تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ

____________________________________

ينذرهم ولكن توحيد الناس تحت لواء واحد بما في ذلك من فوائد التعاون اقتضى أن يرسل رسولا واحدا ، ثم ينتشر البلاغ منه إلى سائر الناس ، وهذا بالنسبة إلى وقت إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا ينافي قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (١) وهذه الآية أنسب إلى كون الضمير في «صرفناه» للقرآن لا للمطر.

[٥٣](فَلا تُطِعِ) يا رسول الله (الْكافِرِينَ) فيما يدعونك من المداهنة والإجابة إلى بعض رغباتهم وترك التبليغ مدة من الزمان (وَجاهِدْهُمْ) والمراد الكفاح معهم (بِهِ) أي بالقرآن (جِهاداً كَبِيراً) فإن صبر الأعزل على الأذى أكبر من قتال المسلح مع الكفار في ميدان الحرب.

[٥٤] ثم يرجع السياق إلى عدّ الآيات الكونية (وَهُوَ) الله (الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) بحر المياه المالحة ، وبحر المياه الحلوة فإن مياه البحار مالحة ، والمياه التي تنزل من السماء فتسكن في أجواف الأرض كالبحار حلوة حتى تخرج من النفق الموجودة في الجبال ، والله سبحانه حيث جعل بحيث يتلاقى هذين البحرين إذ مياه الأنهر تصبّ في البحار المالحة ، في جميع أطراف الأرض ، حتى كان بعضها مختلط ببعض ومع ذلك لا يطغى البحر المالح على البحر العذب ، حتى يفسده ويسقطه عن الانتفاع في الزرع والشرب.

(هذا) يعني أحد البحرين (عَذْبٌ فُراتٌ) أي طيب شديد الطيب

__________________

(١) فاطر : ٢٥.

٢١

وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤)

____________________________________

سائغ شرابه (وَهذا) أي البحر الثاني (مِلْحٌ) أي كالملح في الملوحة ، وإنما قيل ملح مبالغة ، مثل زيد عدل (أُجاجٌ) شديد الملوحة (وَجَعَلَ بَيْنَهُما) بين البحرين (بَرْزَخاً) أي حجابا أو حاجزا من قدرة الله (وَحِجْراً) أي منعا (مَحْجُوراً) ممنوعا دخول بعض المياه إلى بعض ، حتى يفسد العذب بالمالح ، وهذا لتأكيد المبالغة في عدم اختلاطهما اختلاطا مفسدا ، وإن «مرج» أخيرا بعد أخذ الأرض والناس حاجتهما منه ، وهذا من بديع القدرة حيث جعل قرار المياه العذبة فوق سطح البحر.

[٥٥](وَهُوَ) الله (الَّذِي خَلَقَ) وأوجد (مِنَ الْماءِ) أي المنى ، أو الماء المكون للنبات والحيوان ، حتى يأكلهما الإنسان ، فيتحول في بدنه منيا (بَشَراً) أي إنسانا ، قيل سمي بشرا ، لظهور بشرته ، بخلاف غالب الحيوانات المكسي جلدها بالريش أو الشعر أو ما أشبه (فَجَعَلَهُ) أي جعل البشر بكيفية يتلاقى بعضهم مع بعض بسببها (نَسَباً وَصِهْراً) فالأولاد والأحفاد يتلاقون بالمصاهرة والزواج ، والتقدير «جعله ذا نسب وصهر» والصهر من صهر بمعنى قرب ، ومنه يقال للشيء المذاب منصهر ، لأنه يقترب بعضه إلى بعض (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) أي قادرا على كل شيء ، ولذا خلق هذه المخلوقات المدهشة ، بهذا النظام والكيفية العجيبين.

[٥٦] إن الله سبحانه هو الذي خلق كل شيء ، كما نشاهد في الآيات الكونية

٢٢

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧)

____________________________________

(وَ) مع ذلك (يَعْبُدُونَ) أي هؤلاء المشركون (مِنْ دُونِ اللهِ) أي سواه سبحانه (ما لا يَنْفَعُهُمْ) بذاته (وَلا يَضُرُّهُمْ) فإن الأصنام أشياء جامدة لا تقدر على النفع ولا الضرر والمراد لا ينفعهم إن عبدوها ، ولا يضرهم إن لم يعبدوها (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) الظهير العون ، أي أن الكافر يعين الشيطان على ضد ربه وإلهه بينما اللازم على الإنسان العاقل أن يعين ربه على عدوه لا أن يعين عدوه ضد ربه.

[٥٧](وَما أَرْسَلْناكَ) يا رسول الله (إِلَّا مُبَشِّراً) لمن آمن وأطاع بالثواب (وَنَذِيراً) لمن كفر أو عصى بالعقاب ، فليس عليك انحراف هؤلاء ، وإنما أنت مبلغ ومرشد فمن قبل فلنفسه ومن أبى فعليها.

[٥٨](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على التبليغ والإرشاد (مِنْ أَجْرٍ) وثمن تعطونه لي عوض تبليغي وأتعابي (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) إما أن الاستثناء منقطع بمعنى أنه ما أسألكم إلا أن تتخذوا سبيلا إلى ربكم ، وقد ذكرنا سابقا أن المستثنى منه لأنه مشتمل على أصل شيء وقيده ، فقد يستثني من الأصل ويكون الاستثناء حينئذ منقطعا وقد يستثني من مجموع القيد والمقيد فيكون الاستثناء متصلا ، وإما أن الاستثناء متصل ، والمراد أني لا أسألكم أجرا ولكني لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضات الله سبحانه ،

٢٣

وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

____________________________________

ولا يخفى أن الخمس ليس أجرا ، بل هو تعيين قسم من المال لقسم من الفقراء.

[٥٩](وَتَوَكَّلْ) يا رسول الله ، ومعنى التوكل إيكال الأمر إلى الغير (عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) فإنه خير من وكله الإنسان ، إذ هو لا يموت فيضطرب أمر الوكالة ، وقيد «الذي لا يموت» للتخصيص ، إذ سائر الأحياء يموتون ، توكل عليه ، في أمر التبليغ وما تلاقيه من العنت والإرهاق في سبيل الدعوة (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي نزهه تنزيها بالثناء ، فإن التنزيه يكون بنفي النقائص وقد يكون بإثبات الكمالات المستلزمة لنفي النقائص (وَكَفى بِهِ) الضمير فاعل كفى ، وأدخل حرف الجر على الفاعل ، لأنه بمعنى اكتفى به (بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي عالما ، فإنه يعلم ما يذنب العباد وسيجازيهم عليه ، فلا تهتم بكفر الكافرين فإن حسابهم على الله ، وإنما أنت مبلغ تسبح بحمد الله ، وتتوكل في أمرك عليه.

[٦٠] ثم يبين السياق وصف الإله ليوقظ في الناس ما فطر فيهم من أنّ الكون لا بد له من خالق فرجعوا إلى ما غفلوا عنه (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من أنواع الملائكة والبشر والحيوان وسائر المخلوقات (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وخصوصية ستة أيام لأجل أنه أحد أفراد التحديد ، كما في خصوصية الإبطاء ، مع أنه تعالى كان قادرا على أن يخلقها في لمح البصر لما عليه سنّة الله من تدريجية تكوينه في هذا

٢٤

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ

____________________________________

الكون ، كما نشاهد أن الزرع والجنين وغيرهما بحاجة إلى زمان حتى وقت الإكمال (ثُمَّ اسْتَوى) أي استولى (عَلَى الْعَرْشِ) بمعنى الإحاطة على الكون ، وهذا كما يقال : بنى الملك المدينة ثم استقر على السرير ، يراد أنه أحاط بالسلطة ، لا أن هناك سريرا جلس عليه ، والإتيان ب «ثم» مع أن الاستيلاء كان من الأول ، من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، وكأن الإتيان بهذا الكلام لإفادة أن مثل هذا الإله يلزم التوكل عليه ، فإنه لا يخيب من فوض أمره إليه (الرَّحْمنُ) قالوا : بأنه خبر ، ل «الذي» أي أنه هو الرحمن الذي يتفضل بالرحم على كل شيء فما أجدر بالإنسان أن يكل أموره إليه (فَسْئَلْ) يا رسول الله (بِهِ) أي بواسطته (خَبِيراً) والمعنى إن تسأله عن شيء فإنه خبير بذلك الشيء ، وهذا كناية عن أنه عالم بكل شيء فإخباره عن أي شيء كان ، مطابق للواقع ، وقد ذكر أهل الأدب إن من البلاغة أن يتوهم الإنسان شيئا على وصفين ، وصف الأصالة ووصف التوسط ، ثم يقصد الأصيل بواسطة المتوسط ، كما يقال : شربت به ماء ، والضمير للماء ، أو قتلت به كافرا ، أو وجدت به عالما متحدثا ، وهكذا ، وهذه الجملة لإفادة إن أخباره في أصل الخلقة هو الحق.

[٦١](وَ) بعد هذه الآيات الكونية ، والإلفاتات الجمّة (إِذا قِيلَ لَهُمُ) أي للكفّار (اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) واخضعوا له ، فإنه الخالق الراحم (قالُوا) على طريق الكبر والاستعلاء (وَمَا الرَّحْمنُ) وقد أتوا بلفظ «ما» الذي هو لما لا يعقل استهزاء ، فقد كانوا لا يعترفون بهذا «اللفظ» من جملة

٢٥

أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢)

____________________________________

سخافاتهم الكثيرة (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) استفهام إنكار ، أي نترك آلهتنا ونسجد لمن لا نعترف به (وَزادَهُمْ) ذكر الرحمن (نُفُوراً) أي تنافرا عن الحق والإيمان.

[٦٢] وارتد السياق ليبين جملة أخرى من الآيات الكونية (تَبارَكَ) أي تعالى وتقدس الإله (الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) من برج إذا ظهر ، وهي البروج المعروفة الإثنى عشر ، وهي منازل للكواكب السبع السيارة ، أو يراد هنا بالبروج نفس الكواكب ، لظهورها (وَجَعَلَ فِيها) أي في السماء ، وهي سماعي (سِراجاً) أي مصباحا هي الشمس (وَقَمَراً مُنِيراً) أي مضيئا.

[٦٣](وَهُوَ) الإله (الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي يخلف أحدهما الآخر ، فإن «خلفة» هي كل شيء بعد شيء ، وتقديم الليل ـ في الكلام ـ لأنه أشبه بالأصل ، إذ النور يشقه ويمحيه (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) أي يتفكر ويستدل بذلك على الإله ، فإن الغاية من خلق الأشياء هو الإنسان ، والغاية من خلق الإنسان العبادة ، وهي لا تتحقق إلا بالمعرفة ، فصح أن يقال : خلقهما للتذكر ، وسمي تذكرا لما أودع في فطرة الإنسان من الاعتراف ، وإنما الأشياء مذكرات (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أي أراد شكر النعمة فإنهما نعمتان عظيمتان ومن أهم ما يوجب الشكر.

٢٦

وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ

____________________________________

[٦٤] وبعد الإلفات إلى هذه الآيات نرى عباد الله العقلاء يخضعون لله سبحانه ، ويعتدلون في سلوكهم ، وينتهجون المنهج المقرر لهم (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) في مقابل الذين كانوا ينفرون من اسم الرحمن (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) هذا خبر «عباد الرحمن» والمعنى مشيهم مشية المتواضع ، فيمشون هينا بسكينة ووقار ، ولا يمشون بكبرياء وتجبّر ، فإن «هون» مصدر «هين» (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) بخطاب يكره ويثقل على الإنسان (قالُوا) في جواب الجهال (سَلاماً) أي سدادا من القول ، وما يوجب السلامة ، لا ما يوجب الخصام والنزاع ، فليس المراد هذه اللفظة بالذات ، بل المعنى الدفع بالتي هي أحسن ، كما قال سبحانه (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (١).

[٦٥](وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ) من بات بمعنى أوصل الليل بالصباح (لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) جمع ساجد وقائم ، وإنما خص الليل ، لأن العبادة فيه أشق وأبعد من الرياء وأقرب إلى فراغ القلب ، ولعلّ تخصيص هذين الأمرين ، لأنهما الأكثر في العبادة دون الركوع والجلوس.

[٦٦](وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) بمعنى عدم الوقوع

__________________

(١) فصلت : ٣٥.

٢٧

إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ

____________________________________

فيها ، وكأن التعبير بلفظ الصرف ، لأجل استحقاق الناس للنار بأعمالهم ، فالمطلوب صرفها (إِنَّ عَذابَها) أي عذاب جهنم ، فإنها مؤنثة سماعية (كانَ غَراماً) أي غرامة تلحق الإنسان أو لازما دائما ، وإنما سمي الغريم غريما لملازمته وإلحاحه ، وفلان مغرم بفلان أي ملازم له عاشق.

[٦٧](إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي أن جهنم بئس موضع قرار وإقامة.

[٦٨](وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا) في سبيل الله (لَمْ يُسْرِفُوا) بأن يكون إنفاقهم في غير محله ، أو زيادة لا يعترف بها الشرع (وَلَمْ يَقْتُرُوا) من القتر ، بمعنى البخس وعدم الإعطاء بقدر الحق الذي أمر به الشرع (وَكانَ) إنفاقهم (بَيْنَ ذلِكَ) الذي ذكر من الإسراف والإقتار (قَواماً) وهو ما أقام الإنسان ، أي إنفاقا يقيم الإنسان ، فلا يدخله في المبذرين ولا في البخلاء ، أو كان إنفاقا ذا قوام ، وسطا بدون إسراف وتقتير.

[٦٩](وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي لا يجعلون له سبحانه شريكا ، بل يوحّدونه ، ويوجهون عبارتهم إليه (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ) أي الإنسان (الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) قتلها ، وإتيان الضمير المؤنث ، لأن النفس مؤنث سماعي (إِلَّا بِالْحَقِ) لأجل كونه كافرا حربيا ، أو لأجل

٢٨

وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (٦٨) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (٦٩) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ

____________________________________

القصاص ، أو الحد ، أو ما أشبه ذلك ، والاستثناء من الأصل ، وقوله «حرم الله» تلميح إلى وجه عدم إقدامهم على القتل (وَلا يَزْنُونَ) وهو الفجور بالمرأة (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) الذي ذكره من الشرك والقتل والزنى ، وإنما خص هذه الأمور ، ليشرعها عند الجاهليين ، بل وحتى الآن ، وكونها من أعظم المعاصي الموجبة للفساد ، في العقيدة ، أو في الحياة (يَلْقَ أَثاماً) أي عقوبة وجزاء على ما عمل يقال : أثمه الله أي جازاه جزاء الإثم.

[٧٠](يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ولعلّ المراد المضاعفة بالنسبة إلى سائر المعاصي ، يعني إن عذاب هؤلاء أكثر من عذاب غيرهم ، وإن كان بقدر استحقاقهم (وَيَخْلُدْ) أي يبقى دائما (فِيهِ) أي في العذاب (مُهاناً) في حال كون ذاك العذاب على وجه الإهانة ، ومن المعلوم أنّ الخلود بالنسبة إلى الكفار لا بالنسبة إلى المؤمن فإنه تدركه الشفاعة.

[٧١](إِلَّا مَنْ تابَ) أي رجع إلى الله سبحانه عما اقترفه من الآثام (وَآمَنَ) فإن الإيمان في أثر التوبة؟ ولذا ذكر بعقبها (وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) المراد به الجنس ، أي أتى بجنس العمل الصالح ، الذي يصلح لإسعاد الإنسان (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) أي يمحي عنهم السيئات ويكتب مكانها حسنات ، ومن المحتمل أن يراد إعطاء

٢٩

وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢)

____________________________________

الثواب على نفس السيئة التي ارتكبها ، بعد أن آمن وعمل صالحا وتاب ، فمثلا كان قد زنى ، فإنه إذا تاب توبة نصوحا ، أعطاه سبحانه ثواب النكاح لزناه ذلك ـ كما قال بذلك بعض ـ (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) يغفر الذنب لمن أذنب (رَحِيماً) يتفضّل عليهم ، فليس غفرانا مجردا ، بل مغفرة وفضلا.

[٧٢](وَمَنْ تابَ) مما سلف عنه من المعاصي (وَعَمِلَ) عملا (صالِحاً) بأن صحت عقيدته وعمله (فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ) أي أنه هو الذي يرجع إلى الله (مَتاباً) أي رجوعا حقيقيا ، أما من آمن ولم يعمل صالحا ، أو عمل صالحا ولم يؤمن فإنه لم يرجع إليه حقيقة ، إذ لو اعترف الإنسان بالله اعترافا عميقا لا بد وأن يؤمن ويعمل صالحا أو المراد أنه يرجع إليه مرجعا عظيما من قبيل (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) (١) و «المتاب» مصدر ميمي ، من تاب بمعنى رجع.

[٧٣](وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ) شهادة (الزُّورَ) أي الكذب ، وأصل الزور تمويه الباطل بما يوهم أنّه حق ، من «زوّره تزويرا» (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) أي الباطل ، أو الشامل له ولما لا فائدة فيه ـ كما هو الظاهر ـ (مَرُّوا كِراماً) جمع كريم ، أي يفعلون عند مشاهدة الباطل ، ما يفعله الإنسان الكريم الرفيع النفس ، ففي مقام النهي ينهون ، وفي مقام السكوت

__________________

(١) طه : ٧٩.

٣٠

وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ

____________________________________

يسكتون ، وفي مقام التأديب يتأدبون ، وهكذا ، يقال : تكرم فلان عما يشينه أي تنزه ، وأكرم فلان نفسه ، أي لم يهو بها في مهوى المهانة والانحطاط.

[٧٤](وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا) أي ذكرهم الناس ، أو ذكرتهم الحياة ، بأن رأوا صاعقة تلفت الأنظار ، أو زرعا جميلا يذكّر خالقه ، وهكذا (بِآياتِ رَبِّهِمْ) الدالة على وجوده وصفاته وسائر الشؤون المتعلقة به (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها) أي لم يقعوا على تلك الآيات (صُمًّا) جمع أصم (وَعُمْياناً) جمع أعمى ، أي لم يطلعوا عليها اطلاع الأصم الأعمى الذي لا يرتب الأثر إذ لا يسمع ولا يبصر ، فإن الإنسان إنما يرتب الأثر على الأشياء من جهة السماع أو الإبصار ، وكأن الإنسان الأصم الأعمى يقع على الشيء المرغوب فيه بلا استفادة منه ، أو المنفور منه بلا فرار عنه ، يخر على الأوراد ، وعلى الكنيف ، وهذا كناية عن عدم الاستفادة ، بخلاف السميع البصير ، فإن السميع يجلبه الترغيب وينفّره الإنذار ، والبصير يرى فيقدم أو يحجم ، والمؤمن يسمع الآيات ، ويشاهد الآثار ، فيرتب الأثر ، بخلاف الكافر.

[٧٥](وَالَّذِينَ يَقُولُونَ) من دعائهم ، يا (رَبَّنا هَبْ لَنا) أي أعطنا (مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا) أي أولادنا (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) أي أولاد تقرّ بهم العين ، وهو كناية عن الولد الصالح ، فإن الإنسان إذا صلح ولده أو سرّ بشيء آخر ، قرّت عينه ، بخلاف الإنسان المحزون الذي أصيب ببؤس أو ولد

٣١

وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا

____________________________________

سيئ ، فإنه يقلّب طرفه هنا وهناك ليجد ملجأ أو حيلة للتخلص ، وقوله (مِنْ أَزْواجِنا) يراد الأولاد الصلبيين ، و «ذرياتنا» الأحفاد (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي نكون أئمة أهل التقى ، وذلك لا للاستعلاء ، بل لأن ينالوا تلك الدرجات الرفيعة التي يحصل عليها الإنسان في الآخرة ، إذا أرشد وأفاد إرشاده التقوى ، إذ معنى الإمامة للمتقي أن يكون مصدرا للتقوى.

[٧٦](أُوْلئِكَ) الذين هذه صفاتهم (يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) أي يثابون الدرجة الرفيعة في الجنة ، فاللام في الغرفة ، للعهد الذهني (بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم على طاعة الله سبحانه ، وثباتهم على أوامره ونواهيه (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) أي تتلقاهم الملائكة فيها بالتحية والسلام ، كأن يقال لهم «حياكم الله حياة طيبة ، وسلام عليكم» أو كناية عن الترحيب بهم.

[٧٧] في حال كونهم (خالِدِينَ فِيها) أي في الغرفة ـ أي الجنة ـ فهم دائمون لا يزالون هناك في نعيم جسمي وروحي (حَسُنَتْ) تلك الغرفة (مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي محل استقرار وإقامة ، فالإنسان فيها مستقر غير متزلزل ، باق غير متحول.

[٧٨] وإذ بيّن سبحانه أدعية المؤمنين ، بعد ما بين أنهم آمنوا وعملوا صالحا ، قال (قُلْ) يا رسول الله ، للناس (ما يَعْبَؤُا

٣٢

بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)

____________________________________

بِكُمْ رَبِّي) أي ما يبالي بكم الله ، يقال لم يعبأ به أي لم يبال به ، فكان وجوده وعدمه سواء (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) أي توجّهكم إلى الله سبحانه فإن البشر هيّن في جنب الله لا شأن له لو لا أن يتوجه إليه سبحانه فتكون له قيمة بهذا الترفع الذي يحصّله من جراء توجهه إلى الله تعالى (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) أيها الكفار ما أخبرتكم به من المبدأ والعقيدة والمعاد (فَسَوْفَ يَكُونُ) التكذيب ، أي جزائه المترتب عليه من النار والنكال (لِزاماً) أي ملازما لكم لا يفارقكم ، ولا يخفى أن من مصاديق «دعاؤكم» هو الدعاء المعتاد الذي ندعو الله به لقضاء حوائجنا ، ولذا جيء بهذه الآية هنا ، حيث تقدم دعاء المؤمنين ، وإن كان الظاهر أن قوله : «لو لا دعاؤكم» يراد به التوجه إلى الله سبحانه بالإيمان والعمل الصالح والدعاء وغيرها ـ بصورة عامة ـ كما يناسب ذلك «فقد كذبتم» ، ومن هذا يعرف ما للدعاء من الأهمية ، فقول بعض المنحرفين : إن الدعاء لا ثمره له إذ لو قدّر شيء يكون ، ولو لم يقدّر لا يفيد الدّعاء ، هو غلط ، إذ التقدير : أن يكون ذلك الشيء بالدعاء كما أن التقدير أن يأكل الإنسان الشيء ويحصّل على الشيء بالعمل والطلب ، والله الهادي.

٣٣

(٢٦)

سورة الشعراء

مكية / آياتها (٢٢٨)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «الشعراء» وما يتعلق بهم. وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة ، قالوا : إنها مكية إلا من قوله «والشعراء .. إلى آخر السورة». وحيث ختمت سورة الفرقان بقصة تكذيب الكفار للرسول ، جاء مفتتح هذه السورة تسلية للرسول أن لا يهتم بهم بعد الإنذار.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) شروع بذكر اسم الإله الذي له كل شيء ، ومن أبرز صفاته الرحم ، مما يحتاج إليه الإنسان في كل خطوة من خطى الحياة ، فإن الإنسان مجموعة نواقص ، فلو لا رحمه سبحانه لتكميله من آنات الحياة ، لذهب عاطلا لا ينتفع ولا ينتفع به.

٣٤

طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)

____________________________________

[٢](طسم) «طاء» و «سين» و «ميم».

[٣](تِلْكَ) الحروف وما يجانسها من حروف الهجاء (آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) الواضح الظاهر الذي لا ريب فيه ولا غموض ، فإن كان مكذوبا ، فأتوا بمثله إذ هو مركب من لغتكم وحروفكم التي تلهجون بها طيلة أعماركم ، وقد ذكرنا سابقا ، إن الإتيان بحروف خاصة ك «طاء» ونحوها من باب الإشارة إلى حروف الهجاء وإن «تلك» وما أشبه مما يقع بعد هذه «المقطعات» خبر لمبتدأ هو تلك الحروف المقطعة ، هذا على أحد الأقوال في معنى «الحروف المقطعة» وفي إعرابها ، وهناك أقوال أخر.

[٤](لَعَلَّكَ) يا رسول الله (باخِعٌ نَفْسَكَ) من بخع بمعنى أهلك ، أي مهلك نفسك حزنا وأسفا ، ب (أَلَّا يَكُونُوا) هؤلاء الكفار (مُؤْمِنِينَ) فقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحزن حزنا شديدا على عدم إيمانهم ، فسلّاه الله سبحانه بذلك و «لعل» بمعنى «الاحتمال» وإنما يستعمل للترجّي ، لأنه «احتمال المطلوب» والجملة يراد بها النهي الإرشادي الإشفاقي ، كما لا يخفى.

[٥](إِنْ نَشَأْ) جبر الناس على الهدى (نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) أي معجزة مجبرة لهم على الإيمان (فَظَلَّتْ) أي صارت (أَعْناقُهُمْ) أي أعناق هؤلاء الكفار (لَها) لتلك الآية (خاضِعِينَ) وإنما نسب

٣٥

وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا

____________________________________

الخضوع إلى الأعناق لأنها أول ما يظهر عليها الخضوع تميل نحو الأرض ، لكن الله سبحانه لا يشاء ذلك لأنه مخالف لكون الدنيا دار اختبار وامتحان ، نعم وردت بعض الروايات الدالة على أنها تكون في زمان المهدي عليه‌السلام (١).

[٦](وَما يَأْتِيهِمْ) أي البشر (مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ) «من» زائد لتأكيد العموم ، ولعل الإتيان بلفظة «الرحمن» للدلالة على أن المراد بذلك الذكر ما يسبب لهم الرحمة (مُحْدَثٍ) أي جديد ، كالقرآن (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) يعرضون عنه ، فقد اعتاد الناس على أن لا يخضعوا إلا للتقاليد وإن رأوا الحق والصدق في الشيء الجديد ، فقد كانوا يتعاملون مع كل كتاب جديد هذه المعاملة ، من غير فرق بين التوراة والإنجيل والقرآن ، وسائر الكتب.

[٧](فَقَدْ كَذَّبُوا) بالقرآن ، والمراد كفار مكة ، (فَسَيَأْتِيهِمْ) أي عند الموت ، أو في يوم القيامة (أَنْبؤُا) أخبار (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) والمراد عاقبة أعمالهم ، وهذا كما تقول لمن تريد تهديده ، سأخبرك بما كنت تعمل.

[٨](أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم ينظر هؤلاء الكفار إلى الآيات الكونية؟ فلينظروا

__________________

(١) تأويل الآيات : ص ٣٨٣.

٣٦

إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩) وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢)

____________________________________

(إِلَى الْأَرْضِ) ليروا (كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي كل صنف من أصناف النبات (كَرِيمٍ) حسن نافع جميل ، والمعنى ذي كرامة ورفعة.

[٩](إِنَّ فِي ذلِكَ) الإنبات (لَآيَةً) دلالة على الإله وعلى صفاته (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله وبما يجب الإيمان به ، عنادا وتقليدا لآبائهم.

[١٠](وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله لا يضره إعراض هؤلاء فإنه (لَهُوَ الْعَزِيزُ) له العزة والغلبة (الرَّحِيمُ) فإنه يرحمهم مع قدرته كيما يندموا ويعودوا عن غيهم.

[١١] ثم بدأ السياق ليذكر فصلا من قصة موسى عليه‌السلام فيها العبرة والذكر والتسلية للرسول والتبشير للمؤمنين بغلبتهم على أعدائهم ولو بعد حين (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي اذهب إليهم.

[١٢] ثم بين المراد بالقوم الظالمين بقوله (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) والمراد هو وقومه ، كما هو الشائع في مثل هذا التعبير (أَلا يَتَّقُونَ) أي أما آن لهم أن يتقوا الكفر والعصيان؟ وهذا تعجب في لفظ الاستفهام ، حكاية لما قاله سبحانه لموسى عليه‌السلام.

[١٣](قالَ) موسى عليه‌السلام يا (رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) أي يكذبني

٣٧

وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥)

____________________________________

فرعون وقومه فيما أدعوهم إليه ، وقد قال موسى ذلك تمهيدا لطلبه مؤازرته هارون له ، وإلا لم يكن موسى عليه‌السلام يريد بذلك الفرار عن حمل التبليغ.

[١٤](وَيَضِيقُ صَدْرِي) بتكذيبهم المتوقع ، والسبب أن الإنسان إذا كذب ، هاج ، وغلبته الحرارة فتنتفخ الرئة لجذب الهواء المبرّد للقلب ، وبذلك يضيق الصدر الذي هو مكان الرئة (وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) بالكلام ، فقد كان في لسان موسى عليه‌السلام عقدة قبل أن يرسله الله تعالى ثم حل العقدة من لسانه (فَأَرْسِلْ) يا رب (إِلى هارُونَ) أخي ليكون رسولا معي يؤازرني في الرسالة.

[١٥](وَلَهُمْ) أي لقوم فرعون (عَلَيَّ ذَنْبٌ) هم يعتبرونه ذنبا ، وإن لم يكن ذنب حقيقي ، فقد سبق أن قتل موسى قبطيا حين تشاجر مع إسرائيلي ، فعده آل فرعون ذنبا ، وإن كان قتل موسى له بحق (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) أي يقتلني آل فرعون بمجرد ما يروني ، قصاصا على قتيلهم.

[١٦](قالَ) الله تعالى في جواب موسى (كَلَّا) لا تخف ، فإنهم لا يتمكنون من إيذائك وقتلك ، أما دعاءك بإطلاق لسانك فقد استجيب ، وأما دعاءك أن نجعل هارون نبيا لك فقد قبلناه (فَاذْهَبا) أنت وأخوك إلى فرعون وملأه (بِآياتِنا) أي الأدلة والمعاجز الدالة على التوحيد والرسالة والمعاد (إِنَّا مَعَكُمْ) أي مع الجميع ، أنتما وآل فرعون (مُسْتَمِعُونَ) فيكون ما يدار بينكم من الحديث بمسمع منّا ،

٣٨

فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ

____________________________________

وهذا تشجيع لهما ، إذ الإنسان إذا علم أنه بمنظر ومسمع الملك كان أربط جأشا وأقوى احتجاجا.

[١٧](فَأْتِيا فِرْعَوْنَ) أي اذهبا إليه (فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) إفراد لفظ «الرسول» باعتبار كل واحد واحد ، أرسلنا الله إليك لندعوك إلى عبادته وطاعته والإيمان بنا.

[١٨] وقد أمرك الله ب (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) فإن فرعون كان قد سجن جمعا من بني إسرائيل وهم أحفاد يعقوب عليه‌السلام ، كما قد استعبد جماعة آخرين منهم ، وكان هؤلاء لهم صبغة التوحيد ، وعدم عبادة فرعون ، ولذا أمر الله موسى عليه‌السلام أن يقول لفرعون ، بإطلاق سراح بني إسرائيل ، ليقودهم موسى عليه‌السلام إلى حيث خيرهم وصلاحهم ، بعد ما كانوا قلة مضطهدة.

[١٩] فأتى موسى وهارون فرعون ، وبعد اللقاء ، وبيان أنهما رسولان إليه ، وأنّ الله يأمره بإطلاق سراح بني إسرائيل (قالَ) فرعون لموسى عليه‌السلام (أَلَمْ نُرَبِّكَ) يا موسى (فِينا) في منزلنا ومحلنا (وَلِيداً) أي في حال كونك طفلا صغيرا أخذناك من البحر وربيناك حتى صرت فتى قويا؟ (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) أي كنت في بلاطنا سنوات متعددة من عمرك ، وهي اثنتي عشرة سنة ، عل حديث ، أو ثمانية عشر على قول؟

[٢٠](وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) أي قتلت ذلك القبطي (وَأَنْتَ مِنَ

٣٩

الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١)

____________________________________

الْكافِرِينَ) بنا وبما أنعمنا عليك ، فقد خالفت طريقتنا بعد تلك النعم وذلك الاجرام.

[٢١](قالَ) موسى عليه‌السلام في جواب فرعون : (فَعَلْتُها) أي فعلت تلك الفعلة وهي القتل (إِذاً) في ذلك الزمان (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) ، يقال يضل لمن انحرف عن الطريق ، سواء أريد بالطريق طريق الحق ، أم طريق الباطل ، كما قال سبحانه (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) (١) يريدون : ضالون عن طريقنا الذي هو كفر ، ولعل مراد موسى عليه‌السلام ذلك ، أي أني ضال عن طريقتك يا فرعون ، فلم يكن القتل إجراما كما تزعم أنت ، وإنما كان ضلالا عن منهجك ، وإلا فقد كان في موقعه حيث إنه قتل كافرا مهاجما على مسلم.

[٢٢](فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ) فإن موسى عليه‌السلام لما قتل ذلك القبطي ، قرر فرعون وملأه أن يقتصوا من موسى ، فجاءه رجل قائلا (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) (٢) فخرج منها خائفا يترقب (لَمَّا خِفْتُكُمْ) على نفسي من القتل (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) بأن جعلني حاكما في الأرض فإن الحكومة ليست إلا لله ولمن وهبها له (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فقد أرسلني إليكم لأهديكم سبيل الرشاد.

__________________

(١) المطففين : ٣٣.

(٢) القصص : ٢١.

٤٠