا من المحدّثين حيث ذهبوا إلى إمكان صدور المنع الشرعيّ عن العقل البديهي ، واللازم ، حينئذ هو تقديم الدليل النقلي على العقلي البديهي عند التعارض.

ولعلّ منشأ ذلك هي الأخبار الدالّة على «أنّه حرام عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوا منّا» وعلى «انّه لو أنّ رجلا قام ليله ونهاره ، وتصدّق بجميع ماله ، وحجّ

٥١٩

جميع دهره ، ولم يعرف ولاية ولي الله ، فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله حقّ في ثوابه ، ولا كان من أهل الإيمان» وعلى «أنّه من دان الله بغير سماع من صادق ، فهو كذا وكذا».

وعليه فكلّ حكم لم يكن الإمام واسطة في إبلاغه لم يجب امتثاله ولو دلّ عليه العقل البديهيّ.

والجواب عن هذه الأخبار ، أنّ النظر فيها إلى المنع عن الاستبداد بالعقول الناقصة التي اكتفت في كشف الأحكام الشرعيّة بالأقيسة والاستحسانات ونحوها من دون مراجعة إلى حجج الله تعالى ولا نظر فيها إلى ما يقتضيه العقل البديهيّ الفطريّ ، فلا تغفل.

الملازمة بين الحكم العقليّ والشرعي.

وقد اشتهر كلّ ما حكم به العقل ، حكم به الشرع ، والعكس ، أي كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل.

وهذا يحتوي الملازمتين.

أمّا الملازمة الاولى ، فيمكن تصوّرها في أقسام ثلاثة :

الأوّل : أنّ العقل كثيرا ما لا يكون محيطا بالنسبة إلى المناطات ، وعلل الأحكام وموانعها. ولذا لا يتمكّن من الحكم فيها ، ومع عدم حكم العقل لا ملازمة ، كما هو واضح. نعم إذا كان العقل محيطا بالنسبة إلى مورد وحكم به ولا يكون الحكم العقلي كافيا في جعل الداعي فدعوى الملازمة فيها ليست بمجازفة ولكنّه قليل الوقوع.

الثاني : أنّ العقل يدرك المستقلّات العقليّة كإدراك حسن العدل ، وقبح الظلم ، وحسن شكر المنعم ، وقبح كفرانه ، وحسن تصديق النبيّ بعد إقامة المعجزة ، وقبح الكفر به ، وحسن الطاعة ، وقبح المعصية.

٥٢٠