تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣)

____________________________________

الخيرية (بِإِذْنِ اللهِ) ومشيئته ، وهذا من أظهر مصاديقه الأئمة الطاهرين ، ثم الأصلح فالأصلح من الأمة ، ولذا قال الباقر عليه‌السلام : «أما السابق بالخيرات ، فعلي بن أبي طالب ، والحسن والحسين عليهم‌السلام والشهيد منا ، وأما المقتصد فصائم بالنهار وقائم بالليل ، وأما الظالم لنفسه ، ففيه ما في الناس ، وهو مغفور له» (١) (ذلِكَ) التوريث ، للكتاب لهذه الأمة (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) إذ قد رآهم الله سبحانه ، أهلا لحمل هذه الأمانة الرفيعة ، وإبلاغها للناس.

[٣٤] ولهؤلاء (جَنَّاتُ عَدْنٍ) عدن بالمكان ، بمعنى أقام فيه ، أي البساتين التي يخلو فيها من يدخل (يَدْخُلُونَها) أي يدخلون تلك الجنات «عبادنا» حتى الظالم منهم ، بعد أن يكون من ورثة الكتاب بالإيمان الكامل ، وإنما عصى جهلا ، كسائر العصاة ، الذين صحت عقيدتهم ، وإنما خلطوا عملا صالحا ، وآخر سيئا ، أما من اختل إيمانه ، فليس بمسلم مؤمن ، حتى يشمل في عموم «عبادنا» (يُحَلَّوْنَ فِيها) أي يلبسهم الله الحلو (مِنْ أَساوِرَ) جمع أسورة ، ومفردها سوار ، وهو ما يجعل في اليد بين المرفق ، والزند (مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) أي ويحلون فيها لؤلؤا ، وقد كان مرسوم الملوك والكبراء لبس الأساور (وَلِباسُهُمْ فِيها) أي في تلك الجنات (حَرِيرٌ) وهو الإبريسم المحض.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ٢١٨.

٤٢١

وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها

____________________________________

[٣٥] وبالإضافة إلى هذه النعم الجسمية ، يتنعّم أهل الجنة بالنعم الروحية (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الأحزان ، التي تنتاب الإنسان في الدنيا ، فلا حزن هناك ولا غم ، بل سرور وحبور (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ) لذنوبنا ومعاصينا (شَكُورٌ) لطاعاتنا وعبادتنا ، ومن شكره ، أنه تفضل علينا بهذه النعم الجسام ، فإن الشخص إنما يعطي العامل الجزاء ، إذا شكر عمله ، وقبله بقبول حسن.

[٣٦] الله (الَّذِي أَحَلَّنا) أي أنزلنا (دارَ الْمُقامَةِ) أي دار الخلود ، التي نقيم فيها إلى الأبد (مِنْ فَضْلِهِ) وكرمه ، وإلا فليست أعمالنا بقدر تستحق به هذا الجزاء العظيم (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) أي لا يصيبنا في دار المقامة عناء ومشقة وتعب (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) وهو المشقة في طلب المعاش ، أو نحو ذلك.

[٣٧] وفي مقابل هؤلاء ، الكفار الذين لم يقبلوا هذا الكتاب ، فلننظر ماذا لهم هناك؟ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله ، واليوم الآخر ، وما يلزم الإيمان به (لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) جزاء على كفرهم (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) بالموت أي لا يحكم الله عليهم بالموت (فَيَمُوتُوا) ويستريحوا من العذاب (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) أي لا يقلل عذاب جهنم

٤٢٢

كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

____________________________________

(كَذلِكَ) الذي ذكرنا من تعذيب هؤلاء الكفار بالنار (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) كثير الكفر المستمر عليه.

[٣٨](وَهُمْ) أي الكفار (يَصْطَرِخُونَ) أي يتصايحون من شدة العذاب ، أصله «صرخ» بمعنى صاح ، وهذا من باب الافتعال ، قلبت تائه طاء على القاعدة (فِيها) أي في جهنم ، يقولون (رَبَّنا أَخْرِجْنا) من جهنم (نَعْمَلْ) عملا (صالِحاً) ، بعد إخراجنا (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) من الكفر والمعاصي ، لكن يأتيهم التوبيخ والتقريع (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) أي نعطيكم العمر الكثير في الدنيا ، بقدر (ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ) أي في ذلك العمر (مَنْ تَذَكَّرَ) فلو كنتم تريدون التذكر والتوبة ، كان لكم من العمر ما يكفي ذلك (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ومع ذلك لم تؤمنوا ، ولم تطيعوا ، وقد أخبر سبحانه في آية أخرى بقوله (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١) (فَذُوقُوا) العذاب (فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) ينصرهم ، ويدفع عنهم العذاب.

[٣٩](إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فالله سبحانه ، كما أنه

__________________

(١) الأنعام : ٢٩.

٤٢٣

إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ

____________________________________

خالقهما ، عالم بما غاب عن الحواس ، في السماوات والأرض (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بالأشياء ، التي تدور في صدور الناس ، ولعل الإتيان بهذه الجملة هنا ، باعتبار أنه يعلم ما في صدور الكفار ، من أنهم ، لا ينوون الإقلاع ، صدقا ، إن رجعوا إلى الدنيا ، كما هو شأن المعاند دائما ، ولذا قال سبحانه (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

[٤٠](هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ) أي خلفاء للسابقين (فِي الْأَرْضِ) تخلفونهم ، في مكانهم ، لتعتبروا بهم ، وأنهم حين عصوا أهلكوا (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي أن عاقبة كفره السيئة على نفسه ، فإنه يتضرر بجزاء كفره (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) وهو أشد الغضب ، فكلما بقوا في الكفر إزداد غضب الله عليهم (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) خسارة لخير الدنيا ، وسعادة الآخرة ، فلهم عذاب نفسي ، هو مقت الله لهم ، وعذاب جسمي هو الخسارة.

[٤١](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين (أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أخبروني عن هؤلاء الشركاء (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) فهل خلقوا بعض الأشياء الموجودة في الأرض؟ (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أم هل اشتركوا في خلق بعض الأمور

٤٢٤

أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ

____________________________________

الكائنة في السماء؟ حتى تقولون أنهم شركاء لله سبحانه ، في العبادة ، لأنهم اشتركوا معه ، في خلق بعض الأشياء ، في الكون (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) أي أنزلنا على هؤلاء المشركين كتابا يصدق عقيدتهم ، بأن ينصر ذلك الكتاب على وجود شركاء لله سبحانه (فَهُمْ) أي هؤلاء الكفار (عَلى بَيِّنَةٍ) أي على حجة ظاهرة (مِنْهُ) أي من الشرك ، فلهم حجة ظاهرة عليه ، أو من ذلك الكتاب؟ لكن لم يكن مستند شركهم ، لا هذا ، ولا ذاك ، ولا ذلك (بَلْ إِنْ يَعِدُ) أي ما يعد (الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) فيقول بعضهم لبعض أن طريقتنا أحسن وأن النصر لنا بالآخرة ، والغرور هو الذي يطمع فيه ، ولكن لا حقيقة له.

[٤٢] إن السماوات والأرض ، كلها مخلوقة لله سبحانه ، وكما خلقهما يحفظهما عن الزوال ، والتفكك ، وليس لصنم شرك في خلقهما أو إبقائهما (إِنَّ اللهَ) تعالى (يُمْسِكُ) أي يحفظ (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بمن فيهما (أَنْ تَزُولا) أي كراهية أن تزولا عن مواضعهما ، فلو انقطعت عناية الله عنهما ، وعن هذا النظام ، لاضطربت أوضاع الكون ، فزالت المدارات والأنجم من مواضعها ، وهلك كثير من السكان ، واضطربت الأرض ، كما أنه لو انقطعت العناية ، عن أصل وجودهما عدمتا في اللحظة والآن (وَلَئِنْ زالَتا) أي قدّر زوالهما (إِنْ أَمْسَكَهُما) أي ما أمسكهما ، وما قدر على حفظهما (مِنْ أَحَدٍ مِنْ

٤٢٥

بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ

____________________________________

بَعْدِهِ) أي من بعد الله سبحانه ، فليس هناك أحد يتمكن أن يحفظ شيئا منهما (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) ومن حلمه ، لا يعجل بالعقوبة على الذين يجعلون لله شركاء (غَفُوراً) يغفر الذنب لمن أناب ، وفي هذا فتح التوبة على المشركين ، كي لا ييأسوا من روح الله ، فإنه تعالى يقبلهم إن رجعوا عن شركهم.

[٤٣] إن الكفار بالإضافة إلى رذيلة الكفر ، ارتكبوا رذيلة خلف الحلف والعهد (وَ) ذلك لأنهم (أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي بأيمان غليظة ، حسب غاية قدرتهم وطاقتهم ، و «جهد» مصدر ، أي جهدوا في القسم جهدا ، أو أقسموا هنا النوع من القسم (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) أي رسول ينذرهم (لَيَكُونُنَّ أَهْدى) أي أقبل للهداية (مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) الماضية ، فقد كانوا يسمعون أنباء الأنبياء مع قومهم ـ من أهل الكتاب ـ فيقولون ، إن جاءنا رسول ، نقبل قوله فورا ، بلا معارضة ، أو مناقشة ، ويحلفون على ذلك بالأيمان المغلطة (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ما زادَهُمْ) مجيئه (إِلَّا نُفُوراً) أي تباعدا عن الحق ، فقد كان قلبهم ، يلين للحق سابقا ، أما إذا رأوه فقد ابتعدوا عنه ، ابتعادا كبيرا.

[٤٤] وإنما نفروا نفورا (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) أي لأنهم استكبروا وتجبروا عن أن يكونوا تبعا للرسول ، فقد طلبوا الكبرياء في الأرض لأنفسهم

٤٢٦

وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣)

____________________________________

(وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أي قصدوا أن يمكروا المكر السيئ بالمؤمنين والمكر حيث كان بمعنى التدبير الخفي ضد العدو ، صح إضافته إلى السيئ ، لأن من المكر ، ما هو حسن ، إذا كان ضد عدو الدين ، كما قال «ومكر الله» (وَ) لكنهم غفلوا من أنه (لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ) صفة مكر ، وفي ما تقدم ، كان مضافا إلى السيئ ، والمعنى لا يحيط جزاء المكر السيئ (إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي بأهل المكر ، كما قالوا : «من حفر بئرا لأخيه ، وقع فيه» فقد قرر سبحانه ، أن يرجع المكر السيئ إلى من مكر ، كما قال : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (١) (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) أي هل ينتظر هؤلاء الكفار المستكبرين الماكرون (إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) بأن تجري فيهم ، عادة الله في الأمم السابقة ، التي كانت تكذب أنبياءها عليهم‌السلام ، والعادة هي أن يعمهم الله بعقاب يهلكهم أي هل ينتظر هؤلاء عقاب الله؟ وإلا فلما ذا لا يؤمنون ، بعد أن رأوا الحق ظاهرا ، فإن كانوا ينتظرون ذلك (فَلَنْ تَجِدَ) يا رسول الله (لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) والمعنى ، فسيأتيهم العذاب ، إذ لا تبدّل سنة الله ، التي سنّها للمكذبين ، من أنه لما تمت عليهم الحجة ، ولم يرتدعوا عمهم بالعقاب ، والنكال (وَلَنْ تَجِدَ) يا رسول الله (لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) فالتبديل مثل أن يكون جزاء المكذب المرض ، فيبدّله الله سبحانه ، بأن

__________________

(١) الأنفال : ٣١.

٤٢٧

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤)

____________________________________

يجعل جزاء المكذب الصحة ، والتحويل مثل أن يكون جزاء المكذب المرض في الدنيا ، فيحوله إلى المرض في الآخرة ، أو أن يكون المرض في المكذبين ، فيحوله إلى المرض في المؤمنين ، وإنما جيء ، ب «ينظرون» مكان «ينتظرون» لأن المنتظر لشيء ، ينظر ليرى ، هل صار أم لا ، وهذا لا يكون ، إلا قرب وقت الشيء الذي ينتظره ، فكأنه قرب العذاب إليهم ، فهم ينظرون ليروه ، بخلاف «ينتظرون» فإنه يلائم الأمر البعيد المرتقب.

[٤٥](أَوَلَمْ يَسِيرُوا) أي هؤلاء الكفار (فِي الْأَرْضِ) التي أهلك أهلها ، كأرض عاد وثمود ، وأرض سدوم ، وغيرها (فَيَنْظُرُوا) بأعينهم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الذين كذبوا أنبياءهم ، فأخذهم الله بالعقاب (وَكانُوا) أولئك الذين أهلكوا (أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الكفار (قُوَّةً) في أبدانهم ، وفي سائر مرافق حياتهم (وَ) إذ صار وقت هلاكهم ، لم يقف دون إرادة الله قواهم الكثيرة ، إذ (ما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) بأن تكون القوة سببا لعجز الله عن تنفيذ إرادته في هلاك القوم (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي ليس ، في السماء ولا في الأرض ، شيء يقف أمام إرادة الله ، فإذ قد أهلك أولئك الذين كانوا أشد من هؤلاء قوة ، فهل يتمكن هؤلاء الأضعفون ، إن يقفوا أمام العذاب؟ (إِنَّهُ) تعالى (كانَ عَلِيماً) بجميع الأشياء يعلم ما يفعل كل إنسان (قَدِيراً) بأن يجازيه حسب عمله ، فليقلع هؤلاء

٤٢٨

وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)

____________________________________

الكفار ، عن غيهم وكفرهم ، وإلا كان مصيرهم ، مصير الأمم الماضية.

[٤٦](وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) من الكفر والعصيان (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) أي ظهر الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) تدب على وجه الأرض ، إذ قد خلقت الأشياء لأجل الإنسان ، فإذا أهلك الإنسان لكفره وعصيانه لزم فناء سائر الحيوانات ، لأنه قد فنى ما لأجله خلقت ، أو أن المراد ، أن العذاب ، لو نزل لعمّ الكل ، فلا تبقى دابة في الأرض ، فإنه إذا كان هناك جماعة بعضهم مجرم ، وبعضهم صالح ، وجاء السيل لأخذ المجرم ، أخذ البريء معه ، وهذا لا ينافي العدل ، إذ يكون ذلك سببا لرفع درجات البريء ـ كما قرر في علم الكلام ـ بأن الآفات إما للتأديب أو للتعذيب ، أو لرفع الدرجة (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ) الله سبحانه (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي قد سماه في اللوح المحفوظ ، فقد علّم على مدة بقاء زيد بسنة كذا ولبقاء عمرو بسنة كذا ، وهكذا ، والاسم في اللغة بمعنى العلامة ، ومنه سمي علم الأشخاص اسما (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) عارفا بأحوالهم ، فيجازيهم حسب ما عملوا ، كما يقول الحاكم ، مهددا للمجرمين إذا جاء يوم المحاكمة ، أنا أعرف الناس ، أي لا أشتبه في الحكم على المجرم بالعقاب ، وأميزه على الصالح البريء.

٤٢٩

(٣٦)

سورة يس

مكيّة / آياتها (٨٤)

سميت السورة بهذا الاسم ، لابتدائها ، ب «يس» وهو كما ورد من أسماء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما لا ينافي في أن يكون «رمزا» أيضا ، وينطبق عليه بعض الأقوال الأخر ، في المقطعات ، وهي كسائر السور المكية ، تعالج قضية العقيدة ، في أسلوب جذّاب ، وإذ كان في أواخر سورة فاطر ، أنهم لم يؤمنوا بالرسول ، بعد إذ جاءهم ، افتتحت هذه السورة ، بالحلف الأكيد ، على كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسلا من قبل الله سبحانه.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله الذي من ابتدأ باسمه في أعماله ، كان العمل قريبا بالخير ، والتمام ، وإن لم يبتدأ به ، كان أبعد عن الخير ، وإن تمّ في الظاهر ، فإن طابع الله سبحانه ، إذا لم يوضع على شيء فنى فيما يفني من زهرة الحياة الدنيا ، والإتيان بوصفي الرحمن والرحيم ، للتأكيد على هاتين الصفتين في الإله سبحانه ، مقابل آلهة الكفار الذين يتصفون بالقساوة والغلظة.

٤٣٠

يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ

____________________________________

[٢](يس) اسم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما ورد عن الباقر عليه‌السلام ، قال : «إن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسة أسماء في القرآن ، محمد ، وأحمد ، وعبد الله ، ويس ، ونون» (١) ، أو رمز بين الله وبين الرسول والأئمة عليهم‌السلام ، أو غير ذلك من الأقوال ، وعلى الأول يكون «منادى» أي «يا رسول الله».

[٣](وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حلف بالقرآن وإنما سمي القرآن حكيما ، لما فيه من الأحكام الحكيمة ، التي جاءت حسب الصلاح ، والحكمة هي وضع الأشياء مواضعها.

[٤](إِنَّكَ) يا رسول الله (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) ، فلست كاذبا ، كما يزعم هؤلاء بل قد أرسلك الله إلى الناس بشيرا ونذيرا.

[٥] في حال كونك (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي تسلك الطريق الذي لا انحراف له ، في العقيدة والعمل ، وإنما جيء ب «على» تشبيها بمن كان يمشي على الطريق ، لاستعلائه عليه.

[٦] في حال كون القرآن (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) العزيز في سلطانه ، فلا يريد شيئا ، إلا عمله ، الرحيم بعباده.

[٧](لِتُنْذِرَ قَوْماً) وهم كفار مكة (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) أي لم ينذر آباؤهم ، لأنهم كانوا ، بلا أنبياء ، في زمن فترة بين المسيح والرسول عليهما‌السلام ، أو

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٦ ص ٩٦.

٤٣١

فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ

____________________________________

أن «ما» موصولة ، أي تنذرهم ، كما أنذر آباؤهم ، لكن ظاهر «الفاء» تفيد الأول (فَهُمْ غافِلُونَ) عن الأصول والآداب ، والنظام ، وإنما عبّر بالغفلة ، لأن الإنسان يكمن في نفسه الأصول والآداب (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (١) وإنما يغفل عنها ، بسبب الأهواء ، والشهوات ، والتقاليد.

[٨](لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) ثبت القول بالعذاب ، على أكثر هؤلاء القوم ، لعنادهم ولجاجهم في الأمر ، بعد تبين الحق ، ووضوح الحجة (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فقد علم الله عدم إيمانهم ، أو أن المراد ، أنه ثبت القول ، بعدم الإيمان عليهم ، بما علم الله فيهم من العناد واللجاج ، فهم لا يؤمنون.

[٩] إن هؤلاء الكفار في إعراضهم كالإنسان الذي غلّت يديه مع عنقه ، وغشي على بصره ، فكيف أنه لا يتمكن أن يشرئب عنقه ليرى ، ولا أن يلمس بيده ليعلم ، ولا أن ينظر ببصره ليرى ، فإن هذه الأعضاء الثلاثة تتعاون في فهم الشيء ، وحيث أن الله سبحانه ، يرى من إنسان الإعراض عن الحق واللجاج ، يتركه حتى يضل ويتيه في أودية العماية ، فكأنّه أضلّه لأنه تركه ، كما يقال : الملك أفسد الناس إذ تركهم حتى فسدوا (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ) أي أعناق هؤلاء الكفار المعاندين (أَغْلالاً) جمع غل ، وهو السلسلة التي يربط بها المجرم في عنقه أو يده أو رجله (فَهِيَ) أي تلك الأغلال (إِلَى الْأَذْقانِ) بأن

__________________

(١) الروم : ٣١.

٤٣٢

فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)

____________________________________

كانت كبيرة ، حتى وصلت إلى أذقانهم ، ليرفعها نحو الفوق ، فلا يتمكنون من النظر بعيونهم أمامهم ، فإن رؤوسهم بسبب تلك الأغلال مرفوعة نحو السماء ، وقيل أن المراد أيديهم مغلولة إلى الأعناق ، ف «هي» عائدة إلى الأيدي المفهومة من السياق ، وأذقان جمع ذقن ، وهو النتو وسط الفك السفلي (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) من قمح ، بمعنى رفع رأسه إلى فوق ، فإن الأغلال ، لما امتدت إلى تحت أذقانهم ، رفعت رؤوسهم إلى السماء ، حتى لا يتمكنون من النظر أمامهم.

[١٠](وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) أي أمامهم سدّ عن قبول الحق (وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) فكما أن الإنسان الذي حصر بين سدين ، لا يتمكن من السير والحركة ، كذلك هؤلاء لا يتمكنون من السير مع الحق ، وإنما هم جامدون في مكانهم (فَأَغْشَيْناهُمْ) أي جعلنا على أبصارهم غشاوة ، تمنعهم عن الإبصار (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الحق ، وقد ورد أن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام ، ونفر من أهل بيته ، وذلك «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قام يصلي ، وقد حلف أبو جهل لعنه الله ، لئن رآه يصلي ليدمغنّه فجاءه ومعه حجر والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قائم يصلي ، فجعل كلما رفع الحجر ليرميه ، أثبت الله عزوجل يده إلى عنقه ، ولا يدور الحجر بيده ، فلما رجع إلى أصحابه ، سقط الحجر من يده ، ثم قام رجل آخر ، وهو من رهطه أيضا ، فقال : أنا أقتله ، فلما دنا منه جعل يستمع قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرعب ، ورأى كأن فحلا حائلا بينه وبين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فرجع إلى أصحابه ، فقال : حال بيني وبينه ، كهيئة الفحل يخطر بذنبه ـ أي يحرك ذنبه

٤٣٣

وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا

____________________________________

غضبا ـ فخفت أن أتقدم» (١).

[١١](وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء الكفار (أَأَنْذَرْتَهُمْ) يا رسول الله (أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) عن العقاب والنار (لا يُؤْمِنُونَ) إذ قد عاندوا الحق ، والمعاند يتساوى عند الإنذار وعدمه.

[١٢](إِنَّما تُنْذِرُ) أي ينفع إنذارك ، في (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي القرآن ، فقد أنذر الرسول الجميع لكن الذين انتفعوا به هم المؤمنون (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي في حال كون الرحمن غائبا عن الحواس ، والمعنى آمن بالله ، وإن لم يره (فَبَشِّرْهُ) يا رسول الله (بِمَغْفِرَةٍ) أي غفران لذنبه (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) لما أتي به من الإيمان والعمل الصالح ، وإنما كان الأجر الكريم ، لعدم شوبه بما يفسده وينقصه ، أو لأنه يقدم إلى المؤمن مع الإكرام والاحترام.

[١٣] ثم بعد الكلام ، حول الألوهية والرسالة ، يأتي دور المعاد ، فقال سبحانه (إِنَّا نَحْنُ) التكرار للتأكيد والإلفات إلى أن المتكلم ذو مقام عظيم (نُحْيِ الْمَوْتى) جمع ميت ، أي ليوم القيامة ، لنجازيهم (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) أي قدم الناس لآخرتهم من الأعمال الصالحة ، أو

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٨ ص ٥٢.

٤٣٤

وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ

____________________________________

الفاسدة (وَآثارَهُمْ) أي الأعمال التي أبقوها بعدهم ، كمن عمر مسجدا ومخمرا ، فإنه يكتب له الثواب والعقاب ، وهو في القبر (وَكُلَّ شَيْءٍ) من الأعمال الصالحة والطالحة ، وسائر الأشياء (أَحْصَيْناهُ) من الإحصاء ، وهو التعداد بالإثبات والكتابة (فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أي كتاب ظاهر ، وإنما سمي الكتاب إماما ، لأنه يجعل مصدر الأخذ ، كما أن الإمام ، مصدر الاقتداء والأخذ ، ولعل المراد بذلك اللوح المحفوظ ، وفي جملة من الأحاديث ، «أن الإمام المبين ، هو الإمام أمير المؤمنين» عليه‌السلام (١) ، وذلك ، إما تأويل أو مصداق ، فإن الأعمال تعرض على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأئمة عليهم‌السلام ، حتى يكونوا شهداء عليها ، فيعلمون أعمال الناس ، ولا تنافي ، بين أن يكون هناك كتاب صامت ، وكتاب ناطق.

[١٤](وَاضْرِبْ لَهُمْ) يا رسول الله (مَثَلاً) أي بيّن لهم مثالا (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) أي قرية أنطاكية ، روي عن الباقر عليه‌السلام ، أنه سئل عن تفسير هذه الآية ، فقال : «بعث الله رجلين إلى أهل مدينة أنطاكية ، فجاءهم بما لا يعرفون ، فغلظوا عليهما ، فأخذوهما وحبسوهما في بيت الأصنام ، فبعث الله الثالث ، فدخل المدينة ، فقال : أرشدوني إلى باب الملك ، فلما وقف على الباب ، قال : أنا رجل كنت أتعبد في فلاة من الأرض ، وقد أحببت أن أعبد إله الملك ، فأبلغوا كلامه الملك ، فقال : أدخلوه إلى بيت الألهة ، فأدخلوه ، فمكث سنة مع صاحبيه ، فقال

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ص ٢١٢.

٤٣٥

____________________________________

لهما : بهذا ينقل قوم من دين إلى دين؟ بالخرق ، أفلا رفقتما؟ ثم قال لهما : لا تقرّان بمعرفتي ، ثم أدخل على الملك ، فقال له الملك : بلغني أنك كنت تعبد إلهي ، فلم أزل وأنت أخي؟ فسلني حاجتك ، فقال : ما لي من حاجة أيها الملك ، ولكن رأيت رجلين في بيت الألهة فما حالهما؟ قال الملك : هذان رجلان أتياني ببطلان ديني ، ويدعواني إلى إله سماوي ، فقال : أيها الملك ، فمناظرة جميلة ، فإن يكن الحق لهما اتبعناهما ، وإن يكن الحق لنا دخلا معا في ديننا ، وكان لهما ما لنا وعليهما ما علينا؟ فبعث الملك إليهما ، فلما دخلا عليه ، قال لهما صاحبهما : ما الذي جئتما به؟ قالا : جئنا ندعوه إلى عبادة الله الذي خلق السماوات والأرض ، ويخلق في الأرحام ما يشاء ، ويصور كيف يشاء وأنبت الأشجار والثمار ، وأنزل القطر من السماء ، فقال لهما : إلهكما هذا الذي تدعوان إليه ، وإلى عبادته ، إن جئنا بأعمى أيقدر أن يرده صحيحا؟ قالا : إن سألناه أن يفعل فعل إن شاء ، قال أيها الملك : عليّ بأعمى لم يبصر شيئا قط؟ فأتى به ، فقال لهما : ادعوا إلهكما أن يرد بصر هذا ، فقاما وصليا ركعتين ، فإذا عيناه مفتوحتان ، وهو ينظر إلى السماء ، فقال : أيها الملك ، عليّ بأعمى آخر؟ فأتى به ، فسجد سجدة ، ثم رفع رأسه ، فإذا الأعمى يبصر ، فقال أيها الملك : حجة بحجة ، عليّ بمقعد ، فأتي به ، فقال لهما مثل ذلك ، فصليا ، ودعوا الله ، فإذا المقعد ، قد أطلقت رجلاه ، وقام يمشي ، فقال : أيها الملك علي بمقعد آخر فأتي به فصنع به كما صنع أول مرة ، فانطلق المقعد ، فقال : أيها الملك قد أتيا بحجة آتينا بمثلها ، ولكن بقي شيء واحد ، فإن كانا هما فعلاه دخلت معهما في دينهما؟ ثم قال أيها الملك بلغني أنه كان للملك ابن واحد ، ومات ، فإن أحياه إلههما ، دخلت معهما في

٤٣٦

إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ

____________________________________

دينهما فقال له الملك : وأنا أيضا معك ، ثم قال لهما : قد بقيت هذه الخصلة الواحدة ، قد مات ابن الملك ، فادعوا إلهكما أن يحييه ، فخرا ساجدين لله عزوجل ، وأطالا السجود ، ثم رفعا رأسهما ، وقالا للملك : ابعث إلى قبر ابنك تجده ، قد قام من قبره إن شاء الله ، فخرج الناس ينظرون ، فوجدوه ، قد خرج من قبره ينفض رأسه من التراب ، قال : فأتى به الملك ، فعرف أنه ابنه ، فقال له : ما حالك يا بني ، قال : كنت ميتا ، فرأيت رجلين بين يدي ربي الساعة ساجدين ، يسألانه أن يحييني ، فأحياني قال : يا بني تعرفهما إذا رأيتهما ، قال : نعم ، فأخرج الناس جملة إلى الصحراء ، يمرّ عليه رجل رجل ، فيقول له أبوه انظر ، فيقول لا ، ثم مروا عليه بأحدهما بعد جمع كثير ، فقال هذا أحدهما ، وأشار بيده إليه ، ثم مروا أيضا بقوم كثيرين ، حتى رأى صاحبه الآخر ، فقال وهذا الآخر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، صاحب الرجلين : أما أنا فقد آمنت بإلهكما ، وعلمت أن ما جئتما به هو الحق ، فقال الملك : وأنا أيضا آمنت بإلهكما ، وآمن أهل مملكته كلهم» (١) ، وفي بعض الروايات «أن عيسى عليه‌السلام ، كان هو الذي بعث بالرسولين ، أولا ثم بعث وصيه شمعون ثانيا» (٢) ، كأنّ الإتيان بهذا المثل للدلالة على قدرة الله على الإحياء ، إرشادا للمنكرين للبعث (إِذْ جاءَهَا) أي جاء إلى أهل تلك القرية (الْمُرْسَلُونَ) الذين أرسلوا من قبلنا بتوسط عيسى المسيح عليه‌السلام.

[١٥](إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ) أي إلى أهل تلك القرية (اثْنَيْنِ) أي رسولين

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٤ ص ٢٤٠.

(٢) راجع بحار الأنوار : ج ١٤ ص ٢٦٦.

٤٣٧

فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا

____________________________________

(فَكَذَّبُوهُما) أهل القرية ، وقالوا لستم أنتم رسلا من قبله سبحانه ، وإنما رجلين كاذبين (فَعَزَّزْنا) أي قويناهما برسول ثالث هو شمعون (فَقالُوا) جميعا لأهل القرية (إِنَّا إِلَيْكُمْ) أيها القوم (مُرْسَلُونَ) فقد كانوا هم أنبياء بأنفسهم ورسل عيسى عليه‌السلام.

[١٦](قالُوا) لهم أهل القرية (ما أَنْتُمْ) أي لستم أنتم (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فلا تصلحون للرسالة من قبل الله ، كما لسنا نحن رسلا ، فكانوا يظنون أن الرسول يجب أن لا يكون بشرا (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) تدعوننا إليه (إِنْ أَنْتُمْ) أي ما أنتم أيها المدعون للرسالة (إِلَّا تَكْذِبُونَ) أي كاذبون ، فيما تدعون من أنكم أنبياء لله تعالى.

[١٧](قالُوا) أي قالت الرسل الثلاثة في جواب القوم (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) والدليل على أن ربنا يعلم أنه أجرى الخوارق على أيدينا.

[١٨](وَما عَلَيْنا) أي لا يجب علينا (إِلَّا الْبَلاغُ) أي إبلاغ الدين (الْمُبِينُ) بأن نبلغكم بكل جلاء ووضوح ، بلا اختفاء والتواء ، فإن آمنتم نفعكم إيمانكم ، وإن لم تؤمنوا ضركم ، أما نحن ، فقد أدينا الأمانة ، وبلغنا الرسالة.

[١٩](قالُوا) أي قال أهل القرية للرسل ـ بعد أن لم يتمكنوا من

٤٣٨

إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)

____________________________________

رد حجتهم ـ (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي تشاءمنا بواسطتكم ، فنخاف أن يصيبنا شؤمكم ، فنقع في البلاء من طالعكم السيئ (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) عن دعوتكم هذه (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) من الرجم ، وهو الرمي بالحجارة ، أي نرميكم بالحجارة ، حتى نقتلكم ، فقد كان الرجم ، من أبشع أنواع القتل ، يعاقبون به أخطر أنواع المجرمين (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا) أي من طرفنا (عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع.

[٢٠](قالُوا) أي قالت الرسل ، في جواب الكفار وتهديدهم (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي إن شؤمكم معكم ، حيث أقمتم على الكفر والعصيان ، والإقامة على الكفر ، موجب للشؤم ، كما قال سبحانه : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (١) فليس بلاؤكم منا ، بل من أنفسكم (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي هل تذكيرنا لكم بالله ، واليوم الآخر ، موجب لهذا القول لنا؟ وهذا استفهام إنكاري ، كما تقول لمن هددك ، حيث نصحته : هل نصيحتي توجب التهديد؟ (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) فلا تهددونا ، لأنكم وجدتمونا كاذبين ، وأسباب شؤم وبلاء ، بل لأنكم قوم تجاوزون الحق تجاوزا كثيرا ، ولذا مع علمكم بصدقنا ، وإننا أسباب خير ويمن تقولون لنا هذه الأقوال ، وتهددونا بالرجم والعذاب.

__________________

(١) طه : ١٢٥.

٤٣٩

وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢)

____________________________________

[٢١] وقد كان رجل يسمى حبيب النجار آمن بالرسل عند ورودهم المدينة ، وكان له بيت في آخر المدينة ، فلما سمع بمحاورة القوم مع الرسل ، أتى إلى القوم لينصحهم (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ) أي آخرها (رَجُلٌ يَسْعى) أي يركض ويسرع في المشي ، لئلا يفوته الموقف ، وقد قيل إن القوم أرادوا قتل الرسل ، فجاء حبيب لإنقاذهم من القتل ، فلما وصل إلى المجتمع (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) الذين أرسلهم الله إليكم لهدايتكم وإنقاذكم من الكفر والعصيان.

[٢٢](اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) فهم ، لا يريدون جزاء وثمنا على تبليغهم ، وإنما يقصدون بذلك الثواب ، عند الله سبحانه ، فما لكم لا تتبعون الناصحين الذين ينصحون ، بلا ثمن وجزاء؟ (وَهُمْ) في كلامهم (مُهْتَدُونَ) قد هداهم الله سبحانه ، فليسوا ضلالا ، ولا كاذبين ، ولا طالبين للأجر.

[٢٣] ثم التفت حبيب من الخطاب إلى التكلم ، فقال (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي أيّ شيء لي في عدم عبادتي لله الذي خلقني؟ فإن «فطر» بمعنى خلق ، وكان هذا الكلام للقوم ، بصورة مؤدبة لا تثيرهم ، ولا تزعجهم (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أيها القوم ، في يوم القيامة ، فهو المبدئ والمعيد ، فكونه خالقا موجب للشكر والعبادة وكونه مرجعا موجب للخوف والعبادة ، فإن الإنسان إنما يطيع أحدا ، إذا تفضل عليه ، أو خاف عقابه ، والأمران مجتمعان فيه سبحانه.

٤٤٠