عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

الحرام بعينه» وثانيهما ملاحظته من حيث كشفه الخاص كما في الشهادة فإنّ الشاهد يجب عليه أن يشهد بعلمه ، والمقصود من العلم هو الكشف التامّ ، ولذا لا يجوز له الشهادة بالشهادة أو بإخبار العادل

ولا ضير في عدم موافقة هذا التقسيم للتقسيم المذكور في كلام الشيخ ؛ إذ المعيار هو ملاحظة الأدلّة والتقسيم بلحاظ الأحكام الواردة فيها.

وثانيا : أنّ التقسيم المذكور موافق لكلام الشيخ قدس‌سره ، فإنّه قسّم ذلك باعتبار دليل الحكم ـ لا باعتبار حيثيّات نفس القطع ـ كما يشهد له قوله : فإنّه تابع لدليل لحكم الخ.

وثالثا : أنّا لا نضايق أن تكون الأمارات واردة بالنسبة إلى الاصول ؛ لأنّ بقيامها يتحقّق مصداق الطريق المعتبر ويصدق الغاية أو الموضوع. ولا ضير في عدم موافقة ذلك لمسلك الشيخ قدس‌سره ؛ لأنّ المسلك المنسوب إليه مبنيّ على أنّ المأخوذ في الأدلّة هو العلم بمعنى الكشف التامّ لا العلم بمعنى مطلق الطريق ، فالأمارة على الأوّل تتقدّم على الأصول بعد قيام دليل اعتبارها من باب الحكومة ؛ لأنّها مصداق للعلم بالمعنى المذكور تعبّدا ، بخلاف الثاني فإنّه وارد على الاصول لكونه مصداقا حقيقيّا للطريق كما لا يخفى.

ورابعا : أنّ دعوى أنّ القطع المأخوذ من حيث الكاشفيّة والطريقيّة يراد به الكشف التامّ دون مطلق الكاشف ، وإلّا لعمّ الدليل للظنّ من دون حاجة إلى التنزيل.

مندفعة بأنّ يقين الكشف التامّ أو مطلق الكاشف منوط بدليل الاعتبار ، وكلّ واحد ممكن وواقع ، ومعه كيف يمكن دعوى حصر القطع المأخوذ من حيث الكاشفية والطريقيّة في الكشف التامّ ، فتدبّر جيّدا.

وخامسا : أنّه لا ضير في عدم الحاجة إلى التنزيل بين الظنّ والقطع ؛ لأنّ بعد كون المأخوذ هو القطع بعنوان كونه أحد مصاديق الطريق لا حاجة إلى التنزيل

٤٤١

المذكور ، إذ الأمارة كالعلم في صدق الطريق عليها وإحراز الواقع بها ، ومع كونه محرزا للواقع يترتّب آثار الواقع على الأمارة بوجودها من دون حاجة إلى التنزيل بين الظنّ والقطع.

نعم اللازم في شمول أدلّة اعتبار الأمارات طريقا هو وجود الآثار الشرعيّة لنفس ما قامت عليه الأمارات ولو بنفس قيام الأمارات عليه.

فلا يقال : لا أثر لنفس الواقع بالفرض فيما إذا كان العلم تمام الموضوع أو جزئه ، وعليه فلا يشمل عموم أدلّة اعتبار الأمارات لمقامنا ، إذ بدون ترتّب الأثر على الواقع يلزم لغوية الاعتبار

لأنّا نقول ـ كما فى تهذيب الاصول وتسديد الاصول ـ : أنّ حقيقة اعتبار الطرق إنّما هي كونها إحرازا لما قام الطريق عليه غاية الأمر أنّه يشترط عدم لزوم اللغوية من اعتبارها في الموارد ، ويكفي فيه أن يكون نفس قيام الطريق عليه موضوعا للحكم الشرعي ، فبعموم أدلّة حجّيّة الأمارات يصير المورد مما قام عليه الأمارة ، ويتحقّق مصداق موضوع الحكم المذكور ، ويترتّب عليه ، كما لا يخفى. (١)

فتحصّل : أنّه تقوم الأمارات مقام القطع الموضوعي كما تقوم مقام القطع المحض إذا اريد من القطع الموضوعي هو الطريق لا الكشف التامّ. والمراد من القيام مقامها أن يعامل مع الطريق المعتبر معاملة القطع واليقين في مقام العمل ، وإلّا فقد عرفت أنّه لا حاجة إلى التنزيل ، فلا تغفل.

وبيان ذلك ـ كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره ـ أنّ عمل العقلاء بالطرق ليس من باب أنّها منزلة مقام العلم ، بل لو فرضنا عدم وجود العلم في العالم كانوا عاملين بها من غير التفات إلى جعل وتنزيل أصلا.

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٣٥ ، تسديد الاصول ٢ : ٢١.

٤٤٢

فما نرى في كلمات المشايخ من القول بأنّ الشارع جعل المؤدّى منزلة الواقع تارة أو تمّم كشفه أو جعل الظنّ علما في مقام الشارعيّة أو أعطاه مقام الطريقيّة وغيرها لا تخلو عن مسامحة ؛ فإنّها أشبه شيء بالخطابة ، ولم يكن عمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأمارات إلّا جرياً على المسلك المستقرّ عند العقلاء بلا تأسيس أمارة أو تتميم كشف لها أو جعل حجّيّة وطريقيّة لواحد منها ، بل في نفس روايات خبر الثقة شواهد واضحة على تسلّم العمل بخبر الثقة ، ولم يكن الغرض من السؤال إلّا العلم بالصغرى وأنّ فلانا هل هو ثقة أولا؟

وعليه فالعمل بالأمارات عند فقد القطع الطريقي أو القطع الموضوعيّ المأخوذ بما أنّه أحد الكواشف سواء كان مأخوذا في الموضوع تماما أو جزء ليس إلّا لكونها إحدى الأفراد التى نتوصّل بها إلى إحراز الواقع من دون أن يكون نائبا أو فرعا لشيء أو قائما مقامه. (١)

فتحصّل : أنّه لا مانع من قيام الأمارات مقام القطع الطريقيّ المحض عند فقده أو القطع المأخوذ موضوعا لحكم آخر على وجه الطريقية ؛ لأنّ القطع المجرد أو المأخوذ يكون بما هو طريق منجّزا للواقع أو موضوعا لحكم من الأحكام ، والأمارة أيضا من الطرق ، فيفيد ما أفاد القطع فيتنجّز الواقع ويحقّق بها الموضوع. وأمّا القطع المأخوذ بنحو الصفتيّة أي الكشف التامّ فلا يقوم مقامه أمارة بأدلّة اعتبارها ؛ إذ لا تفيد كشفا تامّا. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون تمام الموضوع أو جزئه كما لا يخفى.

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٣٥ ـ ٣٧.

٤٤٣

المقام الثاني في قيام الاصول مقام القطع :

ولا يخفى عليك أنّ الاصول على قسمين : محرزة وغير محرزة

اما الأولى : فهي التي تكون ناظرة إلى الواقع كالاستصحاب وقاعدة الفراغ وقاعدة عدم اعتبار الشكّ من الإمام أو المأموم مع حفظ الآخر وقاعدة عدم اعتبار الشكّ ممّن كثّر شكّه وتجاوز عن المتعارف ، وغيرها من القواعد الناظرة إلى الواقع فى ظرف الشكّ.

إذ النظر في مثل الاستصحاب كان إلى اليقين السابق في إحراز الواقع ، ولا عبرة بالشك في البقاء واليقين المذكور وإن لم يكن بنفسه مع فرض عدم بقائه محرزا للواقع ، ولكن الشارع بعد حكمه بعدم جواز نقضه بالشك أبقى إحرازه بالنسبة إلى الواقع تعبّدا.

وهكذا في قاعدة الفراغ جعل الشارع ارتكاز الفاعل حين العمل على إتيان العمل مع أجزائه وشرائطه مقدّما على احتمال الاختلال ، ولذا حكم بأنّه أتى ما لزم عليه من الأجزاء والشرائط ، وعلل ذلك بأنّه أذكر حال العمل.

وأيضا قدّم حفظ الإمام على شك المأموم أو العكس اعتمادا على حفظ الآخر بالنسبة إلى إحراز الواقع.

أو قدّم حفظ المتعارف على شكّ كثير الشك في إحراز الواقع. وغير ذلك من موارد الاصول المحرزة التي جعلها الشارع محرزة للواقع.

ثمّ إنّ هذه الاصول تقوم مقام القطع الطريقيّ المجرّد أو الماخوذ في الموضوع إذ

٤٤٤

اعتبرها الشارع طرقا إلى الواقع بأدلّة حجّيّتها بوجه من الوجوه والاعتبارات ، والمفروض أنّ القطع معتبر من باب أنّه أحد الطرق من دون دخالة لتماميّة الكشف أو وصف القطع ، فتقوم الأصول المحرزة مقام القطع الطريقيّ المحض أو الماخوذ بنحو الطريقيّة.

لا يقال : إنّ الشك مأخوذ في موضوع الاصول المذكورة فكيف يمكن اعتبارها طرقا ؛ إذ لا يجتمع اعتبارها طرقا مع التحفّظ على الشك.

لأنّا نقول : إنّ المأخوذ هو الشكّ الوجداني ، وهو يجتمع مع الطرق التعبّديّة. نعم لا يجتمع مع الطرق الوجدانيّة كالعلم كما لا يخفى.

ودعوى : أنّ الظاهر من دليل الاستصحاب أنّ اليقين المذكور فيه قد اريد منه ما هو طريق إلى اليقين ، والمراد منه التعبّد ببقاء المتيقّن في زمان الشكّ ، كما يشهد له ـ مضافا إلى ظهوره بنفسه ـ الاستدلال بهذه القاعدة في أخبار الباب على الحكم ببقاء الطهارة الحدثيّة والخبثيّة. وعليه فلا يكون الاستصحاب من الاصول المحرزة ، بل مفاده هو التعبّد بالجري العملي على طبقه.

مندفعة : بأنّ الظاهر من قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو إبقاء نفس اليقين وعدم الاعتناء بنفس الشكّ ، ولذا نقول بشموله للشكّ في الرافع ؛ لأنّ اليقين ممّا يكون فيه إبرام وإحكام ، فعند الشكّ في رفع ذلك يستصحب. نعم لازم إبقاء اليقين على حاله هو إبقاء المتيقّن على حاله.

وعليه فالاستدلال بهذه القاعدة في أخبار الباب على الحكم ببقاء الطهارة لا يكون شاهدا على أنّ المراد من دليل الاستصحاب هو إبقاء المتيقّن لا اليقين ، فتدبّر جيّدا.

٤٤٥

وممّا ذكر يظهر ما في تنقيح الاصول. (١)

وأمّا الثانية ، وهي الاصول غير المحرزة التي ليس لها نظر إلى الواقع بل هي وظائف عمليّة للجاهل بالواقع كالاحتياط الشرعيّ والعقلي والبراءة العقليّة والشرعيّة فلا تقوم مقام القطع الطريقيّ والموضوعي ؛ لعدم كونها محرزة للواقع لا بالوجدان ولا بالتعبّد الشرعي ، ومع عدم كونها محرزة فلا تكون مصداقا للطرق ومع عدم كونها طرقا لا تكون قائمة مقام القطع الطريقي بلا إشكال

نعم لو اخذ القطع بعنوان كونه حجّة من الحجج فهذه الاصول تكون أيضا حجّة في مجاريها ، وتقوم مقامها ويعامل معها معاملة القطع ، فالعبرة بكيفيّة أخذ القطع موضوعا لحكم آخر ، فلا تغفل.

ثمّ ممّا ذكر يظهر أنّه لا حاجة في إثبات عدم قيام الاصول غير المحرزة مقام القطع الطريقيّ المحض أو المأخوذ في موضوع حكم آخر إلى الاستدلال بوجه آخر ، ولكن استدل في الكفاية بأنّ الاحتياط العقلي عبارة عن حكم العقل بتنجّز الواقع على المكلّف وحسن عقابه على مخالفته ، كما في موارد العلم الاجمالي والشبهة الحكميّة قبل الفحص ، والبراءة العقليّة عبارة عن حكم العقل بعدم صحّة العقاب ، ولا معنى لقيامهما مقام القطع ؛ إذ لا بدّ في التنزيل وقيام شيء مقام شيء آخر من وجه التنزيل أي الأثر الذي يكون التنزيل بلحاظه وهو المصحّح للتنزيل ، وفي المقام أثر القطع هو التنجّز والمعذوريّة ، فإذا قام شيء مقامه كان بلحاظهما لا محالة. وأمّا نفس التنجّز والمعذوريّة فلا يعقل قيامهما مقام القطع ، وليس الاحتياط والبراءة العقليّين إلّا التنجّز والتعذير بحكم العقل ، فكيف يقومان مقام القطع ، وكذا الحال في الاحتياط والبراءة الشرعيّين ، فإنّ الاحتياط الشرعي عبارة عن إلزام الشارع إدراك مصلحة الواقع ، والبراءة

__________________

(١) تنقيح الاصول ٣ : ٥٣. تسديد الاصول ٢ : ٢٣ ـ ٢٤.

٤٤٦

الشرعيّة عبارة عن ترخيصه حين عدم إحراز الواقع ، فالاحتياط الشرعي نفس التنجّز والبراءة الشرعيّة نفس التعذير بحكم الشارع ، فليس هنا شيء يقوم مقام القطع في التنجّز والتعذير. (١)

وفيه :

أوّلا : أنّه لا أثر للتنزيل في أدلّة الاحتياط العقلي التي تدلّ على لزوم الاحتياط في أطراف المعلوم بالإجمال أو الشبهة البدويّة قبل الفحص الّتي يحتمل فيها الحكم الشرعي ، وهكذا لا أثر للتنزيل في أدلّة الاحتياط الشرعيّ التي تدلّ على لزوم الاحتياط بنحو مخصوص وراء ما يدلّ عليه العقل ، كلزوم الاحتياط عند اشتباه القبلة بإتيان الصلاة إلى الجهات الأربعة ، مع أنّ العقل يدلّ على لزوم الاحتياط إلى أزيد من الجهات الأربعة.

فلا وجه لما يقال من أنّ الاحتياط والبراءة العقليين عين التنجيز والتعذير ، فلا مجال لتنزيل الاحتياط العقلي بالقطع في أثره ، وهو التنجيز والتعذير.

وثانيا : أنّ الموجب للاحتياط العقلي هو احتمال التكليف في الشبهة البدويّة قبل الفحص والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي بل هو كذلك في الاحتياط الشرعي مثل إتيان الصلاة إلى أربع جهات مع الترديد في جهة القبلة. ومن المعلوم أنّ احتمال التكليف ليس عين التنجّز والتعذير بل أثره ذلك ، فلا مانع من تنزيل الاحتمال المذكور بمنزلة القطع في الأثر المذكور.

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية حيث استدلّ لعدم قيام الاصول غير المحرزة مقام القطع بأنّ الاحتياط العقلي نفس حكم العقل بتنجّز التكليف وصحّة العقوبة على مخالفته لا شيء يقوم مقامه في هذا الحكم ، مع أنّك عرفت أنّ وجهه أنّ الاصول

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٤٠ ـ ٤١.

٤٤٧

المذكورة وظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل شرعا أو عقلا ، لا هذا الوجه. وقد أشار بنفسه إلى ما ذكرناه في عبارته ضمنا فراجع. هذا ، مضافا إلى أنّه أنكر الاحتياط النقلي ، مع وضوح ورود بعض الروايات يدلّ على جواز الاكتفاء في تكرار الصلاة عند اشتباه جهة القبلة إلى أربع جهات ، هذا.

ثم إنّه ربّما يتوهّم أنّ الاحتياط العقلي والشرعي عدا مورد الشبهة البدويّة من الاصول المحرزة ؛ لأنّه مقتضى العلم الإجمالي. ومن المعلوم أنّ العلم الاجمالي طريق إلى الواقع ، والعقل والشرع اعتبرا ذلك طريقا ويعامل معه معاملة القطع والعلم التفصيلي في لزوم الاجتناب ، وعليه فالأولى أن يمثّل للاصول غير المحرزة بمثل قاعدة الحلّيّة أو قاعدة الطهارة والاحتياط في الشبهة البدويّة قبل الفحص.

ويمكن دفع هذا التوهّم بأنّ العبرة في موارد الاحتياط العقلي بنفس الاحتمال لا بالعلم الإجمالي. ومن المعلوم أنّ الاحتمال لا طريقيّة له ، فتأمّل.

بقي شيء وهو أنّ صاحب الكفاية بعد ما منع عن قيام الأمارات والاصول المحرزة مقام القطع الموضوعي مطلقا من جهة امتناع الجمع بين اللحاظين المتنافيين من اللحاظ الآلي والاستقلالي ذكر وجها آخر لجواز قيامها مقامه. وهذا الوجه مذكور في تعليقته على فرائد الاصول ، وحاصله : أنّ المحذور المذكور فيما إذا كان التنزيلان بالدلالة المطابقة في عرض واحد ، وأمّا إذا كان احدهما بالمطابقة والآخر بالالتزام فلا يلزم المحذور المذكور ؛ لأنّ أدلّة اعتبار الأمارات والاصول المحرزة متكفّلة لتنزيل المؤدّى منزلة الواقع فقط ، فلا يكون هناك إلّا اللحاظ الآلي إلّا أنّ هذه الأدلّة الدالّة على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع بالدلالة المطابقيّة تدلّ على تنزيل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع بالالتزام لأجل الملازمة العرفيّة بين التنزيلين ، انتهى.

قال المحقّق الأصفهاني : إنّ تنزيلين بإنشاءين في عرض واحد يدلّ دليل الاعتبار على أحدهما بالمطابقة وعلى الآخر بالالتزام ليس محالا ، وهنا كذلك ؛

٤٤٨

لدلالة دليل الأمارة مثلا على ترتيب آثار الواقع مطلقا ، ومنها الأثر المترتّب على الواقع عند تعلّق القطع به حتّى في صورة كون القطع تمام الموضوع ؛ إذ لمتعلّقه دخل شرعا ولو بنحو العنوانيّة المحفوظة في جميع المراتب. وهذا التنزيل وإن كان يقتضي عقلا تنزيلا آخر حيث إنّ الواقع لم يكن له في المقام أثر بنفسه حتّى يعقل التعبّد به هنا وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع بلحاظه لكنّه لا يقتضي عقلا أن يكون المنزّل منزلة الجزء الآخر هو القطع بالواقع الجعلى ؛ لإمكان جعل شيء آخر مكانه ، إلّا أنّه لا يبعد عرفا أن يكون هو القطع بالواقع الجعلى ، فصون الكلام عن اللغويّة بضمّ الملازمة العرفيّة يدلّ على تنزيل آخر في عرض هذا التنزيل للجزء الآخر الآخر. (١)

ولعلّ الوجه في حكم العرف بأنّ المنزل منزلة الجزء الآخر هو القطع بالواقع الجعلي دون شيء آخر : أنّ التنزيل بلحاظ الأثر ، والمفروض أنّ الأمر الواقعي لا أثر له بنفسه ، بل الأثر للقطع به ، فالمناسب للمنزل عليه عرفا هو أن يكون المنزل هو القطع بالواقع الجعلي لا شيء آخر

وبعبارة اخرى : أنّ دليل اعتبار الأمارة والاستصحاب وإن تكفّلا جعل المؤدى أو المستصحب بمنزلة الواقع لكن يدلّ بالدلالة الالتزامية على أنّ القطع بهما بما هما منزلان منزلة الواقع بمنزلة القطع بالواقع ، فثبت أحد جزئي الموضوع بمفاد دليل الاعتبار والجزء الآخر بالملازمة ، هذا مضافا إلى إمكان أن يقال في وجه الملازمة : إنّ من أخبر عن موت زيد مثلا كان غرضه من الإخبار عن وقوع الموت نفي التشكيك وجدانا عن المخاطبين أيضا بحيث لو علم أنّ المخاطبين يكونون عالمين بذلك لم يخبرهم بذلك. وإذا عرفت ذلك فلو أمر شخص بتصديق المخبر رجع أمره إلى تصديق المخبر في وقوع الموت وفي عدم صحّة التشكيك. وهكذا يكون الأمر في أمر

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٢١.

٤٤٩

الشارع أيضا بتصديق العادل ، فإنّ مرجع أمره بتصديق العادل إلى تصديقه في أمرين أحدهما في كون المؤدّى أمرا واقعيّا ، وثانيهما في أنّه لا يجوز التشكيك فيه تعبّدا ، فهناك قضيتان أحدهما بالمطابقة والاخرى بالالتزام ، وتستفاد من الاولى تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، ومن الثانية تنزيل الظنّ منزلة العلم. وعليه يفهم من تنزيل المؤدّى منزلة الواقع بالملازمة العرفيّة تنزيل القطع بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع.

فاتّضح بذلك أنّه لا مانع من قيام الأمارات والاصول المحرزة مقام القطع الموضوعي بأدلّة اعتبارها ، فيترتّب عليها الآثار المترتّبة على القطع بالواقع هذا.

ولكن صاحب الكفاية أورد عليه في الكفاية بأنّ ذلك لا يخلو عن تكلّف بل تعسّف معلّلا بأنّه لا يكاد يصحّ تنزيل جزء الموضوع أو قيده بما هو كذلك بلحاظ أثره إلّا فيما كان جزئه الآخر فيما إذا كان الموضوع مركّبا أو ذاته فيما إذا كان الموضوع مقيّدا محرزا بالوجدان ، أو تنزيله في عرضه ، فلا يكاد يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلا على تنزيل جزء الموضوع ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر فيما لم يكن محرزا حقيقة وفيما لم يكن دليل على تنزيلهما بالمطابقة ـ كما فيما نحن فيه على ما عرفت ـ لم يكن دليل الأمارة دليلا عليه أصلا ؛ فإنّ دلالته على تنزيل المؤدى تتوقّف على دلالته على تنزيل القطع بالملازمة ، ولا دلالة له كذلك إلّا بعد دلالته على تنزيل المؤدّى ، فإنّ الملازمة بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع كما لا يخفى ، فتأمّل جيّدا فإنّه لا يخلو عن دقّة.

وبدون تحقّق الموضوع التنزيليّ التعبّدي أوّلا بدليل الأمارة لا قطع بالموضوع التنزيلي كي يدّعى الملازمة بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع (١).

__________________

(١) الكفاية ٢ : ٢٤.

٤٥٠

وملخّصه : أنّه لا يخلو ذلك من تكلّف ، بل من تعسّف ، ولعلّ مراده من التكلّف منع الملازمة العرفيّة ، وقد عرفت الوجه في الملازمة العرفيّة.

ودعوى : أنّها مبتنية على دلالة الاقتضاء ، وهى إنّما تمّت فيما إذا كان دليل التعبّد بالواقع دليلا خاصّا بحيث إذا لم نلتزم بالتعبّد بالجزء الآخر كان لغوا ، لا ما إذا كان الدليل مطلقا ، فإنّه لا يلزم من عدم الالتزام بالتعبّد بالجزء الآخر اللغويّة. (١)

مندفعة : بأنّ بعض الوجوه وإن كان كذلك ولكنّ الوجه الأخير الذي ذكرناه ليس كذلك. نعم دعوى التكلّف والصعوبة أمر آخر.

ثمّ إنّ مراد صاحب الكفاية من التعسّف هو لزوم الدور ، وبيانه ـ كما في نهاية الدراية ـ : أنّ القطع بالواقع التنزيلي متأخّر طبعا عن الواقع التنزيلي ، والمفروض أنّ دلالة الدليل على تنزيل المؤدّى يتوقّف على دلالته بالملازمة على تنزيل القطع بالواقع التنزيلي ، مع أنّه لا واقع تنزيلىّ إلّا بهذا الدليل ، فكيف يعقل أن يكون أحد التنزيلين المتأخّر رتبة عن موضوعه المتأخّر رتبة عن التنزيل الآخر في عرض التنزيل الآخر؟!

وتمام السّرّ فيه : أنّ مرجع التنزيلين إلى تنزيل واحد وإثبات حكم مركب لمركّب آخر فلا بدّ من أن يكون الموضوع بجميع أجزائه وقيوده متقدّما في مرحلة موضوعيّة على الحكم ، مع أنّ بعض هذا المركّب لا ثبوت له في حدّ موضوعيّته إلّا بلحاظ هذا الحكم. (٢)

وفيه أنّ إشكال الدور ممنوع بما في تسديد الاصول من أنّ دلالته على تنزيل المؤدّى لا تتوقّف إلّا على عموم أو إطلاق دليل الاعتبار ، وهو حاصل على الفرض ،

__________________

(١) منتقى الاصول ٤ : ١٣.

(٢) نهاية الدراية ٢ : ٢١.

٤٥١

والمانع من الأخذ بهذا الظهور إنّما هو لزوم اللغويّة ، وهي لا تلزم إلّا فيما لا ينتهي إلى ترتّب أثر أصلا ، وأمّا في ما نحن فيه ممّا يترتّب على القطع به أثر شرعيّ فليس تنزيل المؤدّى منزلة الواقع لغوا محضا. وعليه فدلالته على تنزيل القطع بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع وإن كانت موقوفة على دلالته على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع قضاء لحقّ التلازم إلّا أنّ دلالته على تنزيل المؤدّى لا تتوقّف إلّا على الظهور في الشمول ، فلا دور (١).

وكيف كان تمّ هذا الاستدلال أو لم يتمّ فقد عرفت إمكان قيام الأمارات والاصول المحرزة مقام القطع الموضوعي سواء أخذ بنحو تمام الموضوع أو جزئه إذا اخذ القطع بعنوان أحد الطرق لا بعنوان صفة القطع أو الكشف التامّ.

نعم ذهب السيّد الشهيد الصدر قدس‌سره إلى أنّ هذا الاتّجاه للبحث خطأ من أساسه ؛ لأنّه يفترض وكأنّنا نتعامل مع دليل لفظيّ من أدلّة الحجّيّة لنمتحن قدرته على التنزيل ، مع أنّ مهمّ دليل الحجّيّة عندنا هو السيرة العقلائيّة ، فإنّ أهمّ الأمارات في الشبهات الحكميّة الظهور وخبر الثقة ، ومن الواضح أنّ مهمّ الدليل على حجّيّتهما السيرة العقلائيّة ، وأمّا الأدلّة اللفظيّة الواردة في هذا المجال كلّها مسوّقة مساق الإمضاء لما عليه السيرة ، فمنهج البحث ينبغي أن يكون مراجعة السيرة وتحديد مفادها لنرى هل أنّ العقلاء بناؤهم قد انعقد على إقامة الأمارة مقام القطع الطريقيّ فقط أو هو مع الموضوعي ، ولا حاجة بعد ذلك إلى دفع إشكال ثبوتيّ ، إذ لسنا نواجه خطابا لفظيّا واحدا ليقال على فرض استحالة الجمع بين التنزيلين في خطاب واحد بعدم إمكانه ثبوتا ، فالبحث إثباتيّ محض. (٢)

__________________

(١) تسديد الاصول ٢ : ٢٣.

(٢) مباحث الحجج ١ : ٨٤.

٤٥٢

وأضاف إليه بقوله : بأنّه لا يستفاد من السيرة العقلائيّة على حجّيّة الأمارات أكثر من قيامها مقام القطع الطريقي في التنجيز والتعذير ؛ لأنّ العقلاء ليست لهم أحكام يؤخذ فيها القطع موضوعا بنحو شايع معروف بحيث تنعقد سيرتهم على معاملة الأمارات في موارد تلك الأحكام معاملة القطع الموضوعي. (١)

ولكن يمكن أن يقال :

أوّلا : إنّ إمضاء ما عليه العقلاء لا ينافي شرعيّة الدليل ، كما أنّ البيع من الامور العقلائيّة ، ومع ذلك يؤخذ بإطلاق قوله (أحلّ الله البيع) في موارد الشكوك الشرعيّة ، وهكذا في المقام يمكن أن يؤخذ بالإطلاقات الإمضائيّة.

لا يقال : إنّ المعتبر نفس بناء العقلاء ، لا إطلاق دليل الإمضاء.

لأنّا نقول : إمضاء بناء العقلاء ، غير الإرشاد إلى بناء العقلاء وكم من فرق بينهما؟! إذ الإرشاد تابع لما يرشد إليه. وأمّا الإمضاء فإطلاقه وتقييده منوط بكيفيّة إمضاء الشارع ، فلا تغفل.

وثانيا : إنّ محلّ الكلام هو ما إذا اخذ في موضوع الحكم القطع بعنوان أنّه أحد الطرق ، لا بعنوان صفتيّة القطع أو تمامية الكشف ، فإذا قامت السيرة العقلائيّة على طريقيّة أمارة كفى ذلك لقيامها مقام القطع الموضوعي أيضا بعد كون السيرة العقلائيّة ممضاة في الشرع أيضا.

ودعوى : أنّ انعقاد السيرة على اعتبار الأمارة علما في الأحكام الشرعيّة التي قد اخذ في موضوعها القطع الموضوعي غير معقول في نفسه ، فإنّ شأن كلّ مشرّع أن يتصرّف في دائرة تشريع نفسه ، لا أحكام غيره (٢).

__________________

(١) المصدر السابق : ٨٤.

(٢) مباحث الحجج ١ : ٨٥.

٤٥٣

مندفعة : بأنّ المفروض أنّ بناء العقلاء مورد إمضاء الشارع ، ومع الإمضاء المذكور لا يلزم تصرّف غير الشارع فى دائرة تشريعاته.

فتحصّل : أنّ قيام الأمارات والاصول المحرزة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقيّة لا إشكال فيه ثبوتا وإثباتا ، فتدبّر جيّدا.

٤٥٤

الخلاصة :

الجهة الخامسة في أقسام القطع

ينقسم القطع إلى أقسام خمسة :

١ ـ القطع الطريقيّ المحض.

٢ ـ القطع الموضوعي وهو على أربعة أقسام : تمام الموضوع ، أو جزؤه ، وعلى التقديرين ، إما يؤخذ على وجه الوصفيّة ، أو يؤخذ على وجه الطريقيّة ، فهذه خمسة.

ثمّ إنّه يقع الكلام في مقامين.

المقام الأوّل : في قيام الأمارات مقام القطع عند فقدان القطع.

لا إشكال في إمكان قيام الأمارات مقام القطع الطريقيّ المحض ، بل القطع الموضوعيّ المأخوذ على وجه الطريقيّة ، لا على وجه الوصفيّة ، أي بنحو الكشف التامّ الموضوعي.

والوجه في قيامها مقام القطع الطريقي المحض ، أو القطع الموضوعيّ المأخوذ على وجه الطريقيّة ، أنّ القطع المحض ، أو المأخوذ على وجه الطريقيّة في موضوع حكم من الأحكام ملحوظ بما هو أحد مصاديق طرق منجّزة للواقع ، وحيث إنّ الأمارة أيضا بأدلّة اعتبارها من الطرق ، فيفيد فائدة القطع وتقوم مقامه ، فيتنجّز به الواقع ويتحقّق به موضوع الحكم.

ثمّ إنّ المراد من قيام الأمارات مقام القطع ، هو أن يعامل معها معاملة القطع

٤٥٥

واليقين في مقام العمل ، وهذا أمر يستفاد من عموم أدلّة حجّيّة الأمارات من دون حاجة إلى تنزيل الظّنّ بمنزلة القطع ، إذ بعموم الأدلّة تكون الأمارة من الطرق المعتبرة التي يحرز بها الواقع ، وبهذه الأمارة يتحقّق مصداق موضوع الأحكام الّتي تترتّب فيها الحكم على ما يقوم عليه الطريق المعتبر ، لأنّ الأمارة طريقة معتبرة أيضا.

نعم لو أخذ القطع في موضوع حكم بنحو الصفتيّة أي بنحو يكون للكشف التامّ دخالة فيه فلا تقوم أمارة مقامه بأدلّة اعتبارها ، إذ لا تفيد الأمارة كشفا تامّا والمفروض دخالة الكشف التامّ في تحقّق الموضوع. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون القطع تمام الموضوع أو جزئه فلا تغفل.

المقام الثاني : في قيام الاصول مقام القطع.

ولا يخفى أنّ الاصول على قسمين : محرزة وغير محرزة.

أما الاولى ، فهي ناظرة إلى الواقع ، كالاستصحاب وقاعدة الفراغ ، وقاعدة عدم اعتبار شكّ كثير الشكّ ، وقاعدة عدم اعتبار شكّ الإمام والمأموم مع حفظ الآخر ، وغير ذلك من الاصول المحرزة الّتي جعلها الشارع محرزة للواقع. إذ النظر في الاستصحاب إلى اليقين السابق في إحراز الواقع وفي قاعدة الفراغ يكون النظر إلى ارتكاز الفاعل حين العمل على إتيانه بنحو كامل ، والنظر في شكّ الإمام والمأموم إلى حفظ كلّ واحد بالنسبة إلى الآخر في إحراز الواقع.

والنظر في شكّ كثير الشكّ إلى حفظ المتعارف من الناس في إحراز الواقع ، وهكذا وبالجملة هذه الاصول محرزة تعبّدا وتقوم مقام القطع الطريقي المجرّد ، أو المأخوذ في الموضوع بالشرح المذكور في قيام الأمارات مقام القطع ، وهو أنّ القطع معتبر من باب أنّه أحد الطرق من دون دخالة لوصف القطع ، أو تماميّة الكشف ، فالمعتبر هو الطريق المعتبر ، ومقتضى ذلك هو قيام الاصول المحرزة مقام القطع بعد اعتبارها لكونه من الطرق المعتبرة.

٤٥٦

وأمّا الثانية أي الاصول غير المحرزة التي ليس لها نظر إلى الواقع ، بل هي مجرّد وظائف عمليّة للجاهل بالواقع كقاعدة الحلّيّة ، وقاعدة الطهارة ، وقاعدة الاحتياط في الشبهة البدويّة قبل الفحص ، والبراءة العقليّة والشرعيّة بعد الفحص ، فلا تصلح للقيام مقام القطع الطريقيّ والموضوعي.

وذلك لعدم كونها محرزة للواقع ، لا بالوجدان ولا بالتعبّد الشرعي ومع عدم كونها محرزة ليست مصداقا للطرق ، ومع عدم كونها من الطرق لا تكون قائمة مقام القطع الطريقي.

نعم ، لو أخذ القطع بعنوان كونه حجّة من الحجج ، فالاصول المذكورة تقوم مقامه ، لأنّ كلّ واحد منها حجّة في مجراها ، كما لا يخفى.

فتحصّل أنّ قيام الأمارات ، والاصول المحرزة مقام القطع الموضوعيّ المأخوذ على وجه الطريقيّة لا إشكال فيه ثبوتا وإثباتا ولا حاجة فيه إلى تجشّم الاستدلال.

٤٥٧

الجهة السادسة : في إمكان أخذ القطع في موضوع نفسه أو مثله أو ضدّه أو مخالفه وعدمه.

أمّا الأوّل فقد صرّح في الكفاية بأنّه لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم ، في موضوع نفس هذا الحكم ؛ للزوم الدور ، وهو المحكيّ عن العلّامة الحلّي قدس‌سره في مقام الردّ على العامة القائلين بالتصويب.

وتقريب ذلك ـ كما في مصباح الأصول ـ أنّ القطع المتعلّق بحكم يكون طريقا إليه لا محالة ؛ إذ الطريقيّة غير قابلة للانفكاك عن القطع ، ومعنى كونه طريقا إلى الحكم فعليّة الحكم مع قطع النظر عن تعلّق القطع به ؛ ومعنى كون القطع مأخوذا في موضوعه عدم كونه فعليّا إلّا بعد تعلّق القطع به ؛ إذ فعليّة الحكم تابعة لفعليّة موضوعه ، ولذا قد ذكرنا غير مرّة أنّ نسبة الحكم إلى موضوعه أشبه شيء بنسبة المعلول إلى علّته ، فيلزم توقّف فعليّة الحكم على القطع به ، مع كونه في رتبة سابقة على القطع به على ما هو شأن الطريق. وهذا هو الدور الواضح. (١)

أورد عليه سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بأنّ الدور المذكور في المقام ـ أعني توقّف القطع بالحكم على وجود الحكم وتوقّف الحكم على الموضوع الذي هو القطع سواء كان تمام الموضوع أو جزءه ـ إنّما يلزم لو كان القطع مأخوذا على نحو الجزئيّة ، ومعنى ذلك عدم كون القطع موضوعا برأسه ، بل هو مع نفس الواقع أعني الحكم الشرعي ، فالقطع يتوقّف على وجود الحكم ، ولو توقّف الحكم على القطع يلزم الدور

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٤٤.

٤٥٨

وأمّا إذا كان القطع تمام الموضوع لحكم نفسه فلا يلزم الدور ؛ لأنّ ما هو الموضوع هو القطع سواء وافق الواقع أم خالفه ، لأنّ الإصابة وعدمها خارجتان من وجود الموضوع. وعليه فلا يتوقّف حصول القطع على الواقع المقطوع به وإن توقّف على المقطوع بالذات ، أعني الصورة الذهنيّة من الحكم. وأمّا المقطوع بالعرض الذي هو المقطوع به في الخارج فلا يتوقّف القطع على وجوده ، (١) فلا يلزم الدور. فالحكم في هذه الصورة متوقّف على القطع بالحكم ، ولكنّ القطع بالحكم لا يتوقّف على الحكم الخارجي ، فالتوقّف من طرف لا من طرفين حتّى يلزم الدور.

ويمكن أن يقال : أوّلا : إنّ منع الدور في محلّه إذا كان القطع تمام الموضوع من دون تعلّق غرض بالواقع ؛ إذ يصحّ حينئذ دعوى عدم ملازمة العلم بالحكم مع الوجود الواقعيّ للحكم ، ولكن هذا لا يناسب أخذ العلم بنحو الكشف عن الواقع ، بل يناسب أخذ العلم على نحو الصفتيّة وعدم ملاحظة كشفه عن الواقع. وأمّا إذا أخذ العلم بنحو الكشف عن الواقع فقد يقال إنّ فرض العلم بهذا القيد ملازم لفرض الوجود الواقعيّ للحكم. وعليه فيستلزم فرض ثبوت الحكم قبل ثبوته ؛ وهو محذور الدور (٢) فتأمّل.

وثانيا : إنّ الدور وإن سلّم انتفائه فيما إذا كان القطع تمام الموضوع ، ولكن مع ذلك يلزم من أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه الخلف ، وهو محال ؛ لأنّ فرض تعليق الوجوب على العلم بوجوب طبيعيّ الصلاة هو فرض عدم الوجوب لطبيعيّ الصلاة مثلا ، وفرض نفس القيد وهو العلم بوجوب الصلاة هو فرض تعلّق الوجوب لطبيعيّ الصلاة ، ومن المعلوم أنّ فرض تعلّق الوجوب لطبيعي الصلاة خلف

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٢٧.

(٢) منتقى الاصول ٤ : ٨٨.

٤٥٩

في فرض عدم الوجوب لطبيعي الصلاة عند تعليق الوجوب على العلم به. وعليه فإذا جعل الوجوب على المعلوم الوجوب بنحو القضيّة الحقيقيّة حتّى يصير الحكم فعليّا بفعليّة موضوعه يستلزم الخلف ، ويستحيل أن يحصل العلم بالوجوب بوصول هذه القضيّة.

نعم يمكن أن يجعل الإيجاب واقعا على طبق ما اعتقده القاطع من الوجوب من باب الاتّفاق ، لا بنحو القضيّة الحقيقيّة بحيث لا يكون وجوب واقعا قبل حصول القطع به ، ولا يلزم فيه محذور الخلف.

ولكن يشكل ذلك مضافا إلى كونه ممّا يشبه بالتصويب المجمع على خلافه من وجه آخر ، وهو أنّ جعل الحكم بعثا وزجرا لجعل الداعي ، ومع فرض العلم بالوجوب من المكلّف لا يكون جعل الحكم في حقّه ذا أثر من هذه الجهة (١).

اللهمّ إلّا أن يقال ـ كما في مباحث الحجج ـ : إنّ فائدة الجعل هنا ـ كما هو فائدته في تمام الموارد ـ أن يصل إلى المكلف فيحرّكه ، فإنّ الجعل بنفسه منشأ يتسبّب به لإيجاد العلم بالحكم ـ فالمحرّكيّة المصحّحة للجعل هو أن يحرك في طول وصوله ، ويكون نفس جعله من علل إيصاله (٢).

ولكن يرد عليه بأنّ فائدة الجعل وإن كانت هو جعل الداعي ، وهو متفرّع على الايصال إلّا أنّ هذه الفائدة لا تتحقّق فيما إذا كان العلم بالحكم حاصلا قبل الجعل ، وحيث إنّ المفروض في المقام ليس إلّا حكم واحد ، فلا مجال لفرض التأكيد أيضا ، إذ التأكيد متفرّع على التعدّد ، فتدبّر جيّدا.

فتحصّل : أنّ أخذ القطع في موضوع نفس الحكم محال سواء كان من جهة

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٢٣.

(٢) مباحث الحجج ١ : ١٠٣.

٤٦٠