عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

الداعي لغوا فيستحيل أن يصدر اللغو من المولى الحكيم.

ولا فرق في ذلك بين كون القضيّة حقيقيّة أو خارجيّة إذ جعل الحكم مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليّته لغو في كلتا الصورتين.

ودعوى أنّه لا يشترط في صحّة الجعل في القضايا الحقيقيّة وجود الموضوع له أصلا إذ المفروض أنّه جعل على موضوع مقدّر الوجود وعليه فلا مانع من نسخه بعد جعله ولو كان ذلك في زمان قليل كيوم واحد أو أقلّ وعليه فيمكن التفصيل بين القضايا الحقيقيّة الموقّتة فلم يجز نسخه قبل حضور وقت العمل به وبين القضايا الحقيقيّة غير الموقّتة فيجوز نسخه قبل ذلك.

مندفعة بما عرفت من أنّ القضيّة الحقيقيّة وإن كان موضوعها هو مقدّر الوجود ولكنّ الجعل بالنسبة إليه بداعي البعث الحقيقي مع علم الجاعل بانتفاء شرط امتثاله وعدم تمكّن المكلّف منه لغو لا يصدر عن الحكيم بل هو محال لأنّه جمع بين المتنافيين وعليه فلا فرق بين القضيّة الحقيقيّة غير الموقّتة وغيرها من القضايا في عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل.

قال في المحاضرات فكما أنّ أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط امتثاله وعدم تمكّن المكلّف منه مستحيل في القضايا الخارجيّة والموقّتة فكذلك مستحيل في القضايا غير الموقّتة من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ولا ندري كيف ذهب شيخنا الاستاذ قدس‌سره إلى هذا التفصيل المذكور (١).

نعم يمكن القول بإمكان وجود المصلحة في نفس الجعل في زمان وعدمه في آخر كما أفاد شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره ولكنّه بعيد وموهون لندرته فلا يعتنى باحتماله.

__________________

(١) راجع المحاضرات : ٥ / ٣١٧.

٢٤١

وبالجملة فمع لغويّة الجعل أو استحالته لا يتصوّر النسخ قبل حضور وقت العمل إذ لا بعث حقيقة مع علم الآمر بانتفاء شرط الامتثال فلا موضوع للرفع بل ولا للدفع كما لا يخفى.

فتحصّل أنّ بعد عدم إمكان النسخ ينحصر الأمر في التخصيص كما ذهب إليه في الكفاية (١).

لا يقال إنّ العموم والشمول أيضا مع علم الآمر بانتفاء شرط الامتثال غير معقول فلا مورد للتخصيص أيضا إذ لا عموم ولا شمول.

لأنّا نقول إنّ ذلك صحيح لو اريد من العموم هو العموم الواقعي وأمّا مع إرادة الظاهري منه فلا مانع منه إذ يجتمع العموم الظاهري مع التخصيص الكاشف عن عدم إرادته واقعا من أوّل الأمر هذا بخلاف النسخ فإنّه متفرّع على جعل الحكم الواقعي وإرادته واقعا وقد عرفت أنّ الجعل مع علم الآمر بانتفاء شرطه لغو أو مستحيل فلا يدور أمر الخاصّ فيما إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعامّ بين التخصيص والنسخ بل يختصّ بالتخصيص.

هذا مضافا إلى أنّه لا ثمرة تترتّب على كونه ناسخا أو مخصّصا من جهة أنّه على كلّ تقدير يكون العمل على طبق الخاصّ المتأخّر من حين صدوره كما أفاده في نهاية الأفكار (٢).

ولو سلّمنا دوران الأمر بينهما أمكن استظهار التخصيص أيضا بما في نهاية الدراية من أنّ ظاهر الخاصّ مثل قوله لا تكرم العالم الفاسق هو حرمة إكرام العالم الفاسق في الشرع وأنّه حكم إلهيّ في شريعة الإسلام لأنّ مدلوله أنّه حكم شرعيّ من

__________________

(١) الكفاية : ١ / ٣٦٨.

(٢) نهاية الأفكار : ١ / ٥٥٧.

٢٤٢

هذا الحين وإن كان فعليّته من الحين وحيث إنّه أظهر من أكرم العلماء فلذا يقدّم عليه ويخصّصه (١).

وثالثها : أن يكون الخاصّ متأخّرا عن العامّ وكان بعد وقت حضور العمل بالعامّ وقد فصّل في الكفاية بين ما إذا كان العامّ واردا لبيان الحكم الواقعي فيكون الخاصّ ناسخا للعامّ وبين ما إذا كان العامّ واردا لبيان الحكم الظاهري من باب ضرب القانون كما هو الشائع في غالب العمومات والخصوصات الواردة في الآيات والروايات فيكون الخاصّ فيها مخصّصا (٢).

اورد عليه بأنّ التخصيص يوجب تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو أي تأخير البيان قبيح لأنّه إمّا يوجب وقوع المكلّف في الكلفة والمشقّة من دون مقتض لها في الواقع كما إذا كان العامّ مشتملا على حكم إلزاميّ في الظاهر ولكن كان بعض أفراده في الواقع مشتملا على حكم ترخيصيّ أو يوجب إلقاء المكلّف في المفسدة أو يوجب تفويت المصلحة عنه كما إذا كان العامّ مشتملا على حكم ترخيصيّ في الظاهر ولكن بعض أفراده في الواقع يكون واجبا أو محرّما.

واجيب عن ذلك كما في المحاضرات بأنّ المصلحة الأقوى إذا اقتضت إلقاء المكلّف في المفسدة أو تفويت المصلحة عنه أو إلقائه في الكلفة والمشقّة فلا قبح فيه أصلا فإذا لا يكون قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة كقبح الظلم ليستحيل انفكاكه عنه بل هو كقبح الكذب يعني أنّه في نفسه قبيح مع قطع النظر عن طروّ أيّ عنوان حسن عليه وعليه فقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بما أنّه ذاتيّ بمعنى الاقتضاء دون العلّة التامّة فلا مانع من تأخيره عن وقت الحاجة إذا اقتضته المصلحة الملزمة التي

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ٢٠٩.

(٢) راجع الكفاية : ١ / ٣٦٨.

٢٤٣

تكون أقوى من مفسدة التأخير أو كان في تقديم البيان مفسدة أقوى من مفسدة تأخيره ولا يكون عندئذ قبيحا وبكلمة اخرى حال التأخير في المقام كحال التأخير في أصل الشريعة المقدّسة فإنّ بيانه على نحو التدرّج واحدا بعد واحد وليس ذلك إلّا لمصلحة كمصلحة التسهيل وعدم حصول النفرة والإعراض عن الدين (١).

وعليه فلا مانع من التخصيص في العمومات الظاهريّة.

لا يقال إنّ التخصيص يشبه النسخ في العمومات المذكورة لأنّ الحجّيّة تكون بلحاظ كاشفيّة الإنشاء عن كونه بداع البعث الجدّيّ والإنشاء الواحد المتعلّق بموضوع متعدّد حيث إنّه بداع البعث الحقيقيّ يكون منشأ لانتزاع البعث حقيقة بالاضافة إلى كلّ واحد.

ولو لم يكن الإنشاء الواحد بعثا حقيقيّا بالإضافة إلى بعض الأفراد مع كونه متعلّقا به في مرحلة الإنشاء لزم صدور الواحد عن داعيين بلا جهة جامعة تكون هو الداعي.

وعليه لزم أن يكون الإنشاء بداع البعث الجدّي بالإضافة إلى الجميع نعم غايته أنّ هذا الإنشاء منبعث في بعض أفراد العامّ عن المصالح الواقعيّة الأوّليّة وفي بعضها الآخر عن المصالح الثانويّة بحيث ينتهي أمدها بقيام المخصّص وعليه فالتخصيص يرفع الحكم الثابت الثانويّ وليس هو إلّا كدفع الحكم الثابت الواقعيّ الأوّلي.

لأنّا نقول أوّلا إنّه لا محذور في عدم كون الإنشاء بعثا حقيقيّا بالإضافة إلى بعض الأفراد مع وجود أداة العموم كلفظة (كلّ) في متعلّق الإنشاء مثل قولك أكرم كلّ عالم لأنّ لفظة (كلّ) مرآة للمتعدّد ومع التعدّد لا مانع من أن يكون الداعي لفرد هو

__________________

(١) فراجع المحاضرات : ٥ / ٣٢٠ ـ ٣٢٢.

٢٤٤

البعث الجدّي ولفرد آخر هو البعث على نحو ضرب القانون إذ لا يجتمع الداعيان في واحد وعليه فبعد ورود التخصيص يكون العامّ بالنسبة إلى موارد الخاصّ بداع البعث الضرب القانوني تقديما لظهور الخاصّ على ظهور العامّ في كونه بداعي البعث الحقيقيّ فإذا عرفت أنّ البعث لم يكن حقيقيّا بالنسبة إلى موارد الخاصّ اتّضح أنّه لا يشبه موارد التخصيص بالنسخ.

وثانيا : إنّه ولو سلّمنا أنّ البعث حقيقيّ وجدّيّ بالنسبة إلى جميع الموارد كما ادّعى أنّ مقتضى الأصل في باب الألفاظ كون المضمون مرادا جدّيا فلا دلالة للعامّ كما أفاد المحقّق الأصفهاني قدس‌سره على كون مضمونه مرادا جدّيّا منبعثا عن المصالح الواقعيّة الأوّليّة بل غايته إفادة العامّ أنّ الحكم العمومي هو المراد الجدّي لمصلحة اقتضته وعليه فمع ورود الخاصّ ينتهي أمد المصلحة وفرق بين التخصيص والنسخ وإن لم يخل عن الشباهة فإنّ الناسخ كاشف عن انتهاء أمد المصلحة في المنسوخ والخاصّ هنا بوصوله موجب لانتهاء أمدها لا كاشف عن انتهاء أمدها واقعا.

ولذا لا يكون قيام الدليل الاجتهاديّ على خلاف الأصل العملي ناسخا للحكم الظاهري وما نحن فيه من حيث فرض امتداد مصلحة الثانويّة العرضيّة إلى وصول الخاصّ يشبه الحكم الظاهريّ لا من حيث ترتّبه على المشكوك بما هو مشكوك ليكون قاعدة مضروبة للشاكّ (١).

فتحصّل أنّ الخاصّ المتأخّر عن العامّ فيما إذا كان بعد وقت حضور العمل بالعامّ يكون مخصّصا أيضا بالنسبة إلى العامّ لا ناسخا.

ويشهد له استيحاش الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام والأصحاب من حمل الأخبار الكثيرة الدالّة على التخصيصات على النسخ وإن قلنا بأنّ النسخ في لسان الأئمّة عليهم‌السلام من باب

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ٢٠٨.

٢٤٥

الايداع عندهم.

نعم لو ثبت في مورد أنّ العامّ كان واردا لبيان الحكم الواقعيّ الأوّليّ كان الخاصّ المتأخّر ناسخا ولكنّه النادر كالمعدوم ولو سلّمنا دوران الأمر بين النسخ والتخصيص أمكن أن يقال إنّ ظاهر الخاصّ مثل قوله لا تكرم العالم الفاسق هو حرمة إكرام العالم الفاسق في الشرع وأنّه حكم إلهيّ في شريعة الاسلام لا إنّ مدلوله أنّه حكم شرعيّ من هذا الحين وإن كان فعليّة من الحين وحيث إنّه أظهر من أكرم العلماء فلذا يقدّم عليه ويخصّصه كما أفاد المحقّق الاصفهاني (١).

وعليه فيستظهر من دليل الخاصّ التخصيص فلا تغفل.

ثمّ لا يخفى عليك أنّه ذهب المحقّق اليزدي الحاج الشيخ قدس‌سره في الدرر إلى أنّه لا يبعد القول بحمل الخاصّ المتأخّر عن العامّ في كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على النسخ بدعوى أنّه مرجّح بالنسبة إلى التخصيص لاستلزام التخصيص تأخير البيان عن وقت الحاجة (٢).

يمكن أن يقال إنّ بعد ما عرفت من إمكان الجواب عن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يكون النسخ راجحا بالنسبة إلى التخصيص في كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو في القرآن الكريم إذا دار الأمر بينهما بل الظاهر هو تقدّم الخاصّ على العامّ بعد كونه أظهر في كونه حكما شرعيّا من أوّل الأمر بالتقريب الذي مرّ آنفا.

رابعها : أن يكون العامّ واردا بعد الخاصّ وقبل حضور وقت العمل به ففي هذه الصورة يأتي الكلام المذكور في الصورة الثانية حرفا بحرف قال في المحاضرات يتعيّن كون الخاصّ المتقدّم مخصّصا للعامّ المتأخّر حيث إنّه لا مقتضي للنسخ هنا أصلا وإلّا

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ٢٠٩.

(٢) الدرر : ١ / ٢٣٠.

٢٤٦

لزم كون جعل الحكم لغوا محضا وهو لا يمكن من المولى الحكيم (١).

هذا مضافا إلى ما عرفت من أنّ الجمع بين جعل الحكم ونسخه قبل حضور وقت العمل جمع بين المتنافيين ثمّ لو سلّمنا إمكان النسخ كما إذا قلنا بأنّ نفس الجعل له مصلحة فيدور الأمر بين النسخ والتخصّص ولكنّ العامّ حيث يكون ظاهرا في أنّه حكم إلهيّ في شريعة الإسلام لا أنّه حكم إلهيّ من حين وروده وإن كان فعليّته من هذا الحين يجتمع مع الخاصّ الظاهر في أنّه كذلك في الشريعة وحيث إنّ ظهور الخاصّ أقوى من العامّ يحمل العامّ على الخاصّ ويقدّم التخصيص على النسخ كما لا يخفى.

خامسها : أن يكون العامّ واردا بعد الخاصّ وبعد حضور وقت العمل به ففي هذه الصورة يقع الكلام في أنّ الخاصّ المذكور مخصّص للعامّ المتأخّر أو أنّ العامّ المتأخّر ناسخ للخاصّ المتقدّم ذهب في الكفاية إلى أنّ الأظهر أن يكون الخاصّ مخصّصا لكثرة التخصيص حتّى اشتهر ما من عامّ إلّا وقد خصّ مع قلّة النسخ في الأحكام جدّا وبذلك يصير ظهور الخاصّ في الدوام ولو كان بالإطلاق أقوى من ظهور العامّ ولو كان بالوضع (٢).

ومراده من ذلك أنّ كثرة التخصيص توجب صيرورة الخاصّ في الدوام أظهر من العامّ كما صرّح به نفسه.

وعليه فلا يرد أنّ مجرّد الكثرة لا يوجب الظهور اللفظيّ ما لم يوجب تلك الكثرة ظهورا لفظيّا.

ولا حجّيّة في الظنّ الخارجي ما لم يوجب الظنّ في اللّفظ.

ولكن لقائل أن يقول إنّ دعوى الكثرة في مثل المقام مع تأخّر العامّ غير ثابتة

__________________

(١) المحاضرات : ٥ / ٣٢٣.

(٢) الكفاية : ١ / ٣٧١.

٢٤٧

وهكذا لا مجال لدعوى بناء العقلاء على التخصيص في مثل المقام فالأولى هو أن يقال في توجيه تقديم التخصيص في الصورة المذكورة بأنّ النسخ في الأخبار الواردة عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ممّا ينكره المتشرّعة ويستوحشون منه بل الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام أبوا عن ذلك وهو قرينة على ترجيح التخصيص وكيف كان. فقد يشكل ذلك بأنّ دلالة الخاصّ على الدوام والاستمرار تتوقّف على جريان مقدّمات الحكمة ومن الطبيعي أنّ عموم العامّ بما أنّه مستند إلى الوضع مانع عن جريانها فاذا كيف يحكم بتقديم الخاصّ عليه.

وفيه أنّ المانعيّة ممنوعة بعد كونهما منفصلين وكون أصالة الإطلاق وجوديّا ومنجّزة لا تعليقيّة وعدميّة.

فالظهور منعقد في كليهما وقد عرفت أنّ الخاصّ والعامّ حاكيان عن الحكم في الشريعة الإسلاميّة لا من حين ورودهما وحيث إنّ الخاصّ أظهر من العامّ يقدّم عليه ويخصّص العامّ به.

قال في المحاضرات إنّ ذلك إنّما يتمّ في الأحكام الصادرة من المولى العرفي فإنّه إذا صدر منه خاصّ ثمّ صدر عامّ بعد حضور وقت العمل به فلا محالة يكون العامّ مقدّما على الخاصّ إذا كان ظهوره في العموم مستندا إلى الوضع وظهور الخاصّ في الدوام والاستمرار مستندا إلى الإطلاق ومقدّمات الحكمة وأمّا في الأحكام الشرعيّة الصادرة من المولى الحقيقي فهو غير تامّ والسبب في ذلك هو أنّ الأحكام الشرعيّة بأجمعها ثابتة في الشريعة الإسلاميّة المقدّسة حيث أنّها هي ظرف ثبوتها فلا تقدّم ولا تأخّر بينها في هذا الظرف وإنّما التأخّر والتقدّم بينها في مرحلة البيان فقد يكون العامّ متأخّرا عن الخاصّ في مقام البيان وقد يكون بالعكس مع أنّه لا تقدّم ولا تأخّر بينهما بحسب الواقع.

وعلى هذا الضوء فالعامّ المتأخّر الوارد بعد حضور وقت العمل بالخاصّ وإن كان بيانه متأخّرا عن بيان الخاصّ زمانا إلّا أنّه يدلّ على ثبوت مضمونه في الشريعة

٢٤٨

المقدّسة مقارنا لثبوت مضمون الخاصّ فلا تقدّم ولا تأخّر بينهما في مقام الثبوت والواقع.

فالنتيجة أنّ الروايات الصادرة من الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام من العمومات والخصوصات بأجمعها تكشف عن ثبوت مضامينها من الأوّل مثلا العامّ الصادر عن الصادق عليه‌السلام مقارن مع الخاصّ الصادر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام بل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتاخير إنّما هو في بيانه وعليه فلا موجب لتوهّم كون العامّ ناسخا للخاصّ بل لا مناص من جعل الخاصّ مخصّصا له ومن هنا يكون دليل المخصّص كاشفا عن تخصيص الحكم العامّ من الأوّل لا من حين صدوره وبيانه.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر نقطة الفرق بين الأحكام الشرعيّة والأحكام العرفيّة فإنّ صدور الحكم من المولى العرفي لا يدلّ على ثبوته من الأوّل وإنّما يدلّ على ثبوته من حين صدوره وهذا بخلاف ما اذا صدر حكم المولى الحقيقي في زمان متأخّر فإنّه يدلّ على ثبوته من الأوّل لا من حين صدوره والتأخير إنّما هو في بيانه لأجل مصلحة من المصالح أو لأجل مفسدة في تقديم بيانه (١).

ولا يخفى عليك أنّ الإشكال لا يرتفع في الشرعيّة إلّا بما قلناه من إنكار تعليقيّة أصالة الاطلاق في المنفصلين وإلّا فلا ينعقد ظهور في الخاصّ حتّى يكشف عن ثبوت الحكم في الشريعة الإسلاميّة من أوّل الأمر مقارنا مع حكم العامّ لاختلال مقدّمات الحكمة بمجيء العامّ بعد الخاصّ وحيث إنّ الظهور في المنفصل بعد الفحص بالمقدار اللازم وعدم الظفر منعقد ومع انعقاده لا يرتفع بإتيان العامّ ومعه يصحّ كشفه عن ثبوت الحكم في الشريعة فيجتمعان في أصل الشريعة ويترتّب عليهما حكمهما ولعلّ ذلك هو مقتضى بناء العقلاء أيضا في المحاورات العرفيّة القانونيّة فإنّ الخاصّ كالعامّ حاكيان عن الحكم في أصل القانون لا من حين الورود ، فافهم.

__________________

(١) المحاضرات : ٥ / ٣٢٥ ـ ٣٢٨.

٢٤٩

ثمّ إنّ هذا الوجه يصلح للدلالة على تقدّم الخاصّ على العامّ في جميع الصور الأربعة مع تسليم دوران الأمر فيما بين التخصيص والنسخ من غير فرق بين أن يكون الخاصّ واردا قبل حضور وقت العمل بالعامّ أو بعد وقت حضور وقت العمل به.

كما لا تفاوت بين أن يكون العامّ واردا قبل حضور وقت العمل بالخاصّ أو واردا بعد حضور وقت العمل بالخاصّ.

فإنّ الخاصّ والعامّ حاكيان عن ثبوت الحكم في الشريعة من أوّل الأمر لا من حين وروده وحيث إنّ الخاصّ أظهر من العامّ يقدّم عليه ويخصّص العامّ به في جميع الصور المذكورة فالتقسيمات المذكورة لا توجب الفرق في ذلك أصلا هذا بخلاف كثرة التخصيص فإنّها قابلة للإنكار في مثل الخاصّ المتقدّم بالنسبة إلى العامّ المتأخّر فلا يمكن أن تجعل وجها لتقديم الخاصّ على العامّ في جميع الصور كما لا يخفى.

ومن هذا الوجه الوجيه يظهر الحكم أيضا في ما إذا جهل وتردّد بين أن يكون الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ أو قبل حضوره أو العامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ أو قبل حضوره إذ عرفت أنّ الخاصّ مقدّم على العامّ في جميع الصور ولا وجه معه للرجوع إلى الاصول العمليّة كما ذهب إليه في الكفاية ولعلّ منشأ ذلك هو الغفلة عن هذا الوجه الوجيه كما يظهر من استدلاله لذلك بكثرة التخصيص وندرة النسخ مع ما في الاستدلال المذكور (١).

هذا مضافا إلى إمكان المنع عن الرجوع إلى الاصول العمليّة إذ التكليف بعد ورود الخاصّ عقيب العامّ هو الأخذ بالخاصّ ناسخا كان أم مخصّصا ولذا لا تجد فقيها يترك العامّ والخاصّ ويرجع إلى الاصول العمليّة كما أنّ التكليف قبل ورود الخاصّ هو الأخذ بالعامّ فلا مورد للرجوع إلى الاصول العمليّة (٢).

__________________

(١) راجع الكفاية : ١ / ٣٧١.

(٢) راجع نهاية النهاية : ١ / ٣٠٥.

٢٥٠

الخلاصة :

الفصل الثاني عشر

في الدوران بين التخصيص والنسخ

وهنا صور :

أحدها : أن يكون الخاصّ متّصلا بالعامّ ، أو مقرونا به ، ففي هذه الصورة لا مورد لكليهما ، إذ مع وجود الخاصّ لا ينعقد الظهور الجدّيّ في العموم ، ومعه لا حكم في مورد الخاصّ ، حتّى يقع النزاع في أنّ رفعه من باب التخصيص أو النسخ.

وثانيها : أن يكون الخاصّ واردا قبل حضور وقت العمل بالعامّ ، وفي هذه الصورة ربّما يقال إنّ الخاصّ يدور أمره بين أن يكون ناسخا أو مخصّصا.

اورد عليه بأنّه لا مورد لاحتمال النسخ بعد ما قرّر في محلّه ، من أنّ النسخ هو رفع الحكم الثابت المولوي بانتهاء أمده ، والمفروض في المقام ، أنّه لا حكم قبل حضور وقت العمل بالعامّ ، وعليه فبعد انتفاء النسخ ينحصر الأمر في التخصيص.

ودعوى أنّ الأحكام في القضايا الحقيقيّة الثابتة للموضوعات المقدّر وجودها ثابتة ، فلا مانع من نسخها بعد جعلها ، لأنّ المفروض أنّها أحكام على موضوعاتها المقدّرة.

مندفعة ، بأنّ الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقيّة منشأة بداعي جعل الداعي ، فلا محالة يترقّب منها الدعوة عند وجود موضوعها وما كان بهذا الداعي يستحيل

٢٥١

جعل آخر يكون مقتضاه هو عدم فعليّة هذه الأحكام ضرورة أنّه جمع بين المتنافيين ، هذا مضافا إلى أنّه مع علم الجاعل بانتفاء شرط فعليّتها يكون جعلها لغوا محضا ويستحيل أن يصدر اللغو من المولى الحكيم الملتفت ولا فرق في ذلك بين كون القضيّة حقيقيّة أو خارجيّة ، فانحصر الأمر في التخصيص.

وثالثها : أن يكون الخاصّ متأخّرا عن العامّ وكان بعد وقت حضور العمل بالعامّ ، وقد فصّل في الكفاية بين ما إذا كان العامّ واردا لبيان الحكم الواقعيّ فيكون الخاصّ ناسخا للعامّ وبين ما إذا كان العامّ واردا لبيان الحكم الظاهري من باب ضرب القانون ، كما هو الشائع في غالب العمومات والخصوصات الواردة في الشرع فيكون الخاصّ مخصّصا.

ودعوى أنّ التخصيص موجب لتأخير البيان عن وقت الحاجة وهو قبيح ، لأنّه إمّا يوجب الوقوع في الكلفة والمشقّة من دون مقتض لذلك في الواقع ، كما إذا كان العامّ مشتملا على حكم إلزاميّ في الظاهر مع أنّ مورد التخصيص مشتمل على حكم ترخيصيّ.

أو يوجب إلقاء المكلّف في المفسدة ، كما إذا كان العامّ مشتملا على حكم ترخيصيّ في الظاهر ويكون مورد التخصيص محرّما.

أو يوجب تفويت المصلحة ، كما إذا كان العامّ مشتملا على حكم ترخيصيّ ويكون مورد التخصيص واجبا.

مندفعة بأنّ المصلحة الأقوى إذا اقتضت ذلك فلا قبح في ذلك أصلا ، والقبح في تأخير البيان عن وقت الحاجة حيث إنّه اقتضائيّ وليس علّة تامّة ، فلا مانع من تأخّره إذا اقتضت المصلحة الملزمة التي تكون أقوى ، كما أنّ التدرّج في بيان أصل الأحكام يكون كذلك.

لا يقال إنّ التخصيص في المقام يشبه النسخ في العمومات المذكورة ، لأنّ البعث

٢٥٢

الواحد المتعلّق بموضوع متعدّد يكون بعثا واحدا جدّيّا ، ولو لا ذلك لزم صدور البعث الواحد عن داعيين بلا جهة جامعة تكون هي الداعي ، فإذا كان البعث جدّيّا بالإضافة إلى الجميع فالحكم منبعث عن المصالح الواقعيّة الأوّليّة في غير مورد التخصيص والمصالح الثانويّة في مورد التخصيص ، بحيث ينتهي أمد المصالح الثانويّة بقيام المخصّص ، وعليه فالتخصيص يرفع الحكم الثابت الثانويّ ، وهذا هو معنى النسخ.

لأنّا نقول أوّلا ، لا ، إشكال في عدم لزوم كون الإنشاء بعثا حقيقيّا بالإضافة إلى بعض الأفراد مع وجود أداة العموم كلفظة «كلّ» في متعلّق الإنشاء مثل أكرم كلّ عالم ، لأنّ مع التعدّد لا مانع من أن يكون الداعي لفرد هو البعث الجدّيّ ولفرد آخر هو البعث على نحو ضرب القانون ، إذ لا يجتمع الداعيان في واحد ، ومعه فالتخصيص لا يشبه النسخ.

فالخاصّ المتأخّر عن العامّ فيما إذا كان بعد وقت حضور العمل بالعامّ يكون مخصّصا أيضا بالنسبة إلى العامّ لا ناسخا.

ويشهد له ظهور الخاصّ في مثل لا تكرم العالم الفاسق بعد أكرم العلماء في حرمة إكرام العالم الفاسق في الشرع من أوّل الأمر لا من هذا الحين وإن كان فعلية الحكم من هذا الحين ، وحيث إنّ هذا الظهور أظهر من ظهور أكرم العلماء يقدّم عليه ويخصّصه وإن كان متأخّرا عن العامّ ، فتدبّر جيّدا.

ورابعها : أن يكون العامّ واردا بعد الخاصّ وقبل حضور وقت العمل به ، ففي هذه الصورة يأتي ما مرّ في الصورة الثانية حرفا بحرف من تقديم التخصيص ، فيكون الخاصّ المتقدّم مخصّصا للعامّ المتأخّر حيث لا موجب للنسخ وإلّا لزم اللغويّة ، إذ جعل الحكم الخاصّ الوارد قبل العامّ ونسخه قبل حضور وقت العمل بالخاصّ لغو ، بل جمع بين المتنافيين بل يؤخذ بظهورهما في حكايتهما عن أنّهما حكمان شرعيّان من الابتداء لا من حين ورودهما ، فيقدّم الخاصّ على العامّ بعد ما عرفت من قوّة ظهوره

٢٥٣

بالنسبة إلى العامّ ، فلا مجال لاحتمال نسخ الخاصّ بالعامّ.

وخامسها : أن يكون العامّ واردا بعد الخاصّ وبعد حضور وقت العمل به ففي هذه الصورة يقع الكلام في أنّ الخاصّ المذكور مخصّص للعامّ المتأخّر أو أنّ العامّ المتأخّر ناسخ للخاصّ المتقدّم.

ربّما يقال إنّ الأظهر هو التخصيص ، لكثرة التخصيص حتّى اشتهر ما من عامّ إلّا وقد خصّ وقلّة النسخ في الأحكام ، وبذلك يصير ظهور الخاصّ في الدوام أقوى من ظهور العامّ.

ولكن لقائل أن يقول إنّ دعوى الكثرة في مثل المقام مع تأخّر العامّ غير ثابتة ، وهكذا دعوى بناء العقلاء في مثل المقام غير محرزة.

فالأولى هو الاستدلال بسيرة المتشرّعة في توجيه تقديم التخصيص في هذه الصورة ، بأنّ النسخ في الأخبار الواردة عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ممّا ينكره المتشرّعة ويستوحشون منه ، بل الأئمّة عليهم‌السلام أبوا عن ذلك ، وهذا يكفي لدعوى قيام السيرة على ترجيح التخصيص على النسخ في العمومات والخصوصات الشرعيّة.

هذا مضافا إلى أنّ الخاصّ والعامّ حاكيان عن الحكم في الشريعة الإسلاميّة من ابتداء الأمر لا من حين ورودهما ، وحيث إنّ الخاصّ أظهر من العامّ يقدّم على العامّ ويخصّص العامّ به.

وعلى هذا الضوء فالعامّ المتأخّر الوارد بعد حضور وقت العمل بالخاصّ وإن كان بيانه متأخّرا عن بيان الخاصّ زمانا إلّا أنّه يدلّ على ثبوت مضمونه في الشريعة المقدّسة مقارنا لثبوت مضمون الخاصّ ، فلا تقدّم ولا تأخّر بينهما في مقام الثبوت.

وعليه فلا موجب لتوهّم كون العامّ ناسخا للخاصّ بل لا مناص من جعل الخاصّ مخصّصا له.

٢٥٤

بل هذا الوجه يصلح للدلالة على تقدّم الخاصّ على العامّ في جميع الصور الأربعة عدا الصورة الاولى مع تسليم دوران الأمر بين التخصيص والنسخ ، من غير فرق بين أن يكون الخاصّ واردا قبل حضور وقت العمل بالعامّ أو بعده ، كما لا تفاوت بين أن يكون العامّ واردا قبل حضور وقت العمل بالخاصّ أو واردا بعد حضور وقت العمل بالخاصّ.

فإنّ العامّ والخاصّ حاكيان عن ثبوت الحكم في الشريعة من أوّل الأمر لا من حين ورودهما ، وحيث إنّ الخاصّ أظهر يقدّم على العامّ ويخصّص العامّ به ، فالتقسيمات المذكورة لا توجب الفرق أصلا.

وإذا عرفت ذلك في معلوم التقديم والتأخير ، فالحكم أوضح فيما إذا جهل وتردّد بين أن يكون الخاصّ ، واردا بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، أو قبل حضوره ، أو العامّ واردا بعد حضور وقت العمل بالخاصّ ، أو قبل حضوره ، إذ الخاصّ مقدّم على كلّ حال ، فلا تغفل.

٢٥٥

المقصد الخامس

في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن

ويقع الكلام في ضمن فصول :

الفصل الأوّل : في تعريف المطلق

حكى الشيخ الأنصاري قدس‌سره عن المشهور أنّهم عرّفوا المطلق بأنّه ما دلّ على شائع في جنسه وفسّره غير واحد منهم بأنّه حصّة محتملة لحصص كثيرة ممّا يندرج تحت أمر مشترك.

ثمّ قال والظاهر أنّه تفسير للمدلول فالمراد بالموصولة بقرينة الصلة مضافا إلى وقوعه في مباحث الألفاظ هو اللفظ الموضوع والمراد بالشائع على ما يظهر من التفسير هو الكلّيّ المأخوذ باعتبار إضافته إلى قيد ما فإنّ ذلك هو المعهود من لفظ الحصّة (١).

ولعلّ التعبير عن الكلّيّ بالحصّة باعتبار كون كلّ نوع حصّة من الجنس ولكنّه لا يشمل المطلق الجنسيّ حينئذ وكيف كان فقد اورد عليه بعدم الاطّراد لشموله للمقيّد كقوله رقبة مؤمنة لأنّه أيضا شائع في جنسه ولشموله للعامّ فإنّه يدلّ على شائع في جنسه ومحتمل لجميع ما يحتمله تلك الحصّة.

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٢١٣.

٢٥٦

وبعدم الانعكاس لخروج الاعلام الشخصيّة من الحدّ لعدم الاحتمال فيها إلّا لمعيّن خاصّ والمعهود الخارجي (١).

هذا مضافا إلى ما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره من أنّ الشيوع إن اريد منه أنّه جزء مدلول اللفظ فهو فاسد لأنّ المطلق هو ما لا قيد له بالإضافة إلى كلّ قيد لوحظ فيه وإن اريد منه أنّه صفة المعنى لا مأخوذ فيه فالمراد من الشيوع في الجنس عبارة عن سريانه في أفراده الذاتيّة فلا يشمل الإطلاق في الأعلام الشخصيّة ولا الإطلاق في المعاني الحرفيّة (٢).

ودعوى أنّ المراد من الجنس في المقام هو السنخ لا الجنس المصطلح عند المنطقيّين أي الكلّيّ المقول على كثيرين مختلفين في الحقيقة في جواب ما هو قبال النوع ولا المصطلح منه عند النحويّين أي الماهيّات الكلّيّة المقصودة بأسامي الأجناس وكيف وانّ من المعلوم صحّة إطلاقه على الأفراد المعيّنة الشخصيّة بلحاظ الحالات الطارئة عليها كما في زيد حيث إنّه مع شخصيّته يكون مطلقا بلحاظ القيام والقعود والمجيء وغيرها من الحالات فكان ذلك حينئذ شاهدا على أنّ المراد من الجنس هو مطلق السنخ الصادق على الذوات الشخصيّة ولو بلحاظ تحليل الذوات الشخصيّة إلى حصص سارية في ضمن الحالات المتبادلة وعلى الحصص السارية في ضمن أفراد الطبيعي (٣).

لا تخلو عن تكلّف هذا مضافا إلى عدم ملائمته مع التفسير المحكيّ عن جماعة كما أنّ إضافة الأحوال والأزمان إلى الجنس والقول بأنّ المطلق هو ما دلّ على معنى شائع في جنسه أو أحواله أو أزمانه لا يصحّح تعريف المشهور لخلوّه عن ذلك

__________________

(١) مطارح الانظار : ٢١٣.

(٢) مناهج الوصول : ٢ / ٣١٣ و ٣١٤.

(٣) نهاية الأفكار : ١ / ٥٥٩.

٢٥٧

كما لا يخفى.

وعرّفه جماعة منهم الشهيد كما في التقريرات بأنّه اللفظ الدالّ على الماهيّة من حيث هي هي.

والمراد من الماهيّة أعمّ من الماهيّة الغير الملحوظ معها شيء كالحيوان مثلا من دون ملاحظة لحوق فصل من فصوله ومن الملحوظ معها شيء كالحيوان الصاهل وكالرقبة المؤمنة (١).

وفيه إن اريد من قولهم من حيث هي هي أنّه جزء مدلول اللفظ فهو ينافي الإطلاق وإن اريد منه أنّه صفة المعنى ففيه كما أفاد الشيخ الأعظم قدس‌سره أنّ الحدّ المذكور يشمل لما هو غير مقيّد أصلا ولما هو مقيّد لكنّه ملحوظ من جهة إطلاقه في حصصه وأفراده فإنّه يصدق عليه أيضا أنّه دالّ على الماهيّة من حيث هي هي ولا يوجب انحصار المطلق فيما لا تقييد فيه كما في جنس الأجناس إذ لا فرق قطعا بين الإجمال والتفصيل وأمّا الماهيّة الملحوظة مع التشخيص وإن كان على وجه الإبهام كما في النكرة فالظاهر عدم انطباق الحدّ عليها (٢).

ولذلك عدل الشيخ الأعظم عن التعريف المنطقيّ وذهب إلى التعريف اللغويّ الذي يكون في قوّة شرح اللفظ لا شرح الاسم المنطقيّ.

حيث قال ولا يبعد إحالة التحديد إلى ما هو المستفاد من لفظ المطلق لغة فإنّه فيها ما أرسل عنانه فيشمل الماهيّة المطلقة والنكرة والمقيّد بخلافه فهو ما لم يرسل عنانه سواء كان مطلقا ومرسلا ثمّ لحقه التقييد فأخذ عنانه وقلّ انتشاره مثل رقبة مؤمنة لا من حيث إطلاقه وإرساله أو لم يكن مرسلا من أوّل الأمر كالأعلام الشخصيّة

__________________

(١) مطارح الأنظار ٢١٤.

(٢) مطارح الأنظار : ٢١٤.

٢٥٨

ونحوها ولكن إطلاق المقيّد عليها من قبيل ضيق فم الركيّة وهذا الاستعمال في غاية الشيوع بينهم (١).

ولا يخفى عليك أنّ الأعلام الشخصيّة أيضا من المطلقات باعتبار إطلاق أحوالها وكيف كان فلنا أن نقول بأنّ المطلق يصحّ أن يعرف بأنّه هو ما دلّ على نفس المعنى من دون أخذ أيّ قيد من القيود والمقيّد خلافه ولعلّه هو مراد الشهيد قدس‌سره بناء على أنّ قوله من حيث هي هي ليس قيدا للمعنى فيشمل المطلق حينئذ الأعلام الشخصيّة المطلقة باعتبار أحوالها كما لا يخفى لا يقال إنّ التعريف المذكور يشمل العموم لأنّا نقول إنّ الشيوع مأخوذ في العموم فالتعريف المذكور لا يشمله لأنّ المدلول في المطلق نفس المعنى.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الإطلاق والتقييد أوّلا وبالذات من أوصاف المفهوم والمدلول وإنّما يتّصف اللفظ بهما بالتبع إذ لا مجال للتوسعة والتضيّق بالنسبة إلى اللفظ بما هو لفظ فإنّه جزئيّ وعليه اتّصاف اللفظ بهما بملاحظة المدلول وباعتباره ثمّ بعد وضوح تعريف المطلق والمقيّد يتّضح حكم أسامي الأجناس وأعلامها والنكرة ولكنّ الأولى أن نتعرّض كلّ واحد منها على حدّة.

أسامي الأجناس

ولا يخفى أنّ أسامي الأجناس موضوعة لنفس المعاني من دون ملاحظة أيّ قيد من القيود فيها حتّى اعتبار المقسميّة للأقسام بل حتّى اعتبار من حيث هي هي فلذلك يصحّ حملها على الذاتيّات من دون نظر إلى الخارج عنها كقولنا الإنسان حيوان ناطق أو الإنسان حيوان أو ناطق مع أنّه لو كان غير الذات ملحوظا مع المعنى

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٢١٤.

٢٥٩

لا يحمل عليه من دون تجريد وإلّا لزم استعمال اللفظ في غير معناه كما يصحّ حملها على الأفراد أيضا فإنّها من مصاديقها من دون حاجة إلى التجريد وهو شاهد على أنّ الشياع والسريان خارجان عن معنى اللفظ فالمعنى هو الطبيعة الجامعة من دون ملاحظة أيّ قيد من القيود حتّى الشيوع والسريان فيها والمحكيّ عن الشيخ الأعظم في مطارح الأنظار أنّ الموضوع له هو نفس المعنى الذي قد يكون ذلك المعنى واحدا.

وقد يكون هو بعينه في عالم نفس المعنى كثيرا وقد يكون أبيض حال كونه أسود إلى غير ذلك ولا ريب في أنّ المعنى بعد ما كان على هذا الوجه لا يعقل أن يوجب التقييد فيه اختلافا وبعد عدم اختلافه في جميع مراتب تقلّباته وأنحاء ظهوره ومراتب وجوده لا يعقل أن يكون التقييد مجازا لأنّه هو بعينه في جميع مظاهره وأطواره وشئونه.

ومن تلك الأطوار ظهوره على وجه السراية والشيوع فالماهيّة في هذه الملاحظة ملحوظة بشرط شيء لما أشرنا إليه من أنّ الشيء المشروط به أعمّ من ذلك ومن غيره ولذلك تكون القضيّة التي اعتبر موضوعها على هذا الوجه من المحصورة في وجه.

وبالجملة فمتى اعتبر مع نفس المعنى أمر غير ما هو مأخوذ فيه في نفسه فهو من أطوار ذلك المعنى سواء كان ذلك الأمر هو اعتبار الوجود الذهنيّ فيه أو الخارجيّ أو اعتبار آخر غيرهما وفي جميع هذه الأطوار نفس المعنى محفوظ لا تبدّل ولا تغيّر فيه بوجه وإنّما المبدّل وجوه المعنى كما هو ظاهر (١).

وممّا ذكر يظهر أنّ الموضوع له فوق اللابشرط المقسمي واللابشرط القسمي لأنّهما فيما إذا كان المعنى مقيسا إلى خارج المعنى سواء كان الخارج هو الاعتبارات

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٢١٥.

٢٦٠