عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

إن كانوا عدولا (حيث كانت النسبة بين المفهوم والعموم هي العموم من وجه لأنّ مفهوم الثاني أنّه لا يجب إكرام غير العدول سواء كانوا علماء أو غير علماء ومنطوق الأوّل هو وجوب إكرام العلماء سواء كانوا عدولا أو غير عدول).

فيحتمل أن يقال بإلقاء المفهوم رأسا على تقدير تقديم العموم في مورد التعارض وهو العالم الفاسق على المفهوم القاضي بنفي وجوب إكرام الفاسق مطلقا.

ويحتمل التقييد في المنطوق كأن يقال أكرم الناس الغير العالم إن كانوا عدولا فيستفاد من الكلامين سببيّة كلّ من العلم والعدالة لوجوب الإكرام بل ولعلّه هو المتعيّن لعدم ما يقضي بخلافه في غير مورد التعارض من المفهوم كما عرفت فيما إذا ورد خاصّ في قبال المفهوم العامّ.

ومنه يظهر الوجه لمن أطلق القول بعدم انفعال الماء الجاري ولو لم يكن كرّا مع أنّ مقتضى المفهوم في قوله إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء اعتبار الكرّيّة في الماء الجاري أيضا.

إذ إلقاء المفهوم رأسا ممّا لا شاهد عليه فلا بدّ إمّا من طرح العموم الدالّ على عدم انفعال الماء الجاري في مورد التعارض أو تقييد المنطوق وذلك ظاهر على من تأمّل وهو الهادي (١).

ولا يخفى عليك أنّ محلّ الكلام هو تعارض العامّ مع المفهوم وهو لا يكون إلّا بعد الفراغ عن ثبوت المفهوم ومع الفراغ عنه لا مجال للإطلاق والتقييد في المنطوقين فيما إذا كانت النسبة بين العموم والمفهوم هي العموم من وجه لأنّ التصرّف إمّا يقع في ناحية المفهوم فيقيّد إطلاقه وإمّا في ناحية العموم فيخصّص عمومه فالأمر يدور بين المفهوم والمنطوق لا المنطوقين اللهمّ إلّا أن يقال إنّ التصرّف حيث لا يمكن في المفهوم

__________________

(١) مطارح الانظار : ٢٠٨.

٢٠١

بدون التصرّف في المنطوق لأنّ المفهوم لبّيّ جعل التصرّف بين المنطوقين ثمّ إنّ تقديم أحدهما على الآخر مع كون النسبة عامّين من وجه لا دليل له وعلى فرض التقديم لا يوجب إلقاء المفهوم رأسا بل غايته هو إلقاء إطلاقه في مورد التعارض كما أنّ تقديم المفهوم على العموم لا يوجب إلقاء العموم رأسا بل غايته هو إلقاء عمومه في مورد التعارض.

وحيث لا ترجيح في تقديم أحدهما على الآخر لكون النسبة بينهما هي العموم من وجه فمقتضى القاعدة هو التساقط في مورد التعارض كما أنّه مقتضى القاعدة في المنطوقين إذ لا مرجّح لأحدهما على الآخر وعليه فلا وجه لجعل الشيخ قدس‌سره العامّ مقدّما على المفهوم.

وممّا ذكر يظهر أنّ ما في الدرر من أنّه إن كان بينهما عموم من وجه كالدليل الدالّ على عدم انفعال الماء الجاري مطلقا وما دلّ على توقّف عدم الانفعال ، على الكرّيّة فالحقّ رفع اليد عن المفهوم لأنّ العامّ المذكور يعارض حصر الشرط لا أصل الاشتراط لعدم المنافاة بين كون الكرّيّة شرطا وكون الجريان شرطا آخر وقد عرفت أنّ دلالة القضيّة الشرطيّة على حصر العلّة على فرض الثبوت ليست بدلالة قويّة.

وحينئذ فهل يرفع اليد عن المفهوم مطلقا بحيث لو احتملنا سببا ثالثا لعدم الانفعال لا تكون القضيّة الشرطيّة دالّة على نفيه أو يرفع اليد في خصوص ما ورد الدليل وجهان (١).

لا يخلو عن المناقشة والنظر لأنّ الكلام بعد الفراغ عن ثبوت المفهوم وانعقاد الظهور ومن المعلوم أنّ بعد انعقاد الظهور ووجود المفهوم يتحقّق المنافاة بين كون الكرّيّة شرطا وكون الجريان شرطا آخر وبعد وجود المنافاة بينهما وكون النسبة بينهما هي العموم من وجه فلا وجه لرفع اليد عن المفهوم مطلقا بل مقتضى القاعدة هو رفع

__________________

(١) الدرر : ١ / ٢٢٨.

٢٠٢

اليد عن إطلاق المفهوم وعموم العامّ في مورد التعارض وهو بأن نحكم بالتساقط كما هو مقتضاها في المنطوقين.

فالأولى هو أن يقال إنّ مقتضى القاعدة هو الحكم بالتساقط مع كون النسبة هي العموم من وجه إلّا إذا كان مرجّح في البين كما إذا كان تقديم أحدهما على الآخر موجبا لالغاء العنوان المأخوذ في موضوع الآخر رأسا دون العكس مثلا قوله عليه‌السلام إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء يدلّ على اعتبار الكرّيّة في عدم الانفعال فمفهومه هو الانفعال وإن كان الماء جاريا.

فإذا قدّم مفهومه على عموم الماء الجاري لا ينفعل كان موجبا للغويّة عنوان الجاري وهكذا بالنسبة إلى ماء البئر فإنّ تقديم مفهوم قوله عليه‌السلام إذا كان الماء قدر كرّ الخ على قوله عليه‌السلام ماء البئر واسع لا ينجّسه شيء يوجب لغويّة عنوان البئر عن الموضوعيّة للاعتصام رأسا فإنّ اعتصام الجميع إنّما هو بالكثرة وببلوغه حدّ الكرّ فإذن يصير أخذ عنوان ماء البئر في الدليل لغوا محضا.

وحيث لا يمكن حمل كلام الحكيم على اللغويّة فلا محالة يكون ذلك قرينة على تقديم العموم على المفهوم مع أنّ النسبة بينهما هي العموم من وجه ومقتضاه هو الجمع بين عنوان البئر وعنوان الكرّيّة في التأثير بمعنى أنّ كلّ واحد منهما مؤثّر.

ولعلّ انظر الشيخ قدس‌سره إلى ذلك وإن كانت العبارة قاصرة.

وهكذا يمكن القول بالتقديم وإن كانت النسبة عموما من وجه إذا كان أحدهما حاكما بالنسبة إلى الآخر ولا كلام فيه كما لا يخفى.

فتحصّل أنّه لم يكن فرق بين المفهوم المخالف والمنطوق وبين المنطوقين سواء كانت النسبة عموما وخصوصا مطلقا أو عموما وخصوصا من وجه إذ مقتضى القاعدة في الاولى هو تقديم الخاصّ على العامّ وفي الثانية هو التساقط فيما إذا لم يكن مرجّح وإلّا فالمقدّم هو ذو الترجيح فلا تغفل.

٢٠٣

الخلاصة :

الفصل السابع : في تعارض المفهوم مع العموم

والكلام فيه يقع في مقامات :

المقام الأوّل في أنواع المفهوم :

ولا يخفى أنّ المفهوم إمّا موافق وإمّا مخالف ، والموافق هو ما دلّ اللفظ بحكم العقل على ثبوت الحكم في الأشدّ بطريق أولى. والمخالف ، هو الذي دلّ العقل عليه بواسطة تعليق الحكم في الخطاب على العلّيّة المنحصرة ، فإنّ مقتضى ذلك هو الانتفاء عند الانتفاء ، وإلّا لزم الخلف في التعليق المذكور.

أقسام المفهوم الموافق :

منها موارد إلغاء الخصوصيّة كقوله رجل شكّ بين الثلاث والأربع فإنّه لا شبهة في أنّ الحكم المذكور فيه من البناء على الأكثر لا يختصّ بالرجل ، ولكن في كونه من أقسام المفهوم الموافق تأمّل ونظر.

ومنها المعنى الكنائيّ الذي سيق الكلام لأجله مع عدم ثبوت الحكم للمنطوق ، كقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) بناء على كونه كناية عن النهي عن حرمة إيذائهما ولم يكن نفس الأفّ محكوما بحكم.

ومنها ما إذا سيق الكلام لأجل إفادة حكم أخفّ المصاديق للانتقال إلى سائر

٢٠٤

الموارد بالأولويّة ، مثل نفس الآية الكريمة المذكورة آنفا بناء على أنّ الأفّ محكوم بالحرمة أيضا.

ومنها الحكم المستفاد من القضيّة التعليليّة ، كقوله «الخمر حرام» لأنّه مسكر ، فإنّ العلّة تدلّ بمفهوم الموافقة على مساواة غير المورد المذكور مع المنطوق في الحكم.

ولا يخفى أنّ التعبير بالمفهوم الموافق في مورد إلغاء الخصوصيّة لا يخلو عن النظر ، لأنّ مرجع الإلغاء هو تعميم المنطوق ، ولا يتوسّط فيه شيء مع أنّ اللازم في المفهوم الموافق هو توسّط شيء آخر ، وهكذا الأمر في التعليل ، فإنّ مثل قوله ـ فإنّه مسكر ـ يدلّ على الكبرى الكلّيّة ، وهي أنّ كلّ مسكر حرام ، وهو منطوق عامّ ، فتدبّر جيّدا.

المقام الثاني : في تقديم المفاهيم الموافقة

لا كلام في تقديم المفاهيم الموافقة على العمومات فيما إذا كانت أخصّ منها لبناء العقلاء على ذلك إلّا إذا كانت العمومات أظهر ، فتقدّم على الخاصّ بالتصرّف في هيئة الخاصّ ، كما هو المتعارف في غير مفهوم الموافق من المخصّصات.

هذا كلّه فيما إذا كانت النسبة بينهما هي العموم والخصوص.

وأمّا إذا كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه ، فقد ذهب بعض إلى أنّه يعامل معهما معاملة المنطوقين ، فيحكم بتساقطهما ، والرجوع إلى الأصل العملي إن لم يكن مرجّح في البين ، ولا مجال للحكم بالتخيير بعد اختصاص الأخبار العلاجيّة بالتعارض التبايني.

والظاهر من الشيخ الأعظم في مطارح الأنظار هو تقديم المفاهيم الموافقة وإن كانت النسبة بينها وبين العمومات عموما من وجه ، وذلك لقوّة دلالة الكلام على المفهوم الموافق ، لأنّه المقصود بالإفادة ، ولأنّه المستفاد من الكلام بالأولويّة.

٢٠٥

يمكن أن يقال ، إنّ ما ذكره الشيخ الأعظم حسن فيما يستفاد بالأولويّة لا بالمساواة لعدم قوّة الدلالة والأولويّة فيها مع أنّها من أقسام المفهوم الموافق.

وفصّل المحقّق النائينيّ قدس‌سره في المفهوم الموافق ، بين ما إذا كانت النسبة بين منطوق المفهوم وبين العموم عموما وخصوصا ، فيقدّم المفهوم.

وإن كانت النسبة بين المفهوم وبين العموم ، عموما من وجه ، كما إذا ورد لا تكرم الفسّاق وورد أكرم فسّاق خدّام العلماء ، الدالّ بمفهومه على وجوب إكرام العلماء ، والوجه في ذلك أنّه لا يمكن التصرّف في المفهوم نفسه من دون تصرّف في المنطوق ، كما لا يمكن التصرّف في المنطوق لكونه أخصّ ، فينحصر الأمر في التصرّف في العموم وإبقاء المفهوم على عمومه.

وبين ما إذا كانت النسبة بين منطوق المفهوم والعموم عموما من وجه كما إذا كان المنطوق في مفروض المثال أكرم خدّام العلماء.

وحينئذ إن قدّم المنطوق على العموم في مورد التعارض ودخل بذلك الخادم الفاسق للعالم في موضوع وجوب الإكرام ، كان المفهوم الثابت بالأولويّة القطعيّة مقدّما على العموم أيضا.

وإن قدّم العموم على المنطوق ، وخرج الخادم الفاسق عن موضوع وجوب إكرام خدّام العلماء واختصّ الوجوب بإكرام الخدّام العدول لم يثبت الأولويّة إلّا وجوب إكرام العدول من العلماء دون فسّاقهم ، هذا هو حقّ القول في المفهوم بالأولويّة.

يمكن أن يقال إنّ اللازم هو ملاحظة المنطوق والمفهوم معا بالنسبة إلى العموم ، لأنّهما متوافقان في التعارض مع العموم ولا وجه لتقديم المنطوق على المفهوم أو بالعكس بل هما في عرض واحد يكونان متنافيين مع العموم إذ التعارض بعد وجود القضيّة وتماميّة مدلولها منطوقا ومفهوما ، وبعد هذه التماميّة يكون المنطوق والمفهوم

٢٠٦

متعارضين مع العموم في عرض واحد.

وعليه فيعمل في كلّ من المنطوق والمفهوم بالنسبة إلى العموم بحسب ما يقتضيه القاعدة من دون نظر إلى الآخر ، فالمفهوم مقدّم على العموم ، لكونه أظهر منه من جهة كونه مستفادا بالأولويّة وإن كانت النسبة بينه وبين العموم هي العموم من وجه.

والمنطوق مقدّم على العموم ، إن كانت النسبة بينه وبين العموم هي العموم والخصوص ، وإلّا فهما متعارضان ، فيتساقطان إن لم يكن احدهما أقوى من الآخر ، كما في سائر الموارد من موارد التعارض بنحو العموم من وجه.

ولا دليل على ملاحظة المنطوق أوّلا ، ثمّ ملاحظة المفهوم بعد كونهما في عرض واحد بالنسبة إلى العموم.

فالأقرب هو ما ذهب إليه الشيخ قدس‌سره من أنّ المفهوم مقدّم مطلقا لكونه أقوى من جهة الدلالة اللفظيّة ، ولا يرتبط تقديم المفهوم بملاحظة نسبة المنطوق مع العموم وتقديمه ، فتدبّر جيّدا.

المقام الثالث : في المفهوم المخالف

والظاهر هو تقديم المفهوم المخالف على العامّ فيما إذا كانت النسبة بينهما هي العموم والخصوص ، وإن كان منشأ الظهور هو مقدمات الإطلاق.

ربّما يتوهّم أنّ العامّ أقوى من المفهوم المخالف ، لأنّ دلالة العامّ بالوضع دون المفهوم المخالف ، لاستفادة المفهوم من العلّيّة المنحصرة الّتي تكون مبتنية على الإطلاق الذي يزول بأدنى دليل معارض.

وهو فاسد لوضوح تقديم الخاصّ على العامّ وإن كان الخاصّ مبتنيا على مقدّمات الإطلاق ، وذلك لانعقاد الظهور في كليهما وأظهريّة الخاصّ بالنسبة إلى العامّ لكونه أخصّ فيتقدّم على العامّ كسائر الموارد ، ولا فرق في الظهور المنعقد بين أن

٢٠٧

يكون ناشئا من الوضع أو من مقدّمات الإطلاق ، ومقتضى ما ذكر أنّه لو عكس الأمر وكان المفهوم عامّا والمنطوق خاصّا فالمقدّم هو المنطوق.

مثلا إذا قيل ـ أكرم الناس إن كانوا عدولا ـ كان مفهومه أنّه ، لا يجب إكرام غير العادل ، سواء كان عالما أو غيره ، فإذا ورد ـ أكرم العالم الفاسق ـ كان منافيا مع عموم المفهوم ويقدّم قوله ـ أكرم العالم الفاسق ـ على عموم المفهوم قضاء لتقديم الخاصّ على العامّ. هذا كلّه بناء على كون النسبة بين المفهوم المخالف والمنطوق العامّ هي العموم والخصوص. وأمّا إذا كانت النسبة بينهما هي عموم من وجه ، فمقتضى القاعدة ، هو الحكم بالتساقط في مورد التعارض ، كما هو مقتضى القاعدة في المنطوقين بناء على عدم شمول الأخبار العلاجيّة لغير التعارض التبايني.

إلّا إذا كان أحدهما حاكما بالنسبة إلى الآخر فالحاكم مقدّم ، أو إذا كان تقديم أحدهما على الآخر موجبا للغويّة الآخر دون العكس فالعكس مقدّم ، مثلا قوله عليه‌السلام «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» يدلّ بمفهومه على اعتبار الكرّيّة في عدم الانفعال. وإن كان الماء جاريا ، فإن قدّم ذلك على عموم قوله عليه‌السلام الماء الجاري لا ينفعل لزم اللغويّة ، وذلك قرينة على تقديم قوله الماء الجاري على مفهوم قوله إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه مع أنّ النسبة بينهما هي العموم من وجه ومقتضى ذلك هو الجمع بين عنوان الجاري والكرّ في التأثير بمعنى أنّ كلّ واحد منهما مؤثّر في عدم الانفعال.

٢٠٨

الفصل الثامن : في الاستثناء المتعقّب للجمل

ولا يخفى عليك أنّه إذا تعقّب الاستثناء جملا متعدّدة مثل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) الآية (١) وقد وقع الكلام في أنّ الاستثناء ظاهر في استثناء الجميع من الفسق ومن الحكم بعدم قبول الشهادة ومن الحكم بجلدهم ثمانين.

أو ظاهر في خصوص الأخيرة أو لا ظهور له في واحد منها وجوه أو أقوال يقع الكلام في مقامين.

المقام الأوّل : في مقام الثبوت وإمكان رجوع الاستثناء إلى الجميع ولا يخفى عليك أنّه قد ادّعى غير واحد أنّ رجوع الاستثناء إلى الجميع مستلزم لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وهو غير ممكن وقد أجاب عنه في الكفاية بأنّ رجوعه إلى الكلّ ممكن وصحيح ضرورة أنّ تعدّد المستثنى منه كتعدّد المستثنى في أنّه لا يوجب تفاوتا أصلا في ناحية الأداة بحسب المعنى وكان المستعمل فيه الأداة فيما كان المستثنى منه متعدّدا هو المستعمل فيه فيما كان واحدا كما هو الحال في المستثنى وتعدّد المخرج أو المخرج عنه خارجا لا يوجب تعدّد المستعمل فيه أداة الإخراج مفهوما (فلا يرد عليه أنّ الأداة لما وضعت للإخراج بالحمل الشائع بناء على أنّ الموضوع له في الحروف

__________________

(١) النور : ٤ ـ ٥.

٢٠٩

خاصّ يلزم من استعمالها في الإخراجات استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وهو في الحروف أشكل لأنّها آلات لملاحظة الغير فيلزم أن يكون الشيء الواحد فانيان في شيئين أو أكثر).

ومن المعلوم أنّ بعد إمكان رجوع الاستثناء إلى الجميع فإن استظهر ذلك منه فالجميع مورد الاستثناء ولا كلام وإلّا فأمكن دعوى الإجمال فإنّ مع إمكان رجوع الاستثناء إلى الكلّ وصحّته.

صارت الجمل مكتنفة بما يصلح للقرينيّة ومعه لا تكون ظاهرة في العموم فلا بدّ في مورد الاستثناء في غير الأخيرة من الرجوع إلى الاصول وأمّا الأخيرة فاستثناؤه متيقّن وإن لم يكن الاستثناء ظاهرا فيه (١).

اورد عليه المحقّق الاصفهاني قدس‌سره بأنّ أداة الاستثناء إذا كانت موضوعة للإخراجات الخاصّة فلا محالة يتعدّد الإخراج بتعدّد أحد الطرفين بداهة كونه أمرا نسبيّا يتعدّد بتعدّد الطرف فلو لا لحاظ الوحدة في الجمل المتعدّدة أو في المستثنيات المتعدّدة لم يكن الإخراج واحدا وشمولها حينئذ للمتعدّد بما هو متعدّد موجب للاستعمال في أزيد من معنى واحد ولا جامع مفهوميّ بناء على خصوصيّة الموضوع له.

وأمّا صحّة إخراج المتعدّد فلا تجدي إذ الخارج إن كان متعدّدا بالذات وواحدا مفهوما كما إذا قال إلّا النحويّين مثلا فلا إشكال لأنّ الخارج بما هو ملحوظ من حيث الخروج واحد.

وإن كان متعدّدا مفهوما فلا محالة لا يصحّ إلّا بالعطف وهو في حكم تعدّد أداة

__________________

(١) راجع الكفاية : ١ / ٣٦٥.

٢١٠

الاستثناء (١).

وظاهر كلامه هو اختيار القول الثاني حيث إنّه إذا لم يمكن رجوع الاستثناء إلى الجميع فلا محالة يكون ظاهرا في الرجوع إلى الأخيرة من الجمل فبقيت سائر الجمل على ظهورها إذ الاستثناء المذكور لا يصلح للرجوع إليها.

ويمكن الجواب عنه بأنّا لا نسلّم تعدّد الإخراج بتعدّد الأطراف إذ يمكن إخراج المتعدّدات بإخراج واحد كما يمكن نداء الأشخاص بنداء واحد مع أنّ الأشخاص بوجودهم الخاصّ يكونون موردا للنداء وعليه فلا يلزم من كون الاستثناء مربوطا بالجمل المتعدّدة استعمال أداة الاستثناء في أكثر من معنى واحد كما أنّه لا يلزم من نداء الأشخاص المتعدّدة بنداء واحد استعمال أداة النداء في أكثر من معنى واحد بل الإخراج والنداء مستعملان في المعنى الواحد ومعنى كون اللفظ فانيا في المعنى ليس هو إلّا إفادة المعنى لا الفناء التكوينيّ لأنّه خلف في الواقعيّات.

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره إنّ الاستعمال ليس إلّا جعل اللفظ آلة لإفادة المعنى.

فإن كان هذا هو المراد من جعله قالبا وفانيا ووجها وعنوانا للمعنى إلى غير ذلك من التعبيرات فلا دليل على امتناع كون شيء واحد قالبا لشيئين أو فانيا فيهما أي يكون اللفظ منظورا به والمعنيان منظورا فيهما وإن كان المراد شيئا آخر فلا بدّ من بيانه ووجه امتناعه.

وأمّا فناء اللفظ بحسب وجوده الواقعي في المعنى بحيث لا يبقى واقعا إلّا شيئيّة المعنى فهو أمر غير معقول لأنّ اللّفظ له فعليّة وما كان كذلك لا يمكن أن يفنى في

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ٢٠٧.

٢١١

شيء (١).

وعليه فإفادة المتكثّرات لا تستلزم تكثّر الإفادة فلا يلزم من رجوع الاستثناء إلى الجمل المتعدّدة إفادة الاستثناء للاخراجات المتعدّدة كما ذهب إليه المحقّق الأصفهاني قدس‌سره بل الاستثناء يفيد إخراج المتعدّدات.

هذا مضافا إلى أنّ المستثنى إذا كان كلّيّا يشمل مصاديقه ولو في الجمل السابقة مع عدم منافاته لجزئيّة الاستثناء أو الإخراج ، وإليه أشار سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال هذا مع منع لزوم استعمال الأداة في أكثر من معنى فإنّ المستثنى إذا كان كلّيّا قابلا للصدق على الكثيرين فاخرج ب «إلّا» وغيرها ، يكون الاستثناء بإخراج واحد مخرجا للكثيرين فقوله أكرم العلماء وأضف التجّار إلا الفسّاق منهم إخراج واحد للفسّاق قابل للانطباق على فسّاق العلماء والتجّار فلا يكون استعمال الأداة في أكثر من معنى واحد (٢).

ثمّ لا فرق فيما ذكر بين أن يكون مفاد أداة الاستثناء هو مفهوم الإخراج أو شخص الإخراج لإمكان تعلّق شخص الاخراج بالمتعدّدات كإمكان تعلّق شخص النداء بالمتعدّدات.

كما لا حاجة إلى جعل الاستعمال من باب جعل العلّامة بأن يقول يمكن أن يلحظ في المقام حقائق ربطيّة متعدّدة بعدد المستثنى منه وتجعل كلمة واحدة علامة لتلك الملحوظات المتعدّدة كما أمكن ذلك في الأسماء لما عرفت من إمكان إخراج الكثيرين بإخراج واحد فيما إذا كان اللفظ آلة لإفادة المعنى حيث إنّ الإخراج الحقيقي يصلح أن يتعلّق بالمتعدّدات كتعلّق النداء والبعث بالمتعدّدات كما ترى تحرّك الجيوش

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٢) مناهج الوصول : ٢ / ٣٠٦.

٢١٢

بأمر واحد وبعث واحد من ناحية الأمير.

المقام الثاني : في مقام الإثبات.

ولا يخفى عليك أنّه يختلف ذلك بحسب تكرار الحكم أو الموضوع أو كليهما وعدمه أو بحسب ذكر الاسم الظاهر في الجملة الاولى وعطف سائر الجمل عليها مشتملا على الضمير إليه أو ذكر الاسم الظاهر في جميع الجمل وإلى غير ذلك من التفصيلات فالأولى هو أن نذكر بعضها مع النقض والإبرام ونقول مستعينا بالله تعالى هنا تفصيلات.

أحدها : ما في نهاية النهاية من التفصيل بين ما إذا كان الاستثناء قيدا للموضوع لا إخراجا عن الحكم فهو ظاهر في الرجوع إلى الأخيرة وبين ما إذا كان الاستثناء إخراجا عن الحكم فقال فإن لم يتكرّر الحكم في الجمل فالظاهر بل المتعيّن هو رجوعه إلى الجميع بخلاف ما إذا تكرّر الحكم في الجمل.

ففي مثل أكرم العلماء والشرفاء والشعراء إلّا الفسّاق يرجع الاستثناء إلى الجميع فإنّ المستثنى منه في الحقيقة هو الحكم وهو واحد غير متعدّد.

وفي مثل أكرم العلماء وأكرم الشرفاء وأكرم الشعراء إلّا الفسّاق فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى الأخيرة مدّعيا بأنّ الظاهر بمقدّمات الحكمة إذا كان المتكلّم في مقام البيان ولم يقم قرينة على الرجوع إلى غير الأخيرة هو الرجوع إليها فإنّ رجوعه إلى غير الأخيرة يحتاج إلى البيان (١).

وفيه ما لا يخفى حيث إنّ التفرقة بين ما إذا كان الاستثناء قيدا للموضوع وبين ما إذا كان قيدا للحكم لا وجه له فإنّ البحث والنزاع يشمل الصورتين.

هذا مضافا إلى إمكان منع كون الحكم واحدا في مثل أكرم العلماء والشرفاء

__________________

(١) نهاية النهاية : ١ / ٣٠٠.

٢١٣

والشعراء إلّا الفسّاق لأنّ مقتضى تعدّد الموضوع هو تعدّد الحكم كقوله عليه‌السلام اغسل للجمعة والجنابة والزيارة وأيضا لا مجال للأخذ بمقدّمات الحكمة مع وجود ما يصلح للرجوع إلى الجميع فدعوى اختصاص الاستثناء بالأخير غير ثابتة وأصالة عدم القرينة لا تجري فيما إذا كان في الكلام ما يصلح للقرينيّة إذ لا بناء من العقلاء على عدم قرينيّة الموجود.

وثانيها : ما فصّله المحقق النائيني قدس‌سره بين تكرار الموضوع وعدمه حيث فصّل بين صورة تكرار عقد الوضع في الجملة الأخيرة كما في مثل الآية الكريمة : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا)(١).

فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة لأنّ تكرار عقد الوضع في الجملة الأخيرة مستقلا يوجب أخذ الاستثناء محلّه من الكلام فيحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة الأخيرة إلى دليل آخر مفقود على الفرض.

وبين صورة عدم تكرار عقد الوضع واختصاص ذكره بصدر الكلام كما إذا قيل أكرم العلماء وأضفهم وأطعمهم إلّا فسّاقهم.

فلا مناص فيه عن الالتزام برجوعه إلى الجميع لأنّ المفروض أنّ عقد الوضع فيه لم يذكر إلّا في صدر الكلام وحيث إنّه لا بدّ من رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع فلا بدّ من رجوعه إلى الجميع وأمّا كون العطف في قوّة التكرار فهو وإن كان صحيحا إلّا أنّه لا يوجب وجود عقد وضع آخر في الكلام ليكون صالحا لرجوع الاستثناء إليه.

إلى أن قال وممّا ذكرناه يظهر أنّه لو كرّر عقد الوضع في وسط الجمل المتعدّدة

__________________

(١) النور : ٤ ـ ٥.

٢١٤

للزم رجوع الاستثناء إليه فتخصّص الجملة المشتملة عليه والجمل المتأخّرة عنها وتبقى الجمل السابقة عليها على عمومها (١).

وفيه أنّ استقلال الجملة لا يمنع من احتمال رجوع الاستثناء إلى السابق كما أنّ الضمير لا يمنع من ورود الاستثناء عليه بعد كونه قائما مقام الاسم الظاهر وأيضا لزوم رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع محلّ منع إذ ليس هو إلّا لإخراج الحكم كقولهم ما جاء في القوم الّا زيد لظهوره في تخصيص مجيء زيد لا لتقييد الموضوع ثمّ تعليق الحكم عليه كأن يتصوّر القوم باستثناء زيد ثمّ علّق عليه عدم المجيء.

قال في منتهى الاصول إنّ هذا الاستثناء يصلح للرجوع إلى الجميع بحيث لو علمنا أنّ المتكلّم أراد الاستثناء من الجميع لا يلزم منه خلاف أصل أو ارتكاب تجوّز وعناية وأمثال ذلك من تقدير وإضمار وغيره ومع وجود مثل ذلك كيف يمكن إجراء أصالة العموم وهل للعقلاء بناء على عدم المخصّص مع وجود ما يصلح للمخصصيّة فيه إشكال نعم لا ننكر أنّ في بعض الموارد بحسب المتفاهم العرفي يكون المرجع خصوص الجملة الأخيرة أو الجميع لقرائن حاليّة أو مقاليّة أو لجهة اخرى ولكنّه خارج عن محلّ الكلام (٢).

ولعلّ المفصّل توهّم أنّ الأداة الاستثنائيّة بمنزلة الوصف للمستثنى منه وحيث لا تتّصف الضمير بشيء يرجع التوصيف إلى مرجعه ولكنّه كما أفاده المحقّق الاصفهاني قدس‌سره خلط بين أداة الاستثناء الوصفيّة والاستثنائيّة فإنّ الاولى حيث أنّها وصفيّة والضمير المتّصل غير قابل للتوصيف فلا بدّ من رجوعها إلى المذكور في صدر الكلام مع أنّ الكلام في الاستثنائيّة الراجعة إلى المفهوم التركيبي لا الافرادي.

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ٤٩٦ ـ ٤٩٨.

(٢) منتهى الاصول : ١ / ٤٦٤.

٢١٥

وأمّا ما ذكره من أنّ عقد الوضع مذكور في الجملة الأخيرة فقد أخذ الاستثناء محلّه وغيره محتاج إلى دليل مفقود هنا ففيه أنّه مصادرة وغايته أنّ الأخيرة متيقّنة وأنّ غيرها يحتاج إلى دليل (١).

وثالثها : ما فصّله السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره في حاشية أجود التقريرات بين تعدّد القضيّة بدون تكرار المحمول وبين تعدّد القضيّة مع تكرار المحمول حيث قال إذا تعدّدت القضيّة بتعدّد موضوعاتها دون محمولاتها كما إذا قيل أكرم العلماء والأشراف والشيوخ إلّا الفسّاق منهم فالظاهر فيه رجوع الاستثناء إلى الجميع لأنّ القضيّة في مثل ذلك وإن كانت متعدّدة صورة إلّا أنّها في حكم قضيّة واحدة قد حكم فيها بوجوب إكرام كلّ فرد من الطوائف الثلاث إلّا الفسّاق منهم فكأنّه قيل أكرم كلّ واحد من هذه الطوائف إلّا من كان منهم فاسقا.

بخلاف ما إذا تعدّدت القضيّة بتعدّد موضوعاتها مع تكرّر عقد الحمل فيها كما إذا قيل أكرم العلماء والأشراف وأكرم الشيوخ إلّا الفسّاق منهم فإنّ الظاهر فيه رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة المتكرّر فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت لأنّ تكرار عقد الحمل في الكلام قرينة على قطع الكلام عمّا قبله وبذلك يأخذ الاستثناء محلّه من الكلام فيحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة المتكرّر فيه عقد الحمل إلى دليل آخر مفقود على الفرض.

وإذا تعدّدت القضيّة فيه بكلّ من الموضوع والمحمول كما إذا قيل أكرم العلماء وجالس الأشراف إلّا الفسّاق منهم فالظاهر فيه رجوع الاستثناء إلى خصوص الأخيرة لما تقدّم (٢).

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ٢٠٧.

(٢) أجود التقريرات : ١ / ٤٩٦.

٢١٦

وفيه أوّلا : أنّ القضيّة فيما إذا تعدّدت الموضوعات تكون متعدّدة بتعدّد موضوعاتها وكونها في حكم قضيّة واحدة قد حكم فيها على عنوان واحد فيرجع الاستثناء إلى الجميع منظور فيه لأنّ إمكان إرجاع المتعدّد إلى المتّحد لا يوجب الاتّحاد الفعلي ومع التعدّد الفعلي يمكن اختلاف الجمل المتعدّدة في الاستثناء وعدمه.

وثانيا : أنّ تعدّد القضايا وأحكامها فيما إذا تكرّر محمولاتها لا يمنع عن إمكان رجوع الاستثناء إلى جميع موضوعاتها ألا ترى جواز تصريح المتكلم في مثل المثال برجوع الاستثناء إلى الجميع ولا يعترض عليه بأنّ الجملة الأخيرة قرينة على قطع الكلام عمّا قبله ومع القطع يلزم إقامة دليل آخر على استثناء موضوعات القضايا السابقة هذا مضافا إلى إمكان رجوع أحكام القضايا المتعدّدة المذكورة إلى حكم واحد لاتّحادها على المفروض.

نعم لا يبعد دعوى ظهور رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فيما إذا تغايرت الجمل موضوعا ومحمولا كالمثال المذكور أخيرا أي أكرم العلماء وجالس الأشراف إلّا الفسّاق منهم.

ورابعها : ما فصّله في منتقى الاصول بين ما إذا اتّحد المحمول مع تكرّر ذكر العمومات مثل أن يقال أكرم العلماء والتجّار والأدباء إلّا الفسّاق منهم.

فالاستثناء راجع إلى الجميع ولا تعيّن لرجوعه إلى الأخير وكونه أقرب العمومات إلى الضمير لا يوجب التعيّن وإلّا فالأبعد أيضا فيه خصوصيّة وهي الأبعديّة فلا يصلح العامّ الأخير لرجوع الضمير إليه وعليه فيتعيّن رجوعه إلى الجميع.

وبين ما إذا تكرّر المحمول بدون العطف سواء اتّحد أم اختلف مثل أن يقال أكرم العلماء أضف التجّار احترم الأدباء إلّا الفسّاق منهم فالمتعيّن هو رجوع الضمير إلى الأخيرة إذ بيان كلّ حكم بجملة مستقلّة غير مرتبطة بسابقتها برابط يوجب كون الجملة السابقة في حكم المغفول عنها والمنتهى عن شئونها وهذا الأمر يوجب نوع

٢١٧

تعيّن للأخيرة من بين الجمل الاخرى السابقة عليها.

وعلى هذا جرت سيرة العرف.

وبين ما إذا تكرّر المحمول مع العطف مثل أن يقال أكرم العلماء وأضف التجّار واحترم الادباء إلّا الفسّاق منهم فيكون مجملا إذ يحتمل أن يكون استقلال الأخير في الحكم موجبا لتعيّنه عرفا من بينها كما يحتمل أن يكون ربط الأخير بحرف العطف موجبا لعدم تعيّنه لكون الجميع بمنزلة الجملة الواحدة فيكون الكلام مجملا ولكن تخصيص الأخيرة قدر متيقّن (١).

وفيه أوّلا أنّ دعوى تعيّن رجوع الاستثناء إلى الجميع في الصورة الاولى لا شاهد لها مع كون القضيّة متعدّدة بتعدّد موضوعاتها وعدم تعيّن رجوعه إلى الجملة الأخيرة لا يوجب تعيّن رجوعه إلى الجميع بل يمكن أن يكون مجملا إن لم نقل بتعيّن رجوعه إلى الأخير.

وثانيا : أنّ دعوى تعيّن رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة في الصورة الثانية مستدلا بأنّ الجملة السابقة في حكم المغفول عنها من جهة ترك العطف كما ترى إذ لو سلّمنا التركيب المذكور في الأدبيّات العربيّة فدعوى كون الجمل السابقة في حكم المغفول عنها ممنوعة إذ عدم العطف لو لم يوجب الارتباط لاشعاره بعدم تماميّة الجملة لا يوجب الجملة السابقة مغفولا عنها.

وعليه فإن كان نوع المحمول متّحدا فلا يكون ظاهرا في الرجوع إلى الأخير كما لا يكون ظاهرا في الرجوع إلى الجميع.

وإن كان نوع المحمول مختلفا فلا يبعد دعوى ظهور رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة لتغاير الجمل موضوعا ومحمولا كما مرّ.

__________________

(١) منتقى الاصول : ٣ / ٣٩٢.

٢١٨

وثالثا : أنّ دعوى الإجمال في الصورة الثالثة بدعوى أنّ استقلال الأخير في الحكم يوجب التعيّن وربط الأخير بحرف العطف يوجب عدم التعيّن لكون الجميع بمنزلة الجملة الواحدة فمع تعارض الأمرين يحصل الإجمال مندفعة بأنّ العطف لا يوجب وحدة الجمل بل الواو تدلّ على مغايرة الجمل بعضها مع بعض ولكن مع ذلك لا ينافي رجوع الاستثناء إلى الجميع نعم لا يبعد دعوى ظهور الكلام في الرجوع إلى الأخير بعد تغايرها مع سائر الجمل موضوعا ومحمولا فلا تغفل.

وخامسها : ما فصّله سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بين ما إذا ذكر الاسم الظاهر في الجملة الاولى وعطف سائر الجمل عليها مشتملا على الضمير الراجع إليه واشتمل المستثنى أيضا على الضمير كقوله أكرم العلماء وسلّم عليهم وألبسهم إلّا الفسّاق منهم فالظاهر رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل.

لأنّ الضمير كما مرّ موضوع لنفس الاشارة إلى الغائب كما أنّ أسماء الاشارة موضوعة للاشارة إلى الحاضر فإن اشتمل المستثنى على الضمير يكون إشارة إلى شيء ولم يكن في الجمل شيء صالح للإشارة إليه إلّا الاسم الظاهر المذكور في صدرها وأمّا سائر الجمل فلا تصلح لإرجاع الضمير إليها لعدم عود الضمير إلى الضمير.

وكذا لا يبعد أن يكون الاستثناء من الجميع اذا لم يشتمل المستثنى على الضمير مع اشتمال الجملة عليه كما لو قال في المثال المتقدّم إلّا بني فلان.

أمّا إذا قلنا بأنّ الضمير في مثله منويّ فلمّا ذكرنا وإن قلنا بعدم النيّة فلأنّ الضمير في سائر الجمل غير صالحة لتعلّق الاستثناء بها فإنّها بنفسها غير محكومة بشيء فلا محالة يرجع الاستثناء إلى ما هو صالح له (١).

ولا يذهب عليك أنّ مراده قدس‌سره أنّه إذا اشتمل المستثنى على الضمير أو كان

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

٢١٩

الضمير منويّا فيه كان الاستثناء راجعا إلى جميع الجمل.

لعدم عود الضمير إلى الضمير وهو قرينة على عوده إلى الاسم الظاهر المذكور في صدرها وعليه فمع تخصيص الاسم الظاهر المذكور في صدرها لا مجال لاطلاق الجمل التابعة وإن كان لها إطلاق فهو بدويّ فبعد رجوع الاستثناء إلى الاسم الظاهر لا ينعقد الإطلاق بل مقتضى رجوع الضمائر إلى الصدر هو الاتّحاد في المراد.

ولا وقع بعد ما عرفت لما يقال من أنّ الموضوع والمحمول نفس المسمّيات والمعاني فلا فرق بين أدائها بأيّ طريق لما عرفت من الفرق حيث أنّ صحّة رجوع الضمير إلى الاسم الظاهر وعدم صحّة ذلك بالنسبة إلى الضمير قرينة على عدم تعميم المسمّى في موضوعات جميع الجمل.

ولكن بعد وفي النفس شيء وهو أنّ تقييد الموضوع في الجملة الأخيرة باستثناء الفاسق من العلماء لا يستلزم تقييد الموضوع في الجمل السابقة لأنّ الجمل السابقة معطوفة على الاسم الظاهر في الصدر بما هو مستعمل في معناه اللغويّ لا بما هو مراد جدّيّ ورجوع الضمير إلى الصدر لا يستلزم رجوع الاستثناء إليه أيضا وبالجملة تعريف المستثنى متوقّف على الرجوع إلى الصدر لا نفس الاستثناء كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى أنّه لو لم يكن الضمير منويّا في المستثنى فلا وجه لدعوى رجوع الاستثناء إلى الجميع مستدلا بأنّ الضمير في سائر الجمل غير صالحة لتعلّق الاستثناء بها فإنّها بنفسها غير محكومة بشيء فلا محالة يرجع الاستثناء إلى ما هو صالح له وهو الاسم الظاهر المذكور في الصدر لأنّ الضمير قائم مقام الاسم الظاهر فيجوز تخصيصه وقد عرفت صحّة تخصيص الضمير دون العامّ فيما مرّ من البحث في أنّ تعقّب العامّ بضمير لا يراد منه إلّا بعض أفراد العامّ هل يوجب تخصيص العامّ أولا فراجع.

فتحصّل ممّا ذكرناه في مقام الاثبات صحّة القول برجوع الاستثناء إلى الأخير

٢٢٠