عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

ومنهم شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره ليس الأثر لعدم تحقّق النسبة بين المرأة والقريش مثلا ، بل لعدم كون المرأة الموجودة ، إمّا فعلا ، وإمّا تقديرا قرشيّة ، والاستصحاب إنّما هو جار في الأوّل دون الثاني ، وحيث إنّ الغالب في القضايا السالبة الشرعيّة هو كون السلب مأخوذا على السلب بانتفاء المحمول ، قلّما يتّفق أن يكون هذا الاستصحاب الموضوعي نافعا لتنقيح كون الفرد المشكوك باقيا تحت العامّ.

يمكن أن يقال ، إنّ دعوى الغلبة في أخذ السلب بنحو الموجبة السالبة المحمول في طرف العامّ أوّل الكلام بل الأمر بالعكس ، لأنّ عدم اتّصاف عنوان العامّ بوصف الخاصّ أخفّ مئونة من اتّصافه بعدم الوصف.

وعليه فالعامّ بعد التخصيص معنون بنحو التركيب من وجود عنوان العامّ وعدم الخاصّ.

ومنهم شيخ مشايخنا المحقّق اليزدي الحاج الشيخ قدس‌سره حيث قال ، قد يستظهر من مناسبة الحكم والموضوع ، أنّ التأثير والفاعليّة ثابت للموضوع المفروغ عن وجوده عند اتّصافه بوصف ، كما في قضيّة الماء ، إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء ، ففي هذه الصورة لا يجدي استصحاب عدم الكرّيّة من الأزل.

وقد يستظهر من المناسبة المذكورة ، أنّ التأثير ثابت لنفس الوصف ، والموضوع المفروغ عن وجوده إنّما اعتبر لتقوّم الوصف به كما في قوله عليه‌السلام المرأة ترى الدم إلى خمسين إلّا أن تكون قرشيّة حيث إنّ حيضيّة الدم إلى الستّين ، إنّما هي من خاصّيّة التولّد من قريش ، لا أنّ المرأة لها هذه الخاصّيّة بشرط التولّد ، فانتفاء هذا الوصف موجب لنقيض الحكم ولو كان بعدم الموضوع ، وحينئذ يكون استصحاب العدم الأزليّ نافعا.

وفيه ، أوّلا أنّ المأخوذ في طرف العامّ هو عدم الاتّصاف لكونه أخفّ مئونة ، ولو كان المأخوذ في طرف الخاصّ هو الاتّصاف مع الموضوع المفروغ الوجود ، وقد

١٤١

مرّ التفصيل في ذلك ، وثانيا أنّ تخصيص التأثير في جانب الخاصّ بنفس الوصف دون الموصوف كما ترى بداهة مدخليّة كون الموصوف امرأة ، ولذا لا يجوز التعدّي عنها إلى غيرها ، اللهمّ إلّا أن يكون مقصوده نفي التأثير عن المرأة المقيّدة بشرط التولّد ، لا مطلق المرأة ولو بنحو التركيب.

ومنهم سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال ما حاصله ، أنّ القيد في العام ، بعد التخصيص يتردّد بين التقييد بنحو الإيجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول ، ولا يكون من قبيل السلب التحصيلي ممّا لا يوجب تقييدا في الموضوع ، لأنّه غير معقول للزوم جعل الحكم على المعدوم بما هو معدوم ، فهل يمكن أن يقال ، إنّ المرأة ترى الدم إلى خمسين إذا لم تكن من قريش بنحو السلب التحصيليّ الصادق مع سلب الموضوع ، فيرجع إلى أنّ المرأة التي لم توجد ترى الدم ، فلا بدّ من فرض وجود الموضوع ، ومع فرض وجود الموضوع لا يخلو إمّا عن الإيجاب العدولي أو الموجبة السالبة المحمول.

ولو سلّم أنّ الموضوع بعد التخصيص (هو العالم مثلا) ، مسلوبا عنه الفسق بالسلب التحصيلي ، ففيه مضافا إلى كونه مجرّد فرض أنّ صحّة الاستصحاب فيه منوطة بوحدة القضيّة المتيقّنة مع المشكوك فيها وهي مفقودة ، لأنّ الشيء لم يكن قبل وجوده شيئا لا ماهيّة ولا وجودا ، والمعدوم لا يقبل الإشارة لا حسّا ولا عقلا ، فلا تكون هذه المرأة الموجودة قبل وجودها هذه المرأة بل تكون تلك الإشارة من أكذوبة الواهمة واختراعاتها ، ولا تكون للنسبة السلبيّة واقعيّة حتّى تكون القضيّة حاكية عنها ، فانتساب هذه المرأة إلى قريش مسلوب أزلا بمعنى مسلوبيّة «هذيّة» المرأة و «القرشيّة» ، والانتساب لا بمعنى مسلوبيّة الانتساب عن هذه المرأة وقريش وإلّا يلزم كون الأعدام متمايزة حال عدمها وهو واضح الفساد.

وعليه فالقضيّة المتيقّنة غير القضيّة المشكوكة فيها.

بل ، لو سلّم وحدتهما ، كان الأصل مثبتا ، لأنّ المتيقّن هو عدم كون هذه المرأة

١٤٢

قرشيّة ، باعتبار سلب الموضوع ، أو الأعمّ منه ، ومن سلب الموضوع واستصحاب ذلك وإثبات الحكم للقسم المقابل ، أو للأخصّ مثبت ، لأنّ انطباق العامّ على الخاصّ في ظرف الوجود عقليّ وهذا كاستصحاب بقاء الحيوان في الدار ، وإثبات حكم قسم منه بواسطة العلم بالانحصار.

فقد اتّضح من ذلك ، عدم جريان استصحاب الأعدام الأزليّة في أمثال المقام.

ويمكن الجواب عنه أوّلا ، بأنّ الامور المذكورة أجنبيّة عن فرض التركيب ، فإنّ الموضوع إذا كان مركّبا من الأمر الوجوديّ والعدميّ كوجود المرأة وعدم اتّصافها بالقرشيّة ، أمكن إحرازه بالوجدان والأصل ، للعلم بعدم اتّصافها بالقرشيّة في القبل ، فيستصحب حتّى بعد وجودها لوحدة الموضوع في القضيّة المشكوكة والمتيقّنة ، إذ الموضوع في كليهما هي هذه المرأة.

ولا يتردّد أمر العامّ بعد الخاصّ بين الإيجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول ، لأنّ العامّ بعد الخاصّ مركّب من وجود المرأة ، وعدم اتّصافها بالقرشيّة بعد ما عرفت من أنّ نقيض الخاصّ هو عدم الاتّصاف بالخاصّ وهو أخفّ مئونة من اعتبار الاتّصاف والإيجاب العدولي ، والموجبة السالبة المحمول فرع الاتّصاف ومحتاج إلى مئونة زائدة.

وثانيا : بأنّ عدم معقوليّة السالبة المحصّلة من جهة لزوم جعل الحكم على المعدوم لا يلزم بناء على التركيب ، لأنّ غير المعقول هو جعل الحكم على المعدوم بما هو معدوم ، وأمّا إبقاء العدم على حاله إلى زمان إحراز وجود شيء آخر ، والحكم على الموجود المقرون بعدم هذا الوصف فلا يكون غير معقول ، لأنّه جعل على الموجود المقرون بعدم المانع.

هذا مضافا إلى أنّ المقام من باب استصحاب الموضوع لا من باب جعل الحكم على المعدوم ، حتّى يقال ، إنّ لازم الاستصحاب المذكور هو أن يحكم برؤية الدم في

١٤٣

المرأة قبل وجودها وهو غير معقول ، بل الحكم مترتّب بعد الاستصحاب على المرأة الموجودة مع عدم اتّصافها بالقرشيّة.

وثالثا : بأنّ الوحدة في القضيّة المشكوكة والمتيقّنة ثابتة ، بناء على تركيب الموضوع ، فإنّ الموضوع في القضيّة المشكوكة هو عدم اتّصاف هذه المرأة بالقرشيّة ، وفي المستصحب أيضا هو عدم اتّصافها من الأزل إلى حال وجود المرأة.

ولا يراد من استصحاب عدم الاتّصاف تقييد الموضوع الموجود بوصف ، أو اتّصاف حتّى يكون مثبتا ، بل المراد منه هو استصحاب عدم اتّصاف هذه المرأة بوصف إلى حال وجودها حتّى يتحقّق كلا جزئي الموضوع ، أحدهما ، وهو المرأة الموجودة بالوجدان ، وثانيهما وهو عدم اتّصافها بوصف القرشيّة بالأصل.

ورابعا : بأنّ إنكار شيئيّة الأشياء وماهيّتها قبل وجودها ، كما ترى مع إمكان اعتبار الماهيّات الكلّيّة والجزئيّة في الذهن ، ومن المعلوم أنّ هذا الاعتبار ليس كأنياب الأغوال من الموهومات ، بل هو من المعقولات ، ولذا يقع في الذهن موضوعا للوجود والعدم ، وللأحكام العرفيّة أو الشرعيّة ، فلا وجه لدعوى أنّ هذه المرأة قبل وجودها ليست شيئا حتّى ماهيّة ، بل لها قبل وجودها شيئيّة في الذهن وهي الماهيّة الشخصيّة ، وبهذا الاعتبار حكم بأنّها ليست موجودة في الأزل ولا متّصفة بوصف كالقرشيّة ، وإلّا فلا مجال للاستصحابات العدميّة حتّى في الأعراض ، إذ لا شيئية للأعدام وهو ممّا لا يمكن الالتزام به ، وينقدح ممّا تقدّم أنّه لا مانع من جريان استصحاب العدم الأزلي لتنقيح موضوع العامّ بعد التخصيص عند الشكّ من جهة الشبهات المصداقيّة ، إلّا إذا ثبت أنّ عدم وصف الخاصّ مأخوذ في طرف العامّ بنحو الاتّصاف لا التركيب ، ومع عدم قيام قرينة على الاتّصاف ، فالموضوع مأخوذ بنحو التركيب ، ولا دليل على حمل الموضوع على الإيجاب العدولي أو الموجبة السالبة المحمول ، فلا تغفل.

التنبيه الرابع : في التمسّك بالعامّ لكشف حال الفرد من غير ناحية التخصيص

١٤٤

كالصحّة.

ذهب بعض إلى جواز التمسّك بعموم ـ أوفوا بالنذور ـ لإحراز صحّة الوضوء ، أو الغسل بمائع مضاف عند الشكّ في صحّتهما به ، فيما إذا وقعا متعلّقين للنذر بدعوى أنّ الوضوء أو الغسل بالمائع المذكور واجب بالنذر وكلّ ما وجب الوفاء به فهو صحيح ، للقطع بأنّه لو لا الصحّة لما كان واجب الوفاء به.

وأيّده بصحّة الإحرام بالنذر قبل الميقات ، أو صحّة الصيام بالنذر في السفر.

وفيه منع واضح ، فإنّ العموم المذكور خصّص بمثل قوله عليه‌السلام لا نذر إلّا في طاعة الله فقوله ـ أوفوا بالنذور ـ بعد التخصيص ، يكون معنونا بالنذور التي تكون في طاعة الله تعالى وعليه ، فالتمسّك بهذا العامّ في التوضّؤ والاغتسال المذكورين مع عدم ثبوت شرعيّتهما والشكّ فيهما ، تمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة ، وأمّا صحّة الصوم في السفر ، أو الإحرام قبل الميقات بالنذر ، فمن جهة ورود الروايات الخاصّة فيهما ولا رواية في المقام بالخصوص حتّى يقاس بهما.

التنبيه الخامس : في جواز التمسّك بالعامّ عند دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص لتعيين التخصّص ، وعدمه.

ولا يذهب عليك أنّه إذا علم بأنّ إكرام زيد مثلا غير واجب ، ولكن شكّ في كون زيد عالما أو جاهلا ، دار الأمر بين التخصيص والتخصّص بالنسبة إلى عموم «أكرم العلماء» ، والمعروف هو ، جواز التمسّك بالعامّ لإثبات الثاني بدعوى أنّ أصالة عدم التخصيص في طرف العام ، كما تثبت لوازمها الشرعيّة فكذلك تثبت لوازمها العقليّة ، كعكس النقيض واللوازم العادية ، نظرا إلى حجّيّة مثبتات الاصول اللفظيّة ، وعليه ، فيجوز التمسّك بأصالة عدم التخصيص لإثبات عدم كون المشكوك من مصاديق العامّ فيحكم عليه بأنّه ليس بعالم ويترتّب عليه أحكام الجاهل ، فإذا ثبت جريان أصالة العموم يمكن أن يقال ، كلّ عالم يجب إكرامه بالعموم وينعكس بعكس

١٤٥

النقيض إلى أنّ كلّ من لا يجب إكرامه ليس بعالم وهو المطلوب.

ودعوى أنّ أصالة العموم كأصالة الحقيقة من الاصول العقلائيّة والقدر المتيقّن من جريانها هو الشبهة المراديّة لا الشبهة الاستناديّة.

فكما أنّ أصالة الحقيقة تجري فيما إذا شكّ في لفظ أنّه استعمل في معناه الحقيقيّ ، أو في غيره ، ويحكم بكونه مستعملا في معناه الحقيقيّ ويعيّن المراد لا فيما إذا علم أنّ اللفظ استعمل في معنى ، وشكّ في أنّه معناه الحقيقيّ أو غيره.

فكذلك أصالة العموم تجري فيما إذا شكّ في خروج فرد وعدمه ، لا ما إذا علم بخروج فرد وشكّ في أنّه فرد للعامّ أو ليس بفرد له.

مندفعة بأنّ قياس أصالة العموم بأصالة الحقيقة في غير محلّه ، لأنّ الاستعمال في المراد معلوم في موارد عدم جريان أصالة الحقيقة ، وإنّما الشكّ في الاستناد من جهة أنّه من باب استعمال اللفظ في معناه أو من باب المجاز فلا أصل في البين لتعيين ذلك.

بخلاف المقام ، فإنّ الحكم وإن كان معلوما ، ولكن خروج الفرد عن العامّ مشكوك ومع الشكّ في الخروج تجري أصالة العموم وعدم التخصيص ، كما ذهب إليه الشيخ الأعظم قدس‌سره ، إذ العلم بالحكم لا يلازم العلم بخروج الفرد من العامّ ، وعليه فالشكّ في خروج فرد من العامّ وعدمه باق بحاله ، ومعه تجري أصالة عدم التخصيص لتعيين أنّ الخارج ليس فردا من العامّ.

والسرّ في ذلك ، أنّ الشبهة في هذه الموارد مراديّة من جهة ، وغير مراديّة من جهة اخرى ، أمّا الاولى فمن حيث الشبهة في إرادة المتكلّم ، ففيما لو علم بعدم وجوب إكرام زيد مع الجهل بعالميّته وجاهليّته ، لا يعلم أنّ الإرادة الجدّيّة للمتكلّم ب «أكرم العلماء» تعلّقت بكلّ عالم أو بما سوى زيد فيؤخذ بأصالة العموم ، ويقال إنّ الإرادة الجدّيّة تعلّقت بكلّ عالم وهي شبهة مراديّة.

وهذا بخلاف ما لو علم أنّه أراد بالأسد ـ الرجل الشجاع ـ ولم يعلم أنّه حقيقة

١٤٦

فيه أو مجاز ، فإنّه لا اشتباه في إرادة المتكلّم ومراده أصلا ، لأنّ إرادة الرجل من الشجاع من لفظ الأسد معلومة ، وإنّما الشكّ في أمر خارج عن الإرادة ، وهو أنّه هل اعتمد في هذه الإرادة على الوضع أو على القرينة وعلاقة المجاز.

ولا يضرّ في كون المقام من الشبهة المراديّة ، معلوميّة حكم المورد ، لأنّ الشكّ من ناحية الخروج وعدمه يكفي في كونه من الشبهة المراديّة.

وإليه يؤول ما في الدرر من أنّ الإنصاف هو الفرق بين التمسّك بأصالة الحقيقة في مورد القطع بالمراد ، لأنّ المراد الجدّيّ هناك معلوم ، بخلاف المقام ، فيصحّ التمسّك بأصالة العموم لتعيين المراد الجدّيّ ، ولازم ذلك كشف حال الموضوع انتهى.

وأوضح من المقام ، هو ما إذا كان دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص بالنسبة إلى فردين ، كما إذا علمنا بخروج فرد من حكم العامّ ، ولكن دار أمره بين فردين ، أحدهما فرد للعامّ ، والآخر ليس فردا له.

فحينئذ تردّد أمر زيد في قوله ، لا يجب إكرام زيد بين زيد العالم وغيره ، وحيث إنّ الشبهة مراديّة الفرض الشكّ في خروج زيد العالم عن العامّ ، تجري أصالة العموم بالنسبة إليه.

وبذلك يثبت أنّ الخارج هو زيد الجاهل ونتيجة ذلك هو التخصّص.

التنبيه السادس : في مانعيّة العلم الإجمالي عن جريان أصالة عدم التخصيص وعدمها في العمومات.

لا إشكال في عدم المانعيّة ، فيما إذا كان المعلوم بالإجمال حكما غير إلزاميّ كالعلم بعدم وجوب إكرام زيد المردّد بين العالم والجاهل ، فإنّه لا يمنع عن جريان أصالة عدم التخصيص ، والحكم بوجوب الإكرام ، إذ لا يلزم من جريانها مخالفة عملية.

وأمّا إذا كان المعلوم بالإجمال حكما إلزاميّا ، فإن كان بعض الأطراف خارجا

١٤٧

عن أفراد العامّ ، فأصالة عدم التخصيص تجري في العامّ ، إذ لا معارض لها بعد أنّ المفروض ، أنّ الطرف الآخر خارج عن أفراد العامّ ، فإذا قيل ـ لا تكرم زيدا ـ ، ودار أمر زيد بين زيد الجاهل ، وزيد العالم ، تجري أصالة العموم في قوله أكرم العلماء ، ويحكم بوجوب إكرام زيد العالم ، فالعامّ يدلّ بالدلالة المطابقيّة على وجوب إكرام زيد العالم ومقتضى ذلك انتفاء حرمة الإكرام عن إكرام زيد العالم وإثباتها لزيد الجاهل ، وبذلك ينحلّ العلم الإجمالي إلى علمين تفصيليّين ، أحدهما العلم بوجوب إكرام زيد العالم ، وثانيهما العلم بحرمة إكرام زيد الجاهل.

وأمّا إذا كان أطراف المعلوم بالإجمال من أفراد العامّ ، كما إذا قيل لا تكرم زيدا العالم وهو مردّد بين زيدين العالمين فالعلم الإجمالي يمنع عن جريان أصالة عدم التخصيص في كلّ طرف للمعارضة ، نعم لو كان لأحدهما مرجّح فأصالة العموم جارية فيه ويعمّه العامّ.

١٤٨

الفصل الرابع

في جواز العمل بالعامّ قبل الفحص وعدمه

واعلم أنّ الشارع جرت عادته في وضع القوانين وتشريع الشرائع على طريقة كافّة العقلاء فكما أنّ طريقة العقلاء في وضع القوانين المذكورة على ذكر العمومات أو الاطلاقات في فصل أو مادّة وذكر مخصّصاتها أو مقيّداتها أو شرائطها في فصول أو مواد أخر بالتدريج والانفصال ولذا لم يجوّزوا التمسّك بالعمومات أو المطلقات قبل الفحص عن المخصّصات أو المقيّدات لعدم جريان أصالة التطابق بين الإرادة الاستعماليّة وبين الإرادة الجدّيّة فيها ما دامت العمومات أو المطلقات في معرض التخصيص أو التقيّد الموجودين في وقت الأخذ بهما.

فكذلك تكون عادة الشارع وعليه فلا يجوز العمل بالعمومات الشرعيّة ما دام كونها في معرض التخصيص لعدم حجّيّتها بعد عدم جريان أصالة التطابق فيها.

ولقد أفاد وأجاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال إنّ كون العمومات والمطلقات من غير فحص في معرض المعارضات يمنعهم عن إجراء أصالة التطابق بين الاستعمال والجدّ ولا يكون العامّ حجّة إلّا بعد جريان هذا الأصل العقلائي وإلّا فبمجرّد ظهور الكلام وإجراء أصالة الحقيقة والظهور لا تتمّ الحجّيّة فأصالة التطابق من متمّماتها لدى العقلاء (١).

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ٢٧٦.

١٤٩

نعم بعد الفحص اللازم تجري أصالة التطابق وتتمّ الحجّيّة فلو ورد بعد ذلك مخصّص أو مقيّد أو عثرنا عليه اتّفاقا فهو مقدّم على العامّ لا من باب كون العامّ أو المطلق معلّقا على عدم المخصّص أو المقيّد واقعا بحيث يكون العثور عليه أو وروده كاشفا عن عدم حجّيّته بل من باب كون الخاصّ أو القيد أقوى الحجّتين.

ولذا لا يسري إجمال المخصّص أو المقيّد الواردين بعد الفحص إلى العامّ أو المطلق لتماميّة الحجّيّة بالفحص وإجمالهما بعد تماميّة الحجّيّة غير مضرّ.

وممّا ذكر يظهر ما في دعوى أنّ العامّ حجّة في حدّ ذاته ومن حيث هو ولا نقص في حجّيّة الحيثيّة الذاتيّة وإنّما يجب الفحص لأنّ المخصّص لو كان بحيث لو فحص لظفر به كان وجوده الواقعي حجّة يصحّ به العقاب فهو من باب الفحص عن المعارض كما في الخبر الجامع لشرائط الحجّيّة فإنّ الفحص فيه لأجل أنّ الخبر الآخر لو كان بحيث لو فحص لظفر به يكون حجّة فيتفحّص لأجل أن يعامل بما هو قضيّة جمع الحجّتين على النهج المقرّر (١).

وذلك لمنع الحجّيّة مع عدم الفحص لعدم جريان أصالة التطابق قبل الفحص كما عرفت.

فلا يقاس المقام بالخبر الجامع لشرائط الحجّيّة فإنّ جامعيّة الخبر للشرائط توجب حجّيّته في نفسه إذ لا نظر للادلّة إلى مزاحماته ومعارضاته هذا بخلاف المقام فإنّ شرائط الحجّيّة لا تتمّ إلّا بالفحص إذ مع عدمه لا تجري أصالة التطابق بين الإرادة الجدّيّة والاستعماليّة ودعوى أنّ العامّ مستعمل في العموم ويكون العموم مرادا جدّيّا قبل الفحص كما ترى إذ لم يثبت بناء من العقلاء عليه ولا أقلّ من الشكّ وهو كاف في عدم جواز العمل بالعموم قبل الفحص.

__________________

(١) اصول الفقه لشيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره : ٣ / ٣٦٦.

١٥٠

لا يقال إنّ تمام الدخيل في محكوميّة الظواهر بالكاشفيّة الفعليّة إنّما هو ظهورها الاستعمالي في العموم وعدم إقامة قرينة متّصلة على أنّه ليس بمراد جدّا بعد كون المتكلّم في مقام إفادة المرام فكلّ ظاهر إذا كان كذلك فهو واجد لجميع ما هو شرط أن يراه العقلاء كاشفا عن مرام المتكلّم لكنّه إذا كان في قباله كلام منفصل هو كالمخصّص له وكان هذا المنفصل جامعا لمقوّمات الكاشفيّة فلا ريب في أنّه يحكم له بالكاشفيّة عن مرام المولى ومعه فلا يمكن بقاء تلك الكاشفيّة للعامّ مثلا لا لعدم جامعيّته في ذاته لشرائط الكاشفيّة بل لابتلائه بذلك الكاشف الأقوى فهو مزاحم أقوى لكاشفيّته التي هي منشأ انتزاع الحجّيّة (١).

لأنّا نقول والظاهر أنّه لا بناء من العقلاء على جريان أصالة التطابق قبل الفحص فيمن استقرّت عادته على ذكر المخصّصات بالانفصال والمتكلّم وإن كان في مقام إفادة المرام ولكنّه يكون على طريقة العقلاء في ذكر المخصّصات ولا أقلّ من الشكّ وعليه فلا تتمّ الحجّيّة نعم بعد الفحص تتمّ الحجّيّة لأنّ العبرة بالمخصّصات الموجودة واحتمال صدور شيء آخر بعدا لا يضرّ بجريان أصالة التطابق.

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية من أنّ الفحص هاهنا عمّا يزاحم الحجّة بخلاف الفحص في الاصول العمليّة فإنّه عمّا يتمّ الحجّة إذ العقل لا يستقلّ بقبح العقاب مع وجود البيان الواصل بنحو المتعارف وإن لم يصل إلى المكلّف بواسطة عدم فحصه (٢).

لما عرفت من أنّ ظهور الكلام لا يكون حجّة إلّا بأصالة التطابق بين الإرادة الاستعماليّة وبين الإرادة الجدّيّة وهذه الأصالة لا تجري بدون الفحص وحيث أنّها من متمّمات الحجّة فلا وجه للفرق المذكور في الكفاية من أنّ الفحص هاهنا عمّا يزاحم

__________________

(١) تسديد الاصول : ١ / ٥٢٢.

(٢) الكفاية : ١ / ٣٥٤.

١٥١

الحجّة بخلافه هناك فإنّه بدونه لا حجّة فلا تغفل.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الفحص في العمومات التي تكون في معرض المخصّصات الموجودة موجب لتماميّة حجّيّتها بالفعل من دون تعليق فلو ورد مخصّص آخر بعد الفحص اللازم فلا يرتفع حجّيّة العمومات بل تصير مورد مزاحمة حجّة اخرى فيتقدّم الخاصّ على العامّ من جهة كونه أقوى لا من جهة كون الحجّيّة في العامّ معلّقة على عدم ورود الخاصّ.

ثمّ إنّ المناط المذكور في وجوب الفحص للأخذ بالعمومات يجري أيضا في الأخذ بالمطلق قبل الفحص عن المقيّد الموجود إذ لا يتمّ الحجّيّة في المطلق أيضا إلّا بعد الفحص وجريان أصالة التطابق فلا يجوز الأخذ بالمطلق قبل الفحص عن المقيّد الموجود وأمّا بعد الفحص صار المطلق كالعامّ حجّة فعليّة ولا يكون حجّيّته معلّقة على المقيّدات الواقعيّة بحيث لو ظفر بمقيّد بعد الفحص اللازم كشف عن عدم الحجّيّة بل يكون المقيّد مقدّما عليه من باب أقوى الحجّتين.

ولقد أفاد وأجاد في مناهج الوصول حيث قال وقد عرفت عدم حجّيّته عامّ ولا مطلق إلّا بعد الفحص وأمّا بعد الفحص المتعارف فيصيران حجّة فعليّة فلو عثرنا بعده على مقيّد ينتهي به أمد الحجّيّة ولا يكون المطلق معلّقا على عدم البيان الواقعي بحيث يكون العثور عليه كاشفا عن عدم حجّيّته وبالجملة لا فرق بين العامّ والمطلق من هذه الجهة (١).

ثمّ إنّ المناط المذكور لا يجري في حجّيّة الظاهر قبل الفحص عن معارضه لأنّ دليل اعتبار الظاهر لا نظر له بالنسبة إلى معارضاته فيشمله بعد أصالة الظهور أصالة التطابق وهو حجّة ولا يتوقّف حجّيّة الظاهر على الفحص عن معارضاته نعم هذه

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ٢٧٧.

١٥٢

الحجّيّة ذاتيّة ولا ينافي لزوم الفحص عن معارضاته كحجّيّة الأخبار فإنّها ذاتيّة والفحص لأجل أن يجمع بين الحجّتين على النهج المقرّر.

وممّا ذكر يظهر ما في مناهج الوصول حيث ذهب إلى جريان البحث في المقام في الظاهر قبل الفحص عن معارضه أيضا (١).

وفي الختام أذكر نكتة وهي أنّ مناط لزوم الفحص في المنفصلات لا يشمل المتّصلات لأنّ عادة العقلاء وسيرتهم في الاولى على ذكر المخصّصات والقيود مع الانفصال بخلاف المتّصلات وعليه فلا يلزم الفحص عن المخصّص المتّصل باحتمال أنّه كان ولم يصل كما لا يلزم الفحص عن قرينة المجاز بالاتّفاق إذ لو كان مخصّص أو قرينة لذكره متّصلا وحيث لم يكن ذكر منهما علم أنّه لا تخصيص ولا قرينة فينحصر احتمالهما بسقوطه عمدا أو خطأ أو نسيانا وأوّلهما مخالف لفرض وثاقة الرواة والأخيران مخالفان لأصالة عدم الخطأ والنسيان من الاصول العقلائيّة كما أشار إلى ذلك سيّدنا الامام المجاهد قدس‌سره (٢).

نعم يجب الفحص في المتصلات عن القرائن الموجودة في نفس الروايات كصدرها أو ذيلها إذ كثيرا ما يصلح الصدر أو الذيل للقرينيّة ولذلك لا ينبغي تقطيع الروايات لأنّه يوجب حذف ما يصلح للقرينية وقد اهتمّ السيّد المحقّق البروجردي قدس‌سره لرفع هذه النقيصة عن كتاب الوسائل بتأليف جامع الأحاديث شكر الله سعيه.

وأيضا يجب الفحص عن النسخ مع احتمال اختلافها في بعض الفقرات كالزيادة أو النقيصة ونحوهما ممّا له مدخليّة في المراد والمعنى لا سيّما مع العلم بوجود قرينة وفقدها وأمّا إذا كانت القرينة الموجودة مجملة فهي وإن أوجبت التوقّف ولكن

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ٢٧٤.

(٢) مناهج الوصول : ٢ / ٢٧٤.

١٥٣

لا توجب الفحص إذ لا مجال له.

ربما قيل يجب الرجوع إلى المصادر الأوّليّة فإنّه ربّما لتبويبها وفصولها مدخليّة في فهم المراد من الروايات فتأمّل.

ثمّ إنّ مقدار الفحص اللازم متفاوت باختلاف الموارد والمعيار فيه أن يكون إلى حدّ يخرج العموم عن المعرضيّة للتخصيص سواء علم بالعدم أو اطمئنّ به أو ظنّ به إذ العقلاء لا يأخذون بالعموم قبل الفحص أو بعد الفحص الناقص قبل خروج العموم عن المعرضيّة للتخصيص ولا يلزم في ذلك حصول اليأس بل اللازم هو الخروج عن المعرضيّة وإن احتمل وجوده في الواقع بل لو قلنا باشتراط اليأس لزم أن لا يبقى لأصالة عدم التخصيص مورد أصلا إذ قبل الفحص لا تجدي وبعد الفحص لا موضوع لها للعلم أو الاطمئنان بعدم المخصّص وهو كما ترى.

ودعوى أنّ العمومات إذا كانت في معرض التخصيص لم تخرج عن المعرضيّة بالفحص عن مخصّصاتها لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه بل القطع الوجداني بعدم المخصّص لها لا يوجب خروجها عن المعرضيّة فضلا عن الاطمئنان (١).

كما ترى لأنّ المراد من المعرضيّة ليس القابليّة للتخصيص حتّى تكون القابليّة باقية بعد العلم أو الاطمئنان بعدم المخصّص بل المراد من المعرضيّة هو كون العمومات مظانّ للتخصيص فمع الفحص بمقدار لازم خرجت العمومات عن كونها مظانّ لذلك وعليه فيكفي الخروج المذكور في جواز الأخذ بها عند العقلاء فلا تغفل.

__________________

(١) المحاضرات : ٥ / ٢٧١ ـ ٢٧٢.

١٥٤

الخلاصة :

الفصل الرابع

في جواز العمل بالعامّ قبل الفحص وعدمه

ولا يخفى أنّ الشارع جرت عادته في وضع القوانين على طريقة كافّة العقلاء ، فكما أنّ طريقة العقلاء على ذكر العمومات في فصل ، وذكر مخصّصاتها في فصل آخر بالتدريج ، ـ ولذا لم يجوّزوا التمسّك بالعمومات قبل الفحص عن مخصّصاتها ، لعدم جريان أصالة التطابق بين الإرادة الاستعماليّة والجدّيّة ما دام العمومات في معرض التخصيص في وقت الأخذ بها ـ. فكذلك تكون عادة الشارع.

وعليه فلا يجوز العمل بالعمومات الشرعيّة عند كونها في معرض التخصيص ، لعدم حجّيّتها بعد عدم جريان أصالة التطابق فيها ، بل يجب الفحص عن المخصّصات ، نعم بعد الفحص وعدم الظفر بها تجري أصالة التطابق وتتمّ الحجّيّة فلو ورد بعد ذلك مخصّص فهو مقدّم على العامّ من باب كون الخاصّ أقوى الحجّتين ، لا من باب كون العامّ معلّقا على عدم المخصّص واقعا ، بحيث يكون الظفر عليه كاشفا عن عدم حجّيّته.

ولذا ، لا يسري إجمال المخصّص إلى العامّ لتماميّة الحجّيّة بالفحص وإجمال المخصّص بعد تماميّة الحجّيّة غير مضرّ.

ولا يجب الفحص عن المخصّصات المتّصلة ، كما لا يلزم الفحص عن قرينة المجاز إذ لو كان مخصّص متّصل أو قرينة للمجاز لذكره متّصلا وحيث لم يذكره متّصلا علم

١٥٥

أنّه لا تخصيص ولا قرينة على المجاز ، واحتمال وجودهما وإسقاطهما عمدا مخالف لوثاقة الرواة ، كما أنّ احتمال الخطأ والنسيان لا يساعده أصالة عدم الخطأ والنسيان.

نعم ، يجب الفحص عن القرائن الموجودة في نفس الروايات كصدرها ، أو ذيلها ، إذ كثيرا ما يصلح الصدر ، أو الذيل للقرينيّة ولذا لا يجوز الاكتفاء بالمقطّعات من الروايات ، وأيضا يجب الفحص عن النّسخ مع احتمال اختلافها في بعض الفقرات ، كالزيادة أو النقيصة ونحوهما ، مما له مدخليّة في المعنى ، لا سيّما مع العلم بوجود قرينة وفقدها.

بل ذهب بعض إلى لزوم الرجوع إلى المصادر الأوليّة ، معلّلا بأنّ لتبويبها وفصولها مدخليّة في فهم المراد من الروايات ، فتأمّل.

ثمّ إنّ مقدار الفحص اللازم متفاوت باختلاف الموارد ، والمعيار فيه ، أن يكون الفحص إلى حدّ يخرج العموم عن كونه مظنّة للتخصيص ، فيكفي الخروج المذكور في جواز الأخذ به ، فلا تغفل.

١٥٦

الفصل الخامس : في عموميّة التكاليف

والخطابات لغير الموجودين والحاضرين

والبحث فيه ينبغي أن يقع في مقامين :

المقام الأوّل : الظاهر أنّ التكاليف التي لا تكون مقرونة بأداة الخطاب أو حروف الخطاب وليست بصيغ الأمر والنهي كقوله تعالى (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) أو قوله عزوجل (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) تكون بنحو القضيّة الحقيقيّة فلا تختصّ بالمشافهين بل يعمّ المعدومين والغائبين.

ربّما يشكل تعميم هذه التكاليف بالنسبة إلى المعدومين بأنّ تكليف المعدوم فعلا وفي حال عدمه لا يكون معقولا إذ البعث والزجر الفعلي بالنسبة إلى المعدوم يستلزم الطلب منه حقيقة ولا يكاد يكون الطلب كذلك إلّا من الموجود بالضرورة.

والجواب عنه واضح بأنّ مصاديق العناوين كعنوان الناس والمستطيع ونحوهما من موضوعات التكاليف منحصرة في الموجودين اذ المصداق لا يكون غير الموجود وكلّ طبيعة في القضيّة الحقيقيّة تحكي عن مصاديقها والمعدومات ليست بمصاديق لها وحيث لم يتقيّد الطبيعة بما يجعلها منحصر الانطباق على المصاديق المتحقّقة فعلا فلا محالة تعمّ مصاديقها بالنسبة إلى كلّ موجود في موطنه من الماضي والحال والاستقبال فالنظر في القضايا الحقيقيّة إلى الموجودين ولو كان الموجود في المستقبل معدوما في الحال ولكنّ التكليف متعلّق بحيثيّة وجوده لا بعدمه.

وعليه فشمول التكليف لغير الموجودين بالفعل والحاضرين لا مانع فيه

١٥٧

بحسب الثبوت.

ولقد أفاد وأجاد في نهاية الاصول حيث قال الذي يصحّ في المقام ويعقل تحقّقه من المولى الحكيم هو إنشاء التكليف بالنسبة إلى المكلّف بنحو القضيّة الحقيقيّة بحيث يشمل الموجود والمعدوم لكن لا بلحاظ ظرف عدمه بل في ظرف وجوده وفرض تحقّقه ففي قوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ليس وجوب الحجّ مقصورا على من وجد واستطاع حال نزول الآية بل الحكم فيها يعمّ الموجود والمعدوم حاله ولكنّ المعدوم في ظرف عدمه لا يكون مشمولا للحكم الفعلي ولا الإنشائي وإنّما يصير مشمولا له على فرض تحقّقه ووجوده بداهة أنّ الموضوع للحكم الإنشائي والفعلي في الآية هو من كان من الناس وصدق عليه عنوان المستطيع والمعدوم في رتبة عدمه ليس من أفراد الناس ولا يصدق عليه أنّه مستطيع فلا تعقل سراية الإنشاء إليه فإنّ الحكم المنشأ لا يسري من موضوعه إلى شيء آخر نعم إنّما يصير المعدوم حال الخطاب في ظرف وجوده وتحقّق الاستطاعة له مصداقا لما هو الموضوع في الآية فيتحقّق حينئذ بالنسبة إليه التكليف الإنشائي وبتحقّق سائر الشرائط العامّة يصير فعليّا.

والحاصل أنّ المعدوم في ظرف عدمه ليس موردا للتكليف بكلا قسميه وبعد وجوده وصيرورته مصداقا لما هو الموضوع يصير موردا له (١).

ومقتضى ما ذكر أنّ القضيّة حقيقيّة والحكم فيها متعلّق بالمصاديق الموجودة والقضيّة المذكورة فعليّة بالنسبة إلى المصاديق الموجودة وإنشائيّة بالنسبة إلى ما سيوجد في ظرف وجوده وعليه فلا يتعلّق الحكم بالمعدوم وأيضا لا حاجة في إمكان تعلّق التكليف بالنسبة إلى غير الموجودين بالفعل إلى تعليق التكليف الفعلي بالموجود

__________________

(١) نهاية الاصول : ١ / ٣٥٠.

١٥٨

الاستقبالي نظير الواجب المعلّق كما ذهب إليه المحقّق الاصفهاني قدس‌سره بدعوى أنّ إرادة شيء فعلا ممّن يوجد استقبالا كإرادة ما لم يمكن فعلا بل يمكن تحقّقه استقبالا إذ المراد منه كالمراد ليس موضوعا للإرادة كي يتوهّم أنّه من باب العرض بلا موضوع بل موضوعها النفس والمراد منه كالمراد تتقوّم به الإرادة الخاصّة في مرتبة وجودها لا في مرتبة وجودهما وهكذا البعث فإنّه فعل قائم بالفاعل وله تعلّق في مرتبة وجوده الاعتباري بالمبعوث والمبعوث إليه وليس كالتحريك الخارجي المماسّ بالمحرّك والمتحرّك (١).

هذا مضافا إلى ما فيه من أنّ قوام الأمر الاعتباري عند العقلاء بفعليّة وجود المكلّف مع واجديّته للشرائط اللهمّ إلّا أن يقال أنّ وجود المكلّف مفروض في ظرفه وهو كاف في صحّة الاعتبار ولا يلزم في الاعتبار ، الوجود الفعليّ ولذا صحّت القضايا الحقيقيّة بالنسبة إلى مصاديق موضوعاتها مع أنّ تلك المصاديق موجودة بحسب ظروفها.

وأيضا لا وقع لما في الكفاية في الجواب عن الشبهة من أن يكون التكليف مجرّد إنشاء الطلب بلا بعث ولا زجر بدعوى أنّ ذلك لا استحالة فيه أصلا فإنّ الإنشاء خفيف المئونة فالحكيم تبارك وتعالى ينشأ على وفق الحكمة والمصلحة طلب شيء قانونا من الموجود والمعدوم حين الخطاب ليصير فعليّا بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع بلا حاجة إلى إنشاء آخر فتدبّر (٢).

وذلك كما في نهاية الاصول من جهة أنّه إن اريد به إنشاء الطلب منه في ظرف عدمه بأن يكون في حال العدم موضوعا للتكليف الإنشائي فهو أيضا غير صحيح إذ

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ١٩٩.

(٢) الكفاية : ١ / ٣٥٥.

١٥٩

لا يترتّب عليه الانبعاث ولا غيره من دواعي الإنشاء حال كونه معدوما وانبعاثه في ظرف وجوده وتحقّق شرائط التكليف فيه ليس من فوائد إنشاء الطلب منه في ظرف العدم بل هو من الآثار المترتّبة على إنشاء الطلب من المكلّف على فرض وجوده (١).

هذا مضافا إلى ما عرفت من أنّ موضوع القضيّة الحقيقيّة ليس أعمّ من الموجود والمعدوم بل هو الطبيعة بما هي مرآة وحاكية عن مصاديقها وهي الأفراد الموجودة بحسب ظروفها وممّا ذكر أيضا ينقدح أنّه لا وجه صحيح لتوجيه التكليف إلى المعدوم بكونه مشروطا بوجوده وواجديّة الشرائط كما في الكفاية أيضا (٢).

لأنّ المعدوم لا يصلح للتوجيه نحوه بل المعقول هو توجيه التكليف إلى العنوان الكلّي بنحو القضيّة الحقيقيّة بحيث كلّما وجد فرد من الموضوع يصير موردا للحكم كما أفاده في نهاية الاصول (٣) على أنّك عرفت أنّ المعدوم ليس بمصداق للموضوع في القضايا الحقيقيّة وأيضا أنّ القضايا ليست بمشروطة وإن أمكن تحليلها إليها في العقل وهكذا لا وقع لتنزيل المعدوم بمنزلة الموجود.

لما عرفت من عدم الحاجة إلى التنزيل لأنّ مصاديق الطبيعة ليست إلّا الموجودة في الحال والاستقبال ومع كون مصاديقها هي الموجودة لا حاجة إلى التنزيل كما لا يخفى.

ولقد أفاد وأجاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال وإضافة كلّ إلى الطبيعة تدلّ على كون الاستغراق متعلّقا بما يتلوه ولمّا لم يتقيّد بما يجعله منحصر الانطباق على الأفراد المحقّقة فلا محالة يكون الحكم على كلّ فرد منه في الماضي والحال والاستقبال كلّ في موطنه فالعقل يحكم بامتناع الصدق على المعدوم فلم تكن الطبيعة طبيعة ولا

__________________

(١) نهاية الاصول : ١ / ٣٥٠.

(٢) نهاية الاصول : ١ / ٣٥٦.

(٣) نهاية الاصول : ١ / ٣٥١.

١٦٠