عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

ففي مثل هذه الموارد إن كان ظهور عرفيّ فهو ، وإلّا فاللازم هو الرجوع إلى القواعد والاصول وهي تختلف باختلاف الموارد.

ثمّ الرجوع إلى العرف فيما إذا لم يكن الموضوع شرعيّا وإلّا فاللازم هو الرجوع إلى الشرع لأنّه اصطلاح مخصوص به ، فلا تغفل.

ثمّ إنّ المهمل ، هو ما لا يكون المتكلّم في مقام بيان تفصيله وهو ملحق بالمجمل في الحكم ، لأنّهما مشتركان في عدم مراد جدّيّ وإن كان لهما ظهور استعماليّ.

ومع عدم كونهما في مقام الجدّ فلا يكونان حجّة. إلّا أنّ الإهمال بعد إحراز كون المتكلّم في مقام بيان أصل الحكم خلاف الأصل لبناء العقلاء حينئذ على أنّه في مقام بيان التفصيلات.

ثمّ إنّ الآيات الكريمة ، إن كانت موضوعاتها امورا اختراعيّة ، التي تحتاج إلى التفصيل ، تكون في مقام الإهمال بالنسبة إلى تلك الموضوعات.

نعم لو لم يذكر تفصيل له لا في الكتاب ولا في السنّة إلى أن يجيء وقت العمل ، أمكن التمسّك بالإطلاق المقامي.

هذا بخلاف ما إذا كانت موضوعاتها من الموضوعات العرفيّة كالبيع والشراء ونحوهما ، فلا إهمال فيها لوضوح معانيها عند العقلاء ، ويمكن الأخذ بالإطلاق فيما إذا كان المتكلّم في مقام بيان أصل الحكم وشكّ في الإهمال وعدمه كسائر موارد الإطلاقات ، ويشهد لذلك الترغيب إلى الاستشهاد بالآيات القرآنيّة في الروايات والله هو الهادي.

٣٤١
٣٤٢

المقصد السادس

في الأمارات والحجج المعتبرة

شرعا أو عقلا

٣٤٣
٣٤٤

ويقع الكلام في مقدّمة وأبواب وفصول :

المقدّمة ، وهنا أمور :

الأمر الأوّل : أنّ هذا المقصد يبحث فيه عن حجّيّة أمور وعدمها كالقطع والعلم التفصيليّ والإجماليّ والظنون الخاصّة والمطلقة كالأمارات والطرق والإجماع والشهرة وغير ذلك وبعبارة أخرى : أنّ البحث في المقام بحث عن ثبوت الكبريات الكلّية التي تصلح لأن يحتجّ بها في الفقه ، كما أنّ البحث في أكثر مسائل المقاصد السابقة بحث صغرويّ كالبحث عن ثبوت الدلالة الوضعيّة أو اللفظيّة كمدلول المشتقّات والأوامر والنواهي ومفاهيم القضايا ومفاد أدوات العموم أو كالبحث عن حكم العقل في مثل اجتماع الأمر والنهي ؛ إذ بعد فرض ثبوت هذه الدلالات والأحكام تكون حجّيّتها محتاجة إلى البحث عنها في هذا المقصد. وبهذا الاعتبار أمكن أن يقال : إنّ المباحث السابقة تكون من المبادئ ؛ لأنّها بحث عن صغريات الحجّة دون مباحث هذا المقصد فإنّها من الكبريات الكلّيّة التي هي حجّة في الفقه ويصحّ أن يحتجّ بها على الحكم الكلّيّ الفقهي.

الأمر الثاني : أنّ موضوع علم الاصول هو ما يصلح لأن يحتجّ به على الحكم الكلّيّ الفقهي ، وهذا هو الّذي ينطبق على جميع موضوعات مسائل العلم كالقطع والخبر والشهرة والإجماع والظنون المطلقة والخبرين المتعارضين وغيرها ؛ لأنّ كلّها ممّا يصلح للاحتجاج بها على الحكم الكلّيّ الفقهي.

ثم إنّ المراد من هذا الموضوع ليس خصوص الحجّة بمعناها المنطقي كما أنّه ليس

٣٤٥

خصوص الكبرى القياسي كما ذكره أكثر الأصوليّين بعنوان الموضوع الاصولي ، بل هو أعمّ منها ، وهو الأنسب بالغرض من تدوين فنّ الاصول فإنّه هو البحث عمّا يفيد في مقام الاحتجاج بين الموالي والعبيد.

وعليه فالحجّة بالمعنى المذكور يطلق على القطع كما تطلق على الظنّ المعتبر لصلاحيّة كلّ واحد للاحتجاج به كما لا يخفى. ولقد أفاد وأجاد في نهاية الاصول حيث قال : إنّ مبحث القطع من مسائل الاصول ؛ لأنّ موضوع علم الاصول هو عنوان الحجّة في الفقه وعوارضها المبحوث عنها في الاصول عبارة عن تعيّناتها وتشخّصاتها الخارجة عنها مفهوما المتّحدة معها خارجا كخبر الواحد والكتاب وغيرهما من الحجج ولا نعني بالحجّة ما يقع وسطا للإثبات كما عرفته ونسب إلى المنطقيّين أيضا مع أنّ المنطقي يطلقها على مجموع الصغرى والكبرى لا على الأوسط فقط.

وكيف كان فليس مرادنا بالحجّة التي نجعلها موضوع علم الاصول ذلك ، بل المراد بها ما يحتجّ به الموالي على العبيد والعبيد على الموالي في مقام الامتثال والمخالفة (١).

وممّا ذكر يظهر ما في فرائد الاصول حيث قال : إنّ إطلاق الحجّة على القطع ليس كإطلاق الحجّة على الأمارات المعتبرة شرعا ؛ لأنّ الحجّة عبارة عن الوسط الذي به يحتجّ على ثبوت الأكبر للأصغر ويصير واسطة للقطع بثبوته له كالتغيّر لإثبات حدوث العالم ، فقولنا الظنّ حجّة أو البيّنة حجّة أو فتوى المفتي حجّة يراد به كون هذه الامور أوساطا لإثبات أحكام متعلّقاتها ، فيقال هذا مظنون الخمريّة وكلّ مظنون الخمريّة يجب الاجتناب عنه ، وكذلك قولنا هذا الفعل ما أفتى المفتي بتحريمه

__________________

(١) نهاية الاصول ٢ : ٢٩٦.

٣٤٦

أو قامت البيّنة على كونه محرّما وكلّما كان كذلك فهو حرام. وهذا بخلاف القطع ؛ لأنّه إذا قطع بوجوب شيء فيقال هذا واجب وكل واجب يحرم ضدّه أو يجب مقدّمته (ولا يقال هذا معلوم الوجوب وكلّ معلوم الوجوب يكون كذا لأنّ آثار الأحكام مترتّبة على نفس الأحكام لا على العلم بها) وكذلك العلم بالموضوعات فإذا قطع بخمريّة شيء فيقال هذا خمر وكلّ خمر يجب الاجتناب عنه ، ولا يقال هذا معلوم الخمريّة وكلّ معلوم الخمريّة حكمه كذا ؛ لأنّ أحكام الخمر إنّما تثبت للخمر لا لما علم أنّه خمر. والحاصل : أنّ كون القطع حجّة غير معقول ؛ لأنّ الحجّة ما يوجب القطع بالمطلوب فلا يطلق على نفس القطع. هذا كلّه بالنسبة إلى متعلّق القطع وهو الأمر المقطوع به. وأمّا بالنسبة إلى حكم آخر فيجوز أن يكون القطع مأخوذا في موضوعه فيقال : إنّ الشيء المعلوم بوصف كونه معلوما حكمه كذا ، وحينئذ فالعلم يكون وسطا لثبوت ذلك الحكم وإن لم يطلق عليه الحجّة ؛ إذ المراد بالحجّة في باب الأدلّة ما كان وسطا لثبوت أحكام متعلّقه شرعا لا لحكم آخر كما إذا رتّب الشارع الحرمة على الخمر المعلوم كونها خمرا لا على نفس الخمر وكترتّب وجوب الإطاعة على معلوم الوجوب لا الواجب الواقعي (١).

وذلك لما عرفت من أنّ المراد من الحجّة في المقام هو ما يصلح لأن يحتجّ به وهو أعمّ من معناها المنطقي ، وبهذا المعنى يكون القطع أيضا حجّة ؛ لأنّه ممّا يصلح لأن يحتجّ به بين العبيد والموالي وممّا يثبت به الحكم الشرعيّ الكلّيّ الفقهي ، وغالبيّة كون الحجّة وسطا للإثبات لا توجب أن تكون معنى الحجّة هو الوسط للإثبات بمعناه المنطقي ، هذا مضافا إلى أنّه لو كان معنى الحجّة هو الوسط للاثبات بمعناه المنطقي فلا تشمل الظن أيضا فإنّ وجوب الاجتناب مثلا إنّما هو حكم لنفس الخمر لا للخمر

__________________

(١) فرائد الاصول : / ٢ ـ ٣ (ط ـ قديم).

٣٤٧

المظنون ، فإنّ الأحكام تتعلّق بالعناوين الواقعيّة لا المقيّدة بالظنّ ، فالظنّ أيضا لا يقع وسطا للإثبات بمعناه المنطقي ، بل هو واسطة لإثبات الحكم بمعناه الاصولي ويصحّ أن يحتجّ به. وعليه ـ كما في تهذيب الاصول ـ والقطع والظنّ يشتركان في كون كلّ واحد منهما أمارة على الحكم وموجب لتنجّزه وصحّة العقوبة عليه مع المخالفة إذا صادف الواقع (١).

ودعوى : أنّ القطع بالحكم عين وصوله حقيقة إلى المكلّف ، ولا يتوقّف العلم بفعل المكلّف من حيث الاقتضاء والتنجيز ـ وهو علم الفقه ـ على منجّزيّة القطع ليكون نتيجة البحث مفيدة في الفقه بخلاف ما عدا القطع من أقسام الحجّة فانّه ليس وصولا حقيقيا للحكم ، فلا بدّ من كونه وصولا تنزيليا أو وصولا من حيث الأثر وهو المنجزية ، فيتوقف وصول الحكم إلى المكلّف على ثبوت وصوله تنزيلا أو من حيث الأثر وهو المبحوث عنه في علم الاصول ، وكذا البحث عن منجّزيّة العلم الإجمالي واستحقاق العقوبة على التجرّي ؛ فإنّه خارج عن مسائل الفنّ على جميع التقادير نعم إذا كان البحث في التجرّي بحثا عن تعنون الفعل المتجرّى به بعنوان قبيح ملازم لقاعدة الملازمة للحرمة شرعا دخل في مسائل الفنّ لكنّه لم يكن بهذا العنوان في الكتاب وغيره (٢).

مندفعة : بما عرفت من أنّ الظنّ لم يؤخذ بنحو الجزء للموضوع ؛ لأنّ وجوب الاجتناب لنفس الخمر لا للخمر المظنون بل هو واسطة تعبّديّة لإيصال الحكم ، وهو مشترك مع العلم والقطع في الإيصال ، وإنما الفرق بينهما في أنّ حجّيّة الظنّ محتاجة إلى جعل بخلاف القطع فإنّ حجّيّته ذاتيّة بناء على عدم إمكان جعل الحجّيّة ، فكما أنّ

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٥.

(٢) نهاية الدراية ٢ : ١.

٣٤٨

الظنّ المعتبر حجّة في الفقه فكذلك القطع بالحكم حجّة في الفقه ، وكما أنّ الظنّ المعتبر منجّز للحكم الواقعي فكذلك يكون القطع منجّزا للحكم الواقعيّ أيضا ، ولا ضير في ذلك وجود التلازم بين القطع والمنجّزيّة بناء على عدم إمكان جعل الحجّيّة وعدم وجود التلازم بين الظنّ والمنجّزيّة إلّا بالتنزيل والتعبّد.

ودعوى عدم توقّف العلم بالاقتضاء والتنجيز على منجّزيّة القطع ، كما ترى ؛ لأنّ اتّحاد القطع والمنجّزيّة بناء على عدم إمكان جعل الحجّيّة لا يوجب عدم توقّف العلم بالاقتضاء والتنجيز على منجّزيّة القطع ؛ إذ العلم بالوصول حينئذ متحد مع منجّزيّة العلم والقطع ، فكما أنّ الوصول متوقّف على العلم والقطع فكذلك الاقتضاء والتنجيز. هذا ، مضافا إلى أنّه لو قلنا بأن المنجّزيّة ليست بذاتيّة بل هي من الأحكام العقلائيّة فالأمر أوضح.

وأمّا ما يقال : من أنّ مبحث القطع ليس من مسائل علم الاصول ؛ لأنّ المسألة الأصوليّة هي ما تكون نتيجتها موجبة للقطع بالوظيفة الفعليّة ، وأما القطع بالوظيفة فهو بنفسه نتيجة لا أنّه موجب لقطع آخر بالوظيفة. وإن شئت قلت : إنّ المسألة الأصوليّة ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي بحيث لو انضمّ إليها صغراها انتجّت حكما فرعيّا ، ومن الظاهر أنّ القطع بالحكم لا يقع في طريق استنباط الحكم بل هو بنفسه نتيجة ، وبالجملة القطع بالحكم ليس إلّا انكشاف الحكم بنفسه ، فكيف يكون مقدمة لانكشافه كي يكون البحث عنه من المسائل الأصوليّة؟! (١).

ففيه : أنّ التعاريف المذكورة لموضوع علم الاصول تعاريف تقريبيّة وغالبيّة ، ومن جملتها هو التعريف بأنّ موضوع علم الاصول هو القواعد الممهّدة لأن تقع في الكبرى القياسي لاستنتاج الحكم الكلّيّ الفقهي ؛ لأنّ موضوع علم الاصول هو

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٥.

٣٤٩

ما يصلح لأن يحتجّ به في الفقه ، وهو لا يختصّ بالقواعد الممهّدة المذكورة بل أعمّ منها وأنسب بغرض التدوين وهو ما يفيد في مقام الاحتجاج بين الموالي والعبيد ، وعليه فحصر مسائل علم الاصول فيما يكون نتيجتها موجبة للقطع بالوظيفة الفعلية لا وجه له ، فتدبّر جيّدا.

الأمر الثالث : أنّ المقصد السادس فى بيان حجّيّة القطع والأمارات كما أنّ المقصد السابع فى بيان الاصول العمليّة ، وعليه فموضوعهما لا يتداخلان لتباينهما ، إذ المقصد السادس لا يشمل الاصول العملية كما أنّ المقصد السابع لا يشمل القطع والأمارات.

ثم إنّ الشيخ الأعظم قبل أن يشرع في المقاصد ذهب إلى تقسيم كتابه المشتمل على المقاصد إلى ثلاثة أقسام من أحكام القطع والظنّ والشكّ.

وكأنّه أراد بذلك بيان فهرست لكتابه ، قال : فاعلم أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعيّ فإمّا أن يحصل له الشك فيه أو القطع أو الظنّ ؛ فإن حصل له الشك فالمرجع فيه هي القواعد الشرعيّة الثابتة للشاكّ في مقام العمل وتسمّى بالاصول العمليّة ، وهي منحصرة في الأربعة ؛ لأنّ الشكّ إمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا وعلى الثاني فإمّا أن يمكّن الاحتياط أم لا وعلى الأوّل فإمّا أن يكون الشكّ في التكليف أو في المكلّف به فالأوّل مجرى الاستصحاب والثاني مجرى التخيير والثالث مجرى أصالة البراءة والرابع مجرى قاعدة الاحتياط ... إلى أن قال : فالكلام يقع في مقاصد ثلاثة : الأوّل في القطع والثاني في الظن والثالث في الاصول العمليّة المذكورة التي هي مرجع عند الشكّ (١).

وهذا التقسيم تقسيم لكتابه باعتبار اشتماله على المقاصد المتعرّض فيها بالنسبة

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢. ط ـ قديم.

٣٥٠

إلى الحكم الواقعي ، وقد عدل في الكفاية عن هذا التقسيم وجعله تقسيما ثنائيّا باعتبار جعل الحكم المتعلّق للقطع أعمّ من الواقعيّ والظاهري لعدم اختصاص أحكام القطع بما إذا كان متعلّقا بالحكم الواقعي وقال : فاعلم أنّ البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعليّ واقعيّ أو ظاهريّ فإمّا أن يحصل له القطع به أولا؟ وعلى الثاني لا بدّ من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل من اتّباع الظنّ لو حصل له وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقديم الحكومة ، وإلّا فالرجوع إلى الاصول العقليّة من البراءة والاشتغال والتخيير (١).

ولا يخفى عليك أنّ التقسيم المذكور تقسيم لمحتوى الكتاب ، أيضا ولكن ذكر هذا التقسيم بعد المقصد السادس الذي يكون مختصّا ببيان الأمارات غير مناسب ؛ لما عرفت من اختصاص المقصد السادس بالأمارات ، فلا وجه لذكر الاصول العمليّة من تقسيماته ، فالأولى هو ذكر هذا التقسيم قبل المقصد السادس في ابتداء الكتاب كما ذكره الشيخ كذلك ، هذا ، مضافا إلى أنّ عدم اختصاص أحكام القطع بالحكم الواقعي لا يوجب الإلزام بالتقسيم الثنائي لجواز التقسيم الثلاثي بتفكيك الأمارات عن الاصول العمليّة النقليّة ، بل ذكر الاصول العملية النقلية على حدّة يكون أنسب.

وعليه فلا إشكال في تقسيم الشيخ عدا ما يقال في مجرى الاستصحاب من أنّه لا يختصّ بالأحكام الإلزاميّة ؛ لجريان الاستصحاب في الوضعيّات والموضوعات الخارجيّة والأحكام التكليفيّة غير الإلزاميّة ، مع إمكان أن يقال إنّ المراد من التكليف هو الأعمّ من الإلزاميّ والوضعي وأن يكون بنفسه حكما تكليفيّا أو موضوعا للحكم التكليفي.

وعدا ما يقال في مجرى البراءة من أنّ جعله مطلق ما إذا لم يعلم بالتكليف

__________________

(١) الكفاية ٢ : ٥ ، ط ـ قديم.

٣٥١

منظور فيه ؛ لتنجّز التكليف بالدليل الخاصّ على الاحتياط في بعض الموارد كمورد الدماء والفروج بل الأموال ، مع أنّه لا علم بالتكليف.

ويمكن أنّ يقال : إنّ المراد من العلم هو العلم بالطريق ، فالمقصود من جعل مجرى البراءة مطلق ما إذا لم يعلم التكليف هو مطلق ما إذا لم يقم طريق على التكليف.

وعدا غير ذلك ممّا قيل أو يمكن أن يقال مع إمكان الجواب عن القيل والقال ، ولكن لا مجال للتفصيل مع عدم اقتضاء الحال.

٣٥٢

الخلاصة :

المقدّمة وهنا أمور

الأمر الأوّل : أنّ البحث في هذا المقصد ، يكون حول ثبوت كبريات كلّيّة التي تصلح ، لأن يحتجّ بها في الفقه ، كحجّيّة القطع والعلم التفصيلي والإجمالي والظّنون الخاصّة والمطلقة. وهذا المقصد ممّا يحتاج إليه ، لأنّ أكثر المباحث السّابقة في المقاصد الماضية يكون من صغريات هذا المقصد كالبحث عن ثبوت الدلالة الوضعيّة أو اللّفظيّة ، كمدلول المشتقّات والأوامر والنواهي ومفاهيم القضايا ومفاد أدوات العموم وغير ذلك من المباحث. فإنّ هذه الأمور بعد ثبوتها وإحرازها صغريات بالنّسبة إلى كبرى حجّيّة الظّهورات التي هي من الظنون الخاصّة. وهكذا حكم العقل باجتماع الأمر والنّهي وغير ذلك حتّى المباحث العقليّة صغريات بالنّسبة إلى كبرى حجّيّة الأحكام العقليّة ، فهذا المقصد ممّا لا بدّ منه في مقام الاحتجاج والإثبات ، كما لا يخفى.

الأمر الثاني : أنّ موضوع علم الاصول كما مرّ هو ما يصلح لأن يحتجّ به على الحكم الكلّيّ الفقهي ، وهذا هو الّذي ينطبق على جميع موضوعات مسائل علم الاصول ، كالقطع والظنّ وغيرهما وليس المراد من الحجّيّة هو خصوص الحجّة بمعناها المنطقيّ أي الوسط الّذي به يحتجّ على ثبوت الأكبر للأصغر ، بل المراد منها هو ما يصلح لاحتجاج الموالي على العبيد وبالعكس ، وعليه فتخصيص الحجّة بالوسط المذكور منظور فيه ، لأنّ ما يصلح للاحتجاج بين الموالي والعبيد أعمّ من ذلك وبهذا المعنى يكون القطع أيضا حجّة ، لأنّه ممّا يصلح لأن يحتجّ به بين العبيد والموالي وإن لم

٣٥٣

يكن بمعنى الوسطيّة حجّة ، لأنّ القطع اذا تعلّق بوجوب شيء ، مثلا يقال هذا واجب وكلّ واجب يحرم ضدّه أو يجب مقدّمته ، ولا يقال هذا معلوم الوجوب وكلّ معلوم الوجوب يكون كذا ، لأنّ آثار الأحكام مترتّبة على نفس الأحكام لا على العلم بها ، وكذلك العلم بالموضوعات ، فإنّه إذا قطع بخمريّة شيء ، يقال «هذا خمر ، وكلّ خمر يجب الاجتناب عنها» ، ولا يقال «هذا معلوم الخمرية وكلّ معلوم الخمريّة حكمه كذا» لأنّ أحكام الخمر إنّما تثبت للخمر لا للعلم بها ، نعم يجوز أخذ القطع موضوعا لحكم آخر ويقال إنّ الشّيء المعلوم بوصف كونه معلوما يكون حكمه كذا فالعلم حينئذ يكون وسطا بمعناه الاصطلاحي لثبوت الحكم الآخر. هذا مضافا إلى أنّه لو كان معنى الحجّة هو الوسط للإثبات بمعناه المنطقي لا تشمل الظّنون الخاصّة والمطلقة كما لا تشمل القطع بالشّرح الماضي ، لأنّ الأحكام تعلّقت بالعناوين الواقعيّة لا بقيد الظّن أو العلم بها ، فالظّن والعلم لا يكونان أوساطا ، ومع ذلك يصحّ أن يحتجّ بهما ، كما لا يخفى.

ودعوى خروج البحث عن القطع عن مسائل علم الاصول التي تكون نتيجتها موجبة للقطع بالوظيفة العقليّة ، لأنّ القطع بالوظيفة بنفسه نتيجة ، لا أنّه موجب لقطع آخر بالوظيفة.

مندفعة بأنّ التعاريف المذكورة لموضوع علم الاصول ، تعاريف تقريبيّة وغالبيّة ، والموضوع الحقيقيّ لعلم الاصول هو ما يصلح ؛ لان يحتجّ به في الفقه وهو لا يختصّ بالقواعد المذكورة بل هو أعمّ منها وأنسب بغرض التدوين ، وهو ما يفيد في مقام الاحتجاج.

الأمر الثالث :

أنّ موضوع المقصد السّادس وهو القطع والأمارات مباين مع موضوع المقصد السّابع ، وهو الاصول العمليّة ، ومع المباينة لا وجه لجعل أحدهما مقسما للآخر. نعم لا بأس بجعل الكتاب المشتمل على المقاصد مقسما لأحكام القطع والظّنّ والشّكّ وهو

٣٥٤

يرجع إلى بيان فهرست للكتاب ، كما فعله شيخنا الأعظم قدس‌سره في فرائد الاصول ، حيث ذهب قبل أن شرع في المقاصد إلى تقسيم كتابه إلى ثلاثة أقسام ، من أحكام القطع والظّنّ والشّكّ.

ولا إشكال عليه ، وإنّما الإشكال على صاحب الكفاية ، حيث ذكر التقسيم بعد المقصد السادس الّذي يكون مختصّا بالأمارات ، وهو كما ترى لمباينة موضوعه مع موضوع المقصد السابع ، وهو الاصول العمليّة ، فتدبّر جيّدا.

٣٥٥

الباب الأوّل : في القطع ، وفيه فصول :

الفصل الأوّل

في القطع ، ويقع البحث فيه من جهات :

الجهة الاولى : أنّ القطع يكون بنفسه طريقا إلى الواقع ، وليس هذه الطريقيّة قابلة للجعل مطلقا سواء كان الجعل بسيطا وهو الجعل المتعلّق بمفعول واحد كجعل طريقيّة القطع أو مركّبا وهو الجعل المتعلّق بمفعولين كجعل القطع طريقا لا استقلالا ولا تبعا. والدليل لذلك هو أنّ الطريقيّة عين ذات القطع ، ولا يتصوّر الجعل في الذات والذاتيّات كما لا معنى لجعل الانسان حيوانا وناطقا ؛ لأنّ وجدان الشيء لذاته وذاتيّاته ضروريّ ، فلا يحتاج إلى جعل جاعل ؛ نعم يصحّ تعلّق الجعل البسيط بوجوده ، فيجوز إيجاد القطع استقلالا أو إيجاد المعدّات والمقدّمات الموجبة للقطع.

ويشكل ذلك بأنّ الذاتي ما لا ينفكّ عن ملزومه ولا يفترق عنه والقطع قد يصيب وقد لا يصيب ، ومعه كيف يمكن عدّ الكاشفيّة والطريقيّة من ذاتيّاته. والقول بأنّه في نظر القاطع كذلك لا يثبت كونها من لوازمه الذاتيّة ، لأنّ الذاتي لا يختلف في نظر دون نظر (١).

يمكن أن يقال كشف القطع عن المقطوع في نظر القاطع لا يختلف في نظر دون

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٨.

٣٥٦

نظر ما دام القطع موجودا عند القاطع وعدم إصابته بالنسبة إلى الواقع لا يجعل القطع غير كاشف بل هو في عين كاشفيّته يكون جهلا مركّبا والكاشفيّة المذكورة تكون من ذاتيّات القطع ولا يمكن فرض وجود القطع مع عدمها وإلّا لزم الخلف في كونه ذاتيّا له كما لا يخفى.

الجهة الثانية : أنّ القطع بعد ما عرفت من كونه عين الطريقيّة والكاشفيّة هل تكون حجّيّته ذاتيّة أم لا؟

هنا أقوال :

أحدها : ما في الكفاية من أنّ حجّيّة القطع من اللوازم حيث قال : وتأثيره أي القطع في ذلك أي في تنجّز التكليف واستحقاق العقوبة على المخالفة لازم وصريح الوجدان به شاهد وحاكم ، ولا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان. (١)

وتوضيح ذلك : أنّ استحقاق العقاب مترتّب بحكم العقل على مخالفة المولى ؛ لكون المخالفة هتك لحرمته ، فالسبب للاستحقاق المذكور هي مخالفة التكليف ، ولكن من المعلوم أنّ مخالفة التكليف المجهول لا توجب استحقاق العقاب بحكم العقل بل الشرط في تاثيرها في ذلك هو القطع بالتكليف وانكشافه له ، فالقطع شرط في تأثير المخالفة في حكم العقل باستحقاق العقوبة ، فهذا الشرط كسائر الشروط التكوينيّة لا يتوقّف تأثيره على شىء آخر غير وجود المقتضي ، فإذا انضمّ إلى المقتضي فالتأثير لازم قهرا كما لا يخفى (٢).

وذلك ممّا يشهد به الوجدان ، ولا يتوقّف تأثير القطع في التنجيز على جعل عقلائيّ أو شرعيّ ، بل القطع والكشف يجعل المخالفة المذكورة التي هي هتك لحرمة

__________________

(١) الكفاية ٢ : ٨.

(٢) راجع نهاية الدراية ٢ : ٥.

٣٥٧

المولى داخلة في عنوان الظلم ، وقبح الظلم وحسن العدل ليسا بمجعولين ؛ لأنّهما ممّا يدركه العقل ، ولذا نقول بوجود هذا الإدراك قبل وجود المجتمع البشري ؛ لملاءمة العدل مع العقل ومنافرة الظلم للعقل ، فلو فرض الإنسان منفردا أدرك أنّ مخالفة المولى في التكاليف يوجب استحقاق العقوبة من دون حاجة إلى بناء من العقلاء أو ورود نصّ من الشارع. ولا ينافي ذلك توقّف كيفيّة العقوبة أو كمّيّتها على بيان شرعيّ كما لا يخفى.

وكيف كان فلا حاجة في إثبات كون التنجّز من اللوازم القهريّة للقطع بالاستدلال كما في الدرر بلزوم التسلسل لو قلنا باحتياج ذلك إلى الجعل حيث قال : إنّ الحقّ عدم احتياجه إلى الجعل ، فإنّه لو قلنا باحتياجه إليه لزم التسلسل ؛ لأنّ الأمر بمتابعة هذا القطع لا يوجب التنجّز بوجوده الواقعي بل لا بدّ فيه من العلم ، وهذا العلم أيضا كالسابق يحتاج في التنجّز إلى الأمر ، وهكذا.

مضافا إلى أنّه لو فرضنا إمكان التسلسل لا يمكن تنجيز القطع ؛ لعدم الانتهاء إلى ما لا يكون محتاجا إلى الجعل. وهذا واضح. (١)

هذا مضافا إلى ما فيه من إمكان أن يقال إنّ التسلسل ممنوع لو فرضت القضيّة طبيعيّة ؛ لأنّها عمّت نفسها ، فالجعل الشرعي بقوله مثلا اتّبع قطعك بالأمر يشمل قطعه أيضا بقوله اتّبع قطعك بالأمر ، ومع الشمول المذكور لا حاجة في تنجيز القطع بقوله اتّبع قطعك بالأمر إلى الأمر الجديد ، كما لا حاجة في شمول كل خبرى صادق لنفسه إلى قضيّة اخرى ؛ ولذا اورد عليه في نهاية الدراية بأنّ توهّم لزوم التسلسل مدفوع بأنّه لو فرضت القضيّة طبيعيّة لعمّت نفسها أيضا من دون لزوم التسلسل (٢).

__________________

(١) الدرر ٢ : ٣٢٥.

(٢) نهاية الدراية ٢ : ٥.

٣٥٨

ولعلّ إليه يؤول ما أفاده الشيخ الأعظم قدس‌سره حيث قال : ثم ما كان منه أي القطع طريقا لا يفرق فيه بين خصوصيّاته من حيث القاطع والمقطوع به وأسباب القطع وأزمانه إذ المفروض كونه طريقا إلى متعلّقه ، فيترتّب عليه أحكام متعلّقه (١).

وقال أيضا : قد عرفت أنّ القاطع لا يحتاج في العمل بقطعه إلى أزيد من الأدلّة المثبتة لأحكام مقطوعه ، فيجعل ذلك كبرى لصغرى قطع بها ، فيقطع بالنتيجة ، فإذا قطع بكون شيء خمرا وقام الدليل على كون حكم الخمر في نفسها هي الحرمة ، فيقطع بحرمة ذلك الشىء (٢).

فلا يتوقّف حجّيّة القطع على جعل شرعيّ أو عقلائي ، بل العقل يدلّ على تأثير القطع في ترتّب استحقاق العقوبة على مخالفة المولى كما لا يخفى.

وأمّا ما قيل من أنّ الأثر العقليّ للقطع وهو المنجّزيّة لا أساس له ؛ لأنّ العقاب الثابت بعنوان التأديب كالعقاب الدنيوي لا يحكم العقل بثبوته في الآخرة لأنّه لغو محض ، والثابت بعنوان آخر من الالتزام بتجسّم الأعمال أو تكميل النفس أو مصلحة نوعيّة للعالم الاخروي لا دخل لحكم العقل فيه ، بل هو يدور سعة وضيقا وتحديدا لموضوعه مدار الدليل النقلي. وعليه فيبطل القول بالالتزام بحكم العقل باستحقاق العقاب ومنجّزيّة القطع خصوصا لمن يلتزم بأنّ استحقاق العقاب من باب تطابق آراء العقلاء حفظا للنظام (٣).

فضعفه ظاهر ، لأنّ القطع بالعقاب الاخرويّ له فائدة واضحة في الدنيا ؛ إذ بعد القطع بوقوعه ينزجر الإنسان في كثير من الأحيان عن ارتكاب المخالفة ويؤدّب في حياته الدنيويّة ، وهذا كاف في الفائدة وعدم اللغويّة. ولا يلزم في تأثير القطع في

__________________

(١) فرائد الاصول : ٣. ط ـ قديم.

(٢) فرائد الاصول : ٤. ط ـ قديم.

(٣) منتقى الاصول ٤ : ٢٧ ـ ٢٩.

٣٥٩

المنجّزيّة أن يكون الحاكم بكيفيّة العقاب هو العقل ، بل يكفي أن يحكم العقل بمجرّد استحقاق العقوبة ، وأمّا كيفيّتها وزمان العقوبة ومكانها يمكن العلم بها من طريق النقل وأخبار الصادق المصدّق كما لا يخفى.

وهكذا لا مجال لما قيل من أنّ صفة المنجّزيّة للقطع ليست ذاتيّ باب الكلّيّات الخمس ولا الإعراض اللازمة ، بل لو ثبتت له فإنّما هي من الأحكام التي يحكم بها له العقل العمليّ الذي وظيفته الحكم فيما يتعلّق بتنظيم أمور الأشخاص والجوامع ؛ إذ يحكم بها العقلاء بما أنّهم عقلاء لهم هذا العقل العملي (١).

وذلك لما عرفت من أنّ حكم العقل باستحقاق العقوبة للمخالفة واستحقاق المثوبة للطاعة ليس من ناحية تنظيم أمور المجتمعات ، بل العقل حاكم به ولو لم يكن نظام ومجتمع وإنّما هو من جهة ملائمة العدل للعقل ومنافرة الظلم له ، وهذا الحكم من العقل من البديهيّات العقليّة بعد وجود القطع بالحكم ومترتّب عليه قهرا.

وعليه فالمنجّزيّة ليست من ذاتيّات القطع أو من لوازم ماهيّة القطع ، بل هي من لوازم وجود القطع ، فإذا قطع الإنسان بحكم حكم العقل بالتنجيز أي استحقاق العقوبة من جهة مخالفة الحكم والتكليف.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ ظاهر العبارات أنّ المعذّريّة أيضا من لوازم وجود القطع كالمنجّزيّة ؛ إذ العقل يدرك عدم صحّة عقاب العامل بقطعه عند مخالفة قطعه مع الواقع.

ولكن أورد عليه سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بأنّ ثبوت العذر على تقدير عدم الإصابة لا يكون من أحكام القطع ؛ لأنّ المعذورية إنّما هو بسبب الجهل بالواقع وعدم

__________________

(١) تسديد الاصول ٢ : ٧.

٣٦٠