عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

الكبرى مسلّمة ولا كلام فيها ، وإنّما الكلام في صغراها ، إذ قلّما يوجد مورد يعلم العقل بعدم المزاحم كموارد المستقلّات العقليّة ، كحسن العدل وقبح الظلم ، لأنّ العقل لا يحيط بالمصالح الواقعيّة ، والمفاسد النفس الأمريّة ، والجهات المزاحمة لها. ولذا ورد في الروايات : أنّ دين الله لا يصاب بالعقول ، وأنّه ليس شيء أبعد عن دين الله من عقول الرجال.

وإن كان المراد بها إدراك العقل في ناحية معلومات الأحكام الشرعيّة ، كحسن الطاعة وقبح المعصية وقبح التجرّى وحسن الانقياد ، فإنّ حكم العقل فيها فرع ثبوت الحكم الشرعيّ المولوي ، فقاعدة الملازمة أجنبيّة عنه. هذا مضافا إلى لغويّة الجعل الشرعي مع وجود الحكم العقلي.

ودعوى أنّ كلّما كان الشارع يهتمّ بحفظ الملاك ، بأكثر ممّا يقتضيه الحسن والقبح من الحفظ الذاتيّ ، وكان ذلك أي الحفظ المذكور يحصل بجعل الشارع أمكن استكشاف جعل شرعي ، في مورد الحكم العقليّ من غير فرق بين أن يكون حكم العقل في مرتبة علل الأحكام أو في سلسلة معلولاتها.

ففي مسألة التجرّي يمكن للشارع جعل خطاب تحريميّ له لكي يحفظ ملاكات أحكامه الواقعيّة بمرتبة جديدة وزائدة من الحفظ ولو في حقّ من تنجّز عليه التكليف الواقعي بغير العلم ، فإنّه علم بحرمة التجرّي عليه على كلّ حال فقد يتحرّك ولا يقدّم على ارتكاب المخالفة ، لأنّ للانقياد والتحرّك عن خطابات المولى درجات ، فقد ينقاد المكلّف في موارد العلم بالتكليف ولكنّه لا ينقاد في موارد الاحتمال أو الظّنّ وإن كان منجّزا عليه بحكم العقل ، فيكون جعل حرمة التجرّي لمزيد الحافظيّة وسدّ أبواب العدم بهذا الخطاب ، وفي هذه المرتبة فلا لغويّة أصلا.

مندفعة بأنّ إمكان ترتّب الفائدة على الحكم الشرعيّ أحيانا لا إنكار له ، ولكن ذلك لا يكفي للحكم بالملازمة بين الحكم العقليّ والشرعيّ لجواز اكتفاء الشارع

٤٠١

بالحكم العقلي في إتمام الحجّة ، إذ غاية ما تقتضيه قاعدة اللطف ، والحكمة هو وجود ما يصلح للداعويّة ، والحكم العقلي في سلسلة المعلولات ممّا يصلح للداعويّة فلا حاجة إلى الجعل الشرعيّ المولويّ. نعم إذا علم باهتمام الشارع بحفظ الملاك بأكثر من ذلك في بعض الموارد ، أمكن استكشاف جعل شرعيّ في مورد الحكم العقليّ ، ولكن قلّما توجد موارد يقطع بذلك فيها.

فتحصّل أنّه لا دليل على الملازمة إلّا في موارد العلم باهتمام الشارع بحفظ الملاكات ، بحيث لا يكتفي بالحكم العقلي.

٤٠٢

تنبيهات :

التنبيه الأوّل :

في أنّ العزم المجرّد لا قبح فيه ، بل القبح فيه لتعقّب العزم بالفعل الخارجي أو لتعلّقه بالفعل المذكور مع زعم كونه معصية وبعبارة اخرى قبح العزم تبع لقبح متعلّقه وليس بذاتيّ ، قال في نهاية الاصول : إنّ قبح العزم مثلا ليس لما أنّه عزم بل لما أنّه عزم للمعصية ومؤدّ إليها بالآخرة ، فقبح المعصية بما أنّها هتك لحرمة المولى وخروج عن رسم عبوديّته ذاتيّ ، وقبح العزم والإرادة تبعيّ ، فكيف يقال بعدم ثبوت العقاب على نفس الهتك وبثبوته للعزم عليه؟! مع أنّ العزم على الهتك ليس مصداقا للهتك ، بل يكون قبيحا من جهة تعلّقه بالهتك القبيح. (١)

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية حيث قال : إنّ عنوان الهتك والخروج عن زيّ الرقّيّة ممّا لا ينطبق على الفعل الخارجي ، بل ينطبق على أمر نفسيّ عبّر عنه بالعزم على المعصية.

لما عرفت من أنّ الهتك ناش من الفعل الذي هو معصية في الواقع أو علم بكونه معصية ، وليس مجرّد العزم هتكا ؛ لعدم كونه مخالفا للتكليف ، إذ لا تكليف بالنسبة إلى العزم كما لا يخفى.

ودعوى أنّ العبد إذا صار بصدد الجري الخارجي فيما يخالف رضا المولى وفيما

__________________

(١) نهاية الاصول : ٤١٤ ـ ٤١٥.

٤٠٣

يبغضه ولكن لم يتحقّق منه أي عمل خارجيّ أصلا لمانع أقوى منه ، كما لو أراد أن يسبّ المولى فأغلق شخص فمه ومنعه عن التفوّه بأيّ كلمة فإنّه لا إشكال في صدق التجرّي والهتك وغيرهما من العناوين المتقدمة على مجرد كون العبد في مقام الخروج عن العبوديّة وبصدد مخالفة المولى ومجرّد الجري النفسي على طبق الصفة الكامنة في النفس الّذي عبّر عنه صاحب الكفاية بالعزم على الفعل ، وإذا فرض صدق هذه العناوين على العمل النفسي في مورد لا يكون هناك عمل في الخارج كشف ذلك عن أنّ هذه العناوين ليست من عناوين الخارج ، بل من عناوين النفس ، وعليه ففي المورد الذي يصدر منه عمل خارجي لا يصدق التجرّي على العمل الخارجي ؛ إذ الجري النفسي وكونه في مقام العصيان أمر سابق عليه. وقد عرفت أنّ التجرّي يصدق عليه. (١)

مندفعة بأنّ الفعل في المثال المذكور كفعل الأبكم ، فإنّ إشاراته تقوم مقام الفعل مع وجود المانع ، ويكون قبح العزم والإرادة فيه ناش عن إشاراته التي تقوم مقام الفعل ، وإلّا فقد عرفت من أنّ مجرد العزم والإرادة لا يكون مخالفا للتكليف ؛ إذ لم يرد تكليف بعدم العزم والإرادة كقوله «لا تعزموا».

التنبيه الثاني : في الأدلّة النقليّة التى يمكن الاستدلال بها فى المقام وهي طائفتان الطائفة الاولى هي التى يمكن الاستدلال بها على حرمة نفس القصد والعزم على المعصية وهى مشتملة على الآيات والروايات.

فمن الأولى قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(٢).

__________________

(١) منتهى الاصول ٤ : ٥١.

(٢) القصص : ٨٣.

٤٠٤

بتقريب أنّ الآية الكريمة تدلّ على أنّ الآخرة للّذين لا إرادة لهم بالنسبة إلى العلوّ والفساد ، فيستفاد منها أنّ إرادة العلوّ والفساد مبغوضة وموجبة للمحروميّة.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) لدلالته على أنّ محبّة إشاعة الفحشاء سبب للعذاب

وقوله عزوجل (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢) لدلالته على أنّ ما في الأنفس من النيّات مورد المحاسبة والمؤاخذة ، إذا كانت نيّات للمعاصي ،

وقوله تبارك وتعالى : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٣) بتقريب أنّ نسبة القتل إلى المخاطبين مع تأخّرهم عن زمن القاتلين بكثير ليس إلّا من جهة رضاهم بقتلهم ، فالرضا بالقتل موجب لإسناد القتل إليهم أيضا ، ومن المعلوم أنّ ما يوجب إسناد القتل لا يخلو عن المؤاخذة ، وإلى غير ذلك من الآيات الكريمة الدالّة على استحقاق المؤاخذة والمحاسبة والعذاب والمحروميّة من دار الآخرة بسبب العزم والإرادة والرضا بالنسبة إلى المعاصي وإشاعة الفحشاء وغير ذلك من المنكرات.

ومن الثانية ما رواه في الكافي بسند موثّق عن النوفلي عن السكوني عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، «نيّة المؤمن خير من عمله ، ونيّة الكافر شرّ من

__________________

(١) النور : ١٩.

(٢) البقرة : ٢٨٤.

(٣) آل عمران : ١٨٣.

٤٠٥

عمله ، وكلّ عامل يعمل على نيّته.» (١) بتقريب أنّه يدلّ على أنّ نيّة الكافر شرّ أزيد من شرّ عمله ، ومن المعلوم أنّ الشرّ قابل للمؤاخذة.

ومنها ما رواه في العلل مرسلا عن ابي جعفر عليه‌السلام أنّه كان يقول : «نيّة المؤمن أفضل من عمله ؛ وذلك لأنّه ينوي من الخير ما لا يدركه ، ونيّة الكافر شرّ من عمله وذلك لأنّ الكافر ينوي الشرّ ويأمل من الشرّ ما لا يدركه. (٢) بالتقريب الماضي.

ومنها ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن القاسم بن محمّد عن المنقري عن أحمد بن يونس عن أبي هاشم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبدا ، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء ، ثمّ تلا قوله تعالى (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) قال : على نيّته. (٣) وهو ضعيف بسبب جهالة أحمد بن يونس.

ويدل هذا الخبر على أنّ نيّة المعصية الواقعيّة إلى الأبد سبب للعذاب الدائم ، كما أنّ نيّة الإطاعة الحقيقيّة أبدا موجبة للنعيم الدائم. وعليه فالنيّة سبب للمؤاخذة.

ومنها ما رواه في المحاسن عن أحمد بن محمّد بن خالد عن علي بن الحكم عن ابي عروة السلمى عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة» (٤) بتقريب أنّ الحديث يدلّ على أنّ النيّة سبب لكيفيّة الحشر.

ومنها ما رواه في التهذيب باسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى عن أبي جعفر عن أبي الجوزاء عن الحسين بن علوان عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن

__________________

(١) الوسائل : الباب ٦ من أبواب مقدمة العبادات ، ح ٢.

(٢) الوسائل : الباب ٦ من أبواب مقدمة العبادات ، ح ١٧.

(٣) الوسائل : الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ٤.

(٤) الوسائل : الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ٥.

٤٠٦

آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنة فالقاتل والمقتول في النار ، قيل يا رسول الله : هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال : صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه أراد قتله» (١) بتقريب أنّ التعليل بقوله «لأنّه أراد قتله يدلّ على أنّ العداوة سبب للمؤاخذة والدخول في النار وإن منعت عنها الموانع.

ومنها ما رواه في الكافي عن أبي علي الأشعريّ عن محمّد بن سالم عن أحمد بن النضر عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخمر عشرة : غارسها وحارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة له وبايعها ومشتريها وآكل ثمنها (٢) والحديث ضعيف من جهة عمرو بن شمر.

ونحوه ما عن شعيب بن واقد (٣).

بتقريب أنّ الخبر يدلّ على أنّ فعل بعض المقدّمات بقصد ترتّب الحرام ممّا يوجب العقاب. وهو أيضا ضعيف.

ومنها ما رواه الصدوق قدس‌سره في العلل عن الرضا عليه‌السلام : «ومن غاب عن أمر فرضي به كان كمن شاهده وأتاه» (٤).

ومنها ما رواه في المحاسن عن محمّد بن مسلم رفعه قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّما يجمع الناس الرضا والسخط ، فمن رضي أمرا فقد دخل فيه ، ومن سخط فقد خرج منه». (٥) والخبران يدلّان على أنّ الرضا بفعل قوم بمنزلة إتيان ذلك الفعل ، و

__________________

(١) الوسائل : الباب ٦٧ من أبواب جهاد العدوّ ، ح ١ ، ولعلّ الصحيح الحسن بن علوان لعدم وجود الحسين بن علوان.

(٢) الوسائل : الباب ٥٥ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٤.

(٣) المصدر السابق.

(٤) الوسائل : الباب ٥ من أبواب الأمر والنهي ، ح ٥.

(٥) الوسائل : الباب ٥ من أبواب الامر والنهى ، ح ١٠.

٤٠٧

غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على حرمة نفس العزم والمؤاخذة عليه.

الطائفة الثانية هي الّتي تكون في قبال الطائفة الاولى وتدلّ على العفو وعدم ترتّب العقاب والمؤاخذة :

منها صحيحة زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال : إنّ الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذرّيّته أنّ من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له عشرا ، ومن همّ بسيّئة لم تكتب عليه ، ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيّئة». (١)

ومنها موثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ المؤمن ليهمّ بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات ، وإنّ المؤمن ليهمّ بالسيّئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه». (٢)

ومنها موثّقة ابن بكير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أو عن أبي جعفر عليه‌السلام : «أنّ الله تعالى قال لآدم : يا آدم جعلت لك أن من همّ من ذرّيّتك بسيّئة لم تكتب عليه ، فإن عملها كتبت عليه سيّئة» ، الحديث. (٣)

ومنها صحيحة جميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا همّ العبد بالسيّئة لم تكتب عليه». (٤)

وغير ذلك من الأخبار التي يتراءى مناقضتها مع الأخبار السابقة.

وقد جمع الشيخ الأعظم قدس‌سره بين الطائفتين باختلاف الموضوع أي بحمل الأخبار الأخيرة على من ارتدع عن قصده بنفسه وحمل الأخبار السابقة على من بقي على قصده حتّى عجز عن الفعل لا باختياره ، أو بحمل الأخيرة على من اكتفى بمجرّد القصد

__________________

(١) الوسائل : الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ٥.

(٢) الوسائل الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ٨.

(٣) الوسائل : الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ٨.

(٤) الوسائل : الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ١٠.

٤٠٨

والسابقة على من اشتغل عند القصد ببعض المقدّمات. واستشهد له بحرمة الإعانة على المحرّم حيث عمّمه بعض الأساطين لإعانة نفسه على الحرام ، ولعلّه لتنقيح المناط لا بالدلالة اللفظيّة. (١)

ولا يذهب عليك : أنّ الجمع المذكور بكلا شقّيه لا يخلو عن بعض الشواهد لشهادة بعض الأخبار عليه حيث إنّ الموضوع في الأخبار الأخيرة مقيّد بعدم الإتيان ولو بالمقدّمات ، بخلاف الموضوع في بعض الأخبار السابقة فإنّه مقيّد بمن أتى ببعض المقدّمات كالأخبار الواردة في لعن غارس الخمر وحارسها وعاصرها ونحوهم ممّن يقصد تحصيل الخمر وأخبار التقاء المسلمين بسيفهما ، أو أنّ الموضوع في بعض الأخبار السابقة مقيّد بمن يمنعه المانع كالأخبار الواردة في أنّ القاتل والمقتول من المؤمنين إذا تقاتلا كلاهما في النار ؛ إذ المقتول أراد قتل الآخر إلّا أنّ القاتل يمنعه عن ذلك ، بخلاف الموضوع في أخبار العفو بناء على اختصاصه بما إذا ارتدع عن الفعل بنفسه فتأمّل.

ولكن مع ذلك لا تعميم للجمع المذكور بكلا شقّيه بالنسبة إلى جميع الأطراف ؛ ولذا تبقى المعارضة في سائر الأطراف ممّا لم يتعرّض فيه إلّا نفس الإرادة والنيّة كأخبار العفو وأخبار نيّة المؤمن خير من عمله ونيّة الكافر شرّ من عمله وأخبار خلود أهل النار في النار وخلود أهل الجنّة في الجنّة بالنيّات والآيات والأخبار الدالّة على أنّ الرضا بعمل قوم بمنزلة الإتيان به أو أنّ ما في الأنفس والقلوب من نيّة المحرّمات مورد المؤاخذة والمحاسبة.

فالأولى أن يقال : يجمع بين هذه الأطراف أيضا باختلاف الموضوع من ناحية اخرى ، فما ذكره الشيخ مفتاح لكيفيّة الجمع بين الأخبار ؛ إذ الموضوع في سائر

__________________

(١) فرائد الاصول : ٧ ـ ٨.

٤٠٩

الأخبار أيضا يختلف مع أخبار العفو ، فإنّ موضوع أخبار العفو هو العزم على فعل المعصية من نفسه ، والموضوع في الآيات والروايات الدالّة على أنّ الرضا بفعل قوم بمنزلة الإتيان به هو الرضا بوقوع المنكرات والفساد من الغير وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ وهكذا موضوع أخبار العفو هو العزم على المعصية من نفسه ، وموضوع أخبار الخلود هو الكفر والإيمان اللذان يقتضيان المعصية أو الإطاعة الأبديّة إن لم نقل بأنّ النيّة في المؤمن والكافر مع فرض تلبسهما بالعمل في الجملة يكفي في الفرق بين موضوع هذه الأخبار أخبار العفو ، وأيضا الموضوع في أخبار نيّة المؤمن خير من عمله ونيّة الكافر شرّ من عمله هو بيان توسعة النية في الطرفين ، وليس في مقام بيان أنّ نيّة المعصية من المؤمن توجب المؤاخذة ، وهكذا الموضوع في الآية الكريمة : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) هو بيان المؤاخذة على المعاصي القلبيّة كالنفاق والشرك والكفر ، فالآية تدلّ على أنّ إبداءها أو إخفاءها لا يوجب الفرق في عقوبتها ، ولا دلالة لمثلها على أنّ نيّة المعصية والعزم عليها مورد المحاسبة والمؤاخذة والعقاب.

وإن أبيت عن هذا الجمع وادّعيت أنّ عدّة من الأخبار مختصّة بباب العزم والإرادة كإرادة العلوّ والفساد ، فيجمع بينها وبين أخبار العفو بالتخصيص ؛ فإنّ النسبة بينهما هي العموم والخصوص ، فلا تعارض بين الآيات والأخبار المذكورة كما لا يخفى.

وعليه فالآيات والأخبار السابقة دلّت على ثبوت العقاب في موارد خاصّة كإرادة القتل أو محبّة إشاعة الفحشاء ويقدّم هذه الموارد على أخبار العفو عن العزم على المعصية جمعا بينهما.

ومن المعلوم إنّ إثبات العقوبة في هذه الموارد لا يستلزم ثبوت العقاب على مطلق قصد المعصية ؛ إذ المحرّمات مختلفة. ولعلّ اختلاف مفاسدها وأهمّيّة بعضها

٤١٠

يوجب جعل العقاب على نفس الإرادة في هذه الموارد حتّى يحذر الناس من القرب إليها. هذا ، مضافا إلى احتمال أن يكون المقصود من الإرادة والمحبّة في مثل قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) وفى مثل : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. هي الإرادة والمحبّة العمليّة كقوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) الآية.

ولو سلّمنا دلالة الآيات والأخبار على ترتّب استحقاق العقاب على مجرّد قصد المعصية مطلقا من دون فرق بين موارد المعصية ، فلا تعارض بينها وبين أخبار العفو لأنّ أخبار العفو ؛ تدلّ على عدم فعليّة هذا الاستحقاق تفضّلا من الله سبحانه وتعالى ، ولا منافاة بينهما. وعليه فبعد الجمع بين طوائف الأخبار يستفاد من مجموع الأدلّة عدم ترتّب المؤاخذة على نيّة المعصية عدا موارد خاصّة.

ولو سلّمنا التعارض بين الأخبار فيجري فيها قواعد الأخبار المتعارضة فإن قلنا بالتخيير فهو ، وإلّا فمقتضى القاعدة هو التساقط ، وقد عرفت أنّ العقل لا يحكم باستحقاق العقوبة على مجرّد العزم والقصد.

فتحصّل : أنّه لا دليل عقلا ولا نقلا على فعليّة حرمة نفس القصد والعزم عدا موارد خاصّة كالكفر ومحبّة إشاعة الفحشاء وإرادة العلوّ والفساد ، ومع عدم فعليّة حرمة نفس العزم والقصد فالعقوبة في موارد التجرّي يختصّ بما إذا أتى بالفعل ، ولا يكفي مجرّد العزم ، فلا تغفل.

التنبيه الثالث :

أنّ موضوع البحث في التجرّي لا يختصّ بصورة القطع ، بل موضوعه هو الحجّة غير المطابقة للواقع سواء كانت هى القطع أو العلم الإجمالي أو الظنّ أو احتمال التكليف المنجّز كالشبهة البدويّة في الحكم قبل الفحص ، فإذا قامت الحجّة المذكورة يكون الحكم منجّزا.

٤١١

عليه ولا مؤمّن له بالنسبة إليه ، فاللازم هو مراعاته ، فإذا خالفه وأصاب القطع أو الظنّ أو الاحتمال المنجّز للواقع فهو عاص حقيقة ، وإذا لم يصب القطع وأخواه الواقع فهو متجرّي من دون فرق بين القطع وأخويه ، بل إذا جاء به برجاء عدم مصادفة الحرام الواقعي واتّفقت الإصابة فهو عاص حقيقة ؛ لأنّ وظيفته هو تركه ، كما أنّه لو جاء به برجاء عدم مصادفة الحرام ولم يصادف فهو عاص بالتجرّي ؛ لأنّ وظيفته هو الترك ، ويخرج بارتكابه عن زيّ العبوديّة والطاعة لمولاه.

التنبيه الرابع :

أنّه لو وجد مؤمّنا واستند إليه في ارتكاب المشتبه فلا كلام في كونه معذورا سواء طابق المؤمّن الواقع أو لم يطابق ؛ لأنّه اعتمد على الحجّة ولم يخرج بذلك عن زيّ العبوديّة.

وأمّا إذا لم يستند إليه وارتكب المشتبه برجاء مصادفة الحرام ولم يصادف كمن شرب مستصحب الحلّيّة برجاء أن يكون هو الحرام الواقعيّ ولم يصادف فالمحكيّ عن المحقّق النائيني أنّ هذا تجرّ أيضا ، ويترتّب عليه أحكامه.

وهو جيّد ، بل هو عاص حقيقة إن كان الشرب المذكور في الواقع شربا حراما ؛ لأنّه لم يستند إلى الاستصحاب في ارتكاب المشتبه. ومجرّد مطابقة عمله مع المؤمّن من دون استناد إليه لا يكفي في صحّة الاعتذار بالنسبة إلى ما صدر عنه ، فتأمل.

وعليه فدعوى المنع من جهة أنّ الفعل له مؤمّن شرعيّ يستند إليه. (١)

كما ترى ؛ لأنّ المفروض أنّه لم يستند إليه ، بل أخذ جانب احتمال الخلاف وصادف الواقع ، فهو أتى بالواقع من دون عذر ، فيصدق عليه أنّه عصى في الحقيقة و

__________________

(١) مباحث الحجج ١ : ٦٥.

٤١٢

استحقّ العقوبة.

التنبيه الخامس :

أنّ العقل كما عرفت يحكم باستحقاق العقوبة عند مخالفة الله تعالى بإتيان المنهيّ عنه أو ترك المأمور به ؛ فأنّ نفس المخالفة هتك للمولى. هذا بالنسبة إلى مخالفة المولى واستحقاق العقوبة ، وأمّا بالنسبة إلى الإطاعة واستحقاق المثوبة فلا حكم للعقل باستحقاق المثوبة عند الانقياد له تعالى سواء أصاب مع الواقع أو لم يصب ؛ لأنّ المطيع أدّى وظيفته كما لا استحقاق للمثوبة في إطاعة المملوك لمولاه خصوصا في المملوك الذي كان جميع ما له من الوجود وما يتعلّق به من مولاه.

نعم ، يصير بذلك لائقا للتفضّل من مولاه. وعليه ففي مورد صدق المخالفة والهتك ولو بالتجرّي يحكم العقل باستحقاق العقوبة ، وأمّا في مورد صدق الموافقة والانقياد فلا حكم للعقل باستحقاق المثوبة وإن حكم بلياقة المطيع للتفضّل. وممّا ذكر يظهر ما في بعض العبارات من جعل العقل حاكما في البابين.

التنبيه السادس : أنّ حكم التجرّي يختلف شدّة وضعفا باختلاف حال المتجرّي واختلاف المنجّز احتمالا وظنّا وعلما واختلاف المتجرّي به قال في الوقاية : أنّ حكم التجرّي يختلف شدّة وضعفا مع اتّحاد المتجرّي به من جهات مختلفة فالتجرّي من العالم أو الشيخ المسنّ أشدّ من الجاهل أو الشابّ ، كما أنّ التجرّي مع الشكّ أقوى منه مع الاحتمال وأضعف من الظنّ ، ولكنّه يختلف إذا قست المحرّمات بعضها ببعض ، فالتجرّي بالإقدام الاحتمالي على قتل المؤمن أشدّ من الإقدام الظنّيّ على قتل حيوان محترم ، وهو بالإقدام مع الشكّ على وطى المحصنة أشدّ من الإقدام على وطي الحليلة الحائض ظنّا (١).

__________________

(١) الوقاية : ٤٦٧.

٤١٣

التنبيه السابع :

أنّه إذا عصى العبد مولاه بسبب غلبة شقوته استحقّ العقوبة بنفس المخالفة ، فإنّه هتك لمولاه وجرأة عليه وخروج عن زيّ العبوديّة وإن لم يقصده باللحاظ الاستقلاليّ ، وإذا قصد مع ذلك عنوان التجرّي والمعصية باللحاظ الاستقلالي يتعدّد سبب الاستحقاق للعقوبة ؛ لأنّه حينئذ ارتكب هتكين : أحدهما : هو الإتيان بالمنهيّ أو ترك المأمور به مع أنّهما هتك بنفسهما وإن لم يكن داعية إلّا غلبة شقوته. وثانيهما : هو قصد الهتك والتجرّي بالفعل الحرام أو ترك المامور به خارجا ، ومن المعلوم أنّهما عنوانان ، ومقتضاهما هو تعدّد استحقاق العقوبة.

ودعوى التداخل في الأسباب غير مقبولة إذا كان المسبّب قابلا للتكرّر كما قرّر في محلّه.

لا يقال : إنّ من العناوين المبغوضة ما يكون مقدّمة لما هو أشدّ مبغوضيّة وقبحا ، فعلى تقدير ترتّبه عليها لا يلاحظ إلّا بلحاظ المقدّميّة المحضة ، ولا يوصف إلّا بالحرمة الغيريّة ، وتكون مبغوضيّتها وعقابها مندكّة فيه ويندمجان فيه اندماج الضعيف في الشديد ، فلا يعدّان إلّا فعلا واحدا ، بخلاف ما إذا لم يترتّب عليها ، فإنّها تستقلّ حينئذ بنفسها ، وتعدّ مبغوضا مستقلا يترتّب عليها ما أعدّ لها من العقاب وهذا أمر وجدانيّ له نظائر كثيرة في العرف والشرع ، فمن زنى بامرأة لا يحكم عليه باللحاظ الأوّلي إلّا بارتكاب كبيرة واحدة وأنّ سبقه مسّ العورة منها ونحوه ، ولا يقام عليه إلّا حدّ واحد ، بخلاف ما إذا لم يترتّب عليه ؛ فإنّ المسّ وغيره من المقدّمات واللوازم المحرّمة يعاقب عليها ويعزّر ، ولا يجمع عليه في صورة ترتّب الفعل بين الحدّ والتعزير ... إلى أن قال : وهكذا فليكن الحال في التجرّي ، بل الأمر فيه أوضح ، وحيث إنّ المعصية الواقعيّة لا يمكن وقوعها إلّا بالتجرّي ولا ينفكّ عنه اكتفي في العقاب بالعقاب عليها ، وإن كان العقاب أهون لو فرض محالا إمكان الافتراق

٤١٤

بينهما ، كما أنّ الأمر كذلك لو أمكن الزنا بلا مسّ. (١).

لأنّا نقول : ليس الكلام في التجرّي بالمعنى الآلي حتّى يصحّ القياس بالأمثلة المذكورة ؛ فإنّ المعصية الواقعيّة لا يمكن وقوعها بدون التجرّي بالمعنى الآلي وإن كان الداعي للمعصية هو غلبة شقوة النفس ، بل الكلام في التجرّي بالمعنى الاستقلالي بأن يكون قاصدا لعنوان التجرّي على المعصية بالمعنى الاستقلالي زائدا على ما لا بدّ منه في المعصية من التجرّى بالمعنى الآلي. ولا ريب في أنّ قياس المقام حينئذ بالأمثلة المذكورة ليس في محلّه ، بل اللازم هو قياسه بما إذا زنى ومسّ زائدا على الزنا بمواضع اخرى من بدنها واستمتع منها ؛ إذ لا إشكال حينئذ في تعدّد السبب واستحقاق العقوبة.

فإذا أتى بالمعصية مع قصد التجرّي على المعصية باللحاظ الاستقلالي اجتمع فيه سببان أحدهما هو المخالفة مع الأمر أو النهي الواقعيّين عن عمد واختيار ، وثانيهما قصد التجرّي على المعصية باللحاظ الاستقلاليّ.

إن قلت : إنّ التجرّي على المعصية متّحد مع الفعل ؛ إذ ليس التجرّي هو العزم والقصد ، بل هو الفعل المتجرّى به على مقتضى ما مرّ في حقيقة التجرّي.

قلت : ليس التجرّي هو الفعل المجرّد عن العزم ، كما أنّه ليس هو العزم المجرّد ، بل التجرّي هو العزم المتعقّب بالفعل الخارجي. ومن المعلوم أنّ عنوان التجرّي بالمعنى المذكور مغاير مع الفعل المخالف للأمر أو النهي ، ومقتضى المغايرة هو تعدّدهما ، ومقتضى تعدّدهما هو تعدّد استحقاق العقوبة.

وممّا ذكر يظهر ما في المحكيّ عن صاحب الفصول من أنّ التحقيق أنّ التجرّي

__________________

(١) الوقاية : ٤٦١ ـ ٤٦٢.

٤١٥

على المعصية أيضا معصية ، لكنّه إن صادفها تداخلا وعدّا معصية واحدة. (١)

إذ مع الاعتراف بتعدّد الأسباب لاستحقاق العقوبة وهو المعصية والتجرّي على المعصية لا مجال لدعوى تداخل السببين في صورة المصادفة ؛ لما عرفت من مغايرتهما وإمكان تفكيكهما ، فإنّ التجرّي هو العزم المتعقّب بالفعل ، وهو مغاير مع المعصية التي هي نفس الفعل المخالف لأمر المولى أو نهيه من دون تقيّده بالعزم على المعصية بالمعنى الاستقلالي وإن لم يخل كلّ معصية عن العزم على المعصية بالمعنى الحرفي ، والتداخل هو العزم على الوجه الثانى لا على الوجه الأوّل.

وقد انقدح ممّا ذكر ما في الكفاية في مقام الإشكال على صاحب الفصول أيضا حيث ذهب إلى وحدة السبب لاستحقاق العقوبة في المعصية الحقيقيّة ، وهو هتك واحد ، وأنكر استحقاق عقابين متداخلين ؛ لضرورة أنّ المعصية الواحدة لا توجب إلّا عقوبة واحدة ، وقال : لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما وذكر أنّه لا منشأ لتوهّم تداخلهما إلّا بداهة أنّه ليس في معصية واحدة إلّا عقوبة واحدة ، مع الغفلة عن أنّ وحدة المسبّب تكشف بنحو الإنّ عن وحدة السبب. (٢)

وذلك لما عرفت من تعدّد السبب لاستحقاق العقوبة إذا عصى وقصد عنوان المعصية باللحاظ الاستقلالي ، إذ المخالفة مع الأمر ونهي المولى هتك بنفسه والتجرّي على المعصية وقصد عنوان المعصية هتك آخر ، ومع تعدّدهما يتعدّد سبب الاستحقاق ، فلا وجه لإنكار تعدّد السبب فيما إذا عصى وقصد عنوان المعصية باللحاظ الاستقلالي. نعم ، إنكاره لتداخل السببين في محلّه ؛ إذ مع تعدّدهما وإمكان تكرّر الاستحقاق لا وجه للتداخل ، كما عرفت ذلك عند نقل كلام صاحب الفصول.

__________________

(١) الفصول الغروية : ٨٧.

(٢) الكفاية ٢ : ١٨.

٤١٦

ودعوى بداهة وحدة العقوبة مندفعة بأنّ ذلك فيما إذا لم يتجرّأ على المعصية بقصدها ، وإنّما أتى بالمعصية فقط ، وإلّا فلا وجه لوحدتها. نعم ، أمكن عفو الشارع عن ذلك ، وهو أمر آخر.

ومما ذكرنا أيضا يظهر ما في نهاية الدراية حيث فسّر التداخل في كلام صاحب الفصول بالتداخل في الأثر. (١)

وذلك لما عرفت من أنّ المراد من التداخل في كلامه هو تداخل السببين ، لا تداخل الأثر ، وقول صاحب الفصول بعد فرض التداخل «عدّا معصية واحدة» لا يكون ظاهرا في أنّ مراده هو تداخل الأثر ؛ لأنّ السببين المذكورين في كلامه من المعصية والتجرّي إذا تداخلا عدّا معصية واحدة.

وكيف كان ، فقد ظهر ممّا قدّمناه أنّ في صورة التجرّي على المعصية باللحاظ الاستقلالي والاتيان بالمعصية فمع المصادفة تحقّق السببان لاستحقاق العقوبة من دون تداخل ، ومقتضى ذلك هو تعدّد استحقاق العقوبة ، هذا بخلاف ما إذا عصى واتّفق المصادفة فإنّ السبب فيه واحد وإن لم يخل العصيان عن العزم على مصداق المعصية باللحاظ الآلي. هذا هو مقتضى حكم الوجدان ، كما لا يخفى.

ودعوى الإجماع على الخلاف في المسائل العقليّة كما ترى. هذا ، مضافا إلى أنّ الإجماع محتمل المدرك. نعم ، لا بأس بدعوى الإجماع على العفو الشرعيّ عن إحدى العقوبتين فإنّه لا ينافي استحقاق تعدّد العقوبة عقلا ، بل هو مؤكّد للاستحقاق ، كما لا يخفى.

التنبيه الثامن :

أنّ الذي يحكم به العقل في التجرّي هو استحقاق العقوبة في الجملة ، وأمّا

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ١٤.

٤١٧

مقدارها ونوعها فلا سبيل للعقل بالنسبة إليه ، بل هو موكول إلى الشرع الأنور ولذلك قال ؛ في الوقاية : لا يذهب عليك أنّ الذي يحكم به العقل هو استحقاق العقاب في الجملة ، لا خصوص العقاب المقرّر لما قطع به ، فلا يلزمنا القول باستحقاق العقاب على التجرّي تعيين خصوص العقاب المقرّر لشرب الخمر مثلا ، فمن الممكن أن لا يعاقب عقاب شرب الخمر في الآخرة ، كما لا يحدّ حدّ شربها في الدنيا ، والعقل بمعزل عن تعيين نوع العقاب ومقداره في المعصية الواقعيّة فضلا عن غيرها ، وهو فيهما تابع للجعل.

ولكن لا شكّ في كونه تابعا لها (المعصية) في الشدّة والضعف ، فالتجرّي على الزنا بالمرأة الخليّة أشدّ من التجرّي بالقبلة وأضعف من التجرّي على الزنا بالمحصنة. (١)

فالعقل حاكم باستحقاق العقوبة في التجرّي كما يكون حاكما في المعاصي الواقعيّة باستحقاقها ، وأمّا نوع العقوبة أو مقدارها فهو موكول إلى تعيين الشارع. نعم يحكم العقل بالشدّة والضعف تبعا للمعصية حسب ما ورد في كونها منقسمة إلى الصغيرة والكبيرة وأكبر الكبائر وتضاعفها بحسب الزمان أو المكان المبارك ، فتدبّر جيّدا.

التنبيه التاسع :

أنّه ذهب في محكيّ الفصول إلى ما محصّله : التفصيل في التجرّي بين القطع بحرمة شيء غير واجب واقعا وبين القطع بحرمة واجب غير مشروط بقصد القربة.

فرجّح العقاب في الأوّل ونفى البعد عن عدم العقاب في الثاني مطلقا أو في بعض الموارد ؛ نظرا إلى معارضة الجهة الواقعية للجهة الظاهريّة ، وعلل بأنّ قبح

__________________

(١) الوقاية : ٤٥٨.

٤١٨

التجرّي عندنا ليس ذاتيّا ، بل يختلف بالوجوه والاعتبار ... إلى أن قال : ومن هنا يظهر أنّ التجرّي على الحرام في المكروهات الواقعيّة أشدّ منه في مباحاتها ، وهو فيها أشدّ منه في مندوباتها ، ويختلف باختلافها ضعفا وشدّة كالمكروهات ، ويمكن أن يراعى في الواجبات الواقعيّة ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجرّي انتهى.

حاصله : أنّ التجرّي في غير الواجب موجب لاستحقاق العقوبة من دون فرق بين أن يكون غير الواجب مباحا أو مستحبّا أو مكروها أو حراما ، بخلاف التجرّي في الواجب فإنّه لا يوجب الاستحقاق مطلقا أو في بعض الموارد من جهة تزاحم مصالح الوجوب مع مفسدة التجرّي.

أورد عليه الشيخ الاعظم قدس‌سره بمنع ما ذكره من عدم كون قبح التجرّي ذاتيّا ، لأنّ التجرّي على المولى قبيح ذاتا سواء كان لنفس الفعل أو لكشفه عن كونه جريئا ، فيمتنع عروض الصفة المحسنة له ، وفي مقابله الانقياد لله تعالى سبحانه فإنّه يمتنع أن يعرض له جهة مقبّحة. (١)

أجيب عن ذلك بأنّ مراد صاحب الفصول ليس كون التجرّي على قسمين فمنه قبيح ومنه غير قبيح حتى يتوجّه عليه أنّ التجرّي قبيح ذاتا ولا أقل من كونه مقتضيا للقبح ، بل المراد أنّ الفعل المتجرّى به يجتمع فيه عنوانان قبيح وهو التجرّي وحسن وهو الصلاح الواقعيّ ، فيقع بينهما الكسر والانكسار على ما هو المطّرد في سائر الموارد فالتجرّي بما هو تجرّي قبيح ذاتا لم يتغيّر عمّا كان عليه ، وإنّما عرض للفعل عنوان آخر مزاحم لجهة التجرّي ، فكان اللازم منه ما عرفت. (٢)

وقال ايضا في نهاية الاصول أنّ الحسن والقبح إن لوحظا بالنسبة إلى العناوين

__________________

(١) فرائد الاصول : ٦.

(٢) الوقاية : ٤٦٠ ـ ٤٦١.

٤١٩

الحسنة أو القبيحة فذاتيّان ، وإن لوحظا بالنسبة إلى المعنونات والمصاديق فيختلفان بالوجوه والاعتبارات ، ومعنى كونهما ذاتيّين للعناوين أنّ بعض العناوين تكون بحيث لو جرّد النظر عن غيرها وصار النظر مقصورا على ذاتها كانت موضوعة لحكم العقل عليها بالحسن أو القبح ، فالظلم قبيح بحكم العقل والإحسان حسن بالذات ، بمعنى أنّ العقل إذا لاحظ نفس عنوان الظلم بما هو هو حكم بقبحه وإذا لاحظ عنوان الإحسان حكم بحسنه.

وأمّا المعنونات ـ أعني الأفعال الصادرة من الفواعل ـ فاتصافها بالحسن والقبح إنّما هو بانطباق تلك العناوين عليها ، فقد ينطبق عليها عنوان حسن فيحكم بحسنها ، وقد ينطبق عليها عنوان قبح فيحكم بقبحها ، وقد يتوارد عليها العنوانان فيتزاحمان ويكون الحسن والقبح تابعا لأقوى الجهتين ، وعلى فرض التساوي لا تتّصف بالقبح ولا بالحسن. (١).

ولا يخفى عليك أوّلا : أنّ التوجيه المذكور لكلام صاحب الفصول لا يساعده قوله المحكيّ إنّ قبح التجرّي عندنا ليس ذاتيا بل يختلف بالوجوه والاعتبار ؛ فإنّ الظاهر منه أنّ كلامه في العنوان لا المعنون.

وثانيا ـ كما في نهاية الأصول ـ : أنّ العناوين التي يوجب انطباقها على الأفعال استحقاق الثواب أو العقاب عبارة عن العناوين الراجعة إلى جهة المولويّة ، وهي التي تنتزع من الأفعال بجهة انتسابها إلى المولى كعنوان الظلم على المولى وصيرورة العبد بعد فعله خارجا عن رسم العبودية وكذا أضدادها الحاكية عن كيفيّة رابطة العبد مع المولى وأمّا العناوين القبيحة أو الحسنة الاخرى التى لا ترجع إلى جهة المولويّة فلا ارتباط بباب الثواب والعقاب وعليه إذا قطع العبد بحرمة فعل مثلا وأتى به واتّفق

__________________

(١) نهاية الاصول ١ : ٤١٥ ـ ٤١٦.

٤٢٠