تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ

____________________________________

لا تزدني من كلامك. وقال عليه‌السلام : يا أرض خذيه فدخل القصر بما فيه في الأرض ، ودخل قارون في الأرض إلى ركبتيه فبكى وحلفه بالرحم فقال له موسى : يا بن لاوي لا تزدني من كلامك يا أرض خذيه فابتلعته بقصره وخزائنه (١) ، أقول : لقد كان موسى عليه‌السلام في منتهى الحلم والرقة ولكن انحراف بني إسرائيل الشديد ، كان يسبب له في بعض الأحيان أن يغضب لله سبحانه ، والغضب لله تعالى من أفضل صفات الأنبياء ، كما قال تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٢).

(فَما كانَ لَهُ) أي لقارون (مِنْ فِئَةٍ) أي جماعة ، وسميت الجماعة فئة ، لأن الإنسان يعود ويرجع إليها كلما دهمه أمر ، من «فاء» بمعنى : رجع (يَنْصُرُونَهُ) أي ينصرون قارون (مِنْ دُونِ اللهِ) أي سوى الله ، يعني أن الله وحده كان قادرا على دفع العذاب عنه أما غيره فلا أحد كان يقدر على ذلك. وهذا من قبيل الاستثناء المنقطع الذي مرّ الكلام في وجهه مكررا (وَما كانَ) قارون بنفسه (مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي يقدر على أن ينصر نفسه.

[٨٣](وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) حين خرج عليهم في زينته فقالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون (يَقُولُونَ) متعجبين مما نزل بقارون من

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٣ ص ٢٥١.

(٢) الفتح : ٣٠.

١٨١

وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً

____________________________________

العذاب وي اسم فعل بمعنى «عجب» (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) بأن يوسعه عليه (وَيَقْدِرُ) أي يضيق الرزق على من يشاء من عباده ، فإنهما تابعان لمصالح خفية لا لكرامة تقتضي البسط ولا لهوان يوجب النقص (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) حيث لم يوسع علينا حتى نطغى (لَخَسَفَ) الأرض (بِنا) كما خسف بقارون وي أعجب من هذه القصة كأنه (لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) فلا يفوزوا بثواب الله ولا ينجوا من عقابه ، فالحمد لله الذي لم يعطنا ما أعطاه حتى نبتلي بما ابتلى به. وقارون لم يظهر الكفر ، وإنما قالوا ذلك لأن فعله كان فعل الكافرين ولذا جوزي بجزائهم ، والإتيان ب «كأن» تعبير عرفي لمن يريد أن يتراجع عن كلامه السابق ، فإذا قلت : إن فلانا زيد ، ثم أردت أن ترجع عن كلامك بعد ما تبينته فرأيته عمروا تقول : كأنه عمرو ، وذلك للتدرج الحاصل للنفس من أحد الطرفين إلى الطرف الآخر.

[٨٤] ثم بين سبحانه أن الآخرة إنما هي لمن لا يريد الاستكبار والفساد ، في مقابل قارون الذي استكبر وطلب الفساد في الأرض ، حتى يعلم المؤمن ، أن الاستكبار والفساد يباينان الإيمان بالعالم الآخر (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) يعني الجنة (نَجْعَلُها) ونقدرها (لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) أي استكبارا وتجبرا (وَلا فَساداً) أي لا يريدون عملا

١٨٢

وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ

____________________________________

بالمعاصي (وَالْعاقِبَةُ) الجميلة المحمودة (لِلْمُتَّقِينَ) الذين يتقون عقاب الله ، فلا يعصونه.

[٨٥](مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أي بالصفة الحسنة ، من الإيمان ، والعمل الصالح (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) عند الله ، فإنه يعطي عشرة أضعاف جزائه ، فمثلا من تصدق بدينار أعطي عشرة دنانير (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) وتسمى سيئة لأنها تسيء إلى الإنسان (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بمقدار السيئة لا أزيد منها ، وإنما أعد العذاب الشديد للسيئات لأنه بقدر جزائها حسب العقل والمنطق كما يجزي الساب للملك ـ مثلا ـ بالقتل.

[٨٦] وإذ انتهت قصص موسى مع فرعون وبني إسرائيل وقارون ، يتوجه السياق إلى الرسول ، الذي كانت تلك القصص تسلية له ، بقدر ما كانت تهديدا لكفار قريش فيقول (إِنَ) الله (الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي أوجب عليك العمل بأحكامه (لَرادُّكَ) أي يردك ويرجعك (إِلى مَعادٍ) أي محل العود والمراد به مكة ، فلا تشرّد عن بلادك بدون أن ترجع إليها ظافرا منتصرا ، كما رجع موسى إلى أرض مصر ـ التي خرج منها خائفا يترقب ـ ظافرا منتصرا ، وقد قالوا : إنها نزلت حين خروج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة مهاجرا إلى المدينة ، حينما أراد الكفار

١٨٣

قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ

____________________________________

قتله (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) منا ، ومنكم ، فقد كان الكفار يرون أنفسهم على حق وهدى ، ويرون الرسول على باطل (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إنه يعلم ذلك وسينصر الهادي ، ويخذل الضال ، وهذا كلام من يرى أن لا أثر في الجدال مع المعاند يسلى نفسه ويهدد طرفه ، بالعاقبة.

[٨٧] إنك لا بد وأن ترجع إلى مدينتك ، وإنك لا بد وأن تنتصر على الكفار ، فإن رحمة الله لم تزل معك ، ألم يلقي إليك الكتاب ، وما كنت ترجو ذلك لو لا رحمته؟ فإن رحمته التي أوجبت إلقاء الكتاب عليك هي التي تنصرك وتردك إلى وطنك (وَما كُنْتَ) يا رسول الله (تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) يعني إنه لم يكن رجاء لو لا الرحمة ، وهذا صحيح ، فلا يقال كيف لم يرج الرسول إلقاء الكتاب ، وقد كان نبيا وآدم بين الماء والطين؟ (فَلا تَكُونَنَ) يا رسول الله (ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أي معينا لهم ، بل جانبهم وباعدهم وحاربهم ، فإن الذي رحمك في إلقاء الكتاب إليك ، سيرحمك بنصرتك عليهم وإرجاعك إلى بلادك سيدا منتصرا.

[٨٨](وَلا يَصُدُّنَّكَ) أي لا يمنعنك الكفار (عَنْ آياتِ اللهِ) أي اتباع آيات الله ، وإبلاغها للناس (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) لا يمنعنّك عن تنفيذ

١٨٤

وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)

____________________________________

رسالتك خوفك منهم ، فإن الله ناصرك (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) بالإيمان به واتباع أوامره (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يجعلون لله شريكا.

[٨٩](وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) وكان الفرق بين (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وبين هذا أن الأول نهي عن مجرد الشرك ولو القلبي منه ، والثاني نهي عن الدعوة والدعاء إلى إله آخر ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان منتهيا عن ذلك بدون نهي ، وإنما جيء تعريضا على المشركين ، كما تقول لولدك المطيع : بني أطعني ، تريد التعريض بخادمك الذي لا يطيعك (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الله وحده لا شريك له ، فهو الإله الأزلي (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فهو الإله الأبدي ، والمراد بالوجه «الذات» يقال هذا وجه الرأي أو وجه الطريق ، ويراد الرأي والطريق ، ولعل التعبير بالوجه للتنبيه على بقاء جهة الاتجاه إليه سبحانه ، فليتوجه الإنسان إليه تعالى لأن وجهه باق أبدي ، كلما أراد الإنسان أن يتجه إليه ويطلب منه الحاجة ، قابله تعالى بوجهه ، وهذا مجاز ، وإلا فليس لله سبحانه وجه وسائر الأمور الجسمية والعرضية ، من باب تشبيه المعقول بالمحسوس (لَهُ الْحُكْمُ) فهو الحاكم في الكون ، ولا يصدر شيء إلّا عن حكمه وإرادته (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أيها البشر ، في القيامة ليجزي كل إنسان بما عمل من شر أو خير ، فهو واحد أزلي أبدي ، بيده الحكم وإليه المرجع.

١٨٥

(٢٩)

سورة العنكبوت

مكية أو مدنية / آياتها (٧٠)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «عنكبوت» وهي كسائر السور المكية تبين موضوع العقيدة الدائرة بين المبدأ والمعاد والرسالة ، ولما ختمت سورة القصص بالوعد والوعيد ، افتتحت هذه السورة بذكر الامتحان الذي من خرج منه ناجحا نال الوعد ، ومن خرج منه ساقطا نال الوعيد.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله الذي هو بدأ التكوين والتشريع ، فمن الجدير أن يجعل اسمه الكريم بدء كل حركة وسكون ، والتوصيف له بالرحم ـ مكررا ـ للنيل من فيض رحمته الواسعة الموجبة للسعادة في الدنيا والآخرة فلو لا رحمة الله سبحانه لهلك الإنسان جسدا وروحا ، وبعد فإنه لو لا رحمته ابتداء لم يوجد.

١٨٦

الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣)

____________________________________

[٢](الم) «ألف» و «لام» و «ميم» من أمثالها تركّب سور القرآن ، تركيبا يوجب الإعجاز حتى لا يتمكن البشر من الإتيان بمثلها ، أو التقدير : هذه «الم» فهو خبر مبتدأ محذوف ، وقد تقدم التلميح إلى بعض الأقوال في «مقطعات السور» معنى ، وإعرابا.

[٣](أَحَسِبَ النَّاسُ) أي هل ظن الناس (أَنْ يُتْرَكُوا) في أمن وراحة ، مجرد (أَنْ يَقُولُوا : آمَنَّا) ثم تدرّ عليهم الخيرات والبركات ويسعدوا في الآخرة والأولى (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي لا يمتحنون بأنواع الشدائد ، في طريق الإيمان ، حتى يميز بين الصادق والكاذب ، والمجاهد والقاعد؟ هل ظنوا ذلك؟ إنهم أخطئوا إن ظنوا إن مجرد التلفظ بالإيمان كاف في نيل السعادة.

[٤] وكيف يقتنع عنهم بمجرد التلفظ بالإيمان (وَ) الحال إنا (لَقَدْ فَتَنَّا) وامتحنا (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من المؤمنين الذين أظهروا الإيمان ، في الأمم السابقة ، امتحانهم بأنواع الشدائد والمحن ، فكيف نترك هؤلاء بلا امتحان؟ (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) أي يمتحن ليعلم بالتأكيد (الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانهم حتى أنه لا يزول بالمصائب والمحن (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) الذين كذبوا في دعوى الإيمان ، بل كان لقلقة لسان ، والمراد بالعلم تعلق العلم بالمعلوم بوقوعه في الخارج ، فإنه يقال «علم» لمن جهل ثم علم ، كما يقال : «علم» لمن علم ولكن لم يكن معلومه خارجيا ثم أوجد المعلوم في الخارج ، فإنّ العلم الفعلي إنما

١٨٧

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ

____________________________________

يتحقق بتحقق المعلوم الفعلي.

[٥] لقد كان ذلك للمؤمنين ، أما الكافرون ، فإن موقفنا معهم أشدّ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) «أم» منقطعة ، أي : هل حسب وظن العاملون بالمحرمات (أَنْ يَسْبِقُونا) أي يفوتوننا ، فلا نلحقهم تشبيه بمن يلحق المجرم الذي فرّ ، وقد سبقه في الفرار حتى لم يلحق به ، إن من أجرم بالنسبة إلى أوامر الله ، لا يفوت الله ، بل يدركه الطلب وإن فرّ إلى كهوف الجبال (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء الحكم حكمهم ، الذي حكموا حسب ظنهم بأنّا لا ندركهم ولا ننتقم منهم ، فالله سبحانه يمتحن ، ومن رسب في الامتحان يدركه وينتقم منه ، فليخش الناس مؤمنهم وكافرهم ، وبرهم وفاجرهم من عقاب الله سبحانه.

[٦] أما من آمن ونجح في الامتحان فليطمئن بنصر الله (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) أي يأمل ثوابه سبحانه ، بأن آمن وعمل صالحا ، فإنه هو الذي يرجو ، أما غيره فقوله أنا راج ، كذب ، لأنه من قبيل من لم يبذر ويقول أنا راج ريع زرعي (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي الوقت الذي وقّته الله للقائه وثوابه ـ والإضافة لأدنى مناسبة ـ (لَآتٍ) أي يأتي قطعا ، فلا خلف في وعده (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال عباده (الْعَلِيمُ) بأعمالهم ونياتهم ، فيكون جزائه عادلا لا ظلم فيه.

[٧](وَمَنْ جاهَدَ) الشيطان ونفسه والأعداء ، وهو مشتق من «جهد» بمعنى

١٨٨

فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ

____________________________________

أتعب نفسه في دفاعه لأجل الإيمان (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) إذ فائدة الجهاد تعود إليه (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فهو لا يحتاج إلى جهاد المؤمنين ، وإنما المؤمنون يحتاجون إلى الجهاد لنيل السعادة لأنفسهم.

[٨](وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله واليوم الآخر وما جاء به الرسول (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) الملازم لعدم السيئات (لَنُكَفِّرَنَ) أي نبطلنّ ونمحون (عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) التي اقترفوها حتى يبقون بلا سيئة (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) أي نعطيهم الجزاء ب (أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) إما المراد أحسن جزاء أعمالهم ، كأن يكون الجزاء مثلا للعمل الفلاني درجة واحدة فنعطيهم درجتين ، وإما المراد يعطون جزاء أحسن أعمالهم ، أما الأعمال السيئة التي توجب النكال ، والأعمال التي توجب خفة الإنسان ونزول رتبته في أعين الناس ، فلا نجزيهم عليها.

[٩] وحيث ذكر سبحانه جزاء من عمل الصالحات أشار إلى ما هو من أهمّ الأعمال الصالحة ، الذي هو بر الوالدين فقال (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) أي أمرناه أن يعاشر والديه (حُسْناً) بإطاعتهما ، والنزول عند رغبتهما.

(وَإِنْ جاهَداكَ) أيها الإنسان ، وألزماك (لِتُشْرِكَ بِي) بأن تجعل لي شريكا ، حيث كانا مشركين (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) «ما» مفعول

١٨٩

فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ

____________________________________

«تشرك» أي تجعل شيئا شريكا لي ، وليس لك بذلك الشريك علم ، من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، إذ تعلم إنه ليس لي شريك ، فلا شريك حتى تعلمه ، كما يقال : لا يعلم الله لنفسه شريكا ، يعني إنه لا شريك له حتى يعلمه (فَلا تُطِعْهُما) في الإشراك بي (إِلَيَ) أي إلى حسابي وجزائي (مَرْجِعُكُمْ) أي رجوعكم أيها البشر ، و «مرجع» مصدر ميمي فلا تخالفوا أوامره حتى تبتلوا بالعقاب والنكال (فَأُنَبِّئُكُمْ) أي أخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) والمراد بالإخبار الجزاء على العمل ، كما تقول لمن تريد وعده أو إيعاده : سأخبرك بعملك.

[١٠](وَالَّذِينَ آمَنُوا) بما يجب الإيمان به (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) رجوع إلى ما سبق ليرتب عليه قوله (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي في جملتهم وزمرتهم.

[١١] وإذ قد سبق امتحان الله للمؤمنين ولزوم الجهاد في سبيله ذكر السياق من ليس كذلك ممن يظهر الإيمان ولا يجاهد ويرسب عند الامتحان (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) بمجرد قولة اللسان (فَإِذا أُوذِيَ) آذاه الكفار (فِي اللهِ) أي في جهة علاقته بالله وإيمانه به (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) ويظن أنه إن ترك الإيمان لا يعذّب بعذاب الله أكثر من هذا العذاب الذي يلقاه بواسطة إيمانه ، ولذا يفكر في الرجوع عن

١٩٠

وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ

____________________________________

الدين ، لأنّ عذاب الله آجل ، وعذاب الناس له ـ المساوي في زعمه لعذاب الله ـ عاجل ، ولم يعذّب نفسه عاجلا خوفا من عذاب آجل؟ هذا هو مقدار إيمانه في البلاء ، فإنه لا يطيق ويسقط عند الامتحان ، وإذ ذهب الإيذاء وجاء النصر ، بسط ادعائه في وجه المؤمنين قائلا أنه كان معهم في ساعة الشدة ليجعل نفسه في مقدمة القافلة فيحوز الجاه العريض ، بعد تلك الانتكاسة (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) يا رسول الله ، لك وللمؤمنين ، وذهب أذى الكفار (لَيَقُولُنَ) ذلك الساقط في الامتحان المتراجع عند الإيذاء (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أيها المؤمنون في ساعة العسرة (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ)؟ من الإيمان والنفاق ، وألم يعلم سبحانه أن هذا كيف انتكس عند البلاء؟ فهيهات أن يجعل كالصابرين القانتين الصامدين أمام الإغراء والإيذاء.

[١٢](وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بحقيقة الإيمان فدخل الإيمان قلوبهم حتى أن الافتتان لا يصرفهم عن حقيقة إيمانهم (وَلَيَعْلَمَنَ) الله (الْمُنافِقِينَ) الذين آمنوا ظاهرا ، فإذا فتنوا جعلوا فتنة الناس كعذاب الله.

[١٣](وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله (لِلَّذِينَ آمَنُوا) بحقيقة الإيمان (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) في الكفر والطغيان (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) فنحن نحمل

١٩١

وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ

____________________________________

آثامكم عنكم ، ومرادهم بذلك أن لا إثم حقيقي في اتباع الكفر والعصيان ، وإنما هو إثم خيالي ، إذ لا بعث ولا نشور ، ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ) إن كفروا وكذبوا (مِنْ شَيْءٍ) قليل أو كثير ، فإن الله سبحانه لا يعذب أحدا بذنب آخر ، نعم إن على هؤلاء عقاب الإضلال ، لكن ذلك لا يخفف من عقاب الأتباع شيئا ، بل للمضل عقاب إضلاله ، ولمن ضل عقاب ضلاله (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما ضمنوا من حمل خطاياهم.

[١٤](وَلَيَحْمِلُنَ) هؤلاء الذين أضلوا (أَثْقالَهُمْ) أي أوزار أعمال أنفسهم (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي أوزار إضلالهم للناس (وَلَيُسْئَلُنَ) يسألهم الله سبحانه (يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) من أنه لا ذنب للكفر والعصيان كما يقولون للمؤمنين يريدون إغواءهم ، والمراد بسؤالهم منهم أنهم يسألون مقدمة للعقاب ، فإن المجرم يسأل عنه سؤال تقرير ليعذّب حسب جوابه.

[١٥] ثم ينتقل السياق إلى بعض قصص الأنبياء لإنذار كفار مكة بأنهم إن لم يؤمنوا كان مصيرهم مصير الأقوام من قبلهم حيث كذبوا الرسل فأخذهم الله بعقاب كفرهم وعصيانهم (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) ليدعوهم إلى الإيمان والطاعة (فَلَبِثَ فِيهِمْ) أي مكث داعيا لهم إلى

١٩٢

أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ

____________________________________

الإيمان (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) أي تسعمائة وخمسين سنة فلم يجيبوه ، ولم يؤمن إلا نفر قليل منهم ، ومثل هذا العمر ممكن فقد وصل العلم الحديث إلى إمكان تمديد العمر بواسطة الأغذية والأدوية (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) وهو أن نزل من السماء المطر وتفجرت الأرض عيونا ، حتى علا الماء وأغرق الكل ، والطوفان الماء الكثير الغامر سمي طوفانا لأنه يطوف ـ بكثرته ـ في نواحي الأرض ، أو في النواحي التي يقع الكلام فيها (وَهُمْ ظالِمُونَ) قد ظلموا أنفسهم بالكفر والطغيان.

[١٦](فَأَنْجَيْناهُ) أي خلصنا نوحا منهم ومن الطوفان (وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) فقد أمر نوح أن يصنع سفينة ويركبها هو والمؤمنون وركبها ونجا من الغرق (وَجَعَلْناها) أي السفينة ، أو هذه القصة بكاملها (آيَةً) دالة على التوحيد ، أو على عذاب المكذبين (لِلْعالَمِينَ) أي الخلائق الذين يأتون بعد ذلك.

[١٧](وَ) لقد أرسلنا (إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ) ولا تعبدوا سائر الآلهة الباطلة (وَاتَّقُوهُ) بإتيان أوامره واجتناب نواهيه (ذلِكُمْ) «ذلك» إشارة إلى ما ذكره من العبادة لله والتقوى و «كم» خطاب (خَيْرٌ لَكُمْ) من الكفر والعصيان ، والتفصيل هنا منسلخ عن معنى الفضل ، أو المراد

١٩٣

إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ

____________________________________

بالنسبة إلى الخير الذي هم فيه مع الكفر (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كان لكم علم بالواقع لعلمتم أنّ الإيمان والتقوى خير.

[١٨](إِنَّما تَعْبُدُونَ) أنتم (مِنْ دُونِ اللهِ) أي من غير الله (أَوْثاناً) جمع «وثن» والمراد به الصنم أي أنكم تعبدون حجارة لا تضر ولا تنفع (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي تقولون كذبا ، في قولكم إنّ هذه الأوثان آلهة ، والكذب يسمى خلقا باعتبار أن الكاذب يخلقه ويأتي به من العدم إلى الوجود مع أنه لا حقيقة له ، بخلاف الصدق الذي هو حكاية من الواقع والخارج (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام ، وإنما أتى بضمير العاقل ، جريا على كلام القوم عند الحوار ، كما قال الشاعر :

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخة

قلت اطبخوا لي جبة وقميصا

(لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) فليست أرزاقكم التي ترزقونها مملوكة لهذه الأصنام حتى تقولوا إنا نعبدها لما تهيئ لنا من الرزق ، أو تقولوا إنما نعبدها لتدر علينا الأرزاق (فَابْتَغُوا) واطلبوا (عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) فإنه هو المالك للرزق والمعطي له. وكم يقبح أن يتصرف الإنسان في رزق الله ، ويعبد غيره ، ويطلب من لا يكون بيده الرزق ويترك الطلب ممن بيده الرزق؟ (وَاعْبُدُوهُ) وحده (وَاشْكُرُوا لَهُ) على ما أنعم

١٩٤

إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ

____________________________________

عليكم ، فهو الإله وهو المتنعم (إِلَيْهِ) تعالى (تُرْجَعُونَ) أي إلى حسابه وجزائه مرجعكم إذا متم وإذا قامت القيامة ، فهو المبدئ ، وهو المعيد ، وهو المعطي لكم الرزق الآن.

[١٩] ثم قال لهم إبراهيم عليه‌السلام (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) قولي ولم تؤمنوا بي (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أنبياءهم ، فلم يضر التكذيب الأنبياء (وَ) إنما ضر المكذبين إذ (ما عَلَى الرَّسُولِ) أي ليس عليه شيء (إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي أن يبلغ بلاغا ظاهرا واضحا ، فإذا أنجز عمله فقد ترى من عهدة ما كلف ويلقى جزائه الحسن.

[٢٠](أَوَلَمْ يَرَوْا) هؤلاء الكفار ، وهذا إما من تتمة كلام إبراهيم ، أو هذه الآية والسابقة واللواحق ، معترضة بين أثناء الكلام ، جيء بها للإيقاظ والتنبيه (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) من العدم إلى الوجود (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد الإماتة ، كما أنشأه من العدم ، فإن من يقدر على الابتداء قادر على الإعادة (إِنَّ ذلِكَ) الإرجاع والإعادة بعد الموت (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) سهل هيّن ، فكيف ينكرون البعث وهم يرون النشأة الأولى؟ كما أنهم كيف ينكرون وجود الله وهم يرون آثاره؟ وكيف ينكرون الرسالة وقد رأوا المكذبين كيف أهلكوا؟.

[٢١](قُلْ) يا رسول الله ، للكفار (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) بالسفر إلى البلاد ،

١٩٥

فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ

____________________________________

والمرور على الصحاري والقفار (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ) الله (الْخَلْقَ) فإنّ الإنسان يألف الجو الذي ينشأ فيه ولذا يتفتح قلبه إلى مشاهد الخلقة الخارجية التي تظهر في الأولاد إذا ولدوا ، والنبات إذا نبت ، وهكذا أما إذا سار لفت نظره إلى رؤية البلاد ، وتقلب الأحوال (ثُمَّ اللهُ) بعد إهلاك الناس أجمع (يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) فإنه كما أنشأها ابتداء ينشأوها ثانيا ، ومعنى الإنشاء الإيجاد (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فإنه سبحانه على الإنشاء والإفناء والإعادة قادر ، فكيف ينكر هؤلاء المعاد؟.

[٢٢] إنه يعيد الخلق ليجازيهم حسب أعمالهم ف (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ممن كفر وعصى ، فإنّ الله سبحانه حكيم لا يفعل عبثا أو خلاف العدل (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) من آمن وأطاع (وَإِلَيْهِ) أي إلى جزائه وحسابه (تُقْلَبُونَ) أيها البشر ، ومعنى تقلبون : ترجعون ، لأن الرجوع هو انقلاب الإنسان من حال إلى حال.

[٢٣] وإنكم أيّها الكفار لا تقدرون على الإفلات من عقاب الله سبحانه ، فإن الإنسان تحت قدرة الله ، يقلبه كيف يشاء ، ويفعل به ما يشاء ، سواء كان في الأرض أو في السماء (وَما أَنْتُمْ) أيّها الكفار (بِمُعْجِزِينَ) الله تعالى بأن تصنعوا صنعا يمنع من أخذكم والعذاب على أعمالكم ، سواء كنتم (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) على تقدير إن

١٩٦

وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي

____________________________________

تمكنتم من الذهاب إليها ، كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام :

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم

غلب الرجال فلم تنفعهم القلل (١)

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي سواه (مِنْ وَلِيٍ) يلي أموركم (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم ، فلا أحد يتولى شؤونكم ، ولا أحذ ينصركم ، فما تظنون من أن الأصنام تنفع فهو ظن باطل ، إذن فأنتم بذاتكم لا تتمكنون من إعجازه سبحانه ، ولا ناصر لكم حتى يقف ذلك الناصر دون بأس الله.

[٢٤](وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) بأن كذبوا الآيات التكوينية ولم يعترفوا بدلالتها على وجود الله ، وكذبوا بآيات الله المنزلة بأن قالوا إنّها ليست من قبل الله تعالى (وَلِقائِهِ) فقالوا أن لا بعث ولا نشور ، والمراد لقاء ثوابه وجزائه (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) فإنه لا عمل لهم حتى يستحقّوا الثواب ، فيكون لهم رجاء ، والمعنى إنهم يائسون حقيقة ، وإن كان فيهم من لا يأس له ، وهذا كقوله (لا رَيْبَ فِيهِ) حيث يراد فيه أنه ليس محلا للريب ، وإن ارتاب فيه المبطلون ، وهذا من تتمة قوله (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) حتى لا يزعم الكفار أنهم يدخلون في زمرة من يرحمهم‌الله ، كما قال ذلك الكافر : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ

__________________

(١) ديوان الإمام علي عليه‌السلام : ص ٣٢١.

١٩٧

وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ

____________________________________

خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) (١) (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع في النار ، وهذا بالتأكيد ، فهو طرف الإيجاب ، ويئسوا ، طرف السلب.

[٢٥] لقد كان إبراهيم عليه‌السلام يحتج على قوله بأنواع الاحتجاج ، كما سبق بعضه (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) أي قوم إبراهيم عليه‌السلام وهم نمرود وسائر الكفار المعاصرون له (إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ) أي اقتلوا إبراهيم جزاء على دعوته إلى التوحيد وتعييبه الأصنام (أَوْ حَرِّقُوهُ) بالنار وأخيرا استقر رأيهم على إحراقه ، وألقوه في النار (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) إذ قال سبحانه للنار : كوني بردا وسلاما على إبراهيم (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر من قصة إبراهيم : دعوته ، وكيد الأعداء ، وإنجائه (لَآياتٍ) دالة على أنه كيف ينصر الله أوليائه ، ويخذل أعدائه (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أن الله ينصر أولياءه ، ويخذل أعداءه أما غيرهم فلا يعتبرون بهذه القصص ، ولذا لا ينتفعون بهذه الآيات.

[٢٦](وَقالَ) إبراهيم عليه‌السلام لقومه ، إما بعد نجاته من النار ، وإما قبل إلقائه في النار ، وآخر السياق هذه الجملة ، لاستعجال المخاطب أن يعرف كيف صارت النتيجة ـ كما هو الطبيعي في أمثال هذه القصص ـ (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ) أيها القوم (مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) أي أصناما ، لأجل (مَوَدَّةَ

__________________

(١) الكهف : ٣٧.

١٩٨

بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦)

____________________________________

بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فإنّ الأصنام كانت تجمعهم على العقيدة الواحدة ، فإذا أراد أحدهم الخروج عن عبادتها انفصمت مودته عن سائر أقربائه وأصدقائه ، ولذا كان يحافظ على هذه المودة بالاستمرار في عبادتها ، فاتخاذكم للأصنام للمجاملة لا للعقيدة ، لكن هذه المودة تنقلب عداوة يوم القيامة (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) أي يتبرأ بعض الكفار من بعض ، القادة من الأتباع والأتباع من القادة (وَيَلْعَنُ) ويسب (بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فيلعن الأتباع القادة الذين أضلوهم ، ويلعن القادة الأتباع لئلّا يحملوا إثم الأتباع (وَمَأْواكُمُ) أي مرجعكم ومصيركم (النَّارُ) جزاء لشرككم (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونكم ويدفعون العذاب عنكم.

[٢٧] إنّ القوم لم يؤمنوا بإبراهيم ، (فَآمَنَ لَهُ) أي لإبراهيم (لُوطٌ) النبي عليه‌السلام ، وهو ابن أخت إبراهيم ومعنى آمن أنه صدقه في دعوته ، وإن كان هو أيضا نبيا (وَ) لما أن رأي إبراهيم أنهم لا تنفع فيهم الدعوة (قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ) من بلادكم وقد كان قرب الكوفة (إِلى رَبِّي) أي إلى المكان الذي يختاره ربّي (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) الغالب سلطانه ، فلا يذل من نصره (الْحَكِيمُ) الذي يفعل الأشياء بالحكمة والصواب.

١٩٩

وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨)

____________________________________

[٢٨](وَوَهَبْنا لَهُ) أي لإبراهيم (إِسْحاقَ) من سارة زوجته العقيمة ، فقد كان إعطائه الولد منها خارقا ، أما إسماعيل عليه‌السلام ، فقد كان من الطريق المألوف (وَيَعْقُوبَ) ابن إسحاق ، جد بني إسرائيل (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ) أي في ذرية إبراهيم عليه‌السلام (النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) فقد بعث الله منهم أنبياء كثيرين وما موسى وعيسى ومحمد «صلوات الله عليهم أجمعين» إلا من ذريته عليه‌السلام ، وقد أعطي التوراة والإنجيل والقرآن (وَآتَيْناهُ) أي أعطينا إبراهيم (أَجْرَهُ) أي جزاء بلاغه وصموده في الدعوة (فِي الدُّنْيا) حيث رفعنا مقامه ، وجعلنا له الذكر الحسن ، وجعلنا السيادة والملك والنبوة في أولاده وأحفاده (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) بأن يكون في زمرة الأنبياء العظام.

[٢٩](وَ) أرسلنا (لُوطاً) إلى قومه (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) ويجوز أن يكون التقدير ، واذكر لوطا حين تكلمه مع قومه (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي لتعملون الخلة الفاحشة في الإثم ، فإن فحش بمعنى تجاوز الحدّ ، واللواط إذ كان كبيرة جدا ، يسمى بالفاحشة (ما سَبَقَكُمْ بِها) أي بهذه الفاحشة (مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) فإنكم اخترعتموها ، ومن المعلوم أن البادئ في العمل القبيح أظلم ، لأنه يعلّم غيره ويمهد السبيل لغيره.

٢٠٠