تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ

____________________________________

أمرها ، فإن الوحي يطلق على التيسير حسب الصلاح والحكمة ، نحو (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (١) أو المراد أوحى إلى الملائكة الذين فيها ، بأمور السماء وتنظيم شؤونها (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي السماء القريبة من الأرض (بِمَصابِيحَ) أي النجوم ، فإن جعل الفضاء الملاصق للأرض ، بحيث يخرقه النور ، حتى يراه الإنسان قد تزيّن له ، وإنما سمى الكواكب مصابيح ، لأنها كالمصابيح تضيء (وَحِفْظاً) أي لأجل الحفظ ، فإن الكواكب مراكز لرجم الشياطين ، الذين يريدون اختلاس الكلمات ، التي تدار هناك حول الأرض ، فإنهم يرجمون من الكواكب بالشهب (ذلِكَ) الذي ذكر (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) في سلطانه الغالب على كل شيء (الْعَلِيمِ) بالمصالح.

[١٤](فَإِنْ أَعْرَضُوا) أي أعرض هؤلاء الكفار عن الإيمان (فَقُلْ) يا رسول الله لهم (أَنْذَرْتُكُمْ) أي أخوّفكم (صاعِقَةً) أي عذابا ، وإنما سمي العذاب صاعقة ، لأنه يصعق الإنسان ويهلكه ، والتأنيث ، باعتبار أنها وصف للنار النازلة من السماء ، في العذاب غالبا (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) أي كعذاب قوم هود وصالح ، حيث لم يؤمنوا فأهلكوا.

[١٥](إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) أي نزل بهم العذاب حين أتتهم رسل الله (مِنْ

__________________

(١) النحل : ٦٩.

٦٤١

بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً

____________________________________

بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي من كل طرف من أطرافهم قبلهم وبعدهم ، حتى يحيطوا بهم لعلهم يؤمنوا ـ وهذا كناية عن إصرار الرسل عليهم بالإيمان ، أو المراد أنذروهم من جهة دنياهم وآخرتهم ، إن لم يؤمنوا ، قائلين لهم (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) فلا تشركوا به عبادة الأصنام ، لكن هؤلاء الأقوام لم ينفعهم الإنذار ، بل (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا) أن نؤمن به وحده ، ولا نشرك به شيئا ، ولا نفعل المعاصي ـ كما تقولون ـ (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) لدعوتنا إلى هذه الأمور (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) إذ لا نعتقد بأنكم رسل من الله تعالى.

[١٦](فَأَمَّا عادٌ) قوم هود عليه‌السلام (فَاسْتَكْبَرُوا) وتجبّروا (فِي الْأَرْضِ) حين وصفوا أنفسهم فوق حقيقتهم ، بل رأوها أعظم من الإيمان بالله واتباع رسله (بِغَيْرِ الْحَقِ) فلم يكن ترفيعهم نفوسهم بالحق لعلم أو إيمان ، أو ما أشبه ، بل لمجرد الظلم والطغيان (وَقالُوا) مغترين بقواهم البدنية والمالية ، وما أشبه (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) حتى يتمكن من تعذيبنا ، فقد هددهم نبيّهم بالعذاب ، إن تمادوا في الطغيان ، فقالوا نحن نقدر دفعه ، إذ لا أقوى منا ، حتى يتمكن من تعذيبنا ، وقد ردهم الله سبحانه بقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) فلو شاء أهلكهم ، ولم يتمكنوا من دفع عذابه بقواهم ، التي هي من قبل

٦٤٢

وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧)

____________________________________

الله أيضا (وَكانُوا بِآياتِنا) أي أدلتنا الدالة على وجودنا ، وسائر صفاتنا (يَجْحَدُونَ) أي ينكرون ولا يعترفون.

[١٧](فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) الريح الصرصر ، هي الريح الباردة من الصرّ بمعنى البرد ، أو هي الريح العاصفة ، ذات الصوت الشديد ، والصيحة المزعجة ، ونحسات ، جمع نحس ، وهي الأيام المشؤومة المنحوسة ، وإنما كانت الأيام نحسات ، لما يحدث فيها من العذاب ، والنكال ، وإنما أرسلنا هذه الريح عليهم (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ) أي العذاب الذي يخزيهم ويذلهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي في هذه الحياة القريبة قبل حياة الآخرة (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) المعدّ لهم (أَخْزى) أكثر إذلالا لهم (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) أي لا ينصرهم أحد من بأس الله تعالى.

[١٨](وَأَمَّا ثَمُودُ) قوم صالح عليه‌السلام (فَهَدَيْناهُمْ) أي بيّنا لهم طريق الخير والشر والإيمان والكفر (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي اختاروا التعامي عن الحق على الهداية ، وسلوك طريق الدين ، ومعنى استحب طلب حب الشيء (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) أي العذاب ذو الذلّ والهوان ، صعقهم وأهلكهم (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من تكذيب

٦٤٣

وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠)

____________________________________

صالح وعقر الناقة ـ كما مرت قصتهم سابقا ـ.

[١٩](وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) في هاتين القصتين (وَكانُوا يَتَّقُونَ) المعاصي ، فلم يصيبهم العذاب.

[٢٠](وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ يُحْشَرُ) أي يجمع (أَعْداءُ اللهِ) وهم الكفار والعصاة (إِلَى النَّارِ) أي منتهين إلى النار (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يحبس أولهم ليلحق بهم آخرهم ، من وزع ، بمعنى حبس ، ومنع والمعنى إذا حشروا حبسوا هناك على حافة النار قبيل دخولها ، وفيه زيادة إهانة وإرهاب.

[٢١](حَتَّى إِذا ما جاؤُها) أي وصلوا إلى النار ، و «ما» زائدة جيء بها ، لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور ـ كما في الصافي ـ (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ) بالاستماع إلى المحارم (وَأَبْصارُهُمْ) بالنظر إلى المحرمات (وَجُلُودُهُمْ) بلمس الحرام ، من أخذ ، ومشي عليه ، وزنا ، وما أشبه (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من أنواع المعاصي ، كما قال سبحانه (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١) فإن الله سبحانه ، يجعل فيها حاسة النطق والتكلم ، كما جعل في اللسان.

__________________

(١) يس : ٦٦.

٦٤٤

وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ

____________________________________

[٢٢](وَقالُوا) أي قال أعداء الله (لِجُلُودِهِمْ) والظاهر أن المراد تغليب الجلود ، لا أن خطابهم خاص بها (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا)؟ حتى نبتلي بالعقاب ، وتتم الحجة علينا ، يقولون ذلك معاتبين (قالُوا) أي قالت الجلود في جوابهم ، وإنما جيء بلفظ العاقل ، لأنهم حيث أخذوا في التكلم ، صاروا كأنهم عقلاء (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) من الأشياء الناطقة ، وإنما جيء ب «كل شيء» لأن الجلود من الأشياء ، وليست من الأشخاص ، فقد ردفت ردف «اللسان» في الإنسان ، والطيور الناطقة ونحوهما (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الظاهر أنه جملة مستأنفة خطاب من الله للكفار في الدنيا ، أي كيف تنكرونه ، وهو خالقكم؟ (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في الآخرة ، والرجوع إنما هو إلى حكمه وحسابه وجزائه ، ويحتمل أن يكون هذا من تتمة كلام الجلود ـ ولكن بتأوّل ـ.

[٢٣] ثم رجع السياق إلى كلام الجلود مع الكفار يوم القيامة ، إذ تقول لهم «ما سترتم المعاصي خوف شهادتنا عليكم ، بل كان ستركم لها ظنكم بعدم علم الله إن سترتم» وتريد الأعضاء أن تثبت بهذا الكلام ، رذيلة أخرى على الكفار ـ فوق ارتكابهم العصيان ـ وهي أنهم كانوا يظنون عدم علم الله تعالى بأحوالهم واطلاعه على عصيانهم ، وهذا كما لو قال الشاهد للمجرم : إنك لم تخف مني ، ولذا لم يكن سترك من خوفي ، وإنما كان سترك للجريمة ، لأنك لا تعتقد بعقاب الحاكم لك (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) المعاصي بإتيانها في السرّ مخافة (أَنْ يَشْهَدَ

٦٤٥

عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا

____________________________________

عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) فإنكم لم تكونوا تخافون منها ، حتى يكون ستركم للعصيان خوفا من هذه الجوارح (وَلكِنْ) كان ستركم حيث (ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) فكنتم ترون أن الله لا يعلم السرائر ، وإنما يعلم العلانية فقط ، فأسررتم المعاصي ، حتى لا يعلم بها الله سبحانه.

[٢٤](وَذلِكُمْ) «ذا» إشارة و «كم» خطاب (ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) أي أهلككم ، والمعنى أن ظنكم بأن الله لا يعلم سركم ، هو الذي أوجب هلاككم ، إذ نزّلتم الله سبحانه ، دون منزلته ، وأنكرتم علمه الشامل ، حتى هانت لديكم المعاصي ، فأدى إلى الكفر ، وفي الإعراب «ذلكم» مبتدأ ، و «ظنكم» بدل منه ، و «أرداكم» خبر (فَأَصْبَحْتُمْ) أيها الكفار (مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا دنياهم وأخراهم ، روى عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : ينبغي للمؤمن ، أن يخاف الله خوفا ، كأنه يشرف على النار ، ويرجوه رجاء ، كأنه من أهل الجنة ، إن الله تعالى يقول (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ) ... الآية» ثم قال ، إن الله عند ظن عبده ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر (١).

[٢٥] وبعد هذا كله ، فحق هؤلاء الكفار النار (فَإِنْ يَصْبِرُوا) على ما يلاقون

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧ ص ٣١١.

٦٤٦

فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ

____________________________________

من النيران والهوان (فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي منزل لهم من «ثوى» بمعنى اتخذ المنزل ، والمعنى أن صبرهم لا ينفعهم ، كما كان ينفع في الدنيا (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) أي ليطلبوا العتبى ، وهي بمعنى «الرضا» أي يطلبوا رضاه سبحانه عنهم حتى ينجيهم مما فيه (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) ـ بصفة اسم المفعول ـ أي ممن يرضى عنه ، فإن المعتب هو الذي يقبل عتابه ، ويجاب إلى ما سأل.

[٢٦] وقد جرت عادة الله في الكون ، أن الإنسان ، إذا عاشر الأخيار ، يقودونه إلى الخير ، وإن عاشر الأشرار ، يقودونه إلى الشر ، وإذا انحرف الإنسان لما رأى الهدى ، لا بد وأن يلتحق بقافلة الأشرار ، وهذا معنى تهيئة الله لرفقاء السوء ، فإنه حيث جرت سنته الكونية على ذلك نسبت التهيئة ، لقرين السوء إليه (وَقَيَّضْنا) أي هيئنا (لَهُمْ) أي لهؤلاء الكفار (قُرَناءَ) جمع قرين ، وهو الصديق المقارن للإنسان (فَزَيَّنُوا) أولئك القرناء (لَهُمْ) أي لهؤلاء الكفار (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمور الدنيا الحاضرة ، بأن زينوا لهم الكفر والعصيان (وَما خَلْفَهُمْ) من أمور الدنيا الآتية ، كتأسيس أسباب الفسق والعصيان ، كالبدع الباقية ، وبناء محلات الفساد ، وما أشبه ذلك ، ولعل العموم شامل للشياطين أيضا ، كما قال سبحانه (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (١)

__________________

(١) الزخرف : ٣٧.

٦٤٧

وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦)

____________________________________

(وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي ثبت في حقهم العذاب ، فقد صاروا في قطيع الكافرين ، وأهل النار ، فهم داخلون (فِي أُمَمٍ) كافرة كانت (قَدْ خَلَتْ) ومضت (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل هؤلاء الكفار (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) فهؤلاء داخلون في زمرة أولئك (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) حيث خسروا سعادة الدنيا والآخرة.

[٢٧] ثم يأتي السياق لبيان حال الكفار ، أمام القرآن وصنيعهم لإبطاله ، وعدم وصوله إلى الناس (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة ، بعضهم لبعض (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) الذي يقرأه الرسول ، لئلا تتأثروا به ، ويجذبكم إلى الإيمان (وَالْغَوْا فِيهِ) أي عارضوه باللغو الباطل (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) الرسول ، فقد كان بعض الكفار ، إذا قرأ الرسول القرآن ، جاءوا ، ورفعوا أصواتهم بالكلام الهدر ، ليخلطوا على الرسول ، فلا يتمكن من القرآن ، ولئلا يسمع الناس الذين يستمعون إلى كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يؤثر فيهم القرآن ، وفوق ذلك ، إن بعض الكفار ، كان يقف على باب المسجد الحرام ، فإذا أراد أحد الدخول ، في المسجد للطواف ـ والرسول جالس قرب الكعبة يتلو ـ ملأ أذنه قطنا ، ويحذره من سماع القرآن ، قائلا أن فيه سحرا يؤثر ، كما فعلوا ذلك بالوفد الذي أتى من المدينة ، للإصلاح بين الأوس والخزرج.

٦٤٨

فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا

____________________________________

[٢٨](فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً) في الدنيا بالقتل والأسر والضنك ، وغيرها ، وفي الآخرة بالنار والهوان (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي نجازيهم بأقبح أعمالهم ، أما أعمالهم الحسنة ، فإنها تحبط ، أو نجازيهم بأقبح جزاء في مقابل العصاة المعادين الذين لا يجازون إلا بالقبيح.

[٢٩](ذلِكَ) الذي تقدم من (أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) «ذلك» مبتدأ ، و «جزاء» خبره ، و (النَّارُ) بدل من «جزاء» أي ذلك الذي ذكرنا هو النار (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) فهم مخلدون في النار أبد الآبدين (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي ينكرون الآيات الدالة على وجودنا ، وسائر صفاتنا ، من الآيات التكوينية والتشريعية ، كالقرآن الحكيم.

[٣٠](وَ) إذ دخل الكفار النار ، أرادوا الانتقام من الذين أضلوهم في الدنيا ، و (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) والمراد بالجن الشيطان ، والمراد الطائفتين لا الشخصين ، فهم يريدون الانتقام من الشياطين الموسوسين لهم ، والبشر المضلين إياهم ، لكي (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) في النار ، لنسحقهم ، أو ليكونوا أشد عذابا ،

٦٤٩

لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

____________________________________

إذ طبقات النار كلما سفلت ازدادت حرارة ونكالا (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أي من جملتهم ، حتى يكون عذابهم أكثر من عذابنا ، وهنا لا يأتي الجواب ، وقد مرّ في آية أخرى ، أنه سبحانه يقول (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) (١).

[٣١] في مقابل أهل النار أهل الجنة الذين آمنوا وعملوا الصالحات (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي اعتقدوا ذلك ، لا مجرد لقلقة لسان (ثُمَّ اسْتَقامُوا) في العمل والسلوك بالإيمان ، بما يلزم الإيمان به والعمل الصالح (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) إما دائم الأوقات ، فإن الملائكة تنزل على الأخيار ، وإن لم يروها (٢) أو عند الموت ـ كما روي عن الصادق عليه‌السلام (٣) ويؤيده ظاهر الآية ـ قائلين لهم (أَلَّا تَخافُوا) من أهوال الآخرة (وَلا تَحْزَنُوا) وهو بعد الخوف ، فإن الإنسان ، إذا علم بالمكروه ، أو وصل إليه حزن (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها في الدنيا.

[٣٢] ثم يقولون لهم على وجه التبشير (نَحْنُ) معاشر الملائكة (أَوْلِياؤُكُمْ) أحبائكم ونلي أموركم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فإنا معكم لا

__________________

(١) الأعراف : ٣٩.

(٢) راجع تأويل الآيات : ص ٥٢٤.

(٣) بحار الأنوار : ج ٥٦ ص ١٦٢.

٦٥٠

وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣)

____________________________________

يصيبكم مكروه ما دمتم في الحياة ـ وهذا لا ينافي كون التنزل عند الموت ، إذ يراد به حينئذ هذه الساعات القلائل التي بقيت من أعمارهم في الدنيا ـ (وَفِي الْآخِرَةِ) حيث نهديكم الطريق إلى أن تصلوا إلى الجنة ، فإن الإنسان من أحوج ما يكون إلى المرشد والصديق في محلات الأهوال والأحزان (وَلَكُمْ فِيها) أي في الآخرة (ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من أنواع الملذات والكرامات (وَلَكُمْ فِيها) أي في الآخرة (ما تَدَّعُونَ) أنه لكم ، من «ادّعى» «يدعي».

[٣٣] ثم يرونهم ، بأنها من إحسان الله إليهم ، حتى تبهج نفوسهم بالكرامة ، كما بهجت بالملذة (نُزُلاً) أي في حال كون هذا الإنعام ، بما تشتهي الأنفس إنزالا (مِنْ غَفُورٍ) لذنوبكم (رَحِيمٍ) بكم ، والإنزال إنما هو باعتبار علو مرتبة المعطي ، لا الرفعة المكانية.

[٣٤] ثم يأتي السياق توجيه الناس إلى دعوة الرسول ، وأنها ليست إلا إلى الخير ، وللخير ، فلما ذا يفر منها الكفار والعصاة؟ (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً) استفهام يراد به النفي ، أي لا أحد أحسن قولا (مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) الذي هو خالق البشر ومالك كل شيء (وَعَمِلَ صالِحاً) الملازم لعدم السّيئ (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذين أسلموا لله تعالى ، في كل أمر ونهي ، وممن أرشد ودعا ، فهو مسلم ، عامل للصالحات ، داع إلى الله

٦٥١

وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو

____________________________________

تعالى ، وهل هناك أحسن منه؟

[٣٥] وإذ جرى حديث الدعوة ، لا بد وأن يسير السياق إلى واجب الداعي أمام الأتعاب والمصاعب التي يواجهها الدعاة إلى الله (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) فإن الحسنة المأمور بها الداعي في مقابل الجهال ، خير من السيئة ، التي هي مقتضى تقابل السيئة بمثلها ، وهذه الجملة كمقدمة لقوله (ادْفَعْ) يا رسول الله ، أو أيها الذي تواجه بالسيئة (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ادفع أذى الكفار وكيدهم بالطريقة التي هي أحسن الطرق في دفع الأذى والكيد ، وقد جمع الإمام السجاد عليه‌السلام ، ذلك في قطعة من «دعاء مكارم الأخلاق» هي «سدّدني لأن أعارض من غشني بالنصح وأجزي من هجرني بالبر ، وأثيب من حرمني بالبذل ، وأكافئ من قطعني بالصلة ، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر وأن أشكر الحسنة ، وأغضي عن السيئة» (١) (فَإِذَا) فعلت ذلك كان (الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ) وغضاضة (كَأَنَّهُ وَلِيٌ) أي موال لك (حَمِيمٌ) كثير المودة والمحبة.

[٣٦](وَما يُلَقَّاها) أي ما يلقّى هذه الفضيلة والصفة التي هي الدفع بالتي هي أحسن (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) في مقابلة الجهال ، بأن لم تثر أقوال الأعداء وحركاتهم (وَما يُلَقَّاها) أي هذه الخصلة المذكورة (إِلَّا ذُو

__________________

(١) الصحيفة السجادية : ص ٩٢ ومن دعائه عليه‌السلام في مكارم الأخلاق.

٦٥٢

حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آياتِهِ

____________________________________

حَظٍّ عَظِيمٍ) (٣٥) أي نصيب وافر من العقل ، والرأي ، والحكمة ، فإن الإنسان يقابل السيء بالأسوإ ، ثم بالمثل وآخر طاقته أن يسكت في مقابل السيئة ، أما أن يفعل الحسن ، بل الأحسن ، فإنه بحاجة إلى حظ عظيم وعظيم جدا.

[٣٧](وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) يا رسول الله ، أو أيها المخاطب ، بأن تدفع بالتي هي أحسن (مِنَ الشَّيْطانِ) أي من طرفه (نَزْغٌ) النزغ هو النخس بما يدعو إلى الفساد ، فإن الشيطان ينخس الإنسان ، ويهيجه للباطل خصوصا عند الخصام ، وفي المعركة ـ وهذا من تتمة الأمر بالدفع بالتي هي أحسن ـ (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي اطلب العوذ والإجارة والحفظ من الله سبحانه ، «من الشيطان الرجيم» الطريد ، المرجوم باللعن والشهب كما قال سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) (١) وهذا بخلاف غير المتقي الذي يستمر في خصامه ولجاجه ، قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «الحدة ضرب من الجنون لأن صاحبها يندم فإن لم يندم فجنونه مستحكم» (٢) ف (إِنَّهُ) أي الله (هُوَ السَّمِيعُ) يسمع ما تقولون وهو (الْعَلِيمُ) يعلم ما تعملون.

[٣٨] ثم رجع السياق ليحاج المشركين بإتيان الأدلة على الله الواحد الأحد الذي لا شريك له (وَمِنْ آياتِهِ) أي آيات الله الدالة على وجوده وسائر

__________________

(١) الأعراف : ٢٠٢.

(٢) نهج البلاغة : ص ٦٨١ ـ الباب الثالث في المختار من حكم أمير المؤمنين عليه‌السلام الرقم ٢٥٧.

٦٥٣

اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ

____________________________________

صفاته (اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) فمن يا ترى أبدعها وخلقها ، هل هي الأصنام الجاهلة العاجزة الجامدة؟ أم الله العلي العظيم؟ (لا تَسْجُدُوا) أيها الناس (لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) فإنهما من آيات الله سبحانه ، وليسا بإله يسجد له (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) أي خلق الشمس والليل والنهار ، والإتيان بجمع العاقل ، لتوحيد السياق مع قول المشركين ، فإنهم كانوا يعتبرون هذه المخلوقات من العقلاء ، حيث اتخذوها آلهة (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي إن كنتم تريدون عبادة الله فاعبدوه وحده ولا تشركوا به ، وهذا كما يقول «إن كنت تريدني فاسمع كلامي ، ولا تسمع كلام غيري» تريد أن سماع كلامك ، وكلام غيرك عندك ، بمنزلة عدم سماع كلامك أصلا.

[٣٩](فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) أي تكبر هؤلاء الكفار عن قبول كلامك واتباعك في التوحيد ، بل عبدوا الشركاء مع الله ، فليس بمهم ، إذ هناك من هو أعلى منهم ، وأرفع رتبة ، يخضع لله ويسجد له وحده ، وهذا كما تقول لمن عصاك «إن تعصي ، فإن عندي من هو أحسن منك يطيعني» تريد الاستهانة بشأنه ، وأنك لا يهمك عصيانه ، (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي الملائكة ، والمراد عنده رتبة ومنزلة ، لا مكانا ، فهو سبحانه منزه عن المكان والمكانيات (يُسَبِّحُونَ لَهُ) أي ينزهونه عن الشركاء والنقائص

٦٥٤

بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا

____________________________________

(بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) في دائم الأوقات (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) من سأم بمعنى تعب ، أي لا يتعبون من التسبيح والعبادة.

[٤٠](وَمِنْ آياتِهِ) الكونية الدالة على وحدته ، وسائر صفاته وعلى المعاد (أَنَّكَ) يا رسول الله ، أو أيها الرائي (تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) وخشوعها اغبرارها ، وعدم وجود النباتات المتحركة فيها ، بواسطة الجدب ، فحالها حال الإنسان الخاشع ، الذي لا حراك له ، وهو مغبر غير نضر (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) من المطر (اهْتَزَّتْ) أي تحركت ، فإن الماء ينشط الأرض ويحركها بالانتفاخ وتعلية الأملاح (وَرَبَتْ) أي ارتفعت لدخول الماء والهواء خلالها (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) أي أحيا الأرض بعد الموت والخشوع (لَمُحْيِ الْمَوْتى) فكما يقدر على هذا يقدر على ذلك (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكيف ينكر الكافر قدرته على إعادة الأموات ، وهو يرى هذه القدرة الباهرة كل يوم؟

[٤١](إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) أي يميلون عن الإيمان بآياتنا ، من «ألحد» ، بمعنى ، مال ، فينكرون قدرتنا ، وسائر صفاتنا ، فإنهم حيث انحرفوا عن الإيمان ، كانوا بمنزلة من انحرف عن الدليل الدال عليه (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) فإنهم تحت سمعنا وبصرنا ، نرى أعمالهم ونسمع أقوالهم ، حتى نجازيهم على ما اقترفوا من الميل والانحراف ، ويكون

٦٥٥

أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ

____________________________________

مصيرهم النار ، بخلاف مصير المؤمنين الذي هو الجنة (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ) وهم الملحدون (أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً) من عذاب الله (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ومصيره إلى الجنة؟ ثم يتوجه الخطاب إلى الناس مبينا لهم ، أن كل عمل يعملونه من خير أو شر سيجازون عليه (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) من الإيمان والكفر والطاعة والمعصية (إِنَّهُ) تعالى (بِما تَعْمَلُونَ) من الخير والشر (بَصِيرٌ) عالم لا يخفى عليه شيء ، فستحاسبون عليه وتعطون جزاءه ، فاختاروا لأنفسكم ما شئتم.

[٤٢] ثم هدد سبحانه الكافرين بالقرآن ، بعد أن هدد الكافرين به ، أو بالمعاد ، بقوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) وهو القرآن ، بأن جحدوه ، وقالوا أنه ليس من عند الله (لَمَّا جاءَهُمْ) من عند الله تعالى (وَ) الحال (إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) ذو عزة ورفعة ، لا يتمكن البشر أن يأتيه لفصاحته وبلاغته واشتماله على الأنظمة البديعة والخوارق ، وقد حذف خبر إنّ لأجل التهويل ، فالتقدير مثلا ليلاقوا جزاءهم الأليم على هذا التكذيب والكفر ، وقد تقرر في علم البلاغة ، أن حذف الخبر ، وما أشبه في مثل هذا المقام يفيد التهويل ، كما تقول للمجرم : إن اقترفت هذه الجريمة ، تريد تهويله من الجزاء الذي يحل به.

[٤٣] ثم وصفه سبحانه بقوله (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) بأن يأتي في

٦٥٦

وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣)

____________________________________

زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يماثله في فصاحته أو نظامه ، أو أخباره ، كأن يأتي أفصح منه ، أو أجمل نظاما ، أو ما يدل على أن أخباره عن الأمم السابقة أو اللاحقة ، أو حول الأصول باطلة (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) بأن يأتي بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من يبدي بطلانه في إحدى تلك الأمور ، وروى في المجمع عن الباقر والصادق عليه‌السلام ، أن معناه ليس في أخباره عما مضى باطل ولا في أخباره عما يكون في المستقبل باطل ، بل أخباره كلها موافقة لمخبراتها (١) ، أقول : وكان هذا بيان لمصداق من مصاديق الكلى الذي ذكرناه ، وهو الظاهر من عموم الآية (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ) في أفعاله ، فإنه سبحانه ، أنزل القرآن حسب الحكمة والصلاح ، ولذا لا يتطرق إليه الباطل (حَمِيدٍ) محمود في كل شيء ، ولذا لا يأتي بما لا يحمد مما هو قابل للبطلان.

[٤٤] ثم ربط سبحانه بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسائر الرسل ، وبين القرآن ، وسائر الكتب السابقة بقوله (ما يُقالُ لَكَ) يا رسول الله ، أي لا يوحي إليك (إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) بأن أوحى إليهم (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) أي غفران للمذنبين إذا تابوا (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) مؤلم لهم إذا بقوا في كفرهم وعصيانهم ، فليختاروا ما شاءوا من المغفرة التابعة للإيمان ، أو العقاب التابع للعصيان.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ص ٢٧.

٦٥٧

وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى

____________________________________

[٤٥] ثم عطف السياق نحو القرآن بقوله (وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي جعلنا هذا القرآن (قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) بغير لغة العرب (لَقالُوا) أي لقالت العرب (لَوْ لا) أي هلّا (فُصِّلَتْ) وبينت بلغتنا (آياتُهُ)؟ حتى نفهمه ، فنؤمن به ، وقالوا تبريرا لعدم إيمانهم (أَعْجَمِيٌ) القرآن (وَعَرَبِيٌ) من خوطب به : كيف يكون هذا؟ وجعلوا ذلك وسيلة لعدم الإيمان ، أمّا والقرآن عربي ، والرسول منهم (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) (١) فما عذرهم؟ (قُلْ) يا رسول الله (هُوَ) القرآن أنزله الله عربيا ، حتى يقطع عذركم ، فهو (لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) من الضلالة (وَشِفاءٌ) من أمراض القلب كالحسد والغل والقلق ، وسائر الأوجاع النفسية ، أو الأعم منها ، ومن الأوجاع البدنية (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) بالقرآن ليس من جهة نقص في القرآن ، بل من جهة أنهم (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) أي حمل ثقيل مانع عن استماعه ، وهذا كناية عن إعراضهم عن الحق ، فهم كالأصمّ الذي في أذنه ثقل لا يسمع ، فلا يسمع حتى يعلم ـ بعلاقة المشابهة ـ (وَهُوَ) أي القرآن (عَلَيْهِمْ) أي على الذين لا يؤمنون (عَمًى) إذ أن القرآن يوجب أن ينصرفوا عن الحق ، انصراف الأعمى عن الطريق ، فكأنه يولد فيهم العمى ، والإنسان يرى بعض الناس ، يقرون بالحق نوعا ما ، فإذا جاءهم الحق واضحا ، تعاموا حتى عما

__________________

(١) الجمعة : ٣.

٦٥٨

أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥)

____________________________________

كانوا يعترفون به ، عنادا وحسدا ، أو المراد أنهم كالأصم والأعمى ، لا يبصرون الحق ، ولا يسمعون الصدق (أُولئِكَ) الكفار كالذين (يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) حيث لا يسمعون ولا يفهمون ، كمن إذا نودي من البعد ، لا يسمع ولا يفهم ، فهذا من باب تشبيه حالهم في الإعراض ، بمن ينادى من بعيد.

[٤٦] ولا غرر في ذلك ، فإن الأمم قد اعتادت تكذيب الأنبياء (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا ل (مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) اختلف فيه الناس ، فبعضهم آمنوا به ، وبعضهم لم يؤمنوا ، كما اختلفوا في القرآن ، وهذا تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) يا رسول الله ، بتأخير العذاب عن قومك ، لأنك فيما بينهم (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (١) (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لحكم الله بين المؤمن والكافر ، بإبقاء المؤمن وإهلاك الكافر ، بإنزال العذاب عليهم ، كما أهلك القبط بالغرق ، حين كفروا بموسى (وَإِنَّهُمْ) أي قومك (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي من القرآن (مُرِيبٍ) أي موجب للريب والاضطراب ، فإن الشك إذا لم يظهر أثره لا يسمى مريبا ، وهذا كفذلكة للكلام ، أو المراد ، أنهم في شك من قولنا «لو لا كلمة .. إلى آخره» أي لا يصدّقون ، بأن الكلمة أخّرت عذابهم إلى يوم القيامة ، بل يظنون أنك

__________________

(١) الأنفال : ٣٤.

٦٥٩

مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)

____________________________________

تكذب ، ولذا لا أثر لكلامك وتهديدك.

[٤٧] وأخيرا (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) بالإيمان بالله والإتيان بأوامره (فَلِنَفْسِهِ) عمل إذ هو يرى جزاءه الحسن ، وثوابه العاجل والآجل (وَمَنْ أَساءَ) عقيدة أو عملا (فَعَلَيْها) أي كان ضرره على نفسه (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ) أي بذي ظلم ، فإن «فعّال» من صيغ النسبة ، كما قال ابن مالك :

ومع فاعل وفعال فعل

في نسب أغنى عن اليا فقبل

أو يراد به المبالغة ، وذلك لأن كل صنعة جازت في الله ، بلغت إلى أقصى حد ، فإن جاز فيه الخلق كان خلاقا ، أو الرزق كان رزاقا ، وهكذا ، فنفي المبالغة ، موجب لنفي الصفة (لِلْعَبِيدِ) جمع عبد ، فما يرى الإنسان من السوء في الدنيا أو الآخرة ، فإنما هو جزاؤه العادل بما عمل من الكفر والعصيان.

٦٦٠