تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ

____________________________________

شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) بأن يشترك العبيد معكم في أموالكم التي هي لكم ، ورزقكم الله إياها فتكونون أنتم والعبيد (فِيهِ) أي فيما رزقناكم (سَواءٌ) بأن تكون الأموال لكم ولهم على حد سواء (تَخافُونَهُمْ) أي تخافون عبيدكم ، إذا أردتم التصرف في أموالكم ، لأنهم شركاؤكم ، والشريك يخاف من شريكه ، إذا أراد أن يستقل في التصرف بالمال المشترك (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي كما تخافون سائر شركاؤكم الأحرار ، هل عبيدكم شركاء لكم؟ وإذا أجبتم بالنفي ، وإن العبيد لا يشتركون معنا في أموالنا ، حتى نخافهم خوف الحر شريكه الحر ، قيل لكم ، فكيف جعلتم الأصنام التي هي مملوكة لله ، ومخلوقة له شركاء لله في الألوهية؟ (كَذلِكَ) أي كما بينا هذا المثل ، لأن يردعكم عن عبادة الأصنام (نُفَصِّلُ الْآياتِ) نذكرها مفصلة حتى تظهر ، لا مجملة حتى تكون غامضة ، لا تعرف (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يعملون عقولهم ، ليدركوا ، وإنما خص هؤلاء بالذكر ، لأنهم المنتفعون بالمثل والآية ، أما من لا يعتني فهو لا يدرك ، ولا يعلم.

[٣٠] إن إشراك هؤلاء ، ليس لأنهم لا يعلمون (بَلِ) لأنهم يتبعون الهوى وإن علموا ببطلان أعمالهم ، فقد (اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالشرك بالله ، وأتى بهذا الوصف مكان الضمير ، لبيان أنهم بشركهم ، قد ظلموا أنفسهم (أَهْواءَهُمْ) التقليدية (بِغَيْرِ عِلْمٍ) فليس عملهم مستندا إلى العلم ، وإنما هو مستند إلى الهوى ، ولذا ابتعدوا عن الهدى

٢٤١

فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ

____________________________________

(فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي تركه يعمل ما يشاء ، بعد أن رأى الهدى ، فأعرض عنه ، وقد ذكرنا سابقا إن نسبة الإضلال إليه سبحانه ، باعتبار ، أنه تركه حتى يضل ، ولم يلطف به اللطف الخفي (وَما لَهُمْ) أي لهؤلاء المشركين الضالين (مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم من عذاب الله ونكاله في يوم القيامة ، وهذا في مقابل زعمهم إن الأصنام تنصرهم وتشفع لهم.

[٣١] وإذ انحرفت نفوس عن هذا الدين (فَأَقِمْ) أنت يا رسول الله ، أو أيها الإنسان العاقل (وَجْهَكَ) ونسبة الإقامة إلى الوجه ، لأنه العضو الذي يبين اتجاه الإنسان ، وميله الكامن في نفسه (لِلدِّينِ) فتوجه نحو دين الإسلام ، لا إلى سائر المبادئ والأديان (حَنِيفاً) في حال كونك مستقيما ، غير مائلا إلى هنا أو هناك ، أو في حال كون الدين مستقيما ، لا يزيغ نحو الباطل والانحراف ، واتبع (فِطْرَتَ اللهِ) أي الكيفية التي خلقها الله سبحانه ، فإنه خلق الإنسان بحيث لا يصلحه ، إلّا الدين (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) أي خلق الناس على تلك الفطرة ، فالدين ، كالمنهاج للبشر الذين خلقوا على نحو لا تستقيم أمورهم ، إلا إذا ساروا على هذا المنهاج ، وهكذا كما لو صنع شخص «جهازا» ثم كتب «كتابا» فيه كيفية عمل الجهاز ، فإنه يقول : اتبع هذا الكتاب ، فإن الجهاز ركبّ هكذا (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي لا يتغير الخلق عن تلك الفطرة ، حتى يلائمهم منهاج آخر ، غير منهاج الإسلام والدين (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي

٢٤٢

وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً

____________________________________

إن الدين الذي يلائم الفطرة ، هو الدين صاحب القوام ، الذي به قوام البشر وسعادتهم ، أما سائر الأديان ، فإنها لا تلائم الفطرة ، مثلا إن الإنسان ركب بحيث ، إذا اغتسل من الجنابة ، سلم بدنه من الأمراض ، أما إذا لم يغتسل ، ابتلى بمختلف العاهات ، فالدين الذي يأمر به ، هو الدين الذي به قوام الإنسان ، وسواه لا يتمكن من التحفظ على صحة الإنسان ، وهكذا سائر التشريعات (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) صحة ذلك ، ويظنون الدين ، إنما هو منهج من بين مئات المناهج ، فأيها اتبعها الإنسان ، كان كافيا في إقامة الحياة.

[٣٢] وحيث إن قوله «أقم» عام لكل المكلفين ، إما من باب الأسوة بالرسول المخاطب ب «أقم» وإما من باب كون الخطاب عاما ـ ابتداء ـ جاء الحال لفاعل «أقم» بلفظ الجمع ، فقال سبحانه (مُنِيبِينَ) أناب ، بمعنى رجع ، أي في حال كونكم أيها البشر راجعين (إِلَيْهِ) أي إلى الله ، عن الطرق التي كنتم تسيرون فيها ، مما تخالف الدين (وَاتَّقُوهُ) أي خافوا عقابه (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بالاستمرار في إتيانها بآدابها وشرائطها ، فإنها توجب التقوى والاستقامة (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذي يجعلون لله سبحانه شريكا.

[٣٣](مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) فلم يتبعوا دينا واحدا ، أنزله الله سبحانه ، بل اتبع كل فئة دينا ، وهكذا تكون التفرقة ، إذا عملت الأهواء في الناس (وَكانُوا شِيَعاً) جمع شيعة ، وهي الفئة التابعة لمسلك خاص ، أي

٢٤٣

كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤)

____________________________________

كان كل طائفة منهم ، شيعة لمسلك ومبدأ (كُلُّ حِزْبٍ) وشيعة (بِما لَدَيْهِمْ) من الدين والمسلك (فَرِحُونَ) إذ يعتبرون دينهم ، أحسن الأديان ، وطريقتهم خير الطرق.

[٣٤] ومن متناقضات المشركين ما بينه سبحانه بقوله (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) أي لامسهم ونزل بهم ضرر مالي أو جسمي ، أو ما أشبه (دَعَوْا رَبَّهُمْ) لكشف ذلك الضر ، ولا يدعون الشركاء ، لأنهم يعلمون إن الكاشف للضر ، هو الله وحده دون شركائهم (مُنِيبِينَ) أي راجعين (إِلَيْهِ) وحده ، بدون الرجوع إلى الشركاء معه (ثُمَّ إِذا) لبّى دعاءهم ، وكشف ضرّهم و (أَذاقَهُمْ مِنْهُ) أي من قبله تعالى (رَحْمَةً) وفضلا كأن يغنيهم من فقرهم ، أو يأمنهم من خوفهم ، أو ما أشبه ذلك (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي جماعة من أولئك الذين مسهم الضرّ ، فأنابوا إلى ربهم ، فأذاقهم منه رحمة (بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) فيجعلون له شريكا ، والإتيان ب «إذا» لبيان المفاجآت ، وإن هذا الإشراك لم يكن مترقبا ، بعد تلك الأمور.

[٣٥] فقد أشركوا بقصد الكفران لنعم الله (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي أعطيناهم من النعم ، أو أن اللام للعاقبة ، أي كانت عاقبة إذاقة هؤلاء الرحمة ، كفرانهم ، أو كفرهم (فَتَمَتَّعُوا) أيها المشركون ، وهذا أمر للتهديد ، أي تلذذوا ، وخذوا متع الحياة مدة يسيرة (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)

٢٤٤

أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ

____________________________________

عاقبة كفركم ، وهذا تهديد لهم ، بأنهم سيجازون بالعذاب ، والنكال.

[٣٦] ثم يأتي السياق للتفهيم منهم استفهام عارف ، ليعرفهم خطأهم ، فهل كفر هؤلاء بلا حجة وبرهان (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) أي حجة ، ودليلا ، يدل على تعدد الآلهة؟ (فَهُوَ) أي فذلك البرهان (يَتَكَلَّمُ) المراد يظهر ويبين ذلك البرهان (بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ)؟ كلا : لم ينزل سلطان عليهم ، وإنما كفروا وأشركوا ، بلا حجة وبرهان.

[٣٧] إن المؤمن لا ييأس عند الشدة ، ولا يبطر عند النعمة ، أما الكافر ، ومن ضعف إيمانه ، فإنه ـ لخفة نفسه وعدم اتزان روحه ـ إن أعطي بطر ، وإن منع يئس (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) أي أتيناهم نعمة وفضلا (فَرِحُوا بِها) أي بتلك الرحمة بطروا (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي بلاء ومصيبة ، وسمي ذلك سيئة لأنها تسيء إلى الإنسان (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بسبب بعض أعمالهم التي عملوها ، وإنما نسب التقديم إلى اليد ، لأنها الغالبة في مزاولة الأعمال (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) وييأسون عن روح الله المفرّج لهذه السيئة.

[٣٨](أَوَلَمْ يَرَوْا) هؤلاء الذين يبطرون بالنعمة ، ويقنطون بالسيئة (أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أي يوسعه (لِمَنْ يَشاءُ) مما اقتضت المصلحة توسعته (وَيَقْدِرُ) أي يضيق الرزق لمن يشاء من «قدر» بمعنى «ضيّق» فليست

٢٤٥

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ

____________________________________

التوسعة دليلا على إكرام الله ، حتى تسبب البطر ، ولا التضييق دليلا على إذلال الله ، حتى يسبب اليأس ، كما أنهم إن وسّع عليهم لزم أن يشكروا ، وإن ضيق عليهم ، وجب أن يصبروا ، ويدعوا ، لا أن يقنطوا ، ف (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (١) (إِنَّ فِي ذلِكَ) البسط والتضييق (لَآياتٍ) دلالات على أن ذلك من الله (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله إذ :

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا.

[٣٩] وإذ تقدم الكلام ، في أن توسعة الرزق منه سبحانه ، كما أن تضييقه منه تعالى ، فلينفق الإنسان حسب المستطاع ، فإن الإنفاق لا يضر ، كما أن الإمساك لا ينفع ، كما قال :

إذا قبل الدنيا عليك فجد بها

على الناس طرا قبل أن تتفلت

فلا الجود مفنيها إذا هي أقبلت

ولا البخل مبقيها إذا هي ولت

(فَآتِ) أي أعط يا رسول الله (ذَا الْقُرْبى) أي صاحب القرابة (حَقَّهُ) أي حقه الذي قرره الله له ، من الصلة والإنفاق وغيرها ، وهذه الآية ، وإن كانت عامة تشمل إعطاء كل أحد قرابته ، ما جعل الله له من حق ، إما بأن يكون «آت» خطابا لكل مسلم ، أو خطابا للرسول

__________________

(١) يوسف : ٨٨.

٢٤٦

وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي

____________________________________

وعمومه من باب الأسوة إلا أنه وردت روايات خاصة صحيحة في أنها نزلت بالنسبة إلى إعطاء فاطمة عليها‌السلام «فدكا» (١) ولا منافاة ، فإن ذلك من باب المصداق (وَ) آت (الْمِسْكِينَ) وهو الفقير (وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو الذي سافر ، ثم لا نفقة له لمصرفه ، أو لعوده ، وذلك بأن يعطيهما الإنسان حقهما الواجب من الزكاة والخمس ، أو الأعم حتى يشمل كل مساعدة لهما ، ولو من غير الزكاة والخمس (ذلِكَ) الإعطاء لهؤلاء حقوقهم (خَيْرٌ) من عدم الإعطاء (لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي يعطون قربة إلى الله ، لا رياء وسمعة ، فإن المنع يوفر على الإنسان المال ، والإعطاء يوفر على الإنسان السعادة في الدارين ، والسعادة خير من ذلك المال القليل (وَأُولئِكَ) الذين يعطون هذه الحقوق (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بثواب الله تعالى ، في الدنيا والآخرة ، فإنهم يقوّمون بذلك الاجتماع ، وتقوية الاجتماع عائدة إلى تقوية نفس الشخص أيضا ، كما أن ذلك موجب لجزيل الأجر في الآخرة.

[٤٠] وقد كان بعض أصحاب الأموال يعطي الهدية أو نحوها لغيره ، ليعوض عنها بالأزيد ، فبين سبحانه ، أن هذه الكيفية لا تسبب الزيادة والنمو ، وإنما تسبب الزيادة والنمو ، الزكاة والصلاة (وَما آتَيْتُمْ) أي أعطيتم (مِنْ رِباً) «الربا» هو الزيادة من «ربي» بمعنى زاد ، ومنه «الرابية» بمعنى الأرض العالية ، وسمي ما يعطي الإنسان «ربا» لأنه زيادة في الإعطاء ، وليس حقا واجبا (لِيَرْبُوَا) ذلك الربا (فِي

__________________

(١) راجع الكافي : ج ١ ص ٥٤٣.

٢٤٧

أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩)

____________________________________

أَمْوالِ النَّاسِ) أي ينمو ذلك الذي أعطيتموه في أموال المهدي إليهم ، والمعنى يجعل عليه ، ويردّ إليكم ، فكأنه زاد في أموالهم ، حيث إنه إنما ضوعف ، حين اختلط بمالهم ، وهذا النحو من الإعطاء ليس حراما ، ولكنه لا أجر له (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) ولا يعطي الله أجرا على هذه الهدية المراد بها أن تزاد وترد ، هكذا وردت الروايات في تفسير الآية ، وهناك احتمال آخر ، وهو أن يكون هذا منعا لإعطاء المقترض الربا ، والمعنى إن الربا الذي تعطونه بزعم إنه يزاد ، في أموال المقترضين ، إنما هو مجرد زعم ، وإلا فالله سبحانه لا يجعله سببا للزيادة ، من قبيل (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) (١) وإنما توجه النهي نحو المقترض ، لأنه إن أبى لم يجد المقرض وسيلة لاقتراف هذا الحرام ، من قبيل قوله عليه‌السلام : لا تكن عبد غيرك ، وقد جعلك الله حرا (٢) ، وعلى هذا ، فلام «ليربوا» لام العاقبة (وَما آتَيْتُمْ) أي أعطيتم (مِنْ زَكاةٍ) واجبة أو مندوبة ، وإن كان الأنسب ـ بكون السورة مكية ـ إرادة المندوبة (تُرِيدُونَ) بإعطائها (وَجْهَ اللهِ) لا الرياء والسمعة ، وإنما قال «وجه الله» لأن إرضاء شخص يوجب أن يوجّه وجهه إلى المرضي ، فالمعنى من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، للتقريب إلى الذهن (فَأُولئِكَ) المزكون (هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي الذين يضعفون أموالهم ، كما قال سبحانه (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) (٣) وقد دلّ العلم ، على أن إعطاء الصدقات ،

__________________

(١) البقرة : ٢٧٧.

(٢) تحف العقول : ص ٧٦.

(٣) البقرة : ٢٧٧.

٢٤٨

اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ

____________________________________

توجب زيادة المال ، بالإضافة إلى دلالة العقل على ذلك.

[٤١] وبعد ذكر بعض الأمور المرتبطة بالإنفاق ، وما إليه ـ بالمناسبة ـ يرتد السياق إلى ذكر ما صيغ لأجله الكلام ، وهو نفي الشرك (اللهُ) هو (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أوجدكم من العدم (ثُمَّ رَزَقَكُمْ) أعطاكم أنواع الرزق (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) لدى انقضاء أجلكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) لأجل الحساب والجزاء (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) أيها المشركون أي الذين جعلتموهم شركاء لله (مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ) الأمور ، و «كم» للخطاب (مِنْ شَيْءٍ)؟ وطبعا يكون جوابهم بالنفي (سُبْحانَهُ) أي أن الله منزه عن الشريك (وَتَعالى) أي أنه أرفع من أن يمكن أن يكون له شريك (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن الأصنام التي يشركونها مع الله.

[٤٢] إن شرك هؤلاء لم يسبب انحرافا في عقيدتهم فحسب ، بل انحرافا في جميع مرافق الحياة إذ إنّ الشرك لا يتخذ المنهج من الله سبحانه ، وإنما يسير على نهج منحرف ، وذلك يوجب الفساد (ظَهَرَ الْفَسادُ) من القتل ، وهتك الأعراض ، ونهب الأموال ، وسائر المشاكل (فِي الْبَرِّ) والمراد به الأعمّ من البلد والصحراء (وَالْبَحْرِ) فإن السفن السائرة في البحر ، يظهر عليها أثر الفساد ، بالحروب فيما بينها والخوف الناشئ من الاضطراب في البلاد إلى غير ذلك (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)

٢٤٩

لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ

____________________________________

فليس ذلك ظلما منه سبحانه ، بل تابعا لما عملته الناس بأنفسهم ، والنسبة إلى اليد من باب علاقة الكل بالجزء ، لأنها العنصر الفعال في الحياة والاكتساب ، وإنما ترك الله سبحانه الناس حتى يظهر فيهم الفساد (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أي جزاء بعض أعمالهم ، من باب علاقة السبب والمسبب ، فإن الذي عملوا سبب للعقوبة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لكي يرجعوا عن غيهم وضلالهم ويتخذوا ، منهج الله سبحانه ، الملازم للتوحيد ، وعدم الشرك.

[٤٣](قُلْ) يا رسول الله ، مهددا لهؤلاء المشركين ، بأنهم إن بقوا على شركهم وانحرافهم ، أصابهم مثل ما أصاب المشركين من قبل (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) لتصلوا إلى بلاد الأمم الهالكة ، التي ترون آثارها في مسيركم إلى الشام ، وإلى اليمن (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) العصاة (الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) أي كانوا من قبلكم (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) فجوزوا على شركهم بالنكال والدمار ، فإن ذلك يسبب لهؤلاء الإقلاع عن الشرك والانحراف.

[٤٤] وإذ تبين لك ما يسببه الشرك والانحراف من المآسي ، والويلات (فَأَقِمْ) يا رسول الله ، أو خطاب عام ، إما لفظا ، أو للأسوة ، بأن يكون من باب «إياك أعني واسمعي يا جارة» (وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) فلا تنحرف عنه ، وقد سبق معنى الآية (مِنْ قَبْلِ

٢٥٠

أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ

____________________________________

أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) المرد مصدر ميمي ، أي لا رد له ، والمراد بذلك اليوم وهو يوم نزول العذاب ، أو الموت ، أو القيامة ، فإن الأمر بالاستقامة ، إنما هو لأجل أن لا يقع الإنسان في مشكلة لا دفع لها (مِنَ اللهِ) إي إن ذلك اليوم ، من قبل الله ، أو إنه لا رد لما يكون فيه ، مما يأتى من قبل الله تعالى (يَوْمَئِذٍ) في ذلك (يَصَّدَّعُونَ) أي يتفرقون ، فالمؤمنون في الجنة والكفار في النار ، من «اصدّع» أصله «تصدع» من باب «التفعل» أدغمت التاء في الصاد ، فجيء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن ، ومعنى الصدع ، هو الكسر والتفريق ، كما قال (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) (١).

[٤٥] وهل يضر كفر أحد إلّا نفسه؟ فمن كفر ليعلم إنه يضر بذلك نفسه (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي أن ضرر كفره ، ليعود عليه ، ولا يعاقب أحد بسبب كفره (وَمَنْ عَمِلَ) عملا (صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) من مهد ، بمعنى وطئ منزله ، ليكون مريحا ، أي أنهم يجعلون أنفسهم حسنا.

[٤٦] وإنما قرر سبحانه الجزاء الحسن للمؤمن ، والجزاء السيئ للكافر (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) بالأصول (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) فإنما قرر للإنجاز ، كما تقول : قررت دينارا لزيد لأعطيه (مِنْ فَضْلِهِ) فليس الجزاء استحقاقا ، بل فضلا وإحسانا ، وإلا فما أعطاه الله

__________________

(١) الحشر : ٢٢.

٢٥١

إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ

____________________________________

للإنسان في دار الدنيا هو أكثر من استحقاقه بسبب أعماله ، ول (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) فقد قرر (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) والمراد بعدم الحب الكراهة ، لأنه لا واسطة بينهما ، بالنسبة إليه سبحانه ، ويحتمل أن يكون ، لام «ليجزي» للعاقبة ، أي أن عاقبة الكفر عدم الحب وعاقبة الايمان الجزاء الحسن.

[٤٧] ثم يعطف السياق إلى الأدلة ، الدالة على وجوده سبحانه ، بعد ما أخذ شوطا حول المعاد ، وهكذا عادة القرآن ، أن يفنن في الكلام ، لئلا يورث الضجر والكسل من المطلب الرتيب الواحد ، (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وجوده وسائر صفاته (أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) فإن الرياح في موسم المطر ، تبشر بالسحاب والمطر ، لأنها تجمع السحب من هنا ، وهناك ، حتى إذا اغتمت السماء أمطرت (وَلِيُذِيقَكُمْ) الله (مِنْ رَحْمَتِهِ) فإنه يرسل الرياح للبشارة والتفضل (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) أي السفينة في البحار بسبب الرياح (بِأَمْرِهِ) تعالى ، فإن جريان الفلك ، يحتاج إلى أمر الله تعالى ، بالإضافة إلى الرياح (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بالتجارة في السفن وبالزراعة ، وباستعمال المياه في الحوائج (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لكي تشكروا فضله عليكم.

[٤٨](وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) بالهداية والإرشاد

٢٥٢

فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ

____________________________________

(فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) إي الأدلة الواضحات الباهرات ، وإذ لم يؤمن بهم المجرمون المعاندون (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) بالبقاء على الكفر والعصيان ، والمعنى عاقبتهم بتكذيبهم وكفرهم بالعذاب والنكال ، وفيه تهديد لمعاصري الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنهم إن بقوا على إجرامهم كان مصيرهم مصير أولئك (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) بدفع أعدائهم ، وإعلاء كلمتهم.

[٤٩] وبمناسبة ما تقدم من إرسال الرياح ، وإنزال المطر ، يأتي السياق ليفصّل الأمر في صورة أخرى (اللهُ) هو (الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) وإرسالها ، إما بخلقها ، وإما بتحريكها من مكان إلى مكان ، وقد ذكر علماء الفلك تفصيلا ، في كيفية خلق الرياح (فَتُثِيرُ) أي تهيج الرياح (سَحاباً) المراد بالسحاب الجنس ، فإن الرياح تأتي بالسحب ، من هنا وهناك (فَيَبْسُطُهُ) أي يبسط الله السحاب (فِي السَّماءِ) أي جهة العلو (كَيْفَ يَشاءُ) عرضا وطولا وارتفاعا ، وفي أي موضع شاء ، (وَيَجْعَلُهُ) يجعل الله السحاب (كِسَفاً) قطعا متراكبة بعضها على بعض ، حتى يغلظ ، ويثخن (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي المطر ، والخطاب إما للرسول ، وإما لكل من يرى (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي خلال السحاب وثناياه (فَإِذا أَصابَ) الله (بِهِ) أي بالودق (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) بأن

٢٥٣

إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)

____________________________________

نزل المطر في أرضهم (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون ويبشر بعضهم بعضا ، حيث يوجب الرخص بكثرة النبات وتسمين الأنعام.

[٥٠](وَإِنْ كانُوا) أولئك الذين أصاب المطر أرضهم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ) المطر (عَلَيْهِمْ) وعلى بلادهم (مِنْ قَبْلِهِ) للتأكيد ، أو المراد به ، من قبل إثارة الرياح للسحاب (لَمُبْلِسِينَ) أي قانطين آيسين متحيرين ، لا يدرون ماذا يصنعون بزرعهم وضرعهم.

[٥١](فَانْظُرْ) يا رسول الله ، أو أيها الناظر (إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) والمراد بها النبات المتنوع ، والأنهار الجارية ، والأشجار النظرة ، التي غسلها المطر ، فإنها آثار المطر الذي هو رحمة الله (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد أن كانت مواتا يابسة ، لا حركة فيها ، ولا نبات ، ولا ماء (إِنَّ ذلِكَ) الله الذي أحيى الأرض بعد موتها لهو محيي (الْمَوْتى) يحييهم ، بعد أن ماتوا ، للحساب والجزاء (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكما قدر على إحياء الأرض ، يقدر على إحياء الأموات ، وهذا ردّ على منكري البعث ، كيف ينكرون ذلك ، وقد رأوا إحياء الأرض.

[٥٢] لكن هل هذا الإنسان الذي يستبشر بالرحمة ، هو مؤمن بالله من أعماق نفسه ، وراض بقضائه حتى أنه يصبر على بلائه كما يشكر على

٢٥٤

وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢)

____________________________________

نعمائه؟ كلا! إنهم قد عبدوه على حرف ، فإن أصابهم خيرا اطمئنوا به وإن أصابتهم فتنة ، انقلبوا على أعقابهم (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا) عوض الريح المثيرة للسحاب (رِيحاً) هوجاء (فَرَأَوْهُ) أي رأوا النبت (مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد إرسال الريح الهوجاء الموجبة لاصفرار النبات ، وهلاكه (يَكْفُرُونَ) بقضاء الله وقدره ، قائلين : لماذا فعل الله بزرعنا هذا؟

[٥٣] وليس كون هؤلاء الناس ، هكذا لا يصبرون عند البلاء ، لعدم كمال البلاغ ، وإنما لعدم لياقة أنفسهم (فَإِنَّكَ) يا رسول الله (لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) فكما أن الميت ، لا يسمع سماعا مفيدا يرتب الأثر عليه كذلك ، إن هؤلاء الذين هم بمنزلة الأموات ، في عدم حصول الخير منهم ، لا يسمعون العظة سماعا مفيدا ، حتى إذا رأوا بلاء صبروا ولم يكفروا (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَ) جمع أصم ، وهو الفاقد لحاسة السمع (الدُّعاءَ) أي إذا ما دعوته ليقبل إليك (إِذا وَلَّوْا) أولئك الصم ، بأن كانوا (مُدْبِرِينَ) فإن الأصم ، وإن كان لا يسمع ، وإن كان وجهه في طرف الداعي ، إلا أنه يفهم الإشارة ، فيرتب الأثر ، أما إذا أدبر ، فلا يسمع ، ولا يرتب الأثر ، وهو للمبالغة ، في عدم إمكان إفهامه ، وهذا تشبيه إثر تشبيه لحال الكفار الذين لا يؤثر فيهم البلاغ والإرشاد ، وكأنه للترقي نزولا عند رغبة المخاطب ، إيهاما بأن هناك مخاطبا ، يستبعد أن يكونوا كالأموات فإنهم أحياء؟ فيأتي السياق ليقول : سلمنا إنهم ليسوا

٢٥٥

وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً

____________________________________

بأحداث ، إلا أنهم كالأصم الذي ولى دبره ، حيث لا ينتفع بالعظة والإرشاد.

[٥٤](وَما أَنْتَ) يا رسول الله (بِهادِ الْعُمْيِ) أي بقادر على أن تهدي إلى الطريق الذين هم عميان البصيرة (عَنْ ضَلالَتِهِمْ) متعلق ب «هادي» أي لا تقدر على هدايتهم عن ضلالتهم ، لأن مثلهم مثل الأعمى الذي كلما أراد الإنسان أن يريه الطريق ، لا يهتدي ولا يعرف (إِنْ تُسْمِعُ) أي ما تسمع إسماعا مفيدا أحد من الناس (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي بأدلتنا الدالة على وجودنا ، وسائر صفاتنا ، فإن من سلك طريق الهداية ، سمع أقوالك سماعا نافعا (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) لك منقادون لأوامرك.

[٥٥] وكيف يكفر هؤلاء بالله ، وقد علموا أنه هو الذي خلقهم ، ويقلبهم من حال إلى حال (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) من نطف ضعيفة ، أو أطفالا ضعافا ، وهذا من باب المجاز ، إذ جعل ذو الضعف ، وكأنه قطعة من الضعف ، مثل زيد عدل ، و (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) (١) (ثُمَّ جَعَلَ) لكم (مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ) كان فيكم (قُوَّةً) الحياة ، وقوّة الشباب (ثُمَّ جَعَلَ) لكم (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) حتى يرتد الإنسان إلى

__________________

(١) هود : ٤٧.

٢٥٦

يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ

____________________________________

حالته الأولية ، والمراد الشيبة ، حالة الشيخوخة (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من قوي وضعيف ، وقوة وضعف ، فهما خلقان من خلقه (وَهُوَ الْعَلِيمُ) عليم بمصالح عباده ، ولذا يصرفهم من حال إلى حال (الْقَدِيرُ) على ما يريد.

[٥٦] إن هذا الإتقان في الخلق والتقليب في الخلقة ، من عليم قدير ، لا بد وأن تكون له نهاية متقنة ، وغرض مقصود ، هي القيامة ، فليستعد الإنسان لها ، أما من أجرم ، فيذهب عمره هباء ، وكأنه لم يلبث في الدنيا ، إلّا يسيرا (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي القيامة (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ) يحلف الذين أجرموا في الدنيا بأنهم (ما لَبِثُوا) ولم يبقوا في الدنيا (غَيْرَ ساعَةٍ) واحدة ، حيث يستضئلون أيام الدنيا ، كما قال (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) (١) (كَذلِكَ) أي كما صرفوا هناك عن الصدق ، في مدة بقائهم كذلك (كانُوا) في الدنيا (يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن الصدق ، بالنسبة إلى الألوهية ، والرسالة والمعاد.

[٥٧] وكان هذا الكلام من الكفار ، إنما هو بحضور المؤمنين ، فيقول لهم المؤمنون ، وأية فائدة في هذا الكلام : هل طويل كان عمر الدنيا أم قصير ، وإنما المقصود ، كان العمل لأجل هذا اليوم ، وقد فاتكم (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) أي أعطوا علما بالمعارف ، وإيمانا

__________________

(١) المؤمنون : ١١٤.

٢٥٧

لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ

____________________________________

بالألوهية والرسالة والمعاد ـ فهم كما كانوا في الدنيا علماء مؤمنين ، لا يفارقهم هذان هناك ـ (لَقَدْ لَبِثْتُمْ) وبقيتم (فِي كِتابِ اللهِ) أي في علم الله وقضائه ، وما كتبه لكم (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) وهذا كما يقول الإنسان لمن ينازع في مدة بقائه في سفر سافره : إنك في ما سجلت ، أنا بقيت عشرة أيام ، فإن بقاءكم إلى يوم البعث ، هو المهم ، أما أنه طويل أو قصير ، فليس بمهم ، فقد أبقاكم الله في الدنيا للعمل الصالح ، ولم تعملوا (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الذي كنتم تنكرونه (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك في الدنيا ، ولذا وقعتم في العذاب هنا.

[٥٨](فَيَوْمَئِذٍ) أي في القيامة (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والعصيان (مَعْذِرَتُهُمْ) أي اعتذارهم ، بما يظهرون من أنواع العذر ، بأنهم ما علموا ، أو أضلهم الرؤساء ، أو أرجعونا نعمل صالحا ، أو ما أشبه (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا يطلب منهم الإعتاب والرجوع إلى الحق ، كما كان يطلب منهم في الدنيا.

[٥٩](وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) ينفع في إيقاظ الناس عن جهلهم وغيهم ، كتمثيلهم بالأموات ، والصم ، وتمثيل آلهتهم ببيت العنكبوت ، إلى غير ذلك (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ) يا رسول الله (بِآيَةٍ) لإرشادهم ، مشتملة على مثل أو غير مثل

٢٥٨

لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)

____________________________________

(لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) للذين آمنوا (إِنْ أَنْتُمْ) أي ما أنتم (إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي أصحاب أباطيل ، يقال أبطل ، إذا جاء بالباطل.

[٦٠](كَذلِكَ) أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء الكفار ، بعد أن أعرضوا عن الحق ، وقد سبق ، أن معنى الطبع ، هو أن يترك الله الإنسان حتى ينحرف ويقسو قلبه ، بعد أن أرشده إلى الطريق فلم يقبل ، وإنما نسب الطبع إليه ، كما ينسب الإفساد إلى الوالد ، فيقال أفسد فلان ابنه ، إذا تركه «بعد أن أرشده ، فلم يقبل» حتى فسد (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) التوحيد والرسالة والمعاد ، بأن تركوا التعلم حتى جهلوها.

[٦١](فَاصْبِرْ) يا رسول الله ، على أذى هؤلاء الكفار ، وكفرهم وعنادهم ، فسيأتيك المدد (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فسينصرك ويخذلهم (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) أي لا يستفزنك ، يقال استخفه ، إذا طلب خفته ، بأن يستعتبه لنفسه (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) بالله واليوم الآخر ، بأن تترك مهمتك ، أو تداهنهم.

٢٥٩

(٣١)

سورة لقمان

مكية / آياتها (٣٥)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على ذكر «لقمان» الحكيم ، وبعض وصاياه ، وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة بأصولها المختلفة ، من توحيد ، ورسالة ، ومعاد ، ولوازمها ، وبعض الأمور الأخلاقية ، ولما اختتمت سورة الروم ، بذكر القرآن ، ابتدأت هذه السورة بذلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الله ، ولا منافاة بين تقدير الابتداء والاستعانة معا ، بإشراب أحد الفعلين معنى الفعل الآخر ، كما إن الاستعانة باسم الإله ، تنافي التعظيم ، كما قال بعض متوهما لزوم أن يكون اسم الإله آلة من قبيل كتبت بالقلم ، فقد قال سبحانه (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ) (١) وهو الرحمن الرحيم ، الذي يتفضل بالرحمة المكثرة ، لمن استعان به ، وطلب رحمته.

__________________

(١) يوسف : ١٩.

٢٦٠