عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

فلا يبقى مع التقييد بأحدهما مجال للاطلاق والتقييد بالاضافة إلى الآخر (١).

حاصله أنّ العدم النعتي والعدم المحمولي متلازمان فكلّ واحد منهما يغني عن الآخر فمع تقييد الموضوع بأحدهما لا مجال للاطلاق والتقييد بالنسبة إلى الآخر وعليه فإذا كان الموضوع في العامّ مركّبا ومتقيّدا بعدم الاتّصاف بعنوان الخاصّ لكونه أقلّ مئونة لا يبقى محلّ لتقييد الموضوع بالاتّصاف أو إطلاقه من جهة الاتّصاف وعدمه حتّى يلزم المحاذير المذكورة وعليه فمع التقيّد بعدم اتّصاف الموضوع فالموضوع مركّب ويجري فيه استصحاب العدم الأزلي.

وربّما يقال يمكن توجيه كلام المحقّق النائيني قدس‌سره بنحو لا تتوجّه عليه هذه الايرادات بل تندفع بحذافيرها.

بيان ذلك : أنّ مرتبة الجزء متقدّمة على مرتبة الكلّ والأمر الذي يؤخذ جزءا لا بدّ أن يلحظ في مرحلة جزئيّته بالاضافة إلى جميع صفاته لاحتمال دخل بعضها في جزئيّته وترتّب أثره الضمني إذ قد لا تكون ذات الجزء بدون وصف خاصّ جزءا وذات أثر ضمني.

ثمّ بعد تكميل جهة جزئيّته وأخذه جزءا مطلقا أو مقيّدا ببعض الصفات تصل النوبة إلى لحاظه بالاضافة إلى الأجزاء الاخرى وأخذه معها بلحاظ ترتيب أثر الكلّ لما عرفت أنّ الجزء أسبق رتبة من الكلّ فلحاظه بخصوصيّاته بما هو جزء في نفسه أسبق من لحاظه مع الأجزاء الاخرى الذي هو عبارة اخرى عن لحاظ الكلّ.

وعليه فيمكن أن يكون نظر المحقّق النائيني قدس‌سره إلى هذا المعنى وأنّ أخذ الموضوع مع عدم وصفه بنحو التركيب يستلزم أوّلا لحاظ الموضوع بكامل خصوصيّاته وفي مرحلة جزئيّته فإذا فرض دخالة عدم الوصف في تأثيره كان مقيّدا

__________________

(١) المحاضرات : ٥ / ٢٢١.

١٠١

به ولم يكن مطلقا ومع تقييده به أغنى عن أخذ عدم الوصف جزء ولحاظه كذلك أسبق رتبة من لحاظه مع عدم الوصف بنحو المقارنة لما عرفت من اسبقيّة الجزء رتبة من الكلّ.

وعليه فلا يرد إشكال التهافت أو اللغويّة لأنّ ملاحظة الجزء بالاضافة إلى أوصافه وتقييده بها وجودا وعدما أسبق رتبة من ملاحظته بالاضافة إلى مقارناته فلا تصل النوبة إلى أخذ العدم جزءا كما لا يستلزم منه إنكار جميع الموضوعات المركّبة حتّى لا يكون هناك موضوع مأخوذ بنحو التركيب بل تكون مأخوذة بنحو التوصيف دائما.

وذلك لأنّ وصف المقارنة وصف انتزاعيّ لا دخل له في التأثير إلّا بلحاظ منشأ انتزاعه وهو ليس إلّا عبارة عن وجود أحد الجزءين عند وجود الآخر وهذا ليس إلّا تركّب الموضوع من الجزءين هذا.

ولكن اجيب عنه بأنّ ملاحظة الموضوع مع عدم الوصف لا يلازم تقييده به وإن كان دخيلا في التأثير إذ يمكن أن لا يكون دخيلا في تحقّق أثر الجزء ولكنّه دخيل في تحقّق أثر الكلّ فيكون الجزء مطلقا بالإضافة إليه بلحاظ جزئيّته وأثره الضمني.

ولكنّه مقيّد به لأخذه جزءا آخر بلحاظ أثر الكلّ ودخالته في تحقّقه فلا ملازمة بين لحاظه وبين أخذه قيدا كما لا منافاة بين إطلاق الجزء بلحاظ جزئيّته بالاضافة اليه وتقييده به بلحاظ أثر الكلّ هذا مضافا إلى أنّ عدم الوصف لو فرض أنّه دخيل في تأثير الجزء بما هو جزء فغاية ما يقتضي ذلك هو تقييد الجزء به أمّا أنّه يؤخذ بنحو التوصيف أو بنحو التركيب فهو أجنبيّ عن مفاد هذا البرهان ولا ملازمة بين التقييد وبين أخذه بنحو التوصيف.

وبالجملة وقع الخلط بين الوصف والاتّصاف والذي لا بدّ من ملاحظته في الجزء سابقا على لحاظ الكلّ هو أوصاف الجزء وهو لا يلازم أخذها على تقدير

١٠٢

دخالتها بنحو الاتّصاف فتدبّر جيّدا (١).

وبعبارة اخرى أنّ ملاحظة عدم الوصف في الجزء ولو مع مدخليّته في تأثير الجزء لا يلازم تقييد الجزء به بالحمل الأوّلي لأنّ ملاحظة عدم الوصف بنحو القضيّة الحينيّة لا تقتضي تقييدا في الجزء بالنسبة إلى عدم الوصف نظير ملاحظة الايصال في المقدّمات الموصلة فكما أنّ المقدّمات الموصلة ليست مطلقة ولا مقيّدة ولكن لا تنطبق إلّا على المتقيّدة فكذلك الجزء الملحوظ حين عدم الوصف ليس مطلقا ولا متقيّدا وإن كان لا ينطبق إلّا على المتقيّد وعليه فلا ينافي اللحاظ المذكور مع اعتبار عدم الوصف عدما محموليّا بنحو التركيب إذ لا إطلاق حتّى ينافيه ولا تقييد بالحمل الأوّلي في اللحاظ المذكور حتّى يلزم اللغويّة في اعتبار التركيب بل هو لحاظ عدم الوصف مع الجزء وهو يساوي التركيب وعليه فلا حاجة في نفي التقييد إلى استناد التأثير إلى الكلّ بل يمكن نفي التقييد ولو كان مع مدخليّة الوصف في تأثير الجزء اذ عدم الوصف ملحوظ بنحو القضيّة الحينيّة كما لا يخفى.

فتحصّل أنّه لا دليل على لزوم اتّصاف العامّ بعدم الخاصّ حتّى لا يمكن اثباته باستصحاب العدم الأزلي في الأوصاف المقرونة كالقرشيّة بل اللازم هو ملاحظة عدم الخاصّ مع العامّ وهو يساوي التركيب هذا مضافا إلى أنّ العدم بما هو العدم لا يكون وصفا للشيء فإنّه بطلان محض فلا بدّ من أخذه نعتا من اعتبار خصوصيّة في الموضوع ملازمة لذلك العدم ومن المعلوم أنّه مئونة فوق مئونة كما لا يخفى.

ومنها ما حكاه المحقّق الاصفهاني قدس‌سره من أنّ الحاجة إلى أصل العدم الأزليّ إنّما هو للفراغ عن حكم الخاصّ لا للإدخال تحت العموم لصدق عنوان العامّ بلا حاجة إلى الأصل.

__________________

(١) منتقى الاصول : ٣ / ٣٥٠ ـ ٣٥٤.

١٠٣

وعنوان الخاصّ لا ينفى بالأصل المذكور إذ الانتساب وكون المرأة من قريش لا يكون موضوعا بوجوده المحمولي بل بوجوده الرابط فنفي كونه المحمولي ليس نفيا لعنوان الخاصّ حتّى ينفى به حكمه بل ملازم له بداهة عدم إمكان الكون الرابط مع نفي الكون المحمولي عقلا فالأصل بالنسبة إلى عنوان الخاصّ مثبت (١).

وعليه فلا مجرى لأصل العدم الأزلي لا في الخاصّ ولا في العامّ أمّا العامّ فلعدم الحاجة إليه في الصدق وأمّا الخاصّ فلأنّ الأصل مثبت.

ويمكن أن يقال ليس الغرض من الأصل إحراز نقيض الخاصّ حتّى يلزم منه أن يكون الأصل مثبتا بل الغرض هو إحراز عنوان العامّ بنحو التركيب الذي يكون مضادّا لعنوان الخاصّ وهو المراد الجدّي والعامّ لا يصدق باعتبار هذا العنوان الذي يكون مرادا جدّيّا على الفرد المشكوك وإن صدق عليه بحسب الإرادة الاستعماليّة فيحتاج في تطبيق العامّ عليه إلى الأصل المزبور ولا يلزم منه محذور ولعلّ إليه يؤوّل ما أفاده المحقّق الاصفهاني قدس‌سره من أنّه ليس الغرض من الأصل هنا وفي أمثاله نفي عنوان الخاصّ به بدوا بل إحراز عنوان مضادّ لعنوان الخاصّ من العناوين الداخلة تحت العموم فينفي حكم الخاصّ بمضادّة هذا العنوان المحرز المحكوم بخلاف حكمه فما هو المترتّب على الأصل بلا واسطة شيء هو حكم العامّ الثابت له بأيّ عنوان غير العنوان الخارج وثبوت هذا الحكم لهذا الموضوع المضادّ للعنوان الخارج يوجب نفي ضدّه وهو حكم الخاصّ (٢).

لا يقال يمكن نفي عنوان الخاصّ أيضا فإنّ نقيض الوجود الرابط عدمه لا العدم الرابط والوجود الرابط مسبوق بالعدم وإن لم يكن مسبوقا بالعدم الرابط وعليه

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ١٩٣.

(٢) نهاية الدراية : ٢ / ١٩٣.

١٠٤

فلا وجه لتخصيص الغرض من الأصل باحراز عنوان مضادّ لعنوان الخاصّ من العناوين الداخلة تحت العامّ.

لأنّا نقول استصحاب عدم الوجود الرابط لنفي عنوان الخاصّ عن المرأة الموجودة غير جار لأنّه مثبت ولعلّ إليه يرجع ما أفاده المحقّق الاصفهاني قدس‌سره من أنّ اللازم نفي عنوان الخاصّ عن المرأة حتّى ينفي حكمه عنها فاللازم أن يصدق عليها أنّها ليست بقرشيّة مثلا وإلّا فعدم وجود المرأة القرشيّة لا يجدي في حكم هذه المرأة نفيا واثباتا (١).

كما لا يجدي استصحاب عدم الكرّيّة أزلا لاثبات عدم كرّيّة هذا الماء المخلوق ساعة.

لا يقال فكذا عدم الانتساب في جانب العامّ فإنّ ذات القيد وإن كان قابلا للاستصحاب إلّا أنّ التقيّد به لا وجدانيّ ولا تعبّديّ إذ التقيّد به ليس على وفق الأصل.

لأنّا نقول كما أفاده المحقّق الاصفهاني قدس‌سره إنّ التقيّد به بمعنى ارتباط العدم به غير لازم وبمعنى عدم الانتساب لها بنفسه متيقّن فيستصحب واضافة عدم الانتساب إلى المرأة الموجودة لازمة في ظرف ترتّب الحكم وهو ظرف التعبّد الاستصحابي لا ظرف اليقين حتّى ينافي كونه من باب السالبة بانتفاء الموضوع في ظرف اليقين فتدبّره فإنّه حقيق به (٢).

ومنها ما في نهاية الاصول من أنّه يرد على القول بعدم التعنون وكون عنوان العامّ تمام الموضوع أنّ معنى تماميّة العنوان في الموضوعيّة دوران الحكم مداره وجودا

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ١٩٣.

(٢) نهاية الدراية : ٢ / ١٩٣ ـ ١٩٤.

١٠٥

وعدما والمفروض فيما نحن فيه خلاف ذلك فإنّ عنوان العامّ متحقّق في ضمن أفراد المخصّص أيضا وليست مع ذلك محكومة بحكمه.

وبعبارة أوضح في مقام الثبوت والإرادة الجدّيّة إمّا أن يكون تمام الملاك في وجوب الإكرام مثلا هو حيثيّة العالميّة فقط.

وإمّا أن لا يكون كذلك بل يشترط في ثبوت الحكم للعالم عدم كونه فاسقا.

فعلى الأوّل لا معنى للتخصيص.

وعلى الثاني لا يكون عنوان العامّ بنفسه تمام الموضوع بل يشترط في ثبوت الحكم له عدم عنوان المخصّص بالعدم النعتي او المحمولي فعدم المخصّص إجمالا بأحد النحوين دخيل ثبوتا وهذا معنى التعنون وعدم كونه تمام الموضوع.

ثمّ إنّ الظاهر دخالة العدم بعدم النعتيّة والربطيّة فإنّ حكم المخصّص ثابت لوجوده الربطي وانتفاء الوجود الربطي بالعدم الربطي.

فالتحيّض إلى الستّين مثلا ثابت للمرأة الموصوفة بالقرشيّة وبإزاء هذا الوجود الربطي العدم الربطي فبضمّ المخصّص إلى العامّ يستظهر أنّ التحيّض إلى الخمسين إنّما يكون للمرأة الموصوفة بعدم الانتساب إلى قريش فيتعنون الموضوع بالعدم الربطي والنعتي وقد عرفت أنّه لا مجال للاستصحاب في ذلك إلّا إذا كان بنحو الربطيّة متيقّنا في السابق مع وجود الموضوع (١).

وفيه أنّ دعوى انتفاء الوجود الرابطي بالعدم الرابطي بحيث يكون مقتضاه هو اتّصاف موضوع العامّ بعدم وصف الخاصّ حتّى لا يجري فيه استصحاب العدم الأزلي لعدم الحالة السابقة. مندفعة بأنّ نقيض كلّ شيء رفعه وعليه فيكون نقيض الوجود الرابطي عدمه ومن المعلوم أنّ عدم الوجود الرابطي يكون أعمّ من العدم المحمولي

__________________

(١) نهاية الاصول : ١ / ٣٣٩.

١٠٦

والمأخوذ في جانب العامّ هو نقيض الخاصّ لا العدم الرابطي إذ لا ملزم له بل لا حاجة إليه لأنّ الخاصّ بمنزلة المانع والعامّ بمنزلة المقتضي والمقتضي لا يحتاج في اقتضائه إلى الاتّصاف بعدم المانع بل اللازم هو عدم الاتّصاف بالمانع وهو يساوي تركيب موضوع العامّ عن وجود المرأة وعدم اتّصافها بالمانع وعدم اتّصافها بالمانع له حالة سابقة لأنّه عدم محمولي فيمكن استصحابه كما لا يخفى.

لا يقال إنّ العدم المحمولي غير المنتسب بالمرأة الموجودة لا يكون موضوعا لحكم العامّ لأنّا نقول يكفي إضافة العدم المحمولي إلى المرأة الموجودة في ظرف التعبّد بالاستصحاب ولا حاجة إلى الاضافة المذكورة في ظرف اليقين حتّى ينافي كونه من باب السالبة بانتفاء الموضوع فتحصّل أنّ دخالة عدم الوصف في تأثير موضوع العامّ بنحو دخالة عدم المانع فلا وجه لاعتبار الاتّصاف بعدم الوصف إذ لا دخالة للاتّصاف في اقتضاء المقتضي وهو الموضوع كما لا يخفى.

ومنها ما أفاده استاذنا الأراكي قدس‌سره في الدورة الاولى من أنّه تارة يقال زيد وينظر إليه بنظر الفراغ عن وجوده التحقيقي أو التقديري ليس له القيام واخرى يقال قيام زيد وينظر إلى ماهيّة زيد بدون اعتبار الوجود أصلا ليس بموجود في العالم فهذا إن لم يكن زيد موجودا يكون صادقا وإن كان موجودا ولم يكن قائما أيضا يكون صادقا والتعبير الحاكي عن هذا قولنا ليس زيد قائما فكأنّه قيل ليست هذه القضيّة بموجودة.

كما أنّ التعبير الحاكي عن الأوّل زيد ليس له القيام ويقال له باصطلاح المنطقيّين القضيّة الموجبة السالبة المحمول.

إذا عرفت هذا فنقول السلب على النحو الأوّل ليس له حالة سابقة بالفرض والثاني وإن كان له حالة سابقة لكن لم يؤخذ في الدليل موضوعا في الغالب.

وإثبات الأوّل باستصحاب الثاني لا يتمّ إلّا على الأصل المثبت.

١٠٧

مثلا عموم ما دلّ على أنّ منتهى الحيض في كلّ مرأة هو الخمسون قد خصّص بالقرشيّة فيكون مفادها بعد هذا التخصيص أنّ كلّ امرأة لا تكون قرشيّة ترى الحمرة إلى الخمسين.

ولا شكّ أنّ هذا السلب إنّما هو على نحو السلب بانتفاء المحمول من الموضوع المفروغ الوجود.

وهذا ليس له في المرأة المشكوكة حالة سابقة إذ لم يصدق في زمان هذه المرأة ليست بقرشيّة قطعا بل الشكّ سار إلى أوّل أزمنة وجودها.

نعم استصحاب عدم تحقّق النسبة بين هذه المرأة وبين قريش كان له حالة سابقة لكنّ المفروض أنّ المستفاد من الدليل هو السلب على النحو الآخر لا على هذا النحو فهذا السلب لا أثر له شرعا.

وبعبارة اخرى ليس الأثر لعدم تحقّق النسبة بين المرأة وقريش بل لعدم كون المرأة الموجودة إمّا فعلا وإمّا تقديرا قرشيّة والاستصحاب إنّما هو جار في الأوّل دون الثاني وحيث إنّ الغالب في القضايا السالبة الشرعيّة هو كون السلب مأخوذا على النحو الأوّل أعني السلب بانتفاء المحمول فلهذا قلّما يتّفق أن يكون هذا الاستصحاب الموضوعي نافعا لتنقيح كون الفرد المشكوك باقيا تحت العامّ (١).

وفيه أنّ دعوى الغلبة في أخذ السلب بنحو الموجبة السالبة المحمول في طرف العامّ أوّل الكلام ، بل الأمر بالعكس لأنّ عدم اتّصاف عنوان العامّ بوصف الخاصّ أخفّ مئونة كما عرفت من اتّصافه بعدم الوصف هذا مضافا إلى ما في اتّصاف الشيء بالعدم مع أنّه بطلان محض فلا بدّ في أخذه نعتا من اعتبار خصوصيّة في الموضوع ملازمة لذلك العدم وهو مئونة فوق مئونة.

__________________

(١) اصول الفقه : ١ / ٢٩٤.

١٠٨

وعليه فالعامّ بعد التخصيص معنون بنحو التركيب من وجود عنوان العامّ وعدم الخاصّ مثل كلّ امرأة موجودة مع عدم انتسابها إلى قريش ترى الحمرة إلى الخمسين لا بنحو الاتّصاف كما مثّله شيخنا الاستاذ من كلّ امرأة موجودة لا تكون قرشيّة ترى الحمرة إلى الخمسين.

ولعلّه لذلك عدل عن دعوى الغلبة في الدورة الأخيرة وقال إن استظهر من الأدلّة أنّ المقصود من السالبة هو سلب النسبة فقط الذي يتحقّق بأحد الأعدام الثلاثة جرى الاستصحاب وإلّا فإن استظهر منها ما إذا قصد رفعها عن موضوع محفوظ الوجود ولو لم يكن القضيّة بصورة معدولة المحمول فإن كانت هنا حالة سابقة للعدم الأزلي فهو وإلّا فلا مجال للاستصحاب (١).

ولا كلام فيما عدل إليه إلّا من جهة أنّ الأولى هو أن يقال إنّ العامّ بعد التخصيص معنون بعنوان تركيبي لكونه أخفّ مئونة إلّا إذا قامت القرينة على أنّه معنون بنحو القضيّة السالبة المحمول أو الايجاب العدولي فلا تغفل.

ومنها ما في الدرر من أنّه قد يستظهر من مناسبة الحكم والموضوع في بعض المقامات أنّ التأثير والفاعليّة ثابت للموضوع المفروغ عن وجوده عند اتّصافه بوصف كما في قضيّة «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجسه شيء» ولهذا لا يجدي استصحاب عدم الكرّيّة من الأزل.

وقد يستظهر من المناسبة المذكورة أنّ التأثير ثابت لنفس الوصف والموضوع المفروغ عن وجوده إنّما اعتبر لتقوّم الوصف به كما في قوله عليه‌السلام المرأة ترى الدم إلى خمسين إلّا أن تكون قرشيّة حيث إنّ حيضيّة الدم إلى الستّين إنّما هي من خاصيّة التولّد من قريش لا أنّ المرأة لها هذه الخاصيّة بشرط التولّد فانتفاء هذا الوصف

__________________

(١) اصول الفقه : ٣ / ٣٥٧ ـ ٣٥٨.

١٠٩

موجب لنقيض الحكم ولو كان بعدم الموضوع ولهذا يكون استصحاب العدم الأزلي نافعا (١).

وفيه أوّلا أنّ المأخوذ في طرف العامّ هو عدم الاتّصاف لكونه أخفّ مئونة ولو كان المأخوذ في طرف الخاصّ هو الاتّصاف مع الموضوع المفروغ الوجود وعليه فلا يتوقّف جريان استصحاب العدم الأزلي على ما إذا كان التأثير في جانب الخاصّ لنفس الوصف دون الموصوف وعليه فالمأخوذ في عموم الماء المنفعل هو الماء وعدم الكرّيّة لكونه أخفّ مئونة وإن كان التأثير ثابتا في جانب الخاصّ للماء المتّصف بالكرّيّة فلا تغفل.

وثانيا أنّ تخصيص التأثير في جانب الخاصّ بنفس الوصف دون الموصوف كما ترى بداهة مدخليّة كون الموصوف امرأة ولذا لا يتعدّى الحكم عنها إلى غيرها (٢).

اللهمّ إلّا أن يكون مقصوده نفي التأثير عن المرأة المقيّدة بشرط التولّد لا مطلق المرأة ولو بنحو التركيب كما لعلّه الظاهر من العبارة.

وثالثا : أنّ صرف نفي أحد الضدّين لا يثبت الضدّ الآخر أعني التحيّض إلى خمسين (٣).

اللهمّ إلّا أن يقال إنّ المراد أنّ نفي الاتّصاف بالقرشيّة مثلا مع وجود المرأة يوجب تنقيح موضوع العامّ بعد تعنونه بورود الخاصّ بالمرأة الموجودة وعدم اتّصافها بالقرشيّة ومع تنقيح موضوع العامّ يدلّ العامّ على التحيّض إلى خمسين وهو نقيض الحكم بالتحيّض إلى الستّين فمع ثبوت الحكم بالحيض إلى خمسين ينتفي الحكم بالتحيّض إلى الستّين.

__________________

(١) الدرر : ١ / ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٢) راجع تسديد الاصول : ١ / ٢١٩.

(٣) تسديد الاصول : ١ / ٥١٤.

١١٠

ومنها ما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد الخميني قدس‌سره وحاصله أنّ القيد في العامّ بعد التخصيص يتردّد بين التقييد بنحو الايجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول ولا يكون من قبيل السلب التحصيلي ممّا لا يوجب تقييدا في الموضوع لأنّه غير معقول للزوم جعل الحكم على المعدوم بما هو معدوم فهل يمكن أن يقال إنّ المرأة ترى الدم إلى خمسين إذا لم تكن من قريش بنحو السلب التحصيليّ الصادق مع سلب الموضوع فيرجع إلى أنّ المرأة التي لم توجد ترى الدّم فلا بدّ من فرض وجود الموضوع ومع فرض وجود الموضوع لا يخلو إمّا عن الايجاب العدولي أو الموجبة السالبة المحمول.

ولو سلّم أنّ الموضوع بعد التخصيص (هو العالم مثلا) مسلوبا عنه الفسق بالسلب التحصيلي.

ففيه مضافا إلى كونه مجرّد فرض أنّ صحّة الاستصحاب فيه منوطة بوحدة القضيّة المتيقّنة مع المشكوك فيها وهي مفقودة لأنّ الشيء لم يكن قبل وجوده شيئا لا ماهيّة ولا وجودا والمعدوم لا يقبل الإشارة لا حسّا ولا عقلا فلا تكون هذه المرأة الموجودة قبل وجودها هذه المرأة بل تكون تلك الإشارة من أكذوبة الواهمة واختراعاتها.

فالمرأة المشار إليها في حال الوجود ليست موضوعة للقضيّة المتيقّنة الحاكية عن ظرف العدم لما عرفت أنّ القضايا السالبة لا تحكي عن النسبة ولا عن الوجود الرابط ولا عن الهوهويّة بوجه.

ومناط الصدق والكذب في السوالب مطابقة الحكاية التصديقيّة لنفس الأمر بمعنى أنّ الحكاية عن سلب الهوهويّة أو سلب الكون الرابط كانت مطابقة للواقع لا بمعنى أنّ لمحكيها نحو واقعيّة بحسب نفس الأمر ضرورة عدم واقعيّة للأعدام.

وعليه فلا تكون للنسبة السلبيّة واقعيّة حتّى تكون القضيّة حاكية عنها فانتساب هذه المرأة إلى قريش مسلوب أزلا بمعنى مسلوبيّة «هذية» المرأة

١١١

و «القرشيّة» والانتساب لا بمعنى مسلوبيّة الانتساب عن هذه المرأة وقريش وإلّا يلزم كون الأعدام متمايزة حال عدمها وهو واضح الفساد.

وعليه فالقضيّة المتيقّنة غير القضيّة المشكوك فيها بل لو سلّم وحدتهما كان الأصل مثبتا لأنّ المتيقّن هو عدم كون هذه المرأة قرشيّة باعتبار سلب الموضوع أو الأعمّ منه ومن سلب المحمول.

واستصحاب ذلك واثبات الحكم للقسم المقابل أو للأخصّ مثبت لأنّ انطباق العامّ على الخاصّ في ظرف الوجود عقلي وهذا كاستصحاب بقاء الحيوان في الدار واثبات حكم قسم منه بواسطة العلم بالانحصار.

فقد اتّضح ممّا ذكرنا عدم جريان استصحاب الأعدام الأزليّة في أمثال المقام مطلقا (١).

ويمكن أن يقال أوّلا أنّ الامور المذكورة أجنبيّة عن فرض التركيب فإنّ الموضوع إذا كان مركّبا من الأمر الوجوديّ والعدميّ كوجود المرأة وعدم اتّصافها بالقرشيّة أمكن إحرازه بالوجدان والأصل فإنّ وجودها وجدانيّ وعدم اتّصافها بالقرشيّة محرز بأصل العدم الأزلي لأنّ هذه المرأة لم تكن موجودة ولا متّصفة في الأزل والآن كانت كذلك فعدم اتّصافها بالقرشيّة مسبوق بالعلم فيستصحب حتّى بعد وجودها لوحدة الموضوع في القضيّة المشكوكة والمتيقّنة إذ الموضوع في كليهما هو ماهيّة هذه المرأة.

ودعوى أنّ العامّ بعد الخاصّ يتردّد أمره بين الايجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول مندفعة بأنّ العامّ بعد الخاصّ مركّب من وجود المرأة وعدم اتّصافها بالقرشيّة لأنّه أخفّ مئونة من اعتبار الاتّصاف وهو غير الايجاب العدولي والموجبة

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ٢٥٩ ـ ٢٦٩.

١١٢

السالبة المحمول لأنّهما فرع الاتّصاف والمفروض هو التركيب من وجود عنوان العامّ ونقيض الخاصّ وهو عدم الاتّصاف بالخاصّ كما هو مقتضى تخصيص كلّ عامّ بعنوان الخاصّ فإنّ العامّ بعد التخصيص يكون بحسب الإرادة الجدّيّة نفس عنوان العامّ مع عدم الاتّصاف بالخاصّ لا الاتّصاف بعدم الخاصّ فحديث الترديد بين الأمرين أعني الايجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول لا واقع له وقد عرفت أنّه متفرّع على الاتّصاف والمفروض هو عدم ملزم للاتّصاف بل العامّ مركّب من وجود المقتضي وعدم المانع كتركيب العلل التكوينيّة من المقتضي وعدم المانع.

لا يقال إنّ نقيض المتّصف بعنوان خاصّ هو المتّصف بعدمه وعليه يكون العامّ متّصفا بعدم الخاصّ ويتردّد أمره بين الأمرين المذكورين.

لأنّا نمنع عن ذلك إذ نقيض كلّ شيء هو رفعه فنقيض الخاصّ وهو المتّصف بعنوان خاصّ هو عدم المتّصف فيتركّب العامّ بعد التخصيص من عنوان العامّ كالعلماء ونقيض الخاصّ وهو عدم المتّصف بعنوان الخاصّ كالفاسق إذ الخارج عن العامّ هو المتّصف بعنوان الخاصّ وعليه فالداخل هو عنوان العامّ مع عدم كونه متّصفا بعنوان الخاصّ بالطبع.

وثانيا أنّ عدم معقوليّة السالبة المحصّلة من جهة لزوم جعل الحكم على المعدوم لا يلزم بناء على التركيب لأنّ غير المعقول هو ما إذا جعل الحكم على المعدوم بما هو معدوم وأمّا إبقاء العدم على حاله إلى زمان إحراز وجود شيء والحكم على الموجود المقرون بعدم الوصف فلا يكون غير معقول لأنّه جعل على الموجود بضميمة عدم المانع ويكون ذا أثر شرعيّ ولا يكون بلا فائدة.

هذا مضافا إلى أنّ المقام من باب استصحاب الموضوع لا من باب جعل الحكم على المعدوم إذ عدم اتّصاف هذه المرأة بالقرشيّة استصحاب موضوعيّ.

فيجوز استصحاب هذا العدم إلى زمان وجود المرأة ليترتّب عليه حال وجود

١١٣

المرأة حكم شرعيّ وعليه فلا يلزم من الاستصحاب المذكور أن يحكم برؤية الدم في المرأة قبل وجودها حتّى لا يكون معقولا بل الحكم مترتّب على المرأة الموجودة مع عدم اتّصافها بالخاصّ أعني القرشيّة حال الوجود.

وهو أنّ الدم الذي تراه في حال وجودها وعدم اتّصافها بالقرشيّة استحاضة.

وثالثا : أنّ مع ما عرفت من أنّ المستصحب هو عدم اتّصاف الموضوع بشيء من الأزل إلى حال وجود الموضوع ويكون الموضوع على الفرض مركّبا من وجود الشيء وعدم كونه متّصفا بالخاصّ لا يلزم تقييدا في الموضوع الموجود حتّى يشكل على الاستصحاب المذكور بأنّ اللازم من الاستصحاب المذكور هو أن لا يكون القضيّة المشكوكة متّحدة مع القضيّة المتيقّنة لأنّ الموضوع في المشكوكة هو المرأة الموجودة والموضوع في المعلومة هو ذات المرأة هذا مضافا إلى أنّ الاستصحاب المذكور يكون مثبتا لأنّ استصحاب عدم كون هذه المرأة قرشيّة باعتبار سلب الموضوع أو الأعمّ منه ومن سلب المحمول كاستصحاب بقاء الحيوان في الدار واثبات حكم القسم منه بواسطة العلم بالانحصار.

اذ استصحاب العدم المذكور وإثبات الحكم للقسم المقابل أو للأخصّ لا يكون إلّا بانطباق العامّ على الخاصّ بحكم العقل فكما أنّ إثبات حكم القسم من الحيوان لا يجوز فكذلك اتّصاف المرأة الموجودة بعدم الاتّصاف مع أنّ المستصحب أعمّ لا يجوز لأنّه مثبت.

وذلك لما عرفت من أنّ المفروض أنّ الموضوع مركّب من وجود الموضوع وعدم اتّصافه لا من وجود الموضوع واتّصافه بعدم الخاصّ وعليه فالموضوع في القضيّة المشكوكة هو عدم اتّصاف هذه المرأة وفي المستصحب أيضا هو عدم الاتّصاف فالوحدة ثابتة بينهما فيحكم ببقاء عدم الاتّصاف من الأزل إلى حال وجود المرأة.

ولا يراد من استصحاب عدم الاتّصاف تقييد الموضوع الموجود بوصف أو

١١٤

اتّصاف حتّى يكون مثبتا بل المراد منه هو استصحاب عدم اتّصاف هذه المرأة بوصف إلى حال وجودها حتّى يتحقّق كلا جزئي الموضوع أحدهما هو المرأة الموجودة وثانيهما هو عدم اتصافها بوصف كالقرشيّة.

ومن المعلوم أنّ موضوع عدم الاتّصاف سابقا ولاحقا هو هذه المرأة ولهذه المرأة ماهيّة شخصيّة قابلة بهذا الاعتبار للإشارة إليها بالنسبة إلى قبل وجودها فالوحدة محفوظة لا يقال عدم اتّصاف المرأة بنحو الكلّي لا يكون أحد جزئي الموضوع بل الجزء هو عدم اتّصاف هذه المرأة.

لأنّا نقول نعم ولكن عدم اتّصاف هذه المرأة الموجودة هو أحد جزئي الموضوع وله حالة سابقة فيستصحب إلى حال وجود هذه المرأة فيتحقّق كلا جزئي الموضوع فيترتّب عليه الحكم ولذا لا يكون مثبتا هذا.

ورابعا : أنّ إنكار شيئيّة الأشياء وماهيّتها قبل وجودها كما ترى مع امكان اعتبار الماهيّات الكليّة والجزئيّة في الذهن ولو لم يكن لها وجود في الخارج ومن المعلوم أنّ هذا الاعتبار ليس كأنياب الأغوال من الموهومات بل هو من المعقولات ولذا تقع باعتبار وعاء الذهن موضوعا للوجود والعدم وللأحكام العرفيّة أو الشرعيّة وعليه فدعوى أنّ هذه المرأة ليست قبل وجودها شيئا حتّى ماهيّة كما ترى بل لهذه المرأة قبل وجودها شيئيّة في الذهن وهي الماهيّة الشخصيّة وبهذا الاعتبار يقال لم تكن موجودة في الأزل ولا متّصفة بوصف كالقرشيّة وإلّا فلا مجال للاستصحابات العدميّة حتّى في الأعراض إذ لا شيئيّة للأعدام وهو ممّا لا يمكن الالتزام به.

وخامسا : أنّ إنكار النسبة في القضايا مساوق لانكار الحمل ولعلّ منشأ ذلك هو الخلط بين الذهن والخارج لأنّ في الخارج ليس شيء بعنوان النسبة بين الشيء ونفسه وبين مصداق شيء وكلّيّه ولكنّ الذهن يجعلهما متفرّقين ويحمل الشيء على نفسه أو يحمل الكلّي على الفرد وتفصيل الكلام موكول إلى محلّه.

١١٥

ثمّ إنّه ربما قيل إنّ الدليل المخصّص لو كان يتكفّل اخراج المبدأ لكان للبحث في أنّ المأخوذ في عنوان العامّ بعد التخصيص عدمه النعتيّ أو المحموليّ مجال.

ولكنّ الأمر ليس كذلك فإنّ المخصّص يتكفّل إخراج العنوان الاشتقاقي فهو مثلا يخرج عنوان الفاسق عن دليل وجوب إكرام العلماء لا الفسق وعنوان الشرط المخالف للكتاب عن دليل نفوذ الشروط لا مخالفة الشرط.

وعليه فاذا كان مقتضى المقدّمة الاولى تقيّد موضوع حكم العامّ بنقيض الخاصّ.

فنقيض الفاسق لا فاسق ونقيض المخالف «اللامخالف» والموضوع يتقيّد به لا بعدم الفسق أو عدم المخالفة.

ومن الواضح أنّ تقيّد الموضوع به يرجع إلى أخذه فيه بنحو الاتّصاف النعتيّة ويندفع ذلك بأنّ الفاسق هو المتّصف بالفسق ونقيضه هو عدم المتّصف بالفسق لا المتّصف بعدم الفسق واعتبار عدم الاتّصاف بالفاسق معقول لكونه مسبوقا بالعلم بخلاف المتّصف بعدم الفسق فإنّه ليس له حالة سابقة فلا تغفل.

وينقدح ممّا تقدّم أنّه لا مانع من جريان استصحاب العدم الأزلي لتنقيح موضوع العامّ بعد التخصيص عند الشكّ من جهة الشبهات المصداقيّة إلّا إذا ثبت أنّ عدم وصف الخاصّ مأخوذ في طرف العامّ بنحو الاتّصاف لا بنحو التركيب ومع عدم وجود قرينة عليه فهو مأخوذ بنحو التركيب بالطبع كما أنّ العلل التكوينيّة مركّبة من المقتضي وعدم المانع.

فكذلك الموضوع في طرف العامّ بعد التخصيص مركّب من عنوان العامّ وهو المقتضي وعدم الاتّصاف بعنوان الخاصّ ولا دليل على الاتّصاف حتّى يكون الايجاب العدولي او الموجبة السالبة المحمول.

وفي الختام اعتذر من جهة إطالة الكلام ولكن لا مناص لي من تنقيح هذا

١١٦

البحث لأنّه ممّا ينفع كثيرا في تضاعيف الفقه والله الهادي إلى سواء السبيل.

التنبيه الرابع :

في التمسّك بالعامّ لكشف حال الفرد من غير ناحية التخصيص كالصحّة.

ذهب بعض إلى جواز التمسّك بعموم أوفوا بالنذور لاحراز صحّة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف عند الشكّ في صحّتهما به فيما إذا وقعا متعلّقين للنذر.

بدعوى أنّ الوضوء أو الغسل بالمائع المذكور واجب بالنذر وكلّما وجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحا للقطع بأنّه لو لا الصحّة لما وجب الوفاء به.

ثمّ أيّده بما دلّ على صحّة الإحرام قبل الميقات أو صحّة الصيام في السفر بالنذر.

وفيه منع لأنّ التمسّك بالعامّ المذكور إمّا تمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة ضرورة أنّ ذلك العموم خصّص بمثل قوله عليه‌السلام لا نذر إلّا في طاعة الله.

فإنّ العامّ المذكور بعد التخصيص يكون معنونا بما يكون طاعة له تعالى والتوضّؤ بالمائع المضاف والاغتسال به لم يثبت مشروعيّتهما وكونهما طاعة.

أو تمسّك بالعامّ في الشبهات الموضوعيّة بناء على دلالة نفس صيغة النذر أي قوله لله عليّ على أنّ اللازم في مورد النذر أن يكون مطلوبا شرعيّا فإنّه هو الذي يصحّ أن يجعل لله عليّ.

ومن المعلوم أنّ صدق المطلوب على التوضّؤ والاغتسال بالماء المضاف مشكوك.

هذا كلّه فيما إذا شكّ في مشروعيّة مورد النذر وأمّا مع دلالة الدليل على عدم الجواز فلا مجال للتمسّك بالعموم المذكور إذ بالنذر لا ينقلب المبغوض عن مبغوضيّته.

وممّا ذكر يظهر أنّ تأيّد الاستدلال بالعامّ المذكور بما ورد في صحّة الصوم في السفر بالنذر أو صحّة الإحرام قبل الميقات بالنذر في غير محلّه لأنّ صحّتهما من جهة

١١٧

الروايات الخاصّة لا من ناحية عموم النذر لما عرفت من أنّ النذر لا يوجب انقلاب الحرام حلالا ولا رواية في المقام حتّى يقاس بهما.

لا يقال إنّ الروايات الواردة في صحّة الإحرام قبل الميقات أو الصيام في السفر بالنذر إن كانت كاشفة عن رجحانهما ذاتا في السفر وقبل الميقات فليؤمر بهما استحبابا أو وجوبا من دون نذر والمفروض خلافه.

لأنّا نقول لعلّ عدم الأمر بهما لمانع كالمشقّة كما في الأمر بالسواك إذ السواك لا مفسدة فيه وإنّما المانع عن الأمر به هو المشقّة ولا مانع من تحمّل المشقّة بالنذر مع وجود المصلحة.

اللهمّ إلّا أن يقال أنّ غاية ذلك هو ارتفاع الوجوب بالمشقّة.

وأمّا الاستحباب فلا وجه لارتفاعه إلّا أن يقال ولا ملزم لذكر الاستحباب أيضا.

فلا ينافي ما ذكر عدم بيان الاستحباب ولكن ينافيه حرمة الصوم في السفر إذ الحرمة لا تساعد مع الرجحان الذاتي فتأمّل.

فالأولى هو أن يقال إنّ الروايات الدالة على صحّتهما بالنذر تدلّ على صيرورتهما راجحين بمجرّد تعلّق النذر بسبب ملازمته لعنوان راجح بعد ما لم يكونا كذلك.

كما لعلّه يشهد له ما في الأخبار من حرمة الصوم في السفر وكون الاحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت فافهم.

التنبيه الخامس :

في التمسّك بالعامّ عند دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص لتعيين التخصّص.

ولا يخفى عليك أنّه إذا علم بأنّ إكرام زيد مثلا غير واجب وشكّ في كون زيد

١١٨

عالما أو جاهلا دار الأمر بين التخصيص والتخصّص بالنسبة إلى أكرم العلماء.

والمعروف حينئذ هو التمسّك بالعامّ لإثبات الثاني بدعوى أنّ أصالة عدم التخصيص في طرف العامّ كما تثبّت لوازمها الشرعيّة فكذلك تثبّت لوازمها العقليّة كعكس النقيض واللوازم العادية نظرا إلى أنّ المثبتات من الاصول اللفظيّة حجّة وعليه فيجوز التمسّك بأصالة عدم التخصيص لعدم كون المشكوك المذكور مصداقا للعامّ فيحكم عليه بأنّه ليس بعالم فيترتّب عليه أحكام الجاهل.

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره إذا علمنا أنّ زيدا مثلا ممّا لا يجب إكرامه وشككنا في أنّه هل هو عالم وخصّص العامّ في هذا المورد أو ليس عالما فلا يخصّص العامّ.

فأصالة عدم التخصيص تقول إنّه ليس بعالم ولو تردّد زيد بين شخصين أحدهما عالم والآخر جاهل وسمعنا قول القائل لا تكرم زيدا يحكم بأنّه زيد الجاهل لأصالة عدم التخصيص فنقول كلّ عالم يجب إكرامه بالعموم وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كلّ من لا يجب إكرامه ليس بعالم وهو المطلوب وعلى ذلك جرت طريقتهم في الاستدلالات الفقهيّة كاستدلالهم على طهارة الغسالة بأنّها لا تنجّس المحلّ فإن كان نجسا غير منجّس يلزم تخصيص قولنا كلّ نجس منجّس (١).

ولا يخفى عليك أنّ عكس النقيض في القضايا العقليّة يكون من لوازم الموجبة الكلّيّة بحكم العقل إذ لو لم يكن كذلك لزم الخلف في صدق أصل القضيّة ألا ترى أنّ صدق كلّ نار حارّة ملازم لصدق كلّ ما لم يكن حارّا لم يكن نارا أو صدق كلّ إنسان حيوان ملازم لصدق كلّ ما ليس بحيوان ليس بإنسان.

هذا بخلاف القضايا غير العقليّة فإنّ عكس النقيض ليس من لوازمها العقليّة لإمكان أن يكون المورد مع كونه من مصاديق العامّ لا يكون محكوما بحكمه بل

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٩٤.

١١٩

يخصّصها وعليه فالحكم بلزوم عكس النقيض عقلا للقضايا الشرعيّة كما ترى بل هو متوقّف على جريان أصالة العموم وعدم ثبوت المخصّص فإنّ القضايا الشرعيّة بعد جريان أصالة العموم وعدم التخصيص تصير كالقضايا العقليّة في الدلالة على عكس النقيض.

وحينئذ فإن قلنا بجريان أصالة العموم في أمثال المورد ممّا يكون الشبهة فيها شبهة استنادية كان عكس النقيض مترتّبا عليه وإلّا فلا.

ودعوى أنّ أصالة العموم وإن كانت حجّة ومن الأمارات اللفظيّة لكن غير قابلة لاثبات اللوازم بها لعدم نظر العموم إلى تعيين صغرى الحكم نفيا وإثباتا وإنّما نظره إلى إثبات الكبرى.

مندفعة بما أفاده سيّدنا الامام المجاهد الخميني قدس‌سره من أنّ عكس النقيض لازم للكبرى الكلّيّة ولا يلزم أن يكون العامّ ناظرا إلى تعيين الصغرى في لزومه لها.

فإذا سلّم جريان أصالة العموم وكونها أمارة فلا مجال لانكار حجّيّتها بالنسبة إلى لازمها (غير المنفكّ) فلا يصحّ أن يقال إنّ العقلاء يحكمون بأنّ كلّ فرد من العامّ محكوم بحكم العامّ واقعا ومراد جدّا من غير استثناء ومعه يحتمل عندهم أن يكون فرد منه غير محكوم بحكمه إلّا أن يلتزم بأنّها أصل تعبّدي لا أمارة (١).

وإن لم نقل بجريان أصالة العموم في الشبهات الاستناديّة فلا مجال لعكس النقيض كما لا يخفى.

وعليه فينبغي الكلام في جواز جريان أصالة العموم في مثل المقام وعدمه يمكن أن يقال إنّ أصالة العموم كأصالة الحقيقة من الاصول العقلائيّة والقدر المتيقّن من جريانها هو الشبهة المراديّة لا الشبهة الاستنادية.

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ٢٧١.

١٢٠