تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١)

____________________________________

[١٤٩](فَآمَنُوا) به إما المراد أن القوم الجدد الذين أرسل إليهم آمنوا به ، أو المراد القوم الأول ، وقد كانوا حين ذهب يونس آمنوا بالله وبما قاله يونس حين رأوا العذاب ، فقد ورد عن الباقر عليه‌السلام : إن يونس جاءه الوحي من قبله سبحانه ، يقول : إن أهل نينوى قد آمنوا واتقوا ، فارجع إليهم (١) (فَمَتَّعْناهُمْ) أي رفعنا عنهم العذاب ، وأبقيناهم يمتّعون بالحياة (إِلى حِينٍ) الموت ، حيث ماتوا بآجالهم المقدرة لهم.

[١٥٠] وبعد نقل هذه القصص ، يعود السياق مع كفار مكة ، ليوقظهم من غفلتهم ، وينبههم على خرافاتهم ، فقال سبحانه (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي سلهم يا رسول الله (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ) أي هل لله أولادا إناثا (وَلَهُمُ الْبَنُونَ)؟ فقد كانوا يقولون : إن الملائكة بنات الله ، فكانوا يخصصون البنات ـ وهم يكرهونها ـ بالله ، أما البنون فلهم وحدهم.

[١٥١](أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً) أي هل خلقنا الملائكة نساء؟ (وَهُمْ شاهِدُونَ) أي حاضرون وقت خلقنا لهم ، حتى رأوا أنهم نساء ، وهذا على وجه الاستفهام الإنكاري.

[١٥٢](أَلا) فليتنبه السامع (إِنَّهُمْ) أي الكفار (مِنْ إِفْكِهِمْ) وكذبهم ، و «من» نشوية ، أي من منشأ الكذب (لَيَقُولُونَ).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٤ ص ٣٨٣.

٥٠١

وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ

____________________________________

[١٥٣](وَلَدَ اللهُ) حين زعموا إن الملائكة أولاد الله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم ، إن لله أولادا ، وإن الملائكة إناث.

[١٥٤](أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) أصله «أأصطفى» بهمزتين ، أحدهما للوصل ، والثانية للاستفهام ، فحذفت همزة الوصل تخفيفا ، أي هل اختار الله سبحانه ، البنات على البنين ، حين زعمتم إنه جعل ملائكته نساء؟ والمعنى الإنكار عليهم في أن يختار الله ، الأدنى ـ بنظرهم ـ على الأعلى ، وهو قادر على كل شيء.

[١٥٥](ما لَكُمْ) أيها الكفار (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بهذا الحكم الباطل؟ وأصل «مالك» أي شيء لك ، ثم استعمل في الإنكار.

[١٥٦](أَفَلا تَذَكَّرُونَ) تتعظون وترجعون عن غفلتكم.

[١٥٧](أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) أي هل تحكمون بذلك اعتباطا بدون دليل ، أم لكم على ذلك دليل واضح؟ فإن السلطان بمعنى الدليل ، لأنه يسلط الإنسان على خصمه الخالي من الدليل.

[١٥٨] فإن تزعمون إن لكم دليلا على قولكم (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) الذي فيه الحجة على أن الملائكة إناث (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في قولكم.

[١٥٩](وَ) أغرب من هذا ، أن (جَعَلُوا) أي الكفار (بَيْنَهُ) تعالى (وَبَيْنَ

٥٠٢

الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١)

____________________________________

الْجِنَّةِ نَسَباً) إما هو حكاية ، لما كانوا يقولون : إن الله تزوج امرأة من الجن فولدت له الملائكة ، أو لما كانوا يقولون : إن الله أخ لإبليس ـ وهو من الجن ـ فالله خالق الخير وإبليس خالق الشر ، والله أعلم بمراده (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي يحضرون بالكره لموقف القيامة ، ولو كانت الجنة قريبة في النسب لله سبحانه ، كان تعالى يكرمهم ، وهذا كقوله (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) (١)؟ والمعنى أن هؤلاء يزعمون إن الجن نسيب مع الله ، والحال إن الجن هم يعلمون إنهم عباد له يحضرهم للحساب والجزاء كسائر العبيد.

[١٦٠](سُبْحانَ اللهِ) أي أنزه الله تنزيها (عَمَّا يَصِفُونَ) أي عن الشيء يصفون الله به من كونه صاحب الأولاد أو البنات ، وإنه نسيب الجنة.

[١٦١] وإذ كان في قوله سبحانه (إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ) (٢) عموم لفظي ، استثنى من «إنهم» المؤمنين بالرسول المنزهين عن هذه الأقوال (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصهم الله لنفسه ، فهم لا يقولون بهذه الأقوال الفارغة والخرافات.

[١٦٢] ثم بين سبحانه إن هؤلاء الكفار لا يتمكنون من إضلال كل أحد ، إلا الذين هم منحرفون ذاتا ، وكأنه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وللمؤمنين ، بأن لا يخافوا على الدعوة أن تذهب سدى (فَإِنَّكُمْ) أيها الكفار (وَما

__________________

(١) المائدة : ١٩.

(٢) الصافات : ١٥٢.

٥٠٣

تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥)

____________________________________

تَعْبُدُونَ) أي الأصنام التي تعبدونها ، أو المراد مطلق المعبودات حتى الملائكة.

[١٦٣](ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أي على الله سبحانه (بِفاتِنِينَ) يقال فتنة إذا أضلّه وحرّفه عن الطريق ، أي أنكم لا تتمكنون من إضلال الناس ، على خلاف الله سبحانه.

[١٦٤](إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) وإنما تتمكنون على إضلال جماعة خاصة ، هم يصلون الجحيم ، ويلازمونها ، فإن «صلى» بمعنى دخل النار ملازما لها ، فمن سبق في علمه سبحانه أنه منحرف ، يصلى النار لا محالة ، هو الذي يضل بإضلالكم ، لا كل أحد ، فالاستثناء من المقدر ، أي «بفاتنين الناس ، إلا ..».

[١٦٥] ثم جاء السياق ليحكي جملة من خطاب الملائكة للكفار ، في رد قولهم ، إن الملائكة بنات الله ، وإنها آلهة شركاء لله ـ فقد كان بعض الكفار يعبد الملائكة ـ وقيل : إن كلام الملائكة يبتدأ من قوله «فإنكم» (وَما مِنَّا) معاشر الملائكة ، وما ورد من إرادة أهل البيت عليهم‌السلام ، بذلك ، فإنه من باب التأويل ، أو استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى ، أو نحو ذلك ، (إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) لا يتمكن أن يتعدى ذلك المقام ، فكيف يمكن أن يكون من بهذه الصفة إلها يعبد؟ فإن الإله لا حد له ، ولا محل خاص يكنفه.

[١٦٦](وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) صفوفا في الصلاة ، أو المصطفون كالخدم ، ننتظر الأوامر.

٥٠٤

وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١)

____________________________________

[١٦٧](وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) المنزّهون لله عن الشريك ، وعن النقائص ، فكيف يمكن أن يكون من هذا وصفه إلها ، يعبد من دون الله؟

[١٦٨](وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) «إن» مخففة من الثقيلة ، أي أن الكفار ، كانوا يقولون قبل بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[١٦٩](لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي كتابا ، من كتب الأنبياء السابقين ، بأن كان أرسل إلينا رسول ، كما أرسل إلى تلك الأمم.

[١٧٠](لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي كنا من الذين يخلصهم الله لعبادته ، بأن كنا مطيعين له غاية الإطاعة ، فإن كفار مكة ، حيث كانوا يرون أهل الكتاب منحرفين ، ويسمعون قصص أسلافهم ، كانوا يتعجبون من انحراف أهل الكتاب ، ويقولون : لو كان أرسل إلينا رسول لكنا مطيعين لله ، منقادين لأوامره ، فلما أتاهم الرسول ، صاروا مثل تلك الأمم في إيذاء الرسول وتكذيبه.

[١٧١] فلما جاءهم الرسول أو الكتاب (فَكَفَرُوا بِهِ) ولم يقبلوه (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم ، وهذا تهديد لهم بالعقاب والنكال.

[١٧٢](وَ) لكن كفر هؤلاء لا يضر الأنبياء عليهم‌السلام ، ف (لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا) بالنصر ، أي إنّا قبل أن نبعث الأنبياء ، كنا نقول ـ والمراد بالقول : التقدير ـ إنهم سينتصرون على أعدائهم (لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) الذين أرسلوا من قبلنا.

٥٠٥

إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا

____________________________________

[١٧٣](إِنَّهُمْ) أي الأنبياء ـ وهذا تفسير «كلمتنا» ـ (لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) أي الغالبون على الكفار ، فإنا ننصرهم على أعدائهم ، والإتيان ، ب «لهم» للتأكيد ، كما أنه كذلك في الآيات السابقة «وإنا لنحن» في قصة الملائكة ، ثم أن الله سبحانه لم يخلف وعده ، فإن الأنبياء انتصروا في نهاية المطاف ، وسادت مناهجهم الحياة ، والانتصار هو هذا ، وإن عذبوا وقتلوا ، ألا ترى إنا نقول : انتصرت الدولة الفلانية ، إذا غلبت في نهاية المطاف ، وإن قتل أكثر شبابها ، وخربت ديارها.

[١٧٤](وَإِنَّ جُنْدَنا) أي المؤمنين (لَهُمُ الْغالِبُونَ) على سائر الأعداء ، وكونهم جند الله ، باعتبار نصرهم لدينه.

[١٧٥](فَتَوَلَ) يا رسول الله ، والمعنى : أعرض ، (عَنْهُمْ) عن هؤلاء ، بأن لا تقابلهم بالأذى (حَتَّى حِينٍ) نأمرك بقتالهم ، فقد كانت حكمة الله ، أن تشمل الدعوة بالسلم التام ، حتى تنمو وتقوى ، ثم تصول بالقوة ، كما هو طريقة العقلاء.

[١٧٦](وَأَبْصِرْهُمْ) أي أنظرهم بدون أن تحاربهم ، فإن الإنسان الذي تقع عليه الكوارث ، قد يقوم بالمدافعة ، وقد يجلس ينتظر وينظر ، (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) عاقبة أمرهم حين تؤمر بالجهاد ، كيف يتضاءلون أمام الحق ، وحين يؤخذون للعذاب ، كيف لا قوة لهم ولا ناصر؟

[١٧٧] إنهم من جهلهم يقولون : لو كنت يا محمد صادقا ، أنزل علينا العذاب ، وهذا مستغرب جدا (أَفَبِعَذابِنا

٥٠٦

يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١)

____________________________________

يَسْتَعْجِلُونَ)؟ أي كيف يطلب هؤلاء العذاب؟ أما يخافون منه؟

[١٧٨] وسيأتي يوم العذاب (فَإِذا نَزَلَ) العذاب (بِساحَتِهِمْ) أي بأفنية دورهم (فَساءَ) الصباح وقت ذاك (صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) بصيغة اسم المفعول ، أي صباح هؤلاء الذين أنذرهم الرسول ، فلم ينفعهم الإنذار.

[١٧٩](وَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض يا رسول الله عن هؤلاء بعد أن دعوتهم ، فلم تنفعهم الدعوة (حَتَّى حِينٍ) يأتي الأمر بقتالهم.

[١٨٠](وَأَبْصِرْ) أمرهم ناظرا إلى ما يصنعون فقط لتكون شاهدا عليهم (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) إنما كرر للتأكيد ، أو لأن المراد بأحدهما عذاب الدنيا وبالآخر عذاب الآخرة.

[١٨١] وأخيرا نزّه الله سبحانه نفسه ، عما ينسب إليه من الصاحبة والولد والشريك ، وسائر الخرافات (سُبْحانَ رَبِّكَ) «سبحان» منصوب بفعل مقدّر ، أي أسبح ربك تسبيحا ، والمعنى أنزهه عما لا يليق به (رَبِّ الْعِزَّةِ) أي مالك العزة وخالقها ، ومن لوازم العزة المطلقة ، أن لا يكون له ولد وشريك ، وزوجة ليشاركوه العزة (عَمَّا يَصِفُونَ) هؤلاء ، أي يصفون الله به.

[١٨٢](وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) تحية عليهم منا ، أو سلامة وأمان لهم ، من

٥٠٧

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)

____________________________________

أن ينصر عليهم أعدائهم.

[١٨٣](وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فجنس الحمد لله ، إذ جميع المحامد منه ، وهو رب العوالم ، خالقها ومربيها ، والعوالم باعتبار عالم الإنسان ، وعالم الحيوان ، وعالم الجن والشياطين ، وعالم الملائكة ، وعالم الدنيا ، وعالم الآخرة ، إلى غير ذلك ، فإن الله سبحانه ، هو رب الكل لا شريك له فيها.

٥٠٨

(٣٨)

سورة ص

مكيّة / آياتها (٨٩)

سميت السورة بهذا الاسم لابتدائها بهذه اللفظة «ص» وهي كسائر السور المكية تبين العقيدة بأصولها الثلاثة ، في أساليب قصصية رائعة ، للتقريب إلى الذهن ، والتركيز على الحقائق ، وإذ ختمت سورة الصافات ، بذكر المكذبين للرسل ، وللكافرين بالله ، والجاحدين للقرآن ، ابتدأت هذه السورة بمثل ذلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) باسم الإله الرحمن الرحيم نبدأ السورة إعلانا على الصبغة العامة للمسلم ، بأنه مربوط بالله ، وذكرا لله الذي لا ينسى من ذكره ، ويبارك كل شيء ابتدأ به ، واستمطارا لشآبيب رحمته ، ليغمر القارئ بالفضل والرحم.

٥٠٩

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ

____________________________________

[٢](ص) فيه أقوال : منها إنه رمز بين الله والرسول ، ومنها أن المراد ، إن القرآن الذي لا تتمكنون ـ أيها الكفار ـ من الإتيان بأقصر سورة منه ، من جنس حروف الهجاء ، ل «ص» وغيره ، ومنها إنه : اسم لعين تنبع من تحت العرش ، كما ورد عن الصادق عليه‌السلام، ومنها إنه اسم من أسماء الله تعالى إشارة إلى اسم لكونه إشارة إلى «الصابر» أو «الصادق» إلى غيرها من الأقوال ، وفي إعرابه أيضا خلاف تبع الخلاف الأول (وَالْقُرْآنِ) أي قسما بهذا القرآن الذي هو (ذِي الذِّكْرِ) أي صاحب الشرف ، كما يقال : لفلان ذكر أي شرف بسببه يذكر في المجامع ، أو المراد أنه صاحب التذكير بالله واليوم الآخر ، ولا ينافي أن يكون هو ذكر ـ باعتبار بعض آياته ـ وأن يكون صاحب الذكر ـ باعتبار مجموعة وجواب القسم محذوف : أي أنه لحق ، دلّ عليه قوله «بل الذين».

[٣] فليس في القرآن نقص ، يوجب عدم إيمانهم ، فإنه حق ظاهر لا مرية فيه (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله واليوم الآخر (فِي عِزَّةٍ) أي تكبر عن قبول الحق ، فإن الإنسان العزيز يعرض عن الرضوخ لغيره ـ سواء كانت عزة واقعية ، أو عزة مزعومة ـ (وَشِقاقٍ) أي مخالفة للرسول ، والعدو مهما يرى الحق في جانب خصمه ، لا يرضخ له ، ولا يقبل منه ، مشتق من شق ، كأنّه في شق وطرف ، والخصم في شق آخر.

[٤] ولكن هل يبقون هؤلاء كذلك معرضين عن الحق ، أعداء للرسول؟ كلا ، فليعتبروا بالأمم المكذبة ، التي سبقتهم ، ف (كَمْ أَهْلَكْنا) «كم» للخبر يراد به التكثير (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قبل هؤلاء الكفار (مِنْ قَرْنٍ)

٥١٠

فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥)

____________________________________

أي من أمة ، وتسمى الأمة قرنا ، باعتبار تقارن أعمار أفرادها (فَنادَوْا) عند إتيانهم العذاب بالاستغاثة والضراعة ، لكن لم يفيدهم النداء ، في نجاتهم من العذاب (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أصل «لات» «لا» زيدت عليه التاء ، بمعنى «ليس» و «مناص» من «النوص» وهو التأخر يقال : ناص ينوص إذا تأخر ، وقد حذف خبر «لات» أي ليس الوقت الذي استغاثوا فيه ، وقت التأخر للعذاب والنجاة لهم ، فقد كانوا في مهلة ، ما دام أجلهم باق ، أما إذا حقّت عليهم كلمة العذاب ، فلا تفيدهم الضراعة والاستغاثة.

[٥](وَعَجِبُوا) أي الكفار (أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ) أي رسول من قبل الله سبحانه لإنذارهم وتخويفهم عن بأس الله ، بأنهم إن تمادوا على الكفر والعصيان ، أخذهم العذاب ، وأرجعوا إلى النار (مِنْهُمْ) أي من جنسهم ، فقد كانوا يقولون : لو لا يكون الرسول علينا ملائكة (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا) الرسول (ساحِرٌ كَذَّابٌ) فإنه يسحرنا ، حين لا نتمكن من الإتيان ، بمثل القرآن ، حين يأتي بخوارق ، وهو يكذب على الله ، بأنه رسوله ، وإن الله إله واحد لا شريك له ، ولا صاحبة ، ولا ولد.

[٦] ثم جعلوا يستفهمون مستنكرين بقولهم (أَجَعَلَ) أي هل جعل هذا الرسول (الْآلِهَةَ) المتعددة التي نقول بها (إِلهاً واحِداً)؟ أي كيف يقول ، أن لا إله إلا إله واحد ، والحال أن لنا آلهة متعددة؟ (إِنَّ هذا) الذي يقوله محمد من وحدة الإله (لَشَيْءٌ عُجابٌ) أي لأمر عجيب

٥١١

وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا

____________________________________

مفرط في العجب ، قال بعض : إن قبيلة ، كانت لها آلهة متعددة ، تبعا لتنازع كان يقع بينهم ، وقد كانوا يقولون : إن هذه الكثرة من الآلهة ، لا تكفينا ، فيجب صنع آلهة جديدة ، فلما قال لهم الرسل أن الإله واحد ، قالوا ، إنا لم نكتف بهذا العدد العديد من الآلهة ، فهو يدعونا إلى إله واحد؟ وهناك ظريفة تحكى ، هي أن الكفار اجتمعوا ، وقالوا إن في القرآن كلمات غير فصيحة ، وظنوها مأخذا على الرسول ، وجمعوا تلك الكلمات في ثلاث ، هي «كبار» و «يستهزئ» و «عجاب» وأتوا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ناقدين للقرآن فقال الرسول : ائتوني بأفصحكم ، فذهبوا ، وجاءوا بشيخ كبير ، قالوا : إنه أفصحهم ، ولما حضر بين يدي الرسول أراد الجلوس ، فقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخذ في القيام ، فجلس الرسول ، فأخذ الشيخ في الجلوس ، فقام الرسول ، فاستشاط الشيخ غضبا من هذا العمل ، وقال : يا محمد أتستهزئ بي ، وأنا شيخ كبار ، هذا أمر عجاب؟ وهناك نظر بعض القوم إلى بعض ، وقد أبطل الشيخ دعواهم في جملة واحدة وانصرفوا خائبين ، ونقل إن المشركين ، اجتمعوا حول الرسول ، ليفاوضوه في ترك الدعوة؟ فقال لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتعطون كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم؟ فقال أبو جهل : لله أبوك نعطيك ذلك وعشرة أمثالها؟ فقال : قولوا لا إله إلا الله ، فقاموا وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا؟ فنزلت هذه الآيات (١).

[٧](وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) المراد بالانطلاق ، انطلاق الألسنة بالكلام ، فقد قال الأشراف ـ وهم الملأ ـ بعضهم لبعض ، ولأتباعهم (أَنِ امْشُوا)

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٨ ص ٣٤٣.

٥١٢

وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا

____________________________________

أي سيروا في طريقكم التقليدي الذي يقول : بتعدد الآلهة ، ولا تعيروا كلام محمد بالا (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) المتعددة ، وتحملوا المشاقّ في سبيلها ، لئلا يغلبكم محمد (إِنَّ هذا) البقاء على ديننا ، والصبر على المشاق ، في سبيل الآلهة (لَشَيْءٌ يُرادُ) منّا ، فنحن مطلوبون عند العرف الاجتماعي بالحماية عن الشرك.

[٨](ما سَمِعْنا بِهذا) الذي يقوله الرسول من وحدة الإله ، وعدم الشرك (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أي ملة أهل الكتاب ، التي هي خير الملل ، بعد الوثنية ، وما أشبههما ، وكأنهم أرادوا بذلك التموية على العوام ، بأن أهل الكتاب أيضا ، لا يقولون بوحدة الإله ، فكيف يدعي محمد ، إنه مثل موسى وعيسى ، يدعي ما لا يقولا به (إِنْ هذا) الذي يقوله الرسول من التوحيد (إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي الكذب ، فقد خلقه وصنعه محمد ، ولا نصيب له من الواقع وقد رأى الكفار أهل الكتاب ، الذين انحرفوا عن منهاج التوحيد ، فجعلوهم حجة في مقابل الرسول ، وإلا فالأنبياء جميعا لم يقولوا إلا بالتوحيد ، وهكذا أكد التوراة والإنجيل على ذلك.

[٩] ثم جعلوا يستغربون ، عن أن الرسول يكون موحى إليه من بينهم؟ ظانين إنهم مثل الرسول في المؤهلات ، إن لم يكونوا أفضل منه ، فاللازم أن يوحى إليهم دونه ، أو إليهم وإليه على حد سواء (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ) أي على الرسول (الذِّكْرُ) أي القرآن (مِنْ بَيْنِنا)؟ كيف ذلك يكون ، وفينا

٥١٣

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩)

____________________________________

من هو أكبر منه سنا ، ومالا ، وجاها ، وأولادا؟ لكنهم غفلوا ، من أن مؤهلات الرسالة ، غير مؤهلات العرف والعادة ، والرسول منفرد فيها ، فليس قولهم هذا لنقص رأوه في الرسالة والرسول (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) الذي أنزلته على الرسول ، ولم يكن الشك بحق ، فإنهم ، لو تفكروا علموا بصدق الرسول ، وإنما شك المقلد الجاهل ، الذي يرى الحق في طرف ، والتقليد في طرف آخر (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أي عذابي ، حذف «ياء المتكلم» تخفيفا ، وهذا تهديد لهم ، بمعنى أنهم ، إنما يقولون ما يقولون لا لعدم صحة الرسالة والدعوة ، بل لأنهم منحرفون محتاجون إلى التأديب ، وسيذوقون العذاب.

[١٠] أمّا ما يقولون من أن اللازم نزول الذكر عليهم ، دون الرسول ، وقولهم (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (١) فالجواب : إن ذلك فضل الله يعطيه من يشاء (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) حتى يفتحون خزائن الرسالة ، فيهبونها لمن شاءوا ، دون من يريده الله سبحانه؟ (الْعَزِيزِ) في سلطانه ، يفعل ما يشاء (الْوَهَّابِ) العطايا لمن يشاء ، ومن المعلوم ، إن الله سبحانه لا يهب ، إلا حسب المصلحة والحكمة ، فإنما ينزل الرسالة لمن يؤهلها ، كما قال سبحانه (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (٢) وقال (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣).

__________________

(١) الزخرف : ٣٢.

(٢) الأنعام : ١٢٥.

(٣) الدخان : ٣٣.

٥١٤

أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢)

____________________________________

[١١](أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) حتى إذا شاءوا ، أن لا يكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رسولا ، سدّوا أبواب الوحي على وجهه ، لأنهم يملكون طرق الوصول من السماء إلى الأرض؟ وإذا قالوا : إنهم يملكون ذلك (فَلْيَرْتَقُوا) أي يصعدوا (فِي الْأَسْبابِ) الموصلة لهم إلى السماوات ، ليمنعوا مسالك الرسالة ، لئلا يوحى بالقرآن إلى الرسول.

[١٢] إنهم ليسوا بمالكي خزائن الله ، ولا لهم ملك السماوات والأرض ، وإنما جماعة منبوذة تجمعت من لفيف جنود للباطل ، في ابتعاد عن التصرف في الشؤون الكونية ، إنهم (جُنْدٌ ما) نكرة غير مربوطين بشأن من الشؤون (هُنالِكَ) منبوذة في زاوية من زوايا العالم ، لا يرتبط بأمر من أمور الكون (مَهْزُومٌ) هزمهم المنطق والحق (مِنَ الْأَحْزابِ) ملتفة من أحزاب مختلفة ، ومذاهب متشتتة ، فلم يجمعهم الحق ، وإنما الحسد والعناء والكبر ، وإلا فما يجمع بين اليهودي والمسيحي ، والمشرك تحت قيادة أبي سفيان لمحاربة الرسالة الإلهية العظمى؟ و «جند» مبتدأ ، و «هنا لك» خبرة ، و «مهزوم» صفة جند.

[١٣] إن مصير هؤلاء ، هو مصير من قبلهم من الكفار ، حيث كذبوا الأنبياء ، فأهلكهم الله سبحانه ، بما كذبوا ، وإن بقي هؤلاء في كفرهم وغيهم ، سيلاقون ذلك المصير المهلك (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل هؤلاء الكفار (قَوْمُ نُوحٍ) نوحا عليه‌السلام (وَعادٌ) كذبت هودا عليه‌السلام (وَفِرْعَوْنُ) كذب موسى وهارون عليه‌السلام (ذُو الْأَوْتادِ) صفة فرعون ، وقد سئل

٥١٥

وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥)

____________________________________

الصادق عليه‌السلام ، لأي شيء سمي فرعون ذا الأوتاد؟ فقال : لأنه كان إذا عذب رجلا ، بسطه على الأرض على وجهه ، ومدّ يديه ورجليه ، فأوتدوها بأربعة أوتاد في الأرض وربما بسطه على خشب منبسط ، فوتد رجليه ويديه بأربعة أوتاد ، ثم تركه على حاله حتى يموت (١).

[١٤](وَ) كذبت (ثَمُودُ) صالحا عليه‌السلام (وَقَوْمُ لُوطٍ) لوطا عليه‌السلام (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) وهم قوم شعيب ، وقد كانت إلى جنبهم غيضة ذات أشجار ، وهي الأيكة ، كذبوا شعيبا عليه‌السلام (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) الذين كذبوا الرسل ، وكان قومك حزب من تلك ، فما كان مصيرهم؟

[١٥](إِنْ كُلٌ) أي ما كل من أولئك الأقوام (إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) الذين أرسلوا إليهم (فَحَقَ) أي ثبت ولزم عليهم (عِقابِ) أي عقابي ، وحذف الياء تخفيفا ، والمراد بالعقاب أخذهم بأنواع عذاب الاستئصال في الدنيا قبل الآخرة.

[١٦](وَ) إذ قد عرف قومك مصير أولئك المكذبين ، فما بقاؤهم في الكذب والكفر ، إلا انتظارا لتلك العاقبة السيئة (ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ) أي كفار مكة (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) يصيح بهم جبرئيل ، أو ملك آخر ، حتى يهلكهم جميعا ، كما حدث في بعض الأمم السابقة ، أو المراد النفخة الأولى (ما لَها) أي ليس لتلك الصيحة (مِنْ فَواقٍ) أي إفاقة ، بأن

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٨ ص ٣٤٧ ..

٥١٦

وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧)

____________________________________

تنقطع قبل هلاك القوم ، فيرجعوا عن غيهم ، وضلالهم ، يقال : أفاق من مرضه إذا طاب ، وفواق الناقة ، هي المدة بين الحبستين ، لأن فيها يعود اللبن إلى الضرع.

[١٧] وإذ كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يهدد الكفار بالعذاب ، كانوا يقولون : ـ مستهزئين له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عجل لنا بالعذاب! (وَقالُوا) أي الكفار (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) أي قدم لنا نصيبا من العذاب (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) و «القط» هو النصيب ، من «قطّ» بمعنى قطع ، لأن النصيب ، يقطع ويعين في مقدار خاص.

[١٨] قال الله سبحانه في جوابهم تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (اصْبِرْ) يا رسول الله (عَلى ما يَقُولُونَ) أي ما يقوله هؤلاء الكفار في تكذيبك ، والاستهزاء بك (وَاذْكُرْ) جماعة من الأنبياء عليهم‌السلام الذين آذوهم قومهم ، فصبروا ، أو كانت لهم القوة الدنيوية ، بالإضافة إلى الإيمان الذي هو قوة معنوية تقوية لقلوب المؤمنين ، ولئلا يقول المرجفون : إن الإيمان ، لا يلائم الحياة الدنيا ، فاذكر يا رسول الله (عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) أي صاحب القوة ، فإن «أيد» جمع يد ، ثم استعملت في النعمة والقوة ، لأن اليد من أسبابهما (إِنَّهُ) عليه‌السلام ، مع كونه ، ذا قوة عظيمة دنيوية (أَوَّابٌ) أي تواب يستغفر ربه في دائم الأحوال ، من آب يئوب إذا رجع ، وكأن الانشغال بأمور الدنيا ، كان انصرافا عن الله سبحانه ـ ولو انصرافا مباحا ـ فكان يرجع إليه تعالى ، بصرفه نفسه كلها إليه كل صباح ومساء.

٥١٧

إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠)

____________________________________

[١٩](إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ) أي جعلناها مسخرة مع داود في كونها (يُسَبِّحْنَ) بتسبيح داود (بِالْعَشِيِ) أي العصر (وَالْإِشْراقِ) أي عند شروق الشمس ، فإن داود كان إذا سبّح الله تعالى في هذين الوقتين ، كانت الجبال تردد معه التسبيح ، وقوله «يسبّحن» بلفظ العاقل ، لأن صدور محل العقلاء من الجبال يدخلها في جملتهم.

[٢٠](وَ) سخرنا لداود عليه‌السلام (الطَّيْرَ) المراد به الجنس أي كل الطيور ، في حال كونها (مَحْشُورَةً) أي مجموعة له (كُلٌ) من الجبال والطير (لَهُ) أي لداود (أَوَّابٌ) أي رجّاع فكانت الطيور تردّد معه التسبيح ، كما تردد الجبال ، وقيل إنها كانت تطيعه ، فيما يأمر به.

[٢١](وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي قوينا ملك داود بالحرس والمال ، وكثرة العدة والعدة (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) المراد بها ، إما النبوة ، أو أن يكون بحيث يعرف مواضع الأشياء ، فإن الحكمة هي عبارة عن علم وضع الشيء في موضعه اللائق به (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي الخطاب الفاصل بين الحق والباطل ، والمراد به علم القضاء ، فإنه كان يعرف كيفية الحكم بين الناس ومعرفة تمييز المحق من المبطل ، وقد كان من ذلك قاعدة «البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر».

[٢٢] ثم ينتقل السياق لينقل قصة امتحن الله بها داود عليه‌السلام ، فقد جاء خصمان إلى داود في شكوى ، ولما سمع داود من المدعي كلامه حكم له ، بدون أن يستمع من المنكر ، وكان هذا الاستعجال تركا للأولى ،

٥١٨

وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١)

____________________________________

بالنسبة إليه ، ثم توجه وأناب إلى الله سبحانه ، وقد كان أمثال هذه المخالفات ـ المسماة بترك الأولى ـ تصدر من الأنبياء أحيانا لإثارة النشاط في نفوسهم ، لتقوى اتصالاتهم بالله سبحانه ، وهي لم تكن معصية ، كما لا يخفى ، كما أن نقلها في القرآن لعلها ، بسبب أن لا يعتقد الناس فيهم الألوهية ، فإن من عادة الناس ، أن يرفعوا الإنسان النزيه فوق مرتبته ، كما رفعوا المسيح وعلى بن أبي طالب عليهما‌السلام إلى مقام الألوهية ، أما إذا علموا بصدور ترك الأولى منهم ، كان ذلك حاجزا دون الغلو ، ومن غريب الأمر إن جماعة اختلقوا حول هذه القصة أكاذيب استنادا إلى «العهدين» المحرّف ، فذكروا قصة «أوريا» كما نسبوا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسطورة قصة «زينب» ، وقد روى في المجالس عن الصادق عليه‌السلام ، أنه قال : رضى الناس لا يملك ، وألسنتهم لا تضبط ، ألم ينسبوا إلى داود ، إنه تبع الطير ، حتى نظر إلى امرأة «أوريّا» فهواها ، وإنه قدم زوجها أمام التابوت ، حتى قتل ، ثم تزوج بها (١) ، وقد روي عن الإمام المرتضى عليه‌السلام ، إنه قال : لا أوتي برجل يزعم ، إن داود تزوج امرأة أوريا ، إلا جلدته حدين حدا للنبوة ، وحدا للإسلام (٢) (وَهَلْ أَتاكَ) يا رسول الله ، وهذا للتشويق نحو القصة ، التي ستذكر (نَبَأُ الْخَصْمِ) أي خبر الخصمين ، والمراد «بالخصم» الجنس ، ولذا يشمل النفرين ، أي هل بلغك خبر الخصمين (إِذْ تَسَوَّرُوا) أي صعدوا على السور لينزلوا (الْمِحْرابَ) محل عبادة داود عليه‌السلام؟ فقد كان في المحراب ، إذ رأى نفرين نزلا من سور

__________________

(١) الأمالي للصدوق : ص ١٠٢ المجلس ٢٢.

(٢) تنزيه الأنبياء : ص ٩٢.

٥١٩

إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً

____________________________________

المحراب ، أي جداره ، فهاله أمرهم ، إذ لم يدخلوا من الباب ، وإنما جيء بلفظ الجمع ، فقال «تسوروا» لأن الخصم جنس ، والجنس عام ، ويتحمل أن يكونوا أكثر من اثنين ، بأن أتياه مع بعض متعلقيهم ، كما هو العادة في المنازعات.

[٢٣](إِذْ دَخَلُوا) الخصوم (عَلى داوُدَ) من السور (فَفَزِعَ) وخاف (مِنْهُمْ) لأنهم دخلوا من غير الباب ، وبدون الإذن ، وفي غير الأوان (قالُوا) لداود (لا تَخَفْ) فلسنا نريد إيذاءك ، فإن الإنسان قد اعتاد أن يخاف من المفاجئ ، لأنه يظن كون المجيء للإيذاء ، وإلا كان يأتي على نحو المعتاد ، لا فجأة ... إنما نحن (خَصْمانِ) أي نفران ، أو طرفان (بَغى) وظلم (بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) فجئنا إليك لتحكم بيننا (فَاحْكُمْ) يا داود (بَيْنَنا بِالْحَقِ) والعدل (وَلا تُشْطِطْ) من الشطط ، بمعنى الميل عن الحق والكذب ، والالتواء ، وهذا القول لم يكن لأجل احتمالهم ، إن داود يكذب ويجور ، بل هكذا يقول الإنسان المخاصم ، ليري طرفه والسامعين ، إنه واضح للحق مائل إليه ، لا يريد جورا وظلما وتعديا (وَاهْدِنا) أي أرشدنا في قضيتنا (إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي وسط الطريق ، الذي لا جور فيه ، ولا انحراف.

[٢٤] ثم قال أحدهما لداود عليه‌السلام (إِنَّ هذا) الخصم (أَخِي) في النسب ، أو من باب الشفقة واللين في الخطاب (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) أنثى

٥٢٠