عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

فلا شبهة في هذا الانصراف بنظر العرف ولا يمكن التمسّك بالإطلاق في مثل ذلك لفرض أنّ الخصوصيّة المزبورة مانعة عن ظهور المطلق في الاطلاق وتكون بمنزلة القرينة المتّصلة.

ومنها دنوّ مرتبة بعض أفرادها على نحو يكون صدقها عليه مورد الشكّ كصدق الماء على ماء الكبريت لأنّ المعتبر في التمسّك به هو أن يكون صدق المطلق على الفرد المشكوك فيه محرزا والشكّ إنّما يكون من ناحية اخرى وأمّا فيما لم يكن أصل الصدق محرزا فلا يمكن التمسّك به وما نحن فيه من هذا القبيل حيث إنّ أصل الصدق مشكوك فيه فلا يمكن التمسّك بإطلاق لفظ الماء بالإضافة إلى ماء الكبريت أو نحوه.

وأمّا الانصراف في غير هذين الموردين وما شاكلهما فلا يمنع عن التمسّك بالإطلاق فأنّه لو كان فإنّما هو بدويّ فيزول بالتأمّل ومن ذلك الانصراف المستند إلى غلبة الوجود فإنّه بدويّ ولا أثر له ولا يمنع عن التمسّك بالاطلاق حيث إنّه يزول بالتأمّل والتدبير (١).

يمكن أن يقال إنّ مجرّد علوّ المرتبة ودنوّها لا يوجب الانصراف وإلّا لزم أن نقول بذلك في مثل عنوان الإنسان بالنسبة إلى الأفراد العالية من الإنسان مع أنّ الانسان يشمل جميع الأفراد سواء كانوا من الأفراد العاليّة أو الدانية.

وهكذا مفهوم الشيء يشمل الدانيّ والعالي ولا وجه لاختصاصه بالدانيّ وانصرافه عن العالي وأيضا حصر مورد الانصراف في مورد العالي والدانيّ مع أنّه ليس كذلك في جملة الموارد كانصراف البيع في قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) إلى البيع

__________________

(١) المحاضرات : ٥ / ٣٧٢ ـ ٣٧٣.

٣٠١

الصادر من المالك لا مطلق البيع كما ترى (١).

فالمعتبر هو الانصراف سواء كان من ناحية كثرة الاستعمال أو غيرها من دون فرق بين كونه دانيا أو عاليا.

ثمّ لا عبرة بالظنّ الخارجيّ ولذا لا تجدى الغلبة الخارجيّة ما لم توجب الانس اللفظي ثمّ إنّ الانصراف إلى الخصوصيّة كما في نهاية الأفكار تارة يكون على الإطلاق من دون اختصاصه بحال دون حال واخرى يكون مخصوصا بحال دون حال آخر كحال الاختيار والاضطرار وغير ذلك كما لو كان من عادة المولى مثلا أكل البطّيخ في الحضر وأكل ماء اللحم في السفر فإنّ المنصرف من أمره حينئذ بإحضار الطعام في حضره شيء وفي سفره شيء آخر لا أنّه كان المنصرف إليه شيئا واحدا في جميع تلك الأحوال.

ومن ذلك أيضا انصراف وضع اليد مثلا على الأرض حيث إنّ المنصرف منه في حال الاختيار والتمكّن ربّما كان هو الوضع بباطن الكفّ لا بظاهرها وفي حال الاضطرار وعدم التمكّن من وضع باطن الكفّ كان المنصرف منه الوضع بظاهر الكفّ ومع عدم التمكّن من ذلك هو الوضع بالساعد وهكذا كلّ ذلك بملاحظة ما هو قضيّة الجبلة والفطرة من وضع الإنسان باطن كفّيه على الأرض في حال القدرة في مقام الوصول إلى مقاصده وبظاهرهما عند العجز وعدم التمكّن من ذلك وبالساعدين عند العجز من ذلك أيضا وعليه فلا بأس بالتمسّك بإطلاقات أو أمر المسح باليد في وجوب المسح بظاهر الكفّين مع عدم التمكّن عن المسح بباطنهما بل وجوبه ببقيّة اليدين عند تعذّر المسح بظاهر الكفّين أيضا كما هو المشهور (٢).

__________________

(١) منتهى الاصول : ٣ / ٤٤٧.

(٢) نهاية الأفكار : ١ / ٥٧٦.

٣٠٢

الرابع : أنّ قضيّة مقدّمات الحكمة في المطلقات تختلف باختلاف المتعلّقات والمقامات فإنّها تارة تقتضي العموم البدليّ كما إذا كان متعلّق الأمر نكرة كقوله جئني برجل اذ لا يراد منه العموم الاستيعابي كما لا مجال لاحتمال الإهمال والإجمال فإنّه في مقام البيان وتارة تقتضي العموم الاستيعابي كما إذا كان متعلّق الحكم هو الجنس كقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) إذ لا يناسب العموم البدلي كما لا مجال لاحتمال الإجمال والإهمال فإنّه في مقام البيان.

وتارة تقتضي نوع خاصّ من الوجوب كما إذا كانت صيغة الأمر مطلقة فإنّه يقتضي أن يكون المراد خصوص الوجوب التعيّني العينيّ النفسيّ فإنّ إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان والمفروض عدمه لعدم التقيّد بقيد يفيد الوجوب التخييريّ أو الوجوب الكفائيّ أو الوجوب الغيريّ على تفصيل مضى في أنواع الوجوب فراجع.

الخامس : أنّ الطبيعة وإن كانت قابلة الانطباق على مصاديقها بنحو العرضيّة والطوليّة ولكن يختلف امتثالها في الأوامر والنواهي إذ البعث في الأوامر يكون إلى وجود الطبيعة وهو يصدق بإيجاد فرد ما فلا محالة ليس المطلوب بالفعل في الأوامر إلّا فردا واحدا من الطبيعة وحيث لم يتّخذ فيها قيد يدلّ بمقتضى مقدّمات الإطلاق على حصول الامتثال بأيّ فرد أتى به من الطبيعة المأمور بها ففي هذه الصورة نحتاج إلى مقدّمات الإطلاق في الاكتفاء بفرد دون فرد.

هذا بخلاف النواهي فإنّ النهي عن وجود الطبيعة يدلّ على الزجر عنه ولا يمتثل ذلك إلّا بانتفاء جميع الأفراد عقلا ومن المعلوم أنّ مع الدلالة العقليّة لا حاجة إلى مقدّمات الإطلاق بل الطبيعة في سياق النفي أو النهي يدلّ على العموم وبذلك يخرج عن الإطلاق هذا فيما إذا لم نقل بأنّ المأخوذ في متعلّق النواهي منصرف بكثرة الاستعمال إلى الطبيعة السارية كما ذهب إليه سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره وإلّا فلا حاجة أيضا إلى مقدّمات الإطلاق لأنّ دلالة المتعلّق عليه تكون بالظهور اللفظي

٣٠٣

الناشئ من الانصراف كما لا يخفى.

والنكرة أيضا كالطبيعة في الاحتياج إلى مقدّمات الإطلاق في الأوامر دون النواهي فإنّ النكرة بعد وقوعها في سياق النهي كالنفي خرجت عن كونها نكرة واستعملت بمنزلة الطبيعة والجنس فيدلّ النهي عنها على مطلوبيّة انتفاء جميع الأفراد بالدلالة العقليّة فلا حاجة إلى مقدّمات الإطلاق مع الدلالة العقليّة كما عرفت في الطبيعة بل النكرة في سياق النهي أيضا كالنفي يدلّ على العموم هذا.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه ربّما يستفاد في الأوامر بمناسبة الحكم والموضوع أنّ الحكم لا ينفكّ عن وجود الطبيعة ولازم ذلك هو العموم الاستيعابي كقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) فإنّ مفاده هو الحكم بصحّة كلّ بيع لا إمضاء بيع من البيوع فقط ولا مجال لاحتمال الإهمال والإجمال مع كونه في مقام البيان.

وهكذا أكرم العالم يدلّ على مطلوبيّة إكرام كلّ واحد من العالم ولذا لا يكفي إكرام عالم دون عالم في الامتثال.

ففي هذه الموارد ونظائرها يكون الحكم متعدّدا بتعدّد المصاديق والأفراد ولا يكفي في تحقّق الامتثال إتيان فرد من الأفراد ولكن مع ذلك لا يستغنى عن مقدّمات الإطلاق إلّا إذا كانت اللام للاستغراق لأنّ اللام تكون حينئذ من أداة العموم فلا تغفل.

السادس : أنّ الإطلاق ينقسم إلى أفراديّ وأحواليّ وأزمانيّ وهذا التقسيم يكون باعتبار اتّحاد الطبيعة مع الحصص من دون تقييد بحال أو زمان مثلا مقتضى قوله أكرم العالم هو وجوب إكرام كلّ عالم في أيّ حال كان وفي أيّ زمان من الأزمنة فالحكم المذكور له اطلاق في الجهات الثلاثة.

والتقييد أيضا يمكن باعتبار جميع الجهات الثلاثة إذا كان أفراديّا فإنّ الفرد إذا خرج عن المطلق خرج حاله وزمانه بالتّبع أيضا كما يمكن أن يكون باعتبار بعضها كما

٣٠٤

إذا كان القيد باعتبار حال من أحواله أو زمان من أزمانه فمقتضاه هو الأخذ بالإطلاق بعد زوال الحال أو الزمان الذي خرج عن الإطلاق لأنّ المطلق متعرّض لجميع أحوال وأزمان أفراده ولم يخرج عنه إلّا حال أو زمان خاصّ.

ولا مجال لاستصحاب الحال أو الزمان الخارج بعد مضيّه فإنّه مشمول للمطلق ومعه لا مجال للأصل إذ الأصل دليل حيث لا دليل هذا مضافا إلى تبدّل الموضوع ولا استصحاب مع عدم بقاء موضوعه.

ولذلك يمكن أن نقول بعد مضيّ ثلاثة أيّام في خيار الحيوان أنّه لو شكّ في بقاء الخيار أو عدمه يرجع إلى إطلاق دليل نفوذ المعاملات إذ الخارج هو الزمان لا الفرد وهكذا بعد علاج المرأة ما بها من القرن أو الرتق لو شكّ في بقاء خيار الزوج أمكن الرجوع إلى إطلاق أدلّة النفوذ إذ الخارج هو حال ابتلائها بوصف القرن أو الرتق لا نفس المرأة والمفروض أنّ الحال تبدّلت بحال آخر فيرجع إلى إطلاق أدلّة النفوذ هذا بناء على خروج حال من أحوالها لا نفس المرأة وإلّا أمكن استصحاب الخارج فيما إذا كان الموضوع باقيا عند العرف وأمّا إذا كانت الأوصاف من المقوّمات فمع تبدّلها لا بقاء لموضوع الاستصحاب فيرجع إلى الاطلاقات فلا تغفل.

السابع : أنّه ربّما يتوهّم أنّ المعاني الحرفيّة غير قابلة للتقييد من جهة عدم استقلالها وكونها غير ملتفت إليها ولذلك لا تقع مسندا ولا مسندا إليه لاحتياجهما إلى اللحاظ الاستقلاليّ (١).

واجيب عنه بأنّ التحقيق أنّ عدم الاستقلال المأخوذ في معنى الحروف إنّما هو بمعنى عدم قابليّته لوقوعه موضوعا أو محمولا وإلّا فلا بأس بالالتفات إليه وتقييده أو إطلاقه مثلا الهيئة الخبريّة في المضارع الاستقباليّ في قولك يجيء زيد غدا معناها معنى

__________________

(١) منتهى الاصول : ١ / ٤٦٨.

٣٠٥

حرفيّ يحكي عن صدور المجيء عن فاعله والصدور الحرفيّ المحكيّ بها مطلق من حيث كون الفاعل ضاحكا مثلا أم لا وإذا قلت يجىء زيد غدا ضاحكا فكونه ضاحكا قيد لمفاد الهيئة وهو معنى حرفيّ وهكذا الأمر في قول المولى صلّ ركعتين وقوله صلّ قائما إلى غير ذلك.

وتوهّم رجوع القيد إلى الفاعل أو المادّة كاشف عن اعوجاج الذهن فإنّه لا يرتاب أحد في أنّ مفاد العبارة الحكاية عن أنّ صدور العمل عنه كان في هذه الحالة والصدور معنى يحكي عنه الهيئة لا الحكاية عن صدور العمل عن زيد الضاحك أو عن العمل المتّصف بكون فاعله قائما قد صدر عنه وهكذا الأمر في جانب الأمر به مطلقا ومقيّدا وفي سائر المعاني الحرفيّة مطلقة أو مقيّدة (١).

ولقائل أن يقول إنّ الضاحك حال عن الفاعل لا حال عن الفعل وهو الصدور إذ اللازم حينئذ أن يقال يصدر المجيء عن زيد في حال الضحك لا ضاحكا إذ الضاحك هو الإنسان لا فعله.

ثمّ إنّ لحاظ المعاني الحرفيّة بالنظر الثاني كما يكفي في الإطلاق والمتقيّد فكذلك يكفي في وقوعه موضوعا أو محمولا ولذا يصحّ أن يقال أنّ المعاني الحرفيّة لا يخبر عنها مع أنّها لا استقلال لها.

والحاصل أنّه لا يختصّ التقييد بالمعاني الاسميّة والأفراديّة بالوجدان إذ يجوز تقييد المعاني الحرفيّة والجمل والمعاني التركيبيّة أيضا ولذا تكون الجمل الجزائيّة مقيّدة ومنوطة بالجمل الشرطيّة وهكذا القضايا الحمليّة مقيّدة بالجهات من الضروريّة وغيرها وذلك لأنّ الالتفات إلى الجملة وتقييدها ممكن باللحاظ الثاني ومع إمكانه لا وجه لتخصيص التقييد بغير المعاني الحرفيّة والجمل كما لا يخفى.

__________________

(١) تسديد الاصول : ١ / ٥٥٥ ـ ٥٥٦.

٣٠٦

الثامن : أنّ بعد جريان مقدّمات الإطلاق في ناحية الحكم كان الحكم مطلقا من ناحية الزمان والمكان ويدوم إلى يوم القيامة ما دام الموضوع باقيا قضاء لمقدّمات الإطلاق هذا مضافا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة».

ولا يتغيّر الحكم بحسب الزمان والمكان مثلا قولهم إنّ المجتهد يحرم عليه التقليد والعاميّ يجب عليه التقليد يدلّان على حرمة تقليد المجتهد ووجوب تقليد العاميّ وهذان الحكمان يدومان إلى يوم القيامة ما دام موضوعهما باقيا.

نعم ربّما يتبدّل مصداق الموضوع بأن كان فرد عاميّا فتعلّم فيصير مجتهدا أو كان فرد مجتهدا ثمّ عرض له عارض وزال علمه فيصير عاميّا فيختلف حكمه ولكنّ الاختلاف المذكور ليس إلّا في ناحية مصداق الموضوع فإنّ المتغيّر هو مصداق الموضوع وأمّا نفس الموضوع أو الحكم فلا يتغيّران أصلا.

وممّا ذكر يظهر ما في دعوى أنّ الأحكام متغيّرة بتغيّر الزمان والمكان وذلك للخلط بين المصداق وبين الموضوع أو الحكم.

نعم لو علم من القرائن أنّ الحكم لا إطلاق له لا من جهة الزمان ولا من جهة المكان فالحكم مختصّ بزمان صدوره أو مكان صدوره فلا يجري فيه مقدّمات الإطلاق بعد وجود القرينة ، وهكذا لو عرض تزاحم الأهمّ سقط حكم المهمّ عن الفعليّة ما دام التزاحم موجودا ولكن مع ارتفاع التزاحم صار حكم المهمّ فعليّا كما لا يخفى.

التاسع : أنّه إذا دار الأمر بين رفع اليد عن إطلاق الهيئة أو إطلاق المادّة وشكّ في وجوب تحصيل القيد وعدمه فإنّه إن كان قيدا للهيئة فلا يجب تحصيله وإن كان قيدا للمادّة يجب تحصيله ذهب الشيخ الأعظم قدس‌سره إلى ترجيح إطلاق الهيئة مستدلّا بأنّ إطلاق الهيئة شموليّ بمعنى أنّ مفادها هو الوجوب على كلّ تقدير يمكن أن يتوجّه معه

٣٠٧

الخطاب إلى المكلّف وليس كذلك إطلاق المادّة فإنّه بدليّ بمعنى أنّ مفاده صلوح أيّ فرد من أفراد الطبيعة المأمور بها للامتثال به فإذا دار الأمر بينهما فيؤخذ بالشموليّ لكونه أقوى في العموم ويرفع اليد عن العموم البدليّ.

اورد عليه في الكفاية بأنّ الإطلاق في كلا المقامين مستفاد من مقدّمات الحكمة فلا يمكن تقديم أحدهما على الآخر بمجرّد كونه شموليّا والآخر بدليّا نعم لو كان أحدهما بالوضع والآخر بالمقدّمات لكان تقديم ما بالوضع على الآخر موجّها لكونه صالحا لأن يكون قرينة على الآخر دون العكس وذلك لأنّ الوضع تنجيزيّ بخلاف ما يكون بالمقدّمات فإنّه معلّق على عدم قيام قرينة على الخلاف فالوضع قرينة على الخلاف انتهى.

وعليه فمقتضى عدم تقديم أحدهما على الآخر هو الرجوع إلى مقتضى الأصل في وجوب تحصيل القيد وعدمه ومن المعلوم أنّ بعد العلم الإجماليّ بتقيّد أحدهما يتعارض أصالة الاطلاق في طرف الهيئة مع أصالة الإطلاق في طرف المادّة ومع التعارض لا يصحّ الرجوع إلى أصالة الاطلاق لإلغاء احتمال التقييد بل اللازم هو الرجوع إلى مقتضى الأصل وهو يقتضي البراءة إذ مع احتمال أن يكون القيد قيدا للوجوب فلا دليل على الوجوب لاحتمال دخالة حصول القيد في الوجوب فلا علم بالوجوب أصلا كما لا يخفى.

العاشر : أنّ معنى الاطلاق كما أشرنا إليه هو أخذ المتكلّم الموضوع من دون لحاظ شيء فيه ولا يتوقّف ذلك على لحاظ القيود وتسوية الموضوع باعتبارها بأن يقال إنّ الموضوع الفلانيّ سواء كان مع كذا أو كذا يترتّب عليه كذا فإنّه خلاف الوجدان مضافا إلى أنّ ملاحظة القيود واحدا بعد واحد تحتاج إلى مئونة زائدة على مئونة التقيّد مع أنّ المطلق أخفّ مئونة عن المقيّد فالإطلاق هو رفض القيود لا جمع القيود إذ الرفض لا يحتاج إلى مئونة بخلاف جمع القيود فلا تغفل.

٣٠٨

الخلاصة :

الفصل الثاني : في مقدّمات الإطلاق

ولا يذهب عليك أنّ الحاجة إلى المقدّمات فيما إذا لم يكن الإطلاق مستندا إلى طهور لفظيّ ، وإلّا فلا مجال لتلك المقدّمات ، مثلا لو قلنا بأنّ الشياع والإطلاق من جهة أنّ الموضوع له هو المعنى الشائع ففي إفادة الشيوع لا حاجة إلى المقدّمات ، لأنّ اللفظ بالوضع يدلّ عليه ولكن أخذ الشياع والإطلاق في الموضوع له ممنوع كما مرّ.

أو لو قلنا بأنّ الماهيّة في ذاتها سيّالة سارية ، فإذا توجّه الحكم إليها سرى بتبع سراية الماهيّة ، لأنّ الماهيّة تمام الموضوع وما هذا شأنه لا ينفكّ عن الحكم فلا حاجة إلى المقدّمات ، ولكن الثابت هو قابليّة الماهيّة للشياع. وعليه في فعليّة الإطلاق والشياع نحتاج إلى المقدّمات.

أو لو قلنا إنّ المراد لو كان مقيّدا فالإرادة حينئذ متعلّقة بالمقيّد بالأصالة وبالطبيعة المطلقة بالتبع لمكان الاتّحاد بينهما. هذا بخلاف ما إذا لم يكن مقيّدا ، فإنّ الإرادة متعلّقة بالطبيعة بالأصالة وحيث إنّ ظاهر تعلّق الخطاب والإرادة بالطبيعة أنّ الطبيعة أوّلا وبالذات متعلّقة بالطبيعة لا أنّ المراد هو المقيّد ، ثمّ اضيفت الإرادة إليها بالتبع ، وعليه فلا حاجة إلى المقدّمات. ولكنّه مدفوع بأنّ استناد الظهور إلى اللفظ غير ثابت بل هو لأجل حكم العقلاء بأنّ ما جعل موضوعا للحكم يكون تمام الموضوع لا بعضه. ولعلّهم لا يحكمون بذلك إلّا بعد تماميّة كون المتكلّم في مقام البيان ،

٣٠٩

والشاهد على ذلك أنّه لو فرض أنّه يكون في مقام بيان حكم آخر ، أو في مقام الإهمال لا يحكمون بذلك ، فهذه المقدّمة ممّا لا مناص منها.

فانقدح ممّا ذكر ، أنّ الألفاظ في إفادة الإطلاق تحتاج إلى المقدّمات.

ما هي مقدّمات الإطلاق :

ذهب في الكفاية إلى أنّ المقدّمات ثلاثة إحداها : كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد ، لا الإهمال والإجمال وأطلق الكلام.

ثانيتها : انتفاء ما يوجب التعيين.

ثالثتها : انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب دون المتيقّن بملاحظة الخارج.

ولا كلام في لزوم المقدّمة الاولى ، إذ بدون كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد لا يحكم العقلاء ، بأنّ الموضوع المذكور في الكلام تمام موضوع حكمه ومع عدم حكمهم بذلك لا تتمّ الحجّة العقلائيّة على المتكلّم.

وعليه فاكتفاء المتكلّم بالمذكور في كلامه من دون تقييده بقيد مع تمكّنه من التقييد يوجب حكم العقلاء بأنّه بإطلاقه تمام موضوع حكمه.

نعم لو لم يتمكّن من التقييد لا يحكم بأنّ المذكور بإطلاقه تمام موضوع حكمه ولا كلام أيضا في لزوم المقدّمة الثانية ، إذ مع وجود القرينة لا مجال للأخذ بالإطلاق ولكن هذه المقدّمة من محقّقات الإطلاق ، إذ مع وجود القرينة سواء كانت داخليّة أو خارجيّة مقرونة لا ينعقد الإطلاق ، مع أنّ محطّ الكلام في التمسّك بالإطلاق ما إذا جعل شيء موضوعا لحكم وشكّ في دخالة شيء آخر ، فيرفع بالإطلاق.

وأمّا المقدّمة الثالثة ، فقد استدلّ لها بكون القدر المتيقّن موجبا لإحراز أنّه من الموضوع وإن لم يحرز أنّه تمامه ، فالعبد ليس له نفي الخصوصيّة الزائدة المحتملة لعدم لزوم الاخلال بالغرض لو كان المتيقّن في مقام التخاطب تمام موضوع حكمه ، ولو أراد

٣١٠

المتكلّم المطلق لكان عليه نصب القرينة المانعة عن كون المتيقّن تمام موضوع حكمه ، وإلّا لأخلّ بغرضه.

ويمكن أن يقال ، إنّ المتكلّم لو أراد القدر المتيقّن لأشار إليه بنحو من الأنحاء ولم يأخذ موضوعا آخر أعمّ لكلامه ، فإذا لم يشر إليه وأخذ موضوعا آخر أعمّ ولم يقيّده بقيد كان ذلك موجبا للحكم بالإطلاق والقدر المتيقّن في مقام التخاطب يوجب العلم بثبوت الحكم في مورده ، ولكن لا يثبت خصوصيّة المورد ، فمع عدم دلالة القدر المتيقّن على ذلك لا وجه لرفع اليد عن إطلاق المتعلّق المأخوذ في الحكم. ولعلّه لذلك بنى العقلاء على عدم الاعتناء بخصوصيّة الأسئلة عند كون الأجوبة مطلقة ، وقالوا العبرة بإطلاق الوارد لا بخصوصيّة المورد.

نعم لو كان القدر المتيقّن موجبا للانصراف فلا كلام في كونه موجبا لتقيّد الموضوع وكان مندرجا في المقدّمة الثانية.

فتحصّل أنّ المقدّمات ثنائيّة لا ثلاثيّة ، بل المقدّمات منحصرة في المقدّمة الاولى بعد ما عرفت من أنّ المقدّمة الثانية من المحقّقات لا المقدّمات ، وعليه فليس للإطلاق إلّا مقدّمة واحدة وهي المقدّمة الاولى.

ثمّ إنّ المراد من المقدّمة الاولى هو أن يكون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد من الجهة التي في صدد بيانها ، وعليه فلا يضرّ بذلك عدم كونه كذلك بالنسبة إلى سائر الجهات ، ولذا نقول بحلّيّة أكل صيد الكلاب باطلاق قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ولو لم يقع التذكية والذبح الشرعي عند عدم المجال لمراعاتها ولكن لا نقول بطهارة موضع ملاقاة الكلب للصيد لأنّ الآية الكريمة ليست في صدد بيان الطهارة.

بقي شيء

واعلم أنّ صاحب الكفاية ذهب إلى أنّه إذا شكّ في كون المتكلّم في مقام بيان

٣١١

تمام المراد وإطلاقه أو لا ، كان مقتضى الأصل أنّه في مقام بيان تمام المراد وإطلاقه.

وتبعه سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره ، وقال عليه جرت سيرة العقلاء ، فالأصل بعد إحراز كون المتكلّم بصدد بيان الحكم لا الإهمال والإجمال أن يكون بصدد بيان تمام ما له المدخليّة في الموضوع في قبال الإهمال والإجمال.

وبعبارة اخرى ، أنّ المراد الجدّيّ محقّق ، وهو إمّا مقيّد أو مطلق ، لكنّه يشكّ في أنّه بصدد إظهار ذلك المراد الجدّيّ أم بصدد أمر آخر فالعقلاء يحكمون هنا بأنّ المولى الذي له مراد محقّق فهو بالجبلّة والطبع أي لو خلّي ونفسه يقوم بصدد إظهاره وكونه بصدد إظهار أمر آخر يحتاج إلى التنبيه عليه ، فينتج أنّ المراد الاستعمالي غير مهمل ، بل إمّا مطلق أو مقيّد. فبضميمة عدم التقييد يثبت الإطلاق خصوصا إذا كان المورد مقام الحاجة ولو بمعنى حاجة السائل إلى فهم حكم المسألة كما هي عادة الرواة المتصدّين لضبط الأحكام عن الإمام عليه‌السلام.

وعليه فالمراد من إحراز كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد في المقدّمة الاولى هو الأعمّ من العلم والعلمي ، لما عرفت من كفاية بناء العقلاء في إحراز كون المتكلّم في مقام البيان.

نعم حكم العقلاء بالإطلاق فيما إذا لو سئل المتكلّم عن مورد الإطلاق لأجاب بأنّه المراد أيضا وإلّا فحكم العقلاء غير محرز.

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : أنّ النكرة هي الفرد المردّد ، وهذا عنوان للأفراد الخارجيّة على سبيل التبادل ، والبواقي أي اسم الجنس وعلمه والمعرّف بلام الجنس حاكيات عن حصص معانيها دون الأفراد بما هي الأفراد لخلوّ المعاني عن الخصوصيّات الفرديّة.

وعليه فمقتضى الإطلاق في النكرة جواز الإتيان بأيّ فرد كان ، ومقتضى

٣١٢

الإطلاق في البواقي هو جواز الإتيان بأيّ حصّة من حصص الطبيعة المأمور بها ولا حكاية لها عن خصوصيّات الأفراد.

والمنع عن حكاية البواقي عن الحصص أيضا بدعوى أنّ نفس الطبيعة تخالف الوجود والتشخّص وسائر عوارضها خارجا أو ذهنا ولا يمكن كاشفيّة الشيء عمّا يخالفه غير سديد ، لأنّه خلط بين الأحكام الفلسفيّة والأحكام العرفيّة ، لأنّ العرف لا يفكّك بين الطبيعة والوجود ، ولذا حكم بوجود طبيعة الإنسان في الخارج مع أنّ الموجود هو الوجود لا الطبيعة بالنظر العقليّ الدقيق ، فمع عدم التفكيك العرفي فلا وجه لإنكار حكاية المعانيّ المذكورة عن حصصها الوجوديّة ، فلا تغفل.

التنبيه الثاني : أنّ انعقاد الظهور في المطلق لا يكون منوطا بعدم وجود القيد في الواقع وإلّا لاختلّ أمر المطلقات باحتمال تقييدها في الواقع وهو معلوم البطلان ، ولذا كان بناء العقلاء على تماميّة الإطلاق بعد الفحص وعدم الظفر بالقيود وليس ذلك إلّا لعدم مانعيّة القيد في الواقع عن انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق. وعليه فإذا ورد بعد مرحلة البيان شيء من القيود كان معارضا مع الظهور المنعقد في المطلق ولا يرتفع ظهور المطلق بعد انعقاده لوصول القيد بعد وقت البيان ودعوى تعليق انعقاد الظهور بعدم البيان ولو للتالي تنافي بناء العقلاء على تقديم القيد من باب كونه أقوى الحجّتين.

إذ لو كان انعقاد الظهور معلّقا على عدم ورود القيد لكان القيد مقدّما على المطلق ولو كان أضعف ظهورا من المطلق.

التنبيه الثالث : أنّ للانصراف مراتب متعدّدة ، متفاوتة شدّة وضعفا حسب اختلاف مراتب الانس الناشي من كثرة الاستعمال أو غيرها ولا بدّ من الإشارة إلى معتبرها :

منها هو الانصراف البدويّ ، وهو الذي يزول بأدنى تأمّل ، كانصراف الماء إلى ماء خاصّ كماء الفرات في بعض البلاد.

٣١٣

وهذا لا يمنع عن الأخذ بالإطلاق لتماميّة الإطلاق وعدم وجود المانع.

ومنها الانصراف الموجب للانس اللفظي بمثابة يكون كالتقييد اللفظي ومن المعلوم أنّه يمنع عن الاطلاق كانصراف الحيوان عن الإنسان مع أنّ الإنسان من أنواع الحيوان وهذا الانصراف قد يحصل بكثرة الاستعمال والتكرار ، وقد يحصل بمناسبة الحكم والموضوع ولو لم يكن تكرار مثلا قال الإمام الصادق عليه‌السلام لزرارة ومحمد بن مسلم ، اللبن واللباء والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل ، شيء ينفصل من الشاة والدابّة ذكيّ ، وإن أخذته منه بعد أن يموت ، فاغسله وصلّ فيه» فقوله فاغسله منصرف إلى غير اللبن واللباء بمناسبة الحكم والموضوع.

ومنها الانصراف الحاصل من الغلبة الخارجيّة وهو ليس بمعتبر ما لم توجب الانس اللفظي لأنّه ليس إلّا الظنّ وهو ليس بحجّة. هذا بخلاف ما إذا أوجب الانس اللفظي فإنّه من الظهورات ، وهي حجّة عند العقلاء.

ثم إنّ الانصراف تارة يكون على الإطلاق من دون اختصاصه بحال دون حال ، واخرى يكون مخصوصا بحال ، كحال الاضطرار دون حال ، كحال الاختيار.

مثلا وضع اليد في التيمّم على الأرض ينصرف منه في حال الاختيار الوضع بباطن الكفّ لا بظاهرها وفي حال الاضطرار وعدم التمكّن من وضع باطن الكفّ ينصرف منه وضع ظاهر الكف وهكذا فلا يتقيّد المطلق بالانصراف إلّا فيما إذا تحقّق الانصراف ويكون موجبا للظهور اللفظيّ.

التنبيه الرابع : أنّ مقدّمات الحكمة يختلف مقتضاها بحسب اختلاف المتعلّقات والمقامات ، فإذا كان مجرى المقدّمات هو النكرة تفيد العموم البدلي وإذا كان هو الجنس كقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) تفيد العموم الاستيعابي وإذا كان هو صيغة الأمر تفيد التعيّنيّة والعينيّة والنفسيّة عند الشكّ فيها ، فإنّ إرادة غيرها من التخييريّة والكفائيّة والغيريّة تحتاج إلى عناية زائدة كما قرّر في محلّه.

٣١٤

التنبيه الخامس : أنّه يختلف امتثال الطبيعة في الأوامر والنواهي ، إذ الأمر يمتثل بإيجاد فرد ما بمقتضى الإطلاق وعدم دخالة فرد خاصّ يحرز بمقدّمات الحكمة نعم ربّما يستفاد من بعض الأوامر بمناسبة الحكم والموضوع ، أنّ الحكم لا ينفكّ عن وجود الطبيعة مثل قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) أو قولهم «أكرم العالم» ، ففي هذه الموارد يتعدّد الحكم بتعدّد الموارد ولا يكفي إتيان فرد واحد لامتثال غيره.

ثمّ إنّ النهي عن وجود الطبيعة لا يمتثل إلّا بترك جميع الأفراد عقلا ، ولا حاجة في هذه الصورة إلى مقدّمات الحكمة ، لأنّ الطبيعة في سياق النفي أو النهي خرجت عن الإطلاق ودخلت في العموم ، بل النكرة إذا وقعت في سياق النفي أو النهي كالطبيعة تفيد العموم.

التنبيه السادس : أنّ الإطلاق أفراديّ وأحواليّ وأزمانيّ ، ويجتمع الإطلاق من هذه الجهات إذا اخذت الطبيعة في متعلّق الأمر من دون تقييدها بفرد أو بحال أو زمان كقولهم أكرم العالم فإنّ مقتضاه هو وجوب إكرام كلّ فرد من العالم في أيّ حال كان ، وفي أيّ زمان من الأزمنة.

والتقييد يمكن أن يكون أفراديّا ويتبعه الحال والزمان ، إذ الفرد إذا خرج عن تحت الإطلاق خرج حاله وزمانه بالتبع أيضا.

ويمكن أن يكون التقييد باعتبار حال من أحواله أو زمان من أزمانه ، فيقتصر في التقييد في خصوص الحال أو الزمان الخارج فبعد زوال الحال أو الزمان الخاصّ يؤخذ بالإطلاق ، لأنّ المطلق متعرّض لجميع الأحوال والأزمنة والمفروض أنّه لم يخرج عنه إلّا حال أو زمان خاصّ.

التنبيه السابع : أنّه لا يختصّ التقييد بالمعاني الاسميّة والأفراديّة بالوجدان ، إذ يجوز تقييد المعاني الحرفيّة.

والجمل والمعاني التركيبيّة أيضا ، ولذا تكون الجمل الجزائيّة مقيّدة ومنوطة

٣١٥

بالجمل الشرطيّة. وهكذا القضايا الحمليّة مقيّدة بجهاتها من الضروريّة وغيرها ، وذلك لأنّ الالتفات إلى المعاني الحرفيّة والجمل وتقييدها ممكن باللحاظ الثاني ومع هذا الإمكان لا وجه لاختصاص التقييد بالمعاني الاسميّة والأفراديّة.

التنبيه الثامن : أنّ بعد جريان مقدّمات الإطلاق في ناحية الحكم من ناحية الزمان والمكان يدوم الحكم ما دام موضوعه باقيا ، ولا يتغيّر الحكم باختلاف الأزمنة والأمكنة ، كما هو مقتضى مقدّمات الإطلاق ، ويدلّ عليه النصوص كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة» ، مثلا المجتهد يحرم عليه التقليد والعاميّ يجب عليه التقليد ، وهذان الحكمان يدومان إلى يوم القيامة ما دام موضوعهما باقيا.

نعم قد يتبدّل مصاديق الموضوعات بأن كان فرد عاميا فتعلّم فيصير مجتهدا أو عرض عارض لمجتهد فيزول عنه علمه ويصير مقلّدا.

إلّا أنّ الاختلاف المذكور في ناحية مصاديق الموضوعات ، لا الموضوعات أو أحكامها.

وممّا ذكر يظهر ما في دعوى أنّ الأحكام متغيّرة بتغيّر الزمان والمكان من الخلط بين المصاديق والموضوعات والأحكام.

التنبيه التاسع : أنّه إذا علم بالتقييد ودار الأمر بين رفع اليد عن إطلاق الهيئة أو إطلاق المادّة وشكّ في وجوب تحصيل القيد وعدمه ـ ، إذ لو كانت الهيئة مقيّدة لا يجب تحصيل القيد وإن كانت المادّة مقيّدة يجب تحصيل القيد ـ.

ذهب الشيخ الأعظم قدس‌سره إلى الثاني أعني رفع اليد عن اطلاق المادة وتوجيه إطلاق الهيئة بأنّه شموليّ ومفاده هو الوجوب على كلّ تقدير يمكن أن يتوجّه معه الخطاب إلى المكلّف بخلاف إطلاق المادّة ، فإنّه بدليّ بمعنى أيّ فرد من أفراد الطبيعة يصلح للامتثال ، فإذا دار الأمر بين الشموليّ والبدليّ يؤخذ بالشموليّ ، لأنّه أقوى في

٣١٦

العموم ويرفع اليد عن البدليّ.

أورد عليه صاحب الكفاية بأنّ الإطلاق في كلا المقامين مستفاد من مقدّمات الإطلاق فلا يمكن تقديم أحدهما على الآخر بمجرّد كونه شموليّا والآخر بدليّا.

وعليه ، فمقتضى عدم تقديم أحدهما على الآخر هو الرجوع إلى مقتضى الأصل ، ومن المعلوم أنّ بعد العلم الاجمالي بالتقييد يتعارض أصالة الإطلاق في طرف الهيئة مع أصالة الإطلاق في طرف المادّة ومع التعارض والتساقط يرجع إلى مقتضى الأصل العملي وهو البراءة ، إذ مع احتمال أن يكون القيد قيدا للوجوب لا علم بالوجوب فيجري البراءة.

التنبيه العاشر : أنّ معنى الإطلاق هو أخذ الموضوع من دون لحاظ شيء فيه وعليه فالإطلاق هو رفض القيود لا جمع القيود ، إذ الإطلاق لا يتوقّف على لحاظ القيود وتسوية الموضوع باعتبارها كأن يقال إنّ الموضوع الفلاني سواء كان مع كذا أو كذا يترتّب عليه كذا فإنّه خلاف الوجدان.

هذا مضافا إلى أنّ ملاحظة كلّ قيد واحدا بعد واحد تحتاج إلى مئونة زائدة ، وهو لا يناسب تعريف المطلق بأنّه أخفّ المئونة.

٣١٧

الفصل الثالث : في كيفية الجمع بين المطلق والمقيّد

اذا ورد مطلق ومقيّد فهما إمّا يتضمّنان تكليفا وإمّا وضعا وكلّ منهما إمّا مختلفان نفيا وإثباتا وإمّا متوافقان ثمّ إنّ التكليف إمّا إلزاميّ أو غير الزاميّ والكلام يقع في صور.

الصورة الاولى : هي ما إذا كان الحكم تكليفيّا ويكون المطلق نافيا والمقيّد مثبتا كقوله لا تعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة ولا إشكال في هذه الصورة من جهة لزوم حمل المطلق على المقيّد من دون فرق بين كون الحكم إلزاميّا أو لا إذ لا يجتمع وجوب عتق الرقبة المؤمنة أو استحبابه مع حرمة عتق مطلق الرقبة أو كراهته ، هذا بناء على كون قوله لا تعتق رقبة من المطلقات ولو باعتبار حاجة مدخول لام النفي إلى مقدّمات الإطلاق كما ذهب إليه صاحب الكفاية لا العمومات وإلّا خرج عن محلّ البحث فإنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم كما لا يخفى.

وهكذا الأمر أيضا فيما إذا ورد لا يجب عتق الرقبة ويجب عتق الرقبة المؤمنة.

إذ المتعيّن في مثله أيضا هو التقييد لأنّ التخالف في كليهما بنحو السلب والإيجاب فيحمل المطلق فيه على المقيّد بناء على كون قوله لا يجب عتق رقبة من المطلقات لا العمومات وإلّا خرج عن محلّ البحث.

بل لو كان التخالف بينهما على نحو التضادّ كقوله يحرم عتق رقبة ويجب عتق رقبة مؤمنة كان الحكم أيضا كذلك فيقيّد المطلق بما عدى الأفراد المؤمنة بناء على كون قوله يحرم عتق رقبة من المطلقات لا العمومات وإلّا خرج عن محلّ البحث.

٣١٨

فالحكم في الموارد المذكورة هو التقييد بحمل المطلق على المقيّد وهو الجمع العرفيّ كما يكون الأمر كذلك في العامّ والخاصّ.

الصورة الثانية : هي عكس الأولى وهو تعلّق الأمر بالمطلق والنهي عن المقيّد مثل قوله أعتق رقبة ولا تعتق رقبة فاسقة فإن كان المراد من النهي هو التحريم فلا إشكال في التقييد كما هو مقتضى الجمع العرفي فيحمل المطلق على غير المقيّد ولعلّ وجهه أنّه لا يجتمع مطلوبيّة الذات مع مبغوضيّة المركّب من الذات والخصوصيّة فاللازم هو حمل المطلق على غير المقيّد ونتيجته أنّ المطلق ليس بمطلوب في ضمن المقيّد وحمل المبغوضيّة في المقيّد على خصوصيّة القيد لا الذات خلاف الظاهر من النهي عن المتّصف لا الوصف كما لا يخفى.

وإن كان المراد من النهي هو النهي التنزيهي فذهب المحقّق اليزدي الحاج الشيخ قدس‌سره إلى حمل المطلق على غير المقيّد فيه أيضا بدعوى أنّ الظاهر من قوله لا تعتق رقبة كافرة مثلا تعلّق النهي بالطبيعة المقيّدة لا بإضافتها إلى القيد فلو كان مورد الأمر هو المطلق لزم اجتماع الراجحيّة والمرجوحيّة في مورد واحد نعم لو احرز أنّ الطبيعة الموجودة في المقيّد مطلوبة كما في العبادة المكروهة فاللازم صرف النهي إلى الإضافة بحكم العقل وإن كان خلاف الظاهر (١).

قال شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره في توضيح كلام استاذه قدس‌سره إنّ الظاهر من قوله لا تعتق رقبة كافرة مثلا هو أنّ المنهيّ عنه هو العتق المقيّد بكون معتقه رقبة كافرة لا أن يكون مورد النهي والمرجوحيّة هو إضافة الطبيعة إلى القيد مع محفوظيّة الرجحان بالنسبة إلى أصل الطبيعة فإنّ هذا يحتاج في تأديته إلى تعبير آخر.

وإذن فإن كان مورد الأمر والرجحان هو المطلق لزم اجتماع الراجحيّة

__________________

(١) الدرر : ١ / ٢٣٦.

٣١٩

والمرجوحيّة في محلّ واحد وهو أصل الطبيعة.

إلى أنّ قال وإن كانت المرجوحيّة راجعة إلى إضافة الطبيعة إلى القيد من دون أن يحدث في أصل الطبيعة بسبب ذلك حزازة أصلا كما في الدرّ الثمين الموضوع في ظرف السفال فإنّ الحزازة لوضع الدرّ في الظرف المذكور من دون أن ينقص من بهاء الدرّ وحسنه شيء أصلا.

فهذا يجتمع مع رجحان أصل الطبيعة على وجه الإطلاق ولهذا قد قلنا في ما تقدّم في العبادات المكروهة مثل الصلاة في الحمّام بأنّ النهي التنزيهيّ الكراهيّ تعلّقه بعنوان العبادة الملازمة للرجحان الذاتي لا يمكن إلّا بفرضه متعلّقا بإضافة العبادة إلى القيد مثل إيقاع الصلاة في الحمّام لا إلى نفس العبادة إذ يمتنع اجتماع الضدّين في محلّ واحد وهذا يستلزم أقلّيّة الثواب يعني أنّ الطبيعة إذا لم تكن مع هذه الإضافة المستلزمة للحزازة فثوابها أكثر منها إذا كانت مع هذه الإضافة وهذا معنى قولهم أنّ النهي في العبادة بمعنى أقلّيّة الثواب إلى أن قال.

ففي ما إذا احرز أنّ المقيّد الواقع تحت النهي مطلوب ومتعلّق للأمر من حيث نفس الطبيعة الموجودة في ضمنه كما في العبادات المكروهة فاللازم هو صرف النهي إلى الإضافة بحكم العقل وإن كان على خلاف الظاهر.

وأمّا مع عدم إحراز ذلك مع وجدان النهي متعلّقا بحسب ظاهر القضيّة اللفظيّة بالمقيّد بما هو مقيّد الذي لازمه سراية النهي إلى نفس الطبيعة الموجودة في ضمنه.

فاللازم حينئذ صرف الأمر المتعلّق بالمطلق إلى المقيّد بضدّ هذا القيد بحكم العقل وإن كان ظاهر القضيّة هو الإطلاق (١).

فالحاصل أنّ النهي التنزيهيّ كالتحريميّ في كونه موجبا لتقيّد الأمر بالمطلق فيما

__________________

(١) اصول الفقه : ١ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩.

٣٢٠