تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

(٣٥)

سورة فاطر

مكية / آياتها (٤٦)

وتسمى بسورة الملائكة أيضا لاشتمالها على كلا اللفظين ، وهي كسائر السور المكية ـ غالبا ـ تعالج قضايا العقيدة ، وأصول الدين ، وإذ ختمت سورة «سبأ» بالمحاورة مع الكفار والمنكرين للألوهية والمعاد ، ابتدأت هذه السورة بشؤون الله تعالى ، الدالة على توحيده ، وتصرفه في الكون.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله ، ليكون شعارا لفظيا للمسلم ، فإن لكل أمة واعية شعارات لفظية ، عند القراءة وكتابية عند الكتابة ، وإشارية عند الإشارة ، واسم الله ، أعظم من جميع الشعارات المتصورة ، فإنه اسم من يرتبط به الخلق والأمر ، والإتيان بوصفي الرحمن الرحيم ، للإشارة إلى أن ما اتخذناه شعارا متصف بالرحمة المكررة ، وهو من أجلب الصفات للإنسان ، فإن كل خير له مرتبط بالرحمة والفضل.

٤٠١

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها

____________________________________

[٢](الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي أن جنس الحمد ، راجع إلى الله سبحانه ، إذ جميع النعم منه ، حتى ما يصل إلى الإنسان بواسطة أحد ، فإنه منه سبحانه ابتداء ، وإنما يأتي بالواسطة (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما من «فطر» بمعنى خلق (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) جمع رسول ، وهو الآتي بالكلام من قبل شخص إلى غيره ، فإن الملائكة يأتون بالرسالات من الله سبحانه إلى الأنبياء ، في حال كونهم (أُولِي أَجْنِحَةٍ) أي أصحاب أجنحة ، كأجنحة الطير ، ليتمكنوا بها من الهبوط والعروج ، وإن كان جناحهم من شكل غير مدرك ـ إلا إذا شاء الله ذلك ـ (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) فمنهم من له جناحان ، ومنهم من له ثلاثة أجنحة ومنهم من له أربعة أجنحة ، وهذا صفة لأجنحة ، معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة (يَزِيدُ) الله سبحانه (فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) أي أن الخلق بيد الله سبحانه ، فلم يعجز تعالى عن خلق ما زاد عن السماوات والأرض والملائكة ، بل إنه كلما شاء خلقا خلقه (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يمتنع عليه شيء.

[٣] إن الله هو الخالق القادر ، وإنه هو المعطي المانع ف (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) أي ما يفيضه عليهم من النعم والخير ، لا أحد هناك يتمكن من المنع عنها ، والإمساك لها حتى لا تصل إلى

٤٠٢

وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ

____________________________________

الناس (وَما يُمْسِكْ) الله من رحمة (فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد الله سبحانه ، فإنه إذا لم يرد إعطاء أحد شيئا لم يكن هناك من يقدر على إعطائه (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على أمره (الْحَكِيمُ) في أفعاله يفعلها حسب الحكمة والصلاح ، فكل شيء صنعه بحكمته ومصلحته ، كما أن كل شيء أراده صار لأنه العزيز القادر.

[٤] وإذ تقدم التذكير ببعض نعم الله على البشر ، وبعض آثار عظمته وجلاله ، يتوجه السياق إلى المشركين ليوقظهم من غفلتهم (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وكأنّ الإنسان يعلم في باطنه نعم الله لكنه ينسى ، فاللازم أن يتذكر (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) والجواب كلا لا خالق إلا الله سبحانه ، ثم هل من أحد غير الله (يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بإنزال المطر (وَ) من (الْأَرْضِ) بإنبات النبات؟ والجواب كلا ، فلا رازق إلا الله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وإذ ثبت أن لا خالق ولا رازق إلا الله ، ثبت أنه لا إله إلا هو (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي كيف تصرفون عن طريق الحق إلى الضلال؟ من أفك بمعنى انصرف ، ومنه يسمى الإفك إفكا ، لأنه صرف للكلام عن الحقيقة إلى خلاف الواقع.

[٥] وإذ تقدم الكلام حول التوحيد ، يأتي الكلام حول الرسالة (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) هؤلاء الكفار ، يا رسول الله ، فيقولون ، لست أنت ، بنبي

٤٠٣

فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦)

____________________________________

(فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) هذا تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه ليس الوحيد الذي كذبه قومه ، وإنما الرسل هكذا ، فإن أقوامهم يكذبونهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي أمر تكذيب هؤلاء يعرض على الله سبحانه ، فيجازيهم على تكذيبهم ، وأمرك يعرض عليه ، فيجازيك على صبرك ، وصمودك.

[٦] ثم يأتي السياق لبيان المعاد ـ الذي هو الأصل الثالث من الأصول ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والحساب والجزاء (حَقٌ) لا كذب فيه ، فكلكم تحشرون للجزاء (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فتغترون بملاذها ورئاستها ، فتعصون الله لأجلها حتى يكون مصيركم إلى النار (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) أي بالنسبة إلى الله سبحانه (الْغَرُورُ) الشيطان الكثير الخداع ، فترون سكوته سبحانه ، وعدم تعجيله العقاب ، فتمادون في الغي والطغيان ، فيأتيكم العذاب بغتة ، وأنتم في غفلة.

[٧](إِنَّ الشَّيْطانَ) الذي يدعوكم إلى الكفر والعصيان (لَكُمْ) أيها البشر (عَدُوٌّ) يريد لكم الهلاك والعذاب (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أي اعملوا معه ، عمل العدو مع عدوه ، بأن لا تطيعوه واجتنبوا عن مكره وخدعه (إِنَّما يَدْعُوا) الشيطان (حِزْبَهُ) أي أنصاره وأعوانه من العصاة (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي النار المستعرة الملتهبة ، فلا تتبعوه ليوردكم النار

٤٠٤

الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ

____________________________________

ذات اللهب والاشتعال.

[٨](الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ، لاتباع الشيطان ، وامتثال أمره (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله ، وبما يجب الإيمان به (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) وذلك يلازم ترك السيئات ـ كما سبق ـ (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي غفران لذنوبهم ، فإن «مغفرة» مصدر ميمي (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) جزاء على إيمانهم وأعمالهم الصالحة.

[٩](أَفَمَنْ) الهمزة للاستفهام الانكاري ، والفاء عاطفة ، أي هل الذي (زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) أي زين الشيطان في عينه عمله السيئ كالكفار والعصاة ، الذين يبرّرون أعمالهم السيئة بألف مبرّر موهوم (فَرَآهُ حَسَناً) أي رأى عمله السيء حسنا وهذا بطبيعة الحال في سطح الذهن ، أما في أعماقه ، فإنه يعلم بقبح عمله ، ولذا لو خلى بنفسه وتفكر ، أو ذكّره بعض الناس ، وكان منصفا ، اعترف بقبح عمله ، وقد حذف عدل الهمزة ، أي أفمن كان كذلك ، كمن ليس هكذا؟ والجواب الطبيعي أنهما لا يتساويان ، وإنما جيء بهذا العدل فقط لأن سوق الكلام كان حول الكفار ، ثم يأتي السياق ليسلّي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يأسف على هؤلاء الذين انحرفوا عن علم ودراية (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) ممن أرشده للطريق ، وبلّغه فلم يقبل ، فإنه سبحانه يتركه يضلّ وينحرف ، ولا يلطف به الألطاف الخفية ، وهذا كما يقال أفسد الملك شعبه ، إذا تركهم يفسدون ، ولم يجبرهم على الاستقامة (وَيَهْدِي مَنْ

٤٠٥

يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٨) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (٩)

____________________________________

يَشاءُ) ممن قبل البلاغ والرشاد ، فإنه سبحانه يلطف به الألطاف الخفية (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ) يا رسول الله ، ومعنى ذهاب النفس هلاكها ، أو شدة حزنها وغمها ، حتى تكون كالهالكة (عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء الكفار (حَسَراتٍ) منصوب على المصدر ، أي لا تذهب نفسك تتحسر عليهم حسرات ، والحسرة شدة الحزن على ما فات ، أو يفوت من الأمر المرغوب فيه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) من الكفر والعصيان ، ومثل هذا الإنسان المعاند ، لا يستحق أن يتحسر الرسول عليه.

[١٠] ثم يرجع السياق إلى أدلة الألوهية والتوحيد ، في قبال الكفار والمشركين (وَاللهُ) هو (الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) بخلقها ، أو تصريفها من هنا إلى هناك (فَتُثِيرُ) أي تهيج الرياح (سَحاباً) المراد به الجنس ، لا الفرد (فَسُقْناهُ) أي سقنا السحاب (إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) مات زرعه ، وجفّت أنهاره (فَأَحْيَيْنا بِهِ) أي بسبب ذلك السحاب الماطر (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) بالجدب ، وعدم النبت ، بأن أنبتنا فيها الكلأ ، بعد أن لم يمكن (كَذلِكَ النُّشُورُ) أي كما حييت هذه الأرض الجدبة الميتة كذلك نشور البشر وحياتهم بعد الموت ، فإن الله القادر على إحياء الأرض ، قادر على بعث الإنسان ، ونشوره بعد أن مات.

[١١] إن الكفار لا يؤمنون خوفا من ذهاب عزتهم الدنيوية ، حيث يطردهم المجتمع الكافر ، لكن اللازم أن لا يمنع الإنسان هذا عن الإيمان ، فإن العزة لله سبحانه ، وإذا أراد الإنسان ببقائه على الكفر ، أن تسمع له

٤٠٦

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ

____________________________________

الكلمة ، ويقبل له العمل عند أصدقائه الكفار ، فإن الكلام الإسلامي ، والعمل الصالح ، يقبلان عند الله سبحانه ، الذي هو أعظم من مجتمع هؤلاء الكفار (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) الدنيوية ، بأن يكون عزيزا عند الناس ، نافذا الكلمة لديهم (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي فليطلبها من عند الله تعالى ، إذ جميع أنواع العزة له ، حتى أن العزة الموجودة لدى الكفار ، هي منحة الله لهم ، كما منحهم الرزق والحياة ، وسائر الخيرات للامتحان والاختبار (إِلَيْهِ) تعالى (يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) الكلم جمع كلمة ، والطيب صفة مشبهة ، أي أن الكلمات الطيبة ، من كلمة الإيمان والإرشاد والنصيحة وغيرها ، كلها تصعد إليه سبحانه ، نافذة لديه ، فإذا آمن الإنسان ، كان مسموع الكلمة لديه تعالى ، وهو خير من كونه مسموع الكلمة عند الكفار (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ) الذي هو الخير المأمور به في الشريعة كالصلاة والزكاة ، وصلة الرحم ، وبر الوالدين ، وغيرها (يَرْفَعُهُ) سبحانه إلى نفسه ، فمن يريد الكفر ، ليكون عمله مقبولا عند الكفار ، فإن من آمن ، رفع عمله إلى الله سبحانه خالق الكون ، وهل تقاس المقبولية ، عند الله بالمقبولية عند الناس؟ والمراد بالصعود والرفع الرتبي ، باعتبار رفعة الله سبحانه ، وسموه المعنوي ، أو المراد الخارجي ، فإن الأقوال والأعمال ترفع إلى السماء ، حيث محل الملائكة ، ومأوى أرواح الصالحين (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) أي يدبرون دفّة الأعمال السيئة في خفية ، فإن المجرمين دائما يدبرون الاجرام والمعاصي في الليالي ، وفي بعد عن

٤٠٧

لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ

____________________________________

عيون الناس (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) من «بار» إذا فسد ، أي أن مكرهم يفسد ، ولا ينفّذ ، فنهاية العمل والقول الصالحين ، الرفعة والعزة ، ونهاية عمل السيئات ومكرها لتحقيق العزة هي البوار والهلاك.

[١٢](وَاللهُ خَلَقَكُمْ) أيها البشر (مِنْ تُرابٍ) فإن التراب ينقلب نباتا ، ويأكله الإنسان ، أو يأكل الحيوان الذي تكون من النبات ، فيصير مبدأ النطفة (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) هي القطعة المائعة من المني ، وأصل النطفة الماء القليل (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) ذكرا وأنثى ، أو المراد أصنافا وأشكالا (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) «من» زائدة لتأكيد النفي ، أي لا تحمل أيّ أثر (وَلا تَضَعُ) حملها (إِلَّا بِعِلْمِهِ) فالله خالق الإنسان ، والعالم بأطواره ، حين حمله ، ووضعه (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) المعمّر ـ بصيغة المفعول من باب التفعيل ـ هو الإنسان ، الطويل العمر ، أي لا يمدّ في عمر واحد ، وعبّر عنه بالمعمّر ، باعتبار الأول ، من باب «من قتل قتيلا فله سلبه» (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) أي من عمر ذلك المعمّر ، والمراد به كل أحد ، والنقص ، إنما هو باعتبار الأعمار العادية ، فالعمر العادي إذا كان خمسين سنة ، كان الموت قبل ذلك تنقيصا بالنظر العرفي (إِلَّا فِي كِتابٍ) عند الله سبحانه ، فقد كتب كل ذلك ، وقدر الأعمال ، كما

٤٠٨

إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ

____________________________________

قدر سائر الأشياء ، ولا يتصور الإنسان كيف يمكن أن يحيط كتاب بهذا القدر الكبير من الأعمار المختلفة للأفراد المتشتتة في مشارق الأرض ومغاربها ف (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) هيّن ، فهو محيط بجميع الأشياء ، أو المراد ب «ذلك» كل ما تقدم من التقديرات ، والعلم بها.

[١٣] ثم ينتقل السياق إلى بعض آخر من الآثار الكونية ، الدالة على وجود الإله ، وصفاته العظيمة (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) بحر المياه المالحة ، وبحر المياه العذبة ، فإن الأنهر غالبا تتصل بعضها ببعض ، حتى أنها لتكون تحت الأرض ، وفوقها بحارا من المياه المتصلة ، ثم أن المراد بالبحر الجنس ، لا الشخص (هذا) أي أحدهما (عَذْبٌ) أي طيب (فُراتٌ) صاف (سائِغٌ شَرابُهُ) إذا شربه الإنسان ، لا يلتوي في الحلق ، ولا يؤذي اللهات (وَهذا) الآخر (مِلْحٌ) كأنه من كثرة ملوحته ، قطعة ملح ، نحو زيد عدل (أُجاجٌ) من ينشب في الحلق ، فمن خلق هذين البحرين يا ترى؟ (وَمِنْ كُلٍ) من البحرين (تَأْكُلُونَ) أنتم أيها البشر (لَحْماً طَرِيًّا) جديدا ، هو السمك ، فمع اختلاف البحرين يأتيان بشيء متماثل لمنفعة الإنسان ، وإنما سمي السمك ، لحما طريا ، لما اعتادوا ـ في زمن الجاهليين ـ من أكل القديد ، بتجفيف لحوم الأنعام (وَتَسْتَخْرِجُونَ) أي تخرجون بالطلب والغوص ، من البحر (حِلْيَةً) أي زينة ، هي اللؤلؤ (تَلْبَسُونَها) للتزين (وَتَرَى) أيها الرائي (الْفُلْكَ) بالضم على وزن أسد ، جمع فلك على وزن قفل ـ

٤٠٩

فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ

____________________________________

فالمفرد والجمع متساويان وزنا ، مختلفان ميزانا ـ (فِيهِ) أي في البحر (مَواخِرَ) جمع ماخرة ، يقال مخرت السفينة الماء إذا شقته لتسير ، فمن يا ترى أقدر السفينة على ذلك ، وجعل الماء سهلا ، يقبل السير فيه؟ إنه هو الله تعالى ، وإنما جعل ذلك (لِتَبْتَغُوا) أي لتطلبوا أنتم أيها البشر (مِنْ فَضْلِهِ) سبحانه بالتجارة ، والانتقال من هنا إلى هناك للاكتساب (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمه عليكم فتسحتقون بذلك الثواب.

[١٤](يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أي يدخل الليل في النهار ، إما بزيادة طول الليل وقصر طول النهار ، حتى كأن الليل دخل فيه ، وإما بإتيان الليل مكان النهار ، فهو يدخل في محل النهار ، من طرف المشرق ، ويطرده رويدا رويدا ، حتى يأخذ مكانه (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) بأحد المعنيين السابقين (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) فهما يجريان حسب تدبيره منظما ، بلا تفاوت أو اختلال (كُلٌ) منهما (يَجْرِي) باستمرار (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي لوقت معلوم ، هو يوم القيامة ، كما قال سبحانه (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (١) وقال (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) (٢) (ذلِكُمُ اللهُ) ذلك إشارة إليه سبحانه ، و ، «كم» خطاب ، أي ذلك المتّصف بتلك الصفات ، هو ، أيها البشر (رَبُّكُمْ) الذي لا إله إلا

__________________

(١) التكوير : ٢.

(٢) القيامة : ٩.

٤١٠

لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)

____________________________________

هو (لَهُ الْمُلْكُ) فالمملكة الكونية كلها له بلا شريك (وَ) الأصنام (الَّذِينَ تَدْعُونَ) أي تدعونهم أيها المشركون (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله تعالى (ما يَمْلِكُونَ) من الكون (مِنْ قِطْمِيرٍ) هو قشر النواة ، أي اللفافة التي فوقها ، والمعنى أن الأصنام لا تملك من الكون ، بهذا القدر ، فكيف تجعلونها شركاء الله؟

[١٥](إِنْ تَدْعُوهُمْ) أي تدعون تلك الأصنام ، والإتيان بضمير العاقل ، لتوحيد السياق ، بين كلام المشركين وردّهم ، فإنهم كانوا يعتبرون الأصنام عقلاء مدركين (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) في كشف ضر ، أو جلب نفع ، فإن قالوا : يسمعون ، قلنا : ما الدليل؟ (وَلَوْ سَمِعُوا) دعاءكم على فرض محال (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) أي لا يمكنهم أن يجلبوا نفعا ، أو يدفعوا ضرا ، إذ لا يقدرون على ذلك (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) حين ترجون شفاعتهم لكم ، حيث كانوا يقولون (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (١) (يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي يتبرءون منكم ، ومن أنكم اشركتموهم مع الله في العبادة ، فيقولون لم عبدتمونا؟ ونحن لا نستحق العبادة؟ وذلك بإنطاق الله تعالى ، للأصنام ، لأن يفضحوا عبدتهم (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي لا يخبرك أيها المستفهم الجاهل أحد مثل ما يخبرك

__________________

(١) يونس : ١٩.

٤١١

يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧)

____________________________________

الخبير المطلع ، فالله مطلع على أحوال الأصنام ، فهو خير من يخبركم عن أحوالها ، فاقبلوا كلامه ، واتركوا عبادتها ، لئلا تقعوا في العذاب والنكال.

[١٦](يا أَيُّهَا النَّاسُ) كيف تنحرفون عن إطاعة الله ، أو تكفرون به؟ والحال (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ) المحتاجون (إِلَى اللهِ) سبحانه ، في جميع شؤونكم (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُ) عنكم ، والذي بإمكانه أن يسد جميع حوائجكم (الْحَمِيدُ) المستحق للحمد ، بما له من الإنعام والإفضال ، فكيف تتركون الله ، لتأخذوا الأصنام الفقيرة التي لا تستحق حمدا ولا شكرا ، إذ لا شيء لها إطلاقا؟

[١٧] وهو القادر على أن يعاقبكم بأعمالكم ـ فهو الذي بيده العطية والعقوبة ، فاعبدوه رغبة أو رهبة ـ (إِنْ يَشَأْ) الله (يُذْهِبْكُمْ) أي يفنيكم (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) يخلقه من العدم ، ويأتي به إلى الوجود ، كما خلقكم بعد أن لم تكونوا.

[١٨](وَما ذلِكَ) الإفناء لكم ، والإتيان بخلق جديد (عَلَى اللهِ) سبحانه (بِعَزِيزٍ) أي بممتنع ، بل هو الغالب على أمره ، إن شاء شيئا كوّنه وأوجده.

[١٩] إن الإنسان إلى جنب فقره إلى الله تعالى ، وإنه تحت سلطة الله سبحانه ، حامل لتبعة أعماله بنفسه ، فلا صديق يحمل من الإنسان

٤١٢

وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨)

____________________________________

ذنبه ، ولا قريب يفيد الإنسان قربه في التخفيف من آثامه ، فليعدل الإنسان سلوكه ، نحو الله ، الذي كان الإنسان بحاجة دائمة إليه ، وإن عصى جازاه بنفسه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس حاملة إثم نفس أخرى ، بل كل امرء بما كسب رهين ، فلا يؤاخذ أحد بذنب غيره ، ولا يلقى ذنب أحد على أحد (وَإِنْ تَدْعُ) نفس (مُثْقَلَةٌ) بالآثام ، غيرها (إِلى حِمْلِها) أي حمل آثامها ، كأن يدعو العاصي صديقه ، ليحمل بعض آثامه وخطاياه (لا يُحْمَلْ) أي لا يحمل ذلك الغير (مِنْهُ) أي من ذلك الحمل (شَيْءٌ) قليل (وَلَوْ كانَ) ذلك الغير المدعو (ذا قُرْبى) أي صاحب قرابة مع هذا العاصي الحامل لأوزار نفسه ، قال ابن عباس : يقول الأب والأم ، يا بني احمل عني ، فيقول حسبي عملي ، ولا تيأس يا رسول الله ، من عدم تأثير بلاغك في هؤلاء الكفار ، فإن بلاغك يؤثر في المؤمنين ، وذلك كاف لك (إِنَّما تُنْذِرُ) يا رسول الله الإنذار المؤثر (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي أنهم يخافون من الله سبحانه ، وهو غائب عن حواسهم (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) بإتيانها كاملة بشروطها وآدابها (وَمَنْ تَزَكَّى) أي تطهّر بعمل الطاعة ، والاجتناب عن المعصية (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) أي أن فائدة طهارته ، تعود إلى نفسه (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فمن آمن وتزكى ، جزاه

٤١٣

وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ

____________________________________

بجنات النعيم ، ومن كفر وتولى ، عاقبه بالنار والجحيم ، ومعنى إلى الله : إلى ثواب الله وعقابه ، تشبيها للصيرورة المعنوية ، بالصيرورة الحسية.

[٢٠](وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) فالكافر كالأعمى لأنه تعامى عن الحق ، والمؤمن كالبصير ، لأنه أبصر ، ورأى الحق والحقيقة.

[٢١](وَلَا) يستوي (الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) «لا» زائدة للتأكيد ، والشرك كالظلمة ، إذ لا يرى الإنسان الذي فيه الحقائق والإيمان ، كالنور الذي يرى فيه الإنسان الأشياء ، والإتيان بظلمات جمعا ، لأن الشرك مستلزم لأنواع المعاصي ، وكل واحد منها ظلمة وحلوك.

[٢٢](وَلَا) يستوي (الظِّلُ) الذي يستريح فيه الإنسان (وَلَا الْحَرُورُ) وهي الريح الحارة السامة ، التي تهب في الشمس ، وتوجب الهلاك ، أو المرض والأذية ، وهما مثل الجنة والنار ، أو الإيمان والكفر.

[٢٣](وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) فالكافر كالميت ، إذ لا يأتي منه الخير ، كما لا يأتي من الميت خير ، والمؤمن كالحي ، إذ يتأتى منه جميع صنوف الخير لنفسه ولغيره ، ولا تغتم يا رسول الله ، إذا رأيت إعراض الكفار ، فإنهم ، حيث أعرضوا عن الهدى ، لم يلطف الله بهم ألطافه الخفية ، ولذا تاهوا في ظلمات الكفر والضلالة (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي إسماعا نافعا ، وإنما يشاء سبحانه إسماع من إذا رأى

٤١٤

وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤)

____________________________________

الحق تبعه ، أما من إذا رأى الحق ابتعد عنه وأعرض ، فلا يسمعه الله ـ فوق أصل الإبلاغ ـ شيئا آخر من قبيل الألطاف الخفية الموجبة للسعادة (وَما أَنْتَ) يا رسول الله (بِمُسْمِعٍ) أي بقادر على أن تسمع إسماعا نافعا (مَنْ فِي الْقُبُورِ) فإن هؤلاء الكفار كالأموات في المقابر ، الذين لا يتمكن الرسول من إسماعهم ، فكما حال الموت بين أولئك ، وبين السماع النافع ، كذلك حال موت القلوب ، وانحراف النفوس بين هؤلاء ، وبين أن يسمعوا إنذار الرسول وإرشاده.

[٢٤](إِنْ أَنْتَ) أي ما أنت يا رسول الله (إِلَّا نَذِيرٌ) تنذر وقد أنذرت هؤلاء ، أما هدايتهم ، فليست عليك ، فلا تحزن عليهم.

[٢٥](إِنَّا أَرْسَلْناكَ) يا رسول الله (بِالْحَقِ) أي إرسالا بالحق ، لا بالباطل ، لأجل اللهو واللعب ، والإفساد ، وما أشبه ، من الإرسالات الباطلة ، فإذا أرسل أحد آخر للإفساد ، كان إرسالا باطلا ، وإذا أرسل أحد آخر للإصلاح ، كان إرسالا بالحق ، في حال كونك (بَشِيراً) تبشر المؤمنين المطيعين بالجنان (وَنَذِيراً) تنذر الكفار والعاصين بالنيران ، فشأنك البشارة والإنذار ، ولا يرتبط بك ، من آمن ، ومن لم يؤمن (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ) ما من أمة من الأمم السابقة (إِلَّا خَلا) أي مضى (فِيها) في تلك الأمة (نَذِيرٌ) ينذرهم إذا كفروا وعصوا ، قوبلوا بالعقاب والنكال ، فأنت مثل أولئك المنذرين ، وكما أنه لم يضرهم عدم استجابة الأمم كذلك لا يضرك عدم استجابة الناس لك.

٤١٥

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ

____________________________________

[٢٦](وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) يا رسول الله ، هؤلاء الكفار ، بأن يقولوا ، أنت كاذب ، لست من قبل الله سبحانه فليس شيئا جديدا ، إذ قد (كَذَّبَ) الأمم (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أنبياءهم ، حين (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) جمع رسول ، ويجوز الإتيان بالفعل ، مذكرا ومؤنثا ، إذا كان الفاعل ، جمع غير مذكر سالم ، قال ابن مالك :

والتاء مع جمع سوى السالم

مذكر كالتاء مع إحدى اللبن

(بِالْبَيِّناتِ) أي الحجج الواضحة الدالة على كونهم مرسلين ، كالمعجزات ، والخوارق (وَبِالزُّبُرِ) كالكتب المتفرقة التي فيها الحكم والنصائح ، كما جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بالأحاديث القدسية ، وقطعا من حكم موسى وعيسى عليهما‌السلام (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي النيّر الذي فيه تعاليم السماء ، كان الأنبياء يأتون إلى الأمم بكل ذلك ، ومع ذلك كانت الأمم تكذبهم.

[٢٧](ثُمَّ أَخَذْتُ) بالعذاب والنكال (الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله وأنبيائه ، بعد إتمام الحجة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري ، للمكذبين؟ وهذا استفهام استشفائي ، فيه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنذار لكفار مكة.

[٢٨] ثم يرتد السياق ليذكّر الكفار ، بجملة من الآيات الكونية (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، والخطاب ، وإن كان له لكن المراد به العموم ، أو ألم تر

٤١٦

أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ

____________________________________

أيها الرائي (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) هو المطر (فَأَخْرَجْنا) على طريق الالتفات من الغيبة إلى التكلم الذي هو فن من فنون البلاغة (بِهِ) أي بذلك المطر (ثَمَراتٍ) جمع ثمرة ، وهي فاكهة الشجر التي تجتنى منها (مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) أي ألوان تلك الثمرات ، فأحمر ، وأخضر ، وأبيض ، وأصفر ، وأزرق ، وغيرها ، من سائر الألوان ، وذو لونين ، وذو ألوان ، وهكذا ، ويحتمل أن يراد باللون الأعم من جميع ما يدرك بسائر الحواس ، من الأشكال والحجوم والطعوم ، والروائح وغيرها ، فإن اللون قد يطلق توسعا على الجميع (وَ) كما أن الثمار ، مختلفة الألوان كذلك (مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) مفردها جدة ، كغرف ، وغرفة ، والمراد بها الطرق (بِيضٌ وَحُمْرٌ) أي طرق في الجبال ـ إما المراد طرق السير ، وإما الامتدادات ، فإن الإنسان يرى الجبل فيه قطعة ممتدة حمراء ، وقطعة ممتدة بيضاء ، وسميت طريقا تشبيها ـ وبيض جمع أبيض ، كما أن حمر جمع أحمر (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) أي ألوان تلك الطرق الموجودة في الجبال (وَغَرابِيبُ سُودٌ) جمع غربيب ، وهو الشديد السواد ، الذي يشبه لون الغراب ، وسود جمع أسود ، أي ومن تلك الطرق مثل لون الغراب أسود ، فسود عطف بيان لغرابيب.

[٢٩](وَ) كما أن الثمار ، والجبال مختلف ألوانها ، كذلك (مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِ) جمع دابة ، وهي الحيوانات التي تدب في الأرض (وَالْأَنْعامِ) جمع نعم ، وهي الإبل والبقر ، والغنم ، خلق (مُخْتَلِفٌ

٤١٧

أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ

____________________________________

أَلْوانُهُ كَذلِكَ) أي كالذي تقدم من الثمار والجبال ، فهذا إنسان حبشي أسود ، وهذا صيني أصفر ، وهذا آسيوي أبيض وأحمر ، وهذه هرة بيضاء ، وهذه هرة سوداء ، وهذه نعجة حمراء ، وتلك صفراء ، وهكذا ، فمن يا ترى خلق هذه الألوان؟ ومن يا ترى خلط هذه الألوان ، بأجسام هذه المخلوقات؟ وقد تقرر في العلم الحديث ، أن أقسام الألوان «ثلاثمائة ألف» إنه هو الله الخالق المبدع المنشئ العظيم (إِنَّما يَخْشَى اللهَ) مفعول يخشى (مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فاعل يخشى ، أي يخشى من الله ، العلماء من أقسام عباده ، فإن الإنسان ، إنما يخاف من الأسد ـ مثلا ـ إذا عرفه ، أما الجاهل بوجوده ، أو ببأسه ، فإنه لا يخاف منه ، وكذلك الجاهل ، بأصل وجود الله أو ببأسه وبطشه لا يخشاه ، وإنما العالم به وبعذابه ، لمن عصاه يخشاه تعالى ، ويخافه (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب في سلطانه ، فاللازم أن يخشاه العصاة (غَفُورٌ) لمن آب وأناب ، فلا ييأس من عفوه ، وغفرانه ، العاصون.

[٣٠](إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) أي يقرءون حق قراءته للعمل والاتباع ، والمراد بكتاب الله هو القرآن (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) بآدابها ، وشرائطها ، والاهتمام بالصلاة ، في كل مكان ، لأجل أنها خير وسيلة لتركيز الإيمان في القلب ، بسبب استمرارها ، وإيحائها بعظمة الله وارتفاعه ، في النفوس ، ولذا كان المصلون أقل الناس شرا وإثما ، وأكثرهم رحمة ، وخيرا ونزاهة (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) عام يشمل جميع أنواع

٤١٨

سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ

____________________________________

الرزق ، من مال وجاه ، وغيرهما (سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي في جميع أحوالهم ، فلا يفرق عندهم ، السر والعلانية ، في البذل والإنفاق (يَرْجُونَ) بهذه الأعمال (تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) أي لن تفسد ، ولن تهلك ، والمراد بالتجارة ، نتيجة التجارة ، وهي الثواب العائد إليهم من جزاء أعمالهم الصالحة ، فلا يريدون بأعمالهم الرياء والسمعة ، وإنما وجه الله سبحانه وثوابه.

[٣١] وإنما يفعلون هذه الأعمال ، ويرجون الثواب ، لأن يوفيهم الله (أُجُورَهُمْ) ، كما تقول عملت لزيد ، ورجوته ، ليعطيني أجري ، ومعنى وفاء الأجور ، إعطائها كاملة ، غير منقوصة (وَيَزِيدَهُمْ) على ما يستحقون (مِنْ فَضْلِهِ) وإحسانه ، كما قال تعالى ، (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١) ... وخبر «إنّ» محذوف ، أي إن الذين يعملون تلك الأعمال ، للأجر والثواب ، يعطيهم الله ما يترقبونه ، وإنما حذف لدلالة قوله (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) عليه ، فمن عمل ذلك ، غفر الله ذنبه ، وشكر عمله ، وشكر الله للعمل : إعطاء جزائه وثوابه لمن عمل.

[٣٢] وبمناسبة الحديث ، عن الذين يتلون الكتاب ، يأتي السياق ، لبيان حال الكتاب (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا رسول الله (مِنَ الْكِتابِ) أي القرآن (هُوَ الْحَقُ) الصحيح لا يشوبه فساد ، وباطل ، كأن تكون قصصه

__________________

(١) الأنعام : ١٦١.

٤١٩

مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ

____________________________________

كاذبة ، أو أحكامه موجبة للفساد ، في حال كونه (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي يصدق الكتب السابقة عليه من التوراة والإنجيل ، وغيرهما ، من سائر كتب الأنبياء (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ) مطلع على أحوالهم ، يعلم ما يصلحهم ، وما يفسدهم ، كما يعلم من يؤمن ، ممن لا يؤمن (بَصِيرٌ) ناظر إلى أعمالهم.

[٣٣](ثُمَ) بعد إنزال الكتاب عليك ، يا رسول الله (أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) أي القرآن (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) أي أعطيناه للمسلمين بالإرث ، والمراد بالإرث ، انتقاله إليهم ، كما ينتقل المال من المورث إلى الوارث ، فقد انتقل القرآن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المسلمين ، وقد اصطفى الله المسلمين ، لحمل هذه الرسالة ، كما قال (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١) ثم بين سبحانه ، إن هؤلاء العباد ، على ثلاثة أقسام (فَمِنْهُمْ) أي بعضهم ، وهم الأغلب (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) يرتكب بعض المعاصي ، وهذا لا ينافي الاصطفاء ، فإن المراد ، اصطفاء المجموع ، من حيث المجموع ، في مقابل الكفار والمشركين ، وأهل الكتاب (وَمِنْهُمْ) أي بعضهم ، وهم الأقل (مُقْتَصِدٌ) متوسط ، بين الطاعة والمعصية فليس من الظالمين ، ولا من الصلحاء الأخيار (وَمِنْهُمْ) وهم الأقل (سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) أي ليسبق الناس في عمل الأعمال

__________________

(١) آل عمران : ١١١.

٤٢٠