تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤)

____________________________________

أي يوم القيامة ، حيث تحاسب هناك وتلقى في النار.

[٨٠](قالَ) إبليس عند ذلك ، يا (رَبِ) أي ربي ، وحذف ياء المتكلم تخفيفا (فَأَنْظِرْنِي) أي امهلني ، بأن أبقى حيا (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي يوم القيامة الذي يبعث ويحشر ويحيى فيه الناس؟

[٨١](قالَ) الله تعالى في جوابه (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي من جملة الذين يبقون إلى النفخة الأولى.

[٨٢](إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) الوقت المعلوم ، هو النفخة الأولى التي يموت فيه كل حيّ ، فلم يمهله الله سبحانه إلى يوم القيامة ، بل إلى النفخة الأولى ، وما ورد في بعض الأحاديث ، من أنه عند ظهور الإمام عليه‌السلام ، فهو ببعض الاعتبارات ، كما سبق.

[٨٣](قالَ) الشيطان ، إذ علم بالمهلة (فَبِعِزَّتِكَ) حلفي يا رب ، أي أقسم بقدرتك (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) أي لأضلّن بني آدم (أَجْمَعِينَ).

[٨٤](إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصتهم لنفسك ، فلا أقدر على أولئك ، ومعنى إغوائه لهم دعوته إلى الغواية.

[٨٥](قالَ) الله سبحانه (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) جملة معترضة ، أي قولي حق ، دائما ثابت لا كذب فيه.

٥٤١

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)

____________________________________

[٨٦] و «الحق» مبتدأ خبره قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) أي حقا إملاء النار (مِنْكَ) والمراد به هو وذريته (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) أي اتبع كلامك (مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) «منهم» بيان «من تبعك» والضمير يعود إلى بني آدم ، المفهوم من السياق ، و «أجمعين» تأكيد لمن تبع ، أي كل متتابع ، بحيث لا أدع متابعا لك خارج جهنم.

[٨٧] وأخيرا (قُلْ) يا رسول الله للناس (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي تبليغ الوحي والقرآن (مِنْ أَجْرٍ) أي مال تعطونه لي في مقابل أتعابي (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) للقرآن من تلقاء نفسي ، فليس القرآن كذبا ، تكلفته أنا ، ولا وسيلة ، لأخذي مالا منكم.

[٨٨](إِنْ هُوَ) أي ما هو (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) يذكرهم بما كمن في فطرتهم من التوحيد والمعاد والآداب ، وما أشبه ، والمراد بالعالمين ، الأجيال ، لأن كل دور من أدوار الدنيا ، عالم مستقل ، وإن اتصلت الحلقات بعضها ببعض.

[٨٩](وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) أي خبر القرآن وصدقه (بَعْدَ حِينٍ) في الدنيا ، حيث ترون غلبته على الكفر والكفار ، وفي الآخرة ، حيث ترون صدقه في ما أخبر به من الجنان وأهلها ، والنيران وأصحابها ، وقد علم الكفار ، وسائر الناس ، صدق أنبائه بالنسبة إلى مستقبل الدنيا ، وسنرى صدق أنبائه بالنسبة إلى الآخرة ، جعلنا الله من أهل الجنة.

٥٤٢

(٣٩)

سورة الزمر

مكيّة / آياتها (٧٦)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على هذه اللفظة «زمرا» وهي كسائر السور المكية باستثناء آيات ، قالوا إنها مدنية ، تعالج قضايا العقيدة في أصولها ، ولما ختمت سورة «ص» بذكر القرآن ، فتحت هذه السورة بذلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الله ، الذي لا يخيب من استعان به ، وهو خير مستعان يستعين به الإنسان في مختلف حوائجه ، والتوصيف بالرحمن والرحيم ، التماس للرحمة ، التي وسعت كل شيء ، كي ينال الإنسان المستعين من ذلك المعين الذي لا ينضب فضلا ورحمة.

٥٤٣

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ

____________________________________

[٢](تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي نزول هذا الكتاب ، إنما هو (مِنَ اللهِ) فهذا خبر لتنزيل الكتاب (الْعَزِيزِ) الغالب في سلطانه (الْحَكِيمِ) الذي يحكم بما يريد وفق المصلحة ، ويفعل ما يشاء على طبق الصلاح ، فبحكمته أحكم الكتاب ، وبعزته أنزله للهداية والإرشاد ، وليس سحرا أو تقوّلا أو كهانة كما يقول المشركون.

[٣](إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ) أي القرآن (بِالْحَقِ) فليس إنزاله لأجل الباطل أو اللعب ، أو ما أشبه ، كما لو كتب رئيس إلى نائبه ، أن اقتل الناس ، فإنه إرسال بالباطل ، والإتيان بمادة «نزل» في الآيتين ، إما لعلو مقام المنزل ، فنزل العلو رتبة منزلة العلو حسا ، وإما حقيقة باعتبار ، إن القرآن جاء من السماء إلى الأرض (فَاعْبُدِ اللهَ) وحده لا شريك له ، كما أمرنا في الكتاب (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي في حال كونك تخلص له الدين ـ وهو الطريقة ، في العقيدة والعمل ـ ولا تجعل له ندا أو شريكا ، كما يفعل المشركون.

[٤](أَلا) فلينتبه السامع (لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) يعني إن الطريقة الناصعة الخالصة من الانحراف والالتواء ، وكل سوء هي لله سبحانه ، أما سائر الطرق ، فإنها ليست خالصة ، بل في كل منها التواء وكذب وغش ، والمراد بالدين الخالص هو الإسلام (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (أَوْلِياءَ) أي أصناما يوالونهم ، يقولون : ـ في سبب الاتخاذ ـ

٥٤٤

ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)

____________________________________

(ما نَعْبُدُهُمْ) أي إنا لا نعبد الأصنام ـ والإتيان بضمير العاقل ، باعتبار إن الكفار كانوا يعتبرون الأصنام عقلاء ـ (إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) اسم مصدر زلف بمعنى قرب ، فهو مفعول مطلق ، ب «يقربونا» أي يقربونا تقريبا ، فقد كانوا يعتقدون إن الأصنام توجب القرب من الله سبحانه ، لكنهم كاذبون في هذا الزعم ، و (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) يوم القيامة (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمور الدين ، فقد كان المشركون على اختلاف كبير بين الطوائف والعقائد ، أو أن ضمير «بينهم» يعود إلى الناس عامة ، مؤمنهم وكافرهم ، والمراد بالحكم القضاء ، وبيان أيهم مبطل ، وأيهم محق ، أو بيان أيهم مغرق في الباطل ، وأيهم ليس بتلك المثابة ، وإن كان الكل على باطل ـ وهذا بناء على رجوع ضمير بينهم إلى الكفار فقط ـ (إِنَّ اللهَ) بعد بيان الطريق ، وانحراف البعض (لا يَهْدِي) بالألطاف الخفية ، بالنسبة إلى من انحرف ، وهو الذي عبّر عنه بقوله سبحانه (مَنْ هُوَ كاذِبٌ) على الله وعلى رسوله (كَفَّارٌ) أي كثير الكفر ، فكلما رأى حقا كفر به ، بخلاف من آمن ، فإن الله يهديه ، بأن يلطف به الألطاف الخفية الزائدة على أصل الهداية ، ليزداد هدى ، كما قال تعالى : (زادَهُمْ هُدىً) (١) و (وَزِدْناهُمْ هُدىً) (٢).

__________________

(١) محمد : ١٨.

(٢) الكهف : ١٤.

٥٤٥

لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ

____________________________________

[٥](لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) كما يزعم هؤلاء الكفار من أن لله ولدا (لَاصْطَفى) أي لاختار هو بنفسه (مِمَّا يَخْلُقُ) من الإنسان والملك (ما يَشاءُ) فكان ينتخب الأليق به ، لا أن يترك الأمر إلى الكفار ، حتى يضيفوا إليه من شاءوا من الأولاد ، كما أضاف اليهود عزيرا إليه ، والنصارى المسيح ، والمشركون الملائكة ، فمثلا كان يختار موسى ابنا ، ومحمّد ابنا (سُبْحانَهُ) أي أسبحه سبحانه ، فهو منزّه عن الأولاد ، ولادة وتبنيا ، وهؤلاء كاذبون في إضافة الأبناء إليه ، فإنه (هُوَ اللهُ الْواحِدُ) الذي لا شريك له ، ولا صاحبة ولا ولد (الْقَهَّارُ) الذي يقهر الكون طبق إرادته ، ولو كان له ولد ، شاركه في الألوهية ، فلم يكن واحدا ، ولا قادرا على قهره.

[٦](خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) فلا باطل في شأنه ، حتى يتخذ ولدا بالتبني ، ولا شريك له حتى يكون له ولد صلبي ، إذ لو كان له ولد لشاركه في الخلق بمقتضى كونه إلها (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) تشبيه بمن يلف شيئا على شيء ، فإذا جاء الليل كان ، كأنه لفّ على النهار حتى ستره (وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) فإذا جاء النهار ، كان كأنه لف أيضا على الظلمة حتى سترها (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) بأن ذللهما وأجراهما حسب الصلاح والحكمة (كُلٌ) منهما

٥٤٦

يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ

____________________________________

(يَجْرِي) في مداره (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى غاية محدودة ، يوم يقفان عن السير ، وهو يوم القيامة ، (أَلا) فلينتبه السامع (هُوَ) الله (الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه (الْغَفَّارُ) فمن تاب من الكفار والعصاة ، غفر له ذنبه ، وإنما أتي بهذا الوصف ، لإلقاء الرجاء في قلوب من لاذت قلوبهم نحو الحق ، فلا ييأسوا من سالف أعمالهم ، أن تقبل توبتهم.

[٧](خَلَقَكُمْ) أيها البشر ، بعد خلق السماوات والأرض ، والشمس والقمر (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي نفس آدم عليه‌السلام ، يعني أن أصل خلقتكم من شخص واحد ، كل الناس ينتهون إليه (ثُمَ) هذا إنما هو للتراخي في الكلام ، لا التراخي في الخارج ، كقوله «إن من ساد ثم ساد أبوه ، ثم قد ساد بعد ذلك جده» فإن سيادة الأب قبل الابن خارجا ، وإنما أتي ، ب «ثم» للتراخي في التكلم ، وبيان أن هذا الكلام بإثر ذلك الكلام (جَعَلَ مِنْها) أي من تلك النفس (زَوْجَها) إما أن يراد كون حواء عليها‌السلام ، من فاضل طينة آدم ، أو أنها من نفس ذلك الجنس ، فليست زوجة آدم من جنس الملائكة ، أو الجن ، وهذا فضل منه سبحانه ، لأن «كل جنس لجنسه يلف» (وَأَنْزَلَ) أي بسبب ما أنزله من المطر أنشأ (لَكُمْ) أيها البشر (مِنَ الْأَنْعامِ) وهي الإبل والبقر والضأن والمعز (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) من كل زوجين ذكر وأنثى (يَخْلُقُكُمْ) أيها البشر (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ

٥٤٧

بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى

____________________________________

بَعْدِ خَلْقٍ) فنطفة فعلقة فمضغة ، فعظام فإنسان سوي ، فحياة (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ، فإن هذه الأغلفة الثلاثة محيطة بالولد حال تكوينه (ذلِكُمُ) «ذا» إشارة ، و «كم» خطاب (اللهُ رَبُّكُمْ) أيها البشر ، فإنه هو الذي خلقكم من الابتداء إلى حال الوجود ، بتلك الكيفية المدهشة (لَهُ الْمُلْكُ) كما أن له الخلق (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا شريك له من صنم أو وثن ، أو غيرهما (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) عن الحق ، أي إلى أين يصرفكم الشيطان والكفار؟ حتى تقولون بالشريك لله سبحانه.

[٨](إِنْ تَكْفُرُوا) أيها البشر ، فهو يضركم ، ولا يضر الله سبحانه (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) غير محتاج إليكم ، حتى يضره كفركم (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) فإنه لم يأمر بذلك ، وهذا لنقض قول الكفار ، حيث كانوا يقولون : إن الله أمرنا بهذا (وَإِنْ تَشْكُرُوا) أيها البشر ورأس الشكر ، أن توحدوه (يَرْضَهُ) أي يرضى الشكر (لَكُمْ) ويجازيكم عليه جزاء حسنا وليعلم الكافر أن القادة لا يحملون تبعة كفرهم ، كما يقولون في الدنيا ، حيث قالوا (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) (١) (وَلا تَزِرُ) أي لا تحمل نفس (وازِرَةٌ) أي حاملة (وِزْرَ أُخْرى) أي ذنب الشخص

__________________

(١) العنكبوت : ١٣.

٥٤٨

ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً

____________________________________

الآخر ، بأن تخفف نفس ذنب شخص آخر ، نعم إن الضال يحمل وزرين ، وزر ضلاله ، ووزر إضلاله (ثُمَ) بعد الدنيا ، أيها البشر (إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) مصدر ميمي ، أي رجوعكم (فَيُنَبِّئُكُمْ) يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يجازيكم على أعمالكم ، فإن الإخبار مقدمة الجزاء ، كما يقول الحاكم للمجرم : سأخبرك بما عملت (إِنَّهُ) سبحانه (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بالأشياء التي تدور فيها ، فعلمه شامل لكل شيء ، فلا يظن البشر أنه يتمكن من الإخفاء منه.

[٩] وعجيب أمر هذا الإنسان الذي يكفر بالله ، بعد أن يعتقد في باطنه به (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) من مرض ، أو فقر أو بلاء (دَعا رَبَّهُ) وتوجه إلى الله تعالى (مُنِيباً إِلَيْهِ) من أناب بمعنى رجع ، أي راجعا إلى الله وحده راجيا إيّاه دون سواه (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ) أي أعطاه الله (نِعْمَةً مِنْهُ) أي من قبله (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى أن يكشفه من قبل هذه النعمة ، ومعنى النسيان ترك التوحيد والشكر ، ويستعمل النسيان في الترك ، لأنه من أسبابه ، بعلاقة السبب والمسبب ، كما قال (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (١) ، أو باعتبار أن الشرك غالبا يجر إلى النسيان (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) جمع ند وهو المثل والضد ،

__________________

(١) التوبة : ٦٧.

٥٤٩

لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ

____________________________________

والمراد بها الأوثان (لِيُضِلَ) الناس (عَنْ سَبِيلِهِ) أو يضل نفسه عن سبيل الله ، واللام للعاقبة ، إذ جميع الكفار لا يريدون بالشرك إضلال الناس ، أو ضلال أنفسهم ، وإنما عاقبة الشرك الضلال والإضلال (قُلْ) يا رسول الله ، لمثل هذا الشخص (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) الأمر للتهديد ، أي تنعم بنعمة الدنيا ، التي جرها إليك كفرك ، فكأنه تنعم بالكفر ، والباء سببية ، نحو تنعم بالعلم أو بالمال (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) الملازمين لها كملازمة الصاحب لصاحبه.

[١٠] فهل هذا الإنسان الذي يكفر ويكون مصيره النار خير (أَمَّنْ) يؤمن ، ويعمل الصالحات ، حتى يصير إلى الجنة؟ ف (هُوَ قانِتٌ) من القنوت بمعنى الخضوع لله تعالى (آناءَ اللَّيْلِ) جمع «أنى» بمعنى ساعات الليل ، وإنما خص الليل بالذكر ، لأن القيام في ساعاتها للعبادة ، أدل على قوة الإيمان من الطاعة في ساعات النهار ، في حال كونه (ساجِداً) مرة (وَقائِماً) في الصلاة والتلاوة ، أخرى (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) أي يخاف من عذابها (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) والجنة (قُلْ) يا رسول الله في صدد المقارنة بين الكافر والمؤمن (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)؟ ومن الواضح ، أنهما لا يستويان ، وإذا لا يستوي المؤمن العالم بالله واليوم الآخر ، والكافر الذي لا يعلم بالمبدأ

٥٥٠

إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١)

____________________________________

والمعاد (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) بهذه المواعظ والإرشادات (أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول الذين يعملون عقولهم ، لاستفادة الحق ، أما غيرهم ، فهم في غفلة من هذا.

[١١](قُلْ) يا رسول الله (يا عِبادِ) وأصله يا عبادي (الَّذِينَ آمَنُوا) فعل ماضي (اتَّقُوا) أيها الناس (رَبَّكُمْ) أي خافوا عقابه ، فلا تخالفوا أوامره ، فإنه (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) في العقيدة والعمل (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) المراد بها الجنس ، فإن اتباع مناهج الله سبحانه ، يوجب الغنى ، والصحة ، والأمن ، والعلم ، والفضيلة ، وسائر الخيرات ، كما دلّ عليه الدليل والتجارب (وَ) إذا رأيتم أنكم لا تتمكنون من الإتيان بالطاعة في مكان فهاجروا ، ف (أَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) إلى حيث تتمكنون من أن تحسنوا هناك ، وحيث إن الهجرة توجب أتعابا جمّة ، قال سبحانه (إِنَّما يُوَفَّى) ويعطى وافيا (الصَّابِرُونَ) في الشدائد (أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) فإنه لكثرته ، لا يتمكن الإنسان من عدّه ، وإن كان بقدر معلوم عند الله سبحانه.

[١٢](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) وحده (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي أخلص له في طريقتي ، فلا آخذ عقيدة أو عملا ، إلا من طرفه وحده ، لا أعتقد بغيره ولا أعبد سواه.

٥٥١

وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ

____________________________________

[١٣](وَأُمِرْتُ) من قبله سبحانه (لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) الذين يسلمون لأوامره ، وإنما أكون أولهم ، لأدرك الفضل في السبق إلى الطاعة ، فإن من سبق إلى خير جمع الفضل والأجر.

[١٤](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بالكفر أو الإثم (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هو يوم القيامة ، الذي لا منجى ولا مفر منه ، وعذابه في غاية الشدة ، والخوف يمكن أن يكون مع القطع بالضار كما يمكن أن يكون مع الشك والظن والوهم.

[١٥](قُلِ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين (اللهَ أَعْبُدُ) لا غيره (مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) أي أخلص له طريقتي ، فلا أعبد أحدا معه ، وهذا تكرار لما سبق للتأكيد وتفريغ ما يأتي عليه.

[١٦](فَاعْبُدُوا) أنتم أيها الكفار (ما شِئْتُمْ) من الأصنام والبشر (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله ، وهذا الأمر للتهديد ، أي افعلوا ما شئتم فستلقون جزاءه ، ولذا قال تعالى (قُلْ) يا رسول الله لهم (إِنَّ الْخاسِرِينَ) الذين يحق أن يقال لهم خاسرون هم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بأن ذهبت نفوسهم إلى النار ، وتفرقت عنهم أهاليهم إلى الجنة أو إلى النار ، والخاسر هو الذي يذهب رأس ماله ، بخلاف الرابح الذي يبقى أصل ماله ويزاد عليه ، فإن المؤمن بقيت نفسه في راحة وأهله معه ،

٥٥٢

أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ

____________________________________

ثم ربح النعيم ، أما الكافر ، فإنه لم يحصل شيئا ، وبالإضافة إلى ذلك ، أتلف نفسه وأهله (أَلا ذلِكَ) الذي ذكر من خسارة النفس والمال (هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) الواضح الذي لا خسارة فوقه.

[١٧](لَهُمْ) أي للخاسرين (مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ) «ضلل» جمع «ظلة» وهي السترة العالية ، يعني فوقهم أطباق النار (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) أي فرش ، وتسمية ما تحتهم «ظلل» إما باعتبار المشاكلة اللفظية ، من قبيل قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) (١) وإما من جهة ، أن ما تحت كل طائفة سقف لمن في الدرك والأسفل منه ، إذ النار دركات وأطباق بعضها فوق بعض (ذلِكَ) الذي تقدم من العذاب (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) حتى لا يعصوه فيلقون فيه (يا عِبادِ) حذف ياء المتكلم تخفيفا (فَاتَّقُونِ) أي اتقوني فلا تعصوني ، فقد ألزمت عليكم الحجة ، وأرشدتكم إلى السبيل.

[١٨](وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) المراد به الشيطان ، أو كل قائد ضال شديد الطغيان ، ويطلق على الأوثان تشبيها ، وإلا فليست الأوثان تطغى وتجاوز الحدّ (أَنْ يَعْبُدُوها) بدل اشتمال للطاغوت ، أي اجتنبوا عبادتها ، (وَأَنابُوا) أي رجعوا عن الكفر والعصيان (إِلَى اللهِ) بأن

__________________

(١) البقرة : ١٩٥.

٥٥٣

لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨)

____________________________________

آمنوا وأطاعوا ، والرجوع ، إنما هو بالنسبة إلى من كان كافرا عاصيا ، ويدخل غيره في العموم بالملاك (لَهُمُ الْبُشْرى) أي البشارة بخير الدنيا وسعادة الآخرة (فَبَشِّرْ) يا رسول الله (عِبادِ) أصله عبادي حذف ياء المتكلم تخفيفا.

[١٩](الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) وصف للعباد ، أي إذا سمعوا من المجتمع قولا ، يتركون منحرفه فلا يعملون به ، بل (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي أولاه بالاتباع ، فإن الإنسان يستمع في المجتمع الكفر والإيمان ، والطاعة والعصيان والفضيلة والرذيلة ، فالإنسان الخير يتبع الأحسن مما يستمع ، والإنسان الشرير يتبع الأسوأ مما يستمع ، والأحسن منسلخ عن معنى التفضيل ، أو يراد به الأحسن عرفا ، وإن لم يكن في طرف مقابله حسن حقيقة (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) أي أن من صفته اتباع الأحسن ، هو الذي تفضل الله عليه بالهداية ، والمراد بها اللطف الخفي ، أما الهداية بمعناها العام ، فهي لكل بر وفاجر (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول ، فإن اللب بمعنى العقل ، نقل في المجمع عن بعض إنه قال : إن هاتين الآيتين ، نزلت في «زيد» و «أبي ذر» و «سلمان» حيث كانوا يعترفون بالتوحيد في زمن الجاهلية (١).

[٢٠] ثم يسلي الله رسوله في عدم إيمان جماعة من المعاندين ، فلا يهتم

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٨ ص ٣٩٢.

٥٥٤

أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ

____________________________________

لهم (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) أي ثبتت كلمة العذاب في شأنه ، بأن علم الله سبحانه ، أنه لا يؤمن إلى الأبد ، فأثبت في شأنه العذاب ، وقال فيه «إنه معذب» (أَفَأَنْتَ) يا رسول الله (تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) بأن تهديه حتى لا يدخل النار ، وهذه الجملة عبارة عن «تتمكن من إنقاذه» على سبيل الاستفهام الإنكاري ، أي أنك يا رسول الله ، لا تتمكن من إنقاذ هذا القسم من الناس ، وإنما أتت هذه الجملة ، في قالب الاستفهام ، لزيادة الإنكار ، وقوله «من في النار» باعتبار ، الأول ، نحو ، (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (١) ، وكما نقول «السلطنة ساقطة» حيث نرى فيها آثار السقوط.

[٢١](لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) بأن خافوا عقابه ، فأطاعوه (لَهُمْ غُرَفٌ) جمع غرفة ، وهي البيت فوق الدار ، وتلك أحسن من التحت لقربها من الشمس ، ودخول الهواء فيها ، وإشرافها وغير ذلك (مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) مبنية ، فهم في قصور ذات طبقات ، كما أن من في النار في عذاب ذي أطباق ، من فوقهم ظلل ، ومن تحتهم ظلل (مَبْنِيَّةٌ) أي قد بنيت تلك الغرف ، والإتيان بهذا الوصف ، لامتداد البشارة ، فإن الإنسان كما أطال وصف المطلوب ، امتدت في نفسه البشائر (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي من تحت تلك الغرف (الْأَنْهارُ) فهم ينظرون إلى الأنهار والأشجار ، من فوق مما يزيد في سرورهم ، فإن الإشراف على المحبوب من الأعلى يشع في النفس بهجة وحبورا (وَعْدَ اللهِ) أي

__________________

(١) التوبة : ٤٩.

٥٥٥

لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ

____________________________________

وعدهم الله بذلك وعدا ، فهو مفعول مطلق لفعل مقدر ، و (لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) الذي يعده ، لأن الخلف ناشئ ، إما من الجهل أو العجز أو الخبث ، والله سبحانه منزه من ذلك كله.

[٢٢] وبعد أن ذكر سبحانه قسما من التوحيد والمعاد والرسالة ، ذكر بعض أدلة التوحيد (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو أيها الرائي (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو المطر (فَسَلَكَهُ) أي أدخل ذلك الماء في (يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) جمع ينبوع ، وهو محل اختزان الماء ، وتجمعه كالعيون والقنوات والأنهار ، وما أشبهها (ثُمَّ يُخْرِجُ) الله (بِهِ) أي بسبب ذلك الماء (زَرْعاً) أي نباتا (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) من أخضر وأحمر وأزرق وأصفر وأبيض ، وغيرها ، أو المراد بالألوان جميع الصفات من طعوم وروائح ، وحجوم ، وأشكال وغيرها ، فإن اللون له إطلاقان : إطلاق بمعنى ما يدرك بالبصر فقط ، وإطلاق بمعنى ما يدرك بجميع الحواس ، بل أعم من ذلك ، كالخواص والفوائد (ثُمَّ يَهِيجُ) أي يجف الزرع وييبس ، من هاج أي ثار ، فكأن النبات يثور عن حالته الأولى (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) بعد ما كان ذا لون آخر (ثُمَّ يَجْعَلُهُ) الله (حُطاماً) رفاتا منكسرا متفتتا ، فإن الحطم هو الكسر للشيء اليابس (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي تقدم من إنزال الماء ، وإنبات النبات مع تلك الأوصاف المذكورة

٥٥٦

لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ

____________________________________

(لَذِكْرى) أي تذكير بما كمن في النفوس من التوحيد (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول ، فإن لب كل شيء أحسنه ، ولب الإنسان عقله.

[٢٣] وإذا كانت الآيات الكونية تدل على ما يقوله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان الذي أعرض قاسيا ، لا يدخل النور قلبه ، وكان الذي يقبل ويسلم رحب الصدر قابلا لأنّ يدخل فيه الإسلام ، كالظرف الوسيع القابل لأخذ الشيء (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) وإنما نسب الشرح إلى الله ، لأنه لطف به الألطاف الخفية ، بعد أن كان هو بصدد الإيمان ، مقابل الكافر الذي لا يشرح الله صدره ، بأن يعرض الله عنه ، إذا رآه بصدد التعامي عن الحق ، وإنما نسب الشرح إلى الصدر ، لأنه مركز القلب الذي هو مصدر قبول الإيمان ، أو رفضه ، فهو من باب سبك مجاز من مجاز ، أو باعتبار أن المعرض تشتد فيه حرارة القلب ، فتنتفخ الرئة كثيرا لتجذب الهواء الكثير لتبريد القلب ، فتكون آخذة موضعا وسيعا من الصدر ، ولذا يحس الإنسان بضيق صدره ، لضيق مجاري الدم وما أشبه ، بسبب ضغط الرئة ، وبالعكس من ذلك الذي يهدأ ويسرّ بالإسلام ، فإن حرارته تخف ، فلا تحتاج الرئة إلّا إلى حركة يسيرة ، حتى يبقى أكثر مواضع الصدر فارغا ، فلا ضغط من الرئة على الأوردة والشرايين ، وبذلك يحس الإنسان بسعة صدره (فَهُوَ عَلى نُورٍ) كأنه في طرق الحياة ، على قطعة نور ، يبصر به طريقه جيدا ، فلا يقع في مشاكل الحياة (مِنْ رَبِّهِ) «من» نشوية أي نور ناشئ من قبل الله

٥٥٧

فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ

____________________________________

تعالى ، وقد حذف عدل الاستفهام ، أي أفمن شرح الله صدره ، كمن ليس كذلك؟ وحذفه لنكتة هي ، إن من ليس كذلك غير قابل حتى للذكر ، وكأنه لا شيء ، (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) أي الهلاك والسوء ، للذي قسى قلبه ، حتى لم يجد الإيمان محلا له فيه (مِنْ ذِكْرِ اللهِ) أي قساوة من هذا النوع ، وإن كان رقيق القلب من جهات أخرى (أُولئِكَ) القاسية قلوبهم (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي انحراف واضح بيّن.

[٢٤] وإذ تقدم الحديث عن الإسلام ، يأتي السياق ليصف القرآن الحكيم ، الذي هو مصدر أحكام الإسلام وإرشاداته (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) المراد بالحديث الجنس ، أي أحسن نوع من هذا الجنس ، والحديث هو الخبر ، سمي حديثا ، لأنّه يحدث ويتجدد بعد أن لم يكن ، فإن المخبر يجدّده ويذكره ، وإنما سمى القرآن حديثا ، لأنه كلام الله وإخباراته وإن كان فيه بعض الإنشاء ، فإنه بصورة عامة ، حديث من باب التغليب (كِتاباً) بدل من أحسن الحديث ، أو حال أي في حال كونه مكتوبا لا ملفوظا فقط (مُتَشابِهاً) يشبه بعضه بعضا ، فلا تفاوت في ألفاظه فصاحة وإعجازا ، ولا في معانيه وأحكامه ، إحكاما وإرشادا ، فلا اختلاف فيه ، ولا تناقض (مَثانِيَ) جمع مثنى ، أي أن قصص هذا الكتاب ، وإخباراته ، وأحكامه ، تذكر مثنى مثنى ، في قوالب مختلفة للتركيز في الأذهان ، ويكون أبلغ في التحدي والإعجاز ، ووصف الكتاب بالمثاني ـ جمعا ـ باعتبار سوره وآياته

٥٥٨

تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ

____________________________________

وفصوله (تَقْشَعِرُّ) أي ترتجف (مِنْهُ) من هذا الكتاب (جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) فتأخذهم قشعريرة خوفا من وعيده ورهبة وجلالا (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ) بعد الانكماش بالقشعريرة (وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) فإنّ وعوده سبحانه توجب الهدوء والطمأنينة ، كما قال تعالى (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (١) ومن عادة الإنسان ، أنه إذ ذكر الوعيد تفكر ، فيذكر الوعد ، وهناك الاطمئنان للقلب الوجيف ، والجلد المقشعر (ذلِكَ) أي القرآن (هُدَى اللهِ) الذي هدى بسببه الناس إلى طريق الحق والرشاد (يَهْدِي بِهِ) أي بالقرآن (مَنْ يَشاءُ) وليست مشيئته سبحانه اعتباطية ، بل لمن سلك الطريق الحق وكان في صدد الهدى ، والمراد بالهداية هنا ، الألطاف الخاصة ، وإلّا فالهداية عامة لكل مؤمن وكافر (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) بأن يتركه حتى ينحرف بعد أن لم يقبل الهدى (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) إذ اللطف منه سبحانه ، فإذا أعرض الإنسان عن السلوك في الطريق ، لم يكن له من يلطف به ، حتى يهتدي.

[٢٥](أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) بأن يكون وجهه في مقابل لفح النار ولهبها (يَوْمَ الْقِيامَةِ) خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة ، لا يرى النار

__________________

(١) التغابن : ١٢.

٥٥٩

وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)

____________________________________

أبدا؟ وواضح أن الجواب من يأتي آمنا خير ، وإنما قال «الوجه» لأنه أشرف الأعضاء ، فيكون عذابه أكثر إيلاما من عذاب سائر الأعضاء (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) في الدنيا بناء على تجسيم الأعمال ، أو المراد ذوقوا جزاء ما كنتم تكسبون ، بعلاقة السبب والمسبب ، فإن الكسب علة الجزاء ، وإنما حذف.

[٢٦] ويعتبر هؤلاء الكفار بمن سبقهم حيث إنهم لما كذبوا عوقبوا وأهلكوا (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قبل هؤلاء الكفار من الأمم الماضية (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ) أي جاءهم عذاب الله في الدنيا (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يعرفون ، فقد كانوا آمنين في بلادهم ، وإذا بهم يرون عذاب الاستئصال من صيحة أو خسف أو قذف ، أو ما أشبه يعمهم.

[٢٧](فَأَذاقَهُمُ اللهُ) أي أذاق أولئك الأمم المكذبة (الْخِزْيَ) والهوان (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بأن عذبهم وأهلكهم (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) الذي أعدّ لهم لتكذيبهم وكفرهم (أَكْبَرُ) من عذاب الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو علموا بالعذاب المهيئ لهم ، لعلموا أن ذلك أكبر من عذاب الدنيا.

٥٦٠